مقتطفات من «منعطفات قم المقدسة»...

بحث الخارج و«السيد منير الخباز»..

د. علي أحمد الديري * هوامل الديري

كانت «قم» خياراً من خيارات دراستي العليا في التسعينيات، لكن رياح سفينتي الفكرية أخذني إلى مكان آخر، مع ذلك بقيت هذه المدينة، في مخيلتي، منذ كنت في المرحلة الثانوية، زرتها في مطلع التسعينيات وفي مطلع الألفية الجديدة، في الزيارة الأولى كانت علاقتي بها حميمية، وتمثل جهة من جهات أفقي الذي كنت ذاهبا إليه، وفي المرة الثانية، كانت مدينة عابرة، وهذه الزيارة الثالثة، وجدت نفسي شغوفاً أكثر باكتشاف ”عش آل محمد“ كما يطلق عليها. اكتشاف تياراتها الفكرية وحوزاتها العلمية وحركتها التي تعود إلى عام 909 هجرية حين استقر فيها مجموعة من علماء الشيعة، مع الأسف لم يكن الوقت كافياً لاكتشاف عمق ما يحدث في هذه المدينة، قضيت فيها 48 ساعة، مليئة باللقاءات والزيارات.

كوجة 12

منعطفات قم المقدسة«كوجة» تطلق على الطريق المتفرع من الشارع العام، والعناوين منتظمة في إيران وفق نظام الشارع العام ثم «الكوجة» ثم رقم المنزل. «كوجة 12» تتفرع عن شارع «سمية». في منعطف هذه الكوجة تقع حوزة «الأطهار التخصصية» التي أسسها الشيخ حبيب الكاظمي في 2005 للطلاب الخليجيين.

في لحظة انتظار مدير ”حوزة الأطهار التخصصية“ في مكتب السكرتير، وقعت عيني على مجلة «مدرسة أهل البيت» أثارني الفضول لأتصفحها من غير استئذان، كنت مدفوعاً بمعرفة ما يشغل خطاب من يمثلون الحوزة اليوم. كان فاقعاً موقف المجلة المعادي للفلسفة والتصوف والعرفان، كأنها تستعيد معارك الدولة الصفوية في عصر ملا صدرا بين الفلاسفة والفقهاء الأخباريين والأصوليين والمتصوفة. أو بين البرانيين «الفقهاء» والجوانيين «الفلاسفة والمتصوفة» حسب تعبير الباحث الفرنسي كولن تينر في كتابه ”التشيع والتحول في العصر الصفوي“.

تعرف المجلة نفسها ”المجلة تنشر المقالات التي تهتم بنقد الفلسفة والعرفان لأي شخص كانت لغرض الدفاع عن الحق“. عنوان افتتاحيتها «الله أكبر» وتستشهد ببيت في التعريض بملا صدرا وابن عربي ”أليس جرأة على الله الأحد قول ملا صدرا وابن عرب“

وتنشر المجلة على حلقات كتاب ”رسالة الاثني عشرية في الرد على الصوفية و«العرفاء»“ للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي.

ويضم العدد بحثا طريفا عنوانه: ”الإسفار عن نصوص الأسفار“ لحجة الإسلام والمسلمين الشيخ حيدر الوكيل. وهو يبحث الروايات التي نقلها ملا صدرا لمعرفة قيمتها وإمكان الاعتماد عليها. يصدر الباحث دراسته بجملة عدائية ”تدعي فلسفة ملا صدرا واللاهثون وراءها أن من ميزاتها الجمع بين البرهان والعرفان والقرآن يعنون به النص الديني“.

كانت الدقائق التي قضيتها في تصفح المجلة، قبل الالتقاء بمدير الحوزة، قد تركت لدي انطباعاً منقبضاً، حول طبيعة الجو الفكري في الحوزة، وتخيلت وكأن هناك حرباً ثقافية ضد الفلسفة والتصوف. لكني عرفت لاحقاً أن المجلة ليست من إصدارات حوزة الأطهار. وأن الحوزة تصدر مجلة فصلية طلابية تحت عنوان «رسالة القلم».

