أصالة التخيير

الدرس 58

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

بقي في هذه الصورة وهي صورة دوران الأمر بين المحذورين التوصليين مع تعدد الواقعة تنبيهان:

التنبيه الأوّل: هو أنّه إذا كان أحد الطرفين محتمل الأهمية فما هو مقتضى حكم العقل في المقام؟ وتفصيل ذلك أن يُقال: تارة يكون أحدهما معلوم الأهمية وتارة يكون محتمل الأهمية، فإذا كان أحدهما معلوم الأهمية فحينئذ سواء كان معلوم الأهمية هو طرف الموافقة القطعية أو كان هو طرف المخالفة القطعية فعلى أية حال يُقدم على الآخر، كما لو فرضنا أنّه علم إجمالا بأنّه أقسم في هذين اليومين إمّا على النفقة على أولاده الكبار، أو أنّه اقسم على ترك النفقة عليهم، وافترضنا أنّ النفقة عليهم معلوم الاهمية، فحينئذ لا إشكال في تقديم طرف معلوم الأهمية من حيث وجوب الموافقة القطعية وإن استلزم المخالفة القطعية للطرف الآخر، فحينئذ تكون وظيفته أن يُنفق على عياله الكبار في كلا اليومين ليُحرز الموافقة القطعية لمعلوم الأهمية، وإن استلزم ذلك المخالفة القطعية لما ليس اهم ألّا وهو عدم النفقة.

فهذا ليس محل بحث لأنّه حتّى لو عُلم تفصيلا لكان معلوم الأهمية مقدما على المهم فكذلك إذا عُلم إجمالا، فالبحث فعلاً ليس في تقديم معلوم الأهمية على غيره، إنّما البحث في تقديم محتمل الأهمية على غيره، كما في تقرير البحوث للسيّد الشهيد «قده» حيث عقد البحث في معلوم الأهمية، اشتباه، فإنّ البحث بين الأعلام في تقديم محتمل الأهمية لا في معلوم الأهمية، وهذا ما تكلم عنه المحقق النائيني وسيّدنا «قده» في مصباح الأصول، ألّا وهو ما لو فرضنا أنّ احد الطرفين ولنفترض أنّه النفقة على عياله الكبار محتمل الأهمية على ترك النفقة، فهنا يدور الأمر بين وجوب الموافقة القطعية لمحتمل الأهمية ألّا وهو النفقة، أو التحفظ عن المخالفة القطعية لما لا يُحتمل أهميته ألّا وهو ترك النفقة، فإنّه إذا وافق محتمل الأهمية قطعا، استلزم ذلك المخالفة القطعية لما لا يحتمل أهميته، فيدور الأمر بينهما.

وهنا اتجاهان:

الاتجاه الأول: أن يُقال بأن حرمة المخالفة القطعية لما لا يحتمل اهميته مقدمة على وجوب الموافقة القطعية في ما يحتمل أهميته، والسرّ في ذلك: أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، بينما هو مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية، فإذا كان تأثيره في وجوب الموافقة القطعية اقتضائيا لا على نحو العلة التامّة، فيتوقف فعلية هذا التأثير على عدم وجود مانع؛ لأنّ المقتضي إنّما يكون فعلي التأثير مع عدم المانع، وعليته لحرمة المخالفة القطعية مانع، وهذا هو شأن التزاحم دائما بين المؤثر التنجيزي والمؤثر التعليقي، فإذا اجتمع مؤثران ومقتضيان، أحدهما مؤثر تنجيزي والآخر مؤثر تعليقي، كانت فعلية المؤثر التنجيزي حاكمة على المؤثر التعليقي؛ إذ المفروض أنّ تأثير التعليقي معلق على عدم المانع، وفعلية المؤثر التنجيزي هي بنفسها مانع، فكذلك الأمر في المقام، حيث نقول: إنّ العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة القطعية، ولكنّ تأثيره في وجوب الموافقة القطعية مجرد مقتضي فيتوقف على عدم المانع، وعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية مانعٌ، فلا تأثير بالفعل في وجوب الموافقة القطعية للطرف الذي يُحتمل أهميته بعد أن كان علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية للطرف الذي لم يُحتمل أهميته.

