حقيقة العلم الإجمالي

الدرس 5

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

لازال الكلام في تحديد مقصود صاحب الكفاية من ان متعلق العلم الاجمالي هو الفرد المردد، ووصلنا الى الوجه الثالث في تحليل مراده، وهو ما ذكر في بعض الكلمات، ومحصله ان الفرد المردد قد ادعي انطباقه على خمسة معان:

المعنى الأول: ان المقصود بالفرد المردد ما ذكره المحقق الاصفهاني، وتبعه العلمان الخوئي والحكيم في تحليل كلام الكفاية من ان الفرد المردد ما كان مرددا ثبوتا، بمعنى انه لا تعين له واقعا اصلا حتّى في علم الله وفي جميع الموارد.

وهذا المعنى المستبطن للتناقض لا يحتمل ان يقصده صاحب الكفاية وذلك اولا لان تضمنه للتناقض واضح، فان معنى الفردية التعين، اذ لا يكتسب الشيء الفردية الا بالتعين، فحمل اللا تعين عليه بان يقال ”فرد لا متعين“ او مردد من قبيل الجمع بين النقيضين. مضافا الى ان صاحب الكفاية كما يظهر من كلامه في بحث التعارض ادعى ان ما لا تعين له واقعا انما هو في ”بعض الموارد“ للمعلوم بالإجمال لا في تمامها.

المعنى الثاني للفرد المردد: ما وجّه به سيد المنتقى كلام صاحب الكفاية من ان المقصود بالتردد التردد الاثباتي لا الثبوتي أي انه معين واقعاً مردد ذهناً واثباتاً بسبب جهالته وابهامه فاذا رأى الانسان قطرة دم تقع ولا يدري هل وقعت في الاناء باء ام الاناء جيم، فهنا متعلق العلم الاجمالي ما وقع فيه الدم، وما وقع فيه الدم متعين واقعاً، وليس مردداً ولكن لأجل الجهالة صار مردداً ذهناً واثباتاً فهذا هو المقصود بالفرد المردد.

ولكن ما ذكره في المنتقى يخالف ما في الكفاية في بحث المطلق والمقيد وفي بحث التعارض حيث انه في بحث المطلق والمقيد عندما تكلم عن مفاد النكرة كقولنا جئني برجل او جاء رجل من اقصى المدينة، فهناك افاد بان هناك فرقا بين الفرد المردد وبين مفاد النكرة وجعل مفاد النكرة في موارد الاخبار كما اذا قال جاءني رجل ما كان معينا واقعا مبهما في ذهن المخاطب مما يدل على تغايرهما.

كما انه في بحث التعارض افاد انه اذا تعارض الخبران فدلّ احدهما مثلاً على وجوب الجمعة تعيينا والثاني على وجوب الظهر تعيينا افاد هناك ان ما علم كذبه من هذين الخبرين مما لا تعين له واقعا، ويحتمل كذب كليهما ويقول هكذا ”لأنّه علم كذلك“ أي مقتضى التضاد بين المفهومين ان يكذب احدهما، اذا فهو صريح في ان بعض موارد العلم الاجمالي مما لا تعين له حتّى واقعا، لا ان متعلق العلم الاجمالي دائما معين واقعا مردد ذهناً.

المعنى الثالث: ان المقصود بالفرد المردد الكلي المقيّد بقيد الوحدة وهو ما ذكره تقرير المحاضرات لسيدنا فمثلا اذا قال عظّم مسجدا من مساجد قم فهذا من الكلي المقيّد بقيد الوحدة وهذا هو الفرد المردد بحسب المحاضرات.

ولكن الامر ليس كذلك اذ ان الكلي المقيّد بقيد الوحدة مدلوله صورة كلية اخذ فيها قيد الوحدة ونتيجة اخذ قيد الوحدة في هذا الكلي لا ينطبق على اثنين في آن واحد لا ان المحكي بالصورة فرد وجزئي بل المحكي بها كلي وهذا يختلف عن الفرد المردد فان المحكي في صورة الفرد المردد جزئي لا كلي، فاذا علم مثلاً بنجاسة احد الأناءين فالمعلوم بالإجمال أي المنكشف بهذا العلم فرد بالحمل الاولي وان كانت هذه الصورة بالحمل الشائع يحتمل انطباقها على اناء باء وجيم الا ان المنكشف بها فرد وجزئي بينما الكلي المقيد بقيد الوحدة المنكشف به عنوان كلي نتيجة اخذ قيد الوحدة فيه لم يقبل الانطباق على اثنين في آن واحد.

المعنى الرابع: ما ذكره المحقق النائيني في منية الطالب ان المقصود به الفرد المنتشر، والفرد المنتشر ورد التعبير به عند الحديث عن مفاد النكرة حيث عبر ابن هشام في قطر الندى ان النكرة ما دلَّ على معنى شائع في جنسه فتوهم ان الشيوع والانتشار في الفرد هو معنى الفرد المردد، والحال بأنّ الفرد المنتشر الذي فسرت به النكرة فقيل المراد بها الفرد المنتشر هو المبهم، أي انّ شيوعه لأجل ابهامه لا لأنّه شائع في ذاته، والا لا يعقل الشيوع فان الوجود مساوق للتشخص فلا يعقل للفرد ان يكون له شيوع فهذا خلف تشخصه وانما المقصود بالشيوع والانتشار هو الابهام فالفرد المبهم هو الفرد المنتشر سواء كان معيّنا لدى احد الشخصين كما اذا قال جاءني رجل فهو معين عند المتكلم مبهم عند المخاطب او كان غير معين لدى كليهما كما لو قال بعتك احد هذه الكيلوات من الرز، وكان لكل كيلو كيس لوحده مثلاً.

فهذه المعاني الاربعة ليست هي المقصودة لصاحب الكفاية فما هو مقصوده من الفرد المردد