بدا مدير الحوزة الشيخ عبدالله الدقاق مرحباً ودوداً، لم تكن المسبقات الذهنية التي نحملها عن بعضنا سوى مادة لتطرية الحديث، تجاوزتها بسرعة، وذلك بفضل سعة أخلاق الشيخ، أقول ذلك لأني كنت مسبوقاً بما يشبه التحذير أو التنبيه إلى أن زيارتي إلى «قم» ربما لا يكون مرحباً بها أو تثير هواجس بعض المشتغلين في حقلها الديني والعلمي، وذلك خوفاً من استغلال الزيارة للكتابة بنفس نقدي متحامل أو حاد، أو بتعبير أكثر وضوحاً، كان الخوف من استغلالي الزيارة للكتابة المسيئة للحوزة ورجالاتها ومنهجها.

بدا حديث الشيخ متحرراً من هذه الهواجس التي كنت أحملها أو التي حُمّلتها. والتي اضطرتني إلى أن ألجأ إلى صديق كطرف وسيط يزكي زيارتي. كنت في دور المستمع المصغي، اكتفيت بتوضيح هدف زيارتي أنها تأتي على هامش مرافقة والدتي في رحلة علاجها، وأني أود التعرف عن قرب على أجواء الحوزة والجامعات الإيرانية.

منعطفات قم المقدسةتحدث الشيخ بإلمام كبير عن الجامعات الإيرانية ومستوياتها، وطبيعة طلابها. ففي إيران هناك جامعات ذات طبيعة خاصة، كجامعة الإمام الصادق التي تغذي الدولة بكوادر سياسية ودبلوماسية، ولا يقبل في هذه الجامعة إلا أصحاب المعدلات المرتفعة. وجامعة المصطفى العالمية التي هي جامعة أم عربية في إيران لمجموعة كبيرة من الجامعات والحوازات والمداراس، تتوزع في أكثر من 30 دولة وبمختلف اللغات.

تحدث الشيخ عن دراسته حالياً للدكتوراه في جامعة طهران، توقفنا عند مقررات التأويل والفلسفة والتصوف وأساتذتها البازين كمهدي ذاكري ويحيى كبير وحسن الرمضاني كان الشيخ يعرف أن هذه هي المنطقة المشتركة التي يمكن أن تثير اهتمامي،

بفضل خضوع «حوزة الأطهار التخصصية» لنظام جامعة المصطفى، فإنها قد بدت أكاديمية متخصصة في الفقه وأصوله، شديدة التظيم، والتشدد في نظامها الأكاديمي، لا شيء متروك للطالب كما هو الأمر في الحوزات التقليدية حيث كل شيء متروك للطالب. هناك نظام القبول والتسجيل ووحدات أكاديمية موزعة على سنوات خمس في مستوى الباكالوريوس أو مرحلة المقدمات. وهناك نظام الحضور والغياب ونظام المعدل الأكاديمي الذي يجب ألا يقل عن 80٪.

حوزة الأطهار التخصصية، مخصصة للطبة الخليجيين الذي يرغبون في أن يكونوا علماء دين متخصصين في الفقه وأصول الفقه، وهذا التخصص ربما يكون هو الأقرب لمزاج عالم الدين البحريني. تاريخياً شكل تخصص الفقه بالنسبة لعالم الدين الأخباري والأصولي، المادة التي يجد رسالته تكمن في إتقانها. فمهمته هو تفقيه الناس في دينهم أي في أحكام نصوص الأحاديث والقرآن من حيث واجباتهم من الحلال والحرام.

الطريق إلى الله يكمن في معرفة هذه الواجبات، والتخصص في الأصول والفقه، يكاد يكون في ممارسته العملية، هو البقاء في حكم النص من دون العيش في أفقه. فليس من مهمة علم الأصول فتح أفق النص، بقدر ما تكمن مهمته في استنباط الحكم الشرعي. ربما يكون هذا ما تفقده الدراسات الحوزوية التي طورت من إجراءاتها التنظيمية نحو مزيد من الدقة والمتابعة لكنها لم تطور مقاربات فهم جديدة لنصوص الدين. ولا تطرح أسئلة جديدة، ولا تستعين بعلوم حديثة.

بحث الخارج والسيد منير الخباز

كنت قد طلبت من الشيخ الدقاق أن ييسر لي حضور إحدى حلقات البحث الخارج، كنت أريد أن أعاين الممارسة الأصولية في مقاربة النص الديني.

برفقة الشاب الودود جدا الشيخ عادل الهنان، كنت أعبر مجموعة من أزقة قم المتداخلة حد الالتباس، إلى حيث مدرسة المجتبى، ثم منزل الميرزا آية الله الشيخ جواد التبريزي الذي صار مدرسة بعد وفاته في عام 2006. هناك حيث حلقة السيد «منير الخباز» يقدم حلقة «البحث الخارج» للذين أنهوا مرحلة المقدمات «بكالوريوس» والسطوح «ماجستير».