ولكنّ الجواب عن هذا الاستدلال: واضح، وهو ما بينّاه سابقا في شرح كلام المحقق العراقي «قده» من أنّ العليّة والاقتضاء في بحث العلم الإجمالي إنّما هما بالنسبة إلى الجواز الظاهري لا بالنسبة إلى الجواز الواقعي، وبالتالي فالمقصود بعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية منعه بالفعل عن جريان الأصل الشرعي الترخيصي في تمام الأطراف، والمقصود باقتضائه لوجوب الموافقة القطعية هو: عدم جريان الأصل الشرعي في بعض الأطراف؛ ولأجل ذلك يُقال إن اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية معلّق صحيح لكنه معلّق على عدم الترخيص الشرعي لا أنّه معلّق على عدم المنع العقلي، والمفروض في المقام أنّ لا يوجد ترخيص شرعي، فإذا لم يوجد ترخيص شرعي، يعني لا يجري الأصل في المقام، فإذا لم يجري الأصل في المقام صار اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية فعليا؛ لأنّ المعلّق عليه عدم الترخيص الشرعي وليس في المقام ترخيص شرعي، فأصبح الاقتضاء فعليا، فكما أنّ تأثيره في حرمة المخالفة القطعية فعلي كذلك تاثيره في وجوب الموافقة القطعية فعلي فكلاهما فعلي، ولم يُعلق تأثيره في وجوب الموافقة على عدم تصرف من العقل؛ كي يقال: إنّ عليته بحرمته المخالفة العقلية تصرف عقلي مانع.

فالنتيجة بناء على هذا: أن لا مرجح لأحد الطرفين على الآخر وإن كان لا يُحتمل أهميته واجد لصفة حرمة المخالفة القطعية، هذا بالنسبة إلى الاتجاه الأوّل.

الاتجاه الثاني: ما سلكه المحقق النائيني «قده» من تقديم ما يُحتمل أهميته على ما لا يُحتمل، أي تجب الموافقة القطعية لما يُحتمل أهميته وإن استلزمت المخالفة القطعية لما لا يُحتمل أهميته، والوجه في ذلك: أنّ المحقق النائيني «قده» أدرج المقام في باب التزاحم، فقال: إنّ التكليف يقتضي عقلاً أمرين: امتثاله وإحراز امتثاله، فعندما يقول المولى مثلاً: صلِّ الظهر فإنّ هذا التكليف كما يقتضي الإتيان بصلاة الظهر خارجا يقتضي إحراز امتثال هذا الأمر، فهو يقتضي الامتثال وإحراز الامتثال، فلأجل أنّ التكليف يقتضي هذين الأمرين بحكم العقل؛ لأجل ذلك: إ ذا قصرت القدرة عن الجمع بين الامتثالين، كما لو لم يقدر المكلف على الصلاة في ضيق الوقت وإنقاذ الغريب، فكما أنّه إذا قصرت القدرة عن الجمع بين الامتثالين كان المقام من باب التزاحم، وحينئذ لو كان أحدهما كإنقاذ الغريق معلوم الأهمية أو محتمل الأهمية لقُدّم على الآخر، كذلك إذا قصرت قدرة المكلف عن الجمع لا بين الامتثالين بل بين إحرازي الامتثالين، فلا يمكنه أن يُحرز كلا الامتثالين، وربما يكون قادرا على نفس الامتثالين لكنه لا يمكنه الجمع بين احرازي الامتثالين، فإذا لم يمكنه ذلك يكون المقام أيضا في باب التزاحم، غايته أنّه تزاحم في إحراز الامتثال كما ذاك تزاحما في نفس الامتثال، والمقام من هذا القبيل بنظر النائيني، فإنّه إذا علم إجمالاً أنّه إمّا اقسم على النفقة على عياله الكبار في اليومين أو اقسم على ترك نفقة عياله الكبار في اليومين، فبالنتيجة بالنسبة إلى لهذا المكلف لا تزاحم في الامتثال؛ لأنّه ربّما لو انفق في اليومين أو ترك النفقة في اليومين لامتثل واقعا، ربما الامتثال يتحقق، فليست قدرته قاصرة عن الجمع بين الامتثالين، ولأجل عدم قصور قدرته عن الجمع بين الامتثالين إطلاقا التكليف باقيان على حالهما؛ إذ لا موجب للتنافي بين الاطلاقين إذا كانت قدرة المكلف وافية بالامتثالين، فإطلاق «انفق» وإطلاق «اترك النفقة» كلاهما فعلي لأنّه لا تقصر قدرة المكلف عن الجمع بينهما؛ إنّما الذي قُصرت قدرته عن الجمع بينهما هو الإحراز، لا يمكنني إحراز امتثال انفق مع إحراز امتثال لا تُنفق، إمّا أحرز هذا أو أحرز هذا، فإما أن انفق كلا اليومين فأحرز امتثال انفق أو اترك في كلا اليومين فأحرز امتثال لا انفق، فانا لست قادرا على الجمع بين الاحرازين، لا أنني لست قادرا على الجمع بين الامتثالين، فلأجل التزاحم في مقام إحراز الامتثال يأتي الترجيح بمحتمل الأهمية، فحيث إنّ النفقة محتمل الأهمية تكون مقدمة، فيجب عليك الإنفاق في اليومين وإن خالفت قطعا العلم الإجمالي الآخر.

لكنّ سيّدنا «قده» في مصباح الأصول أشكل على كلام شيخه المحقق النائيني «قده»، قال:

أولا: ليس المقام من باب التزاحم، فهل لنا أن نوسع المصطلحات ونوسع ما نريد أن نوسعه، ليس المورد هكذا، ليس المقام من باب التزاحم، فإنّ المناط في التزاحم التدافع بين الاطلاقين في مرحلة الفعلية لأجل قصور قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين، فمتى لم تقصر فلا تدافع بين الاطلاقين فلا تزاحم، وبعبارة أخرى: إنّ التزاحم من شؤون المكلف نفسه، بينما في المقام التزاحم في حكم العقل لا من قبل المكلف، العقل يتنافى لديه وجوب الموافقة القطعية لهذا مع وجوب الموافقة لذاك، فالتنافي في الواقع في حكم العقل لزم إحراز امتثال هذا ولزوم احراز امتثال هذا، وإلّا المكلف نفسه ليس من قبله أي منشأ للتنافي، فمنشأ التنافي هو ليس القصور في المكلف وإنما التنافي في نفس حكم العقل بالإحراز، وبالتالي ليس المقام من باب التزاحم ولو كان من باب التزاحم للزم عليك أن تقول في فرض تساويهما في الأهمية أن تقول بالتخيير، كما قيل به في باب التزاحم، وأنت لا تقول بالتخيير على فرض تساويهما في الأهمية، بل تذهب إلى التخيير العقلي بمعنى أن لا حرجية في الفعل والترك، هذه المناقشة الأولى، وهي مناقشة اصطلاحية.

وثانيا: قال لو سلّمنا جدلاً توسعا في المصطلح، مع ذلك لا يترتب عليه الاثر وهو تقديم محتمل الأهمية، والسرّ في ذلك: أننا إذا رجعنا لباب التزاحم المتفق عليه فوجدنا تزاحما بين الصلاة في ضيق الوقت وبين إنقاذ الغريق، وقلنا بأن إنقاذ الغريق محتمل الأهمية حتّى لو كان الغريق ذميّا فإنه محتمل الأهمية بالنسبة إلى الصلاة في ضيق الوقت مثلا، فما هو وجه تقديم محتمل الأهمية هناك؟ إنّ الوجه في تقديمه إحدى نكتتين: الأولى: الإطلاق، فيُقال إطلاق «صلِّ» ساقط جزما إمّا لأنّه اقل أهمية وإمّا لأنّه مزاحم، فيسقط لأجل المزاحمة، بينما إطلاق «أنقذ» مشكوك السقوط؛ إذ لعله أهم في الواقع فهو باق، فإذا كان مشكوك السقوط تمسكنا به، فمرجع تقديم محتمل الأهمية التمسك بإطلاق دليله وسقوط إطلاق الآخر على كل حال، وهذا لا يتأتى في المقام؛ لأننا المفروض كما اعترف به المحقق النائيني أنّ كلا الاطلاقين باقيان في مرحلة الفعلية؛ إذ لا قصور لدى المكلف في الجمع بين الامتثالين، الاطلاقان باقيان.

والنكتة الثانية: أن يُقال لنفترض جدلا أنّه لا يوجد دليل لفظي حتى نتمسك بإطلاقه، وأنّ دليل الواجبين لبّي، مع ذلك نقول إذا دار الأمر بين محتمل الأهمية وبين غيره فنقول: تفويت الملاك الذي لا يُحتمل أهميته جائز قطعا؛ إمّا لأنّه أقل إمّا لأنه مزاحم، بينما تفويت الملاك الذي يُحتمل أهميته مشكوك الجواز، فمقتضى الاشتغال هو الفراغ من حفظه، فيُقدم محتمل الأهمية على غيره، وهذا أيضا لا يأتي في المقام، لِمَ؟ باعتبار أنّ المقام يرجع إلى حكم العقل بالإطاعة فإنّ العقل النظري بعد أن أدرك مولوية المولى الحقيقي حكم العقل العملي يلزم إطاعته، إلّا أنّ إطاعته تُطبق على الموافقة القطعية لما يُحتمل أهميته، أو تُطبق على ترك المخالفة القطعية لما لا يُحتمل أهميته، وحيث إنّ حكم العقل بلزوم إطاعة المولى متساوي الإقدام والنسبة بين التحفّظ على وجوب الموافقة القطعية لما يُحتمل أهميته أو التحفظ عن المخالفة القطعية لما لا يُحتمل أهميته فلا موجب لتقديم أحدهما على الآخر.

وهنا تدخل السيّد الشهيد «قده» ليقول بأنّ حكم العقل بالإطاعة يتأثر بتفاوت الملاكات، لا أنه لا علاقة له بتفاوت الملاكات، ويأتي الكلام عن كلامه.

والحمد لله رب العالمين