«بحث الخارج» هو حلقة بحث أصولي يقع خارج المصنفات والكتب، يقدم فيها الأستاذ الباحث «لا بد أن يكون وصل أو شارف على مرحلة الفقاهة» طرقه الاستدلالية التي يتبعها في استنباط الأحكام الشرعية وترجيحها من النصوص المعتمدة. لم تكن الكراسي تتسع للحضور، جلست في مؤخرة القاعة على الأرض إلى جنب مجموعة من المشايخ، وقد بدا وجودي وسطهم لافتاً.

الحوزةالطلاب جميعم تقريباً معممون، وفي الوقت الذي قد كنت أكتب بعض جمل الأستاذ في كراسة صغيرة، لم أجد أحداً يكتب شيئا، وهذا ما جعلني أبدو أكثر لفتاً. عرفت لاحقا أن المحاضرة تكتب وتوزع على الطلبة.

بدا لي السيد «منير» والمكرفون أمامه كأنه يقرأ من ورقة، وذلك لدقة تنظيم الكلمات والأفكار وتسلسل الاستدلال، عرفت لاحقاً ألا ورقة أمامه، وأنه يقدم درسه مشافة، وقد مكنته ممارسته الحوزوية تدريساً وتلمذة منذ كان عمره 12 عاماً، من أن يتوفر على هذا الحضور الذهني المميز.

كان البحث عرضاً للممارسة الاستدلالية الأصولية وكيفية ترجيح الأدلة لحديث ”رفع عن أمتي ما لا يعلمون“ بدت الممارسة الاستدلالية التي يقدمها السيد وعرة وصعبة، خصوصا وأنها مسلحة بمجموعة من المصطلحات الأصولية، من نحو: منجزية العلم الإجمالي، المنجزية العقلية، الشك البدْوي، الحكم المجعول، الأحكام الحرجية، الاحتياط من الشك.

تذكرت تعليقا للدكتور حسن حنفي يقول فيه، إن الشيعة قد طوروا علم الأصول وفروعوا فيه الكثير، لكن مصطلحاته صارت مغلقة عليهم، وذلك لكثرة التفريعات فيه، ولأنه لا يدرس إلا في الحوزة. ربما يكون هذا سرّ أصالته وقوته ومقتله في الوقت نفسه. والسبب في ذلك يعود إلى أن علم الأصول في تكوينه هو محصلة التقاء مجموعة من العلوم، علوم اللغة: البلاغة والنحو والدلالة، وعلوم الحديث، وعلم المنطق، والفلسفة. من حصيلة هذا التركيب تكون علم الأصول. لقد كفّ هذا العلم عن التغذية من العلوم الأخرى، ولم يعد مفتوحاً على العلوم الحديثة، وصار مكتفياً بذاته، وهنا مكمن مقتله، فقد تطورت هذه العلوم التي فيها سرّ تركيبه، وهو لم يعد يضيف لنفسه من تطورها. هو لم يعد محصلة حوار علوم بعضها مع بعض.

الدرس الثاني للسيد منير، كان في منزل الميرزا جواد التبريزي الذي صار حوزة، ويعد الشيخ محمد سند والسيد منير من تلاميذ الميرزا التبريزي البارزين، وقد تسلم السيد منير مقعد أستاذه. كان البحث حول قاعدة التجاوز: إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره، فشكك ليس بشيء.

بدت حلقة البحث الثانية أكثر حيوية، وجدت الطلاب يعترضون بجرأة على الأستاذ، اعتراضاً يستنفر أقصى قدراته الأصولية، ويحاجج أحياناً الطلاب في ردود الأستاذ، وحين يسخن النقاش، يلجأ السيد منير إلى النكتة بمهارة لطيفة، ليخفف الأجواء، ولا يكسر من جدية البحث الضحك الذي يسود للحظات القاعة.

- مواليد البحرين 1971م.
- باحث مهتم بالقضايا النقدية الثقافية والدينية وتمثلات الآخر الرمزية.
- بكالوريوس لغة عربية، جامعة البحرين العام 1993م.
- ماجستير «قوانين تفسير الخطاب» جامعة القديس يوسف العام 2007.
- دكتوراه «مجازات الخطاب الفلسفي والصوفي» 2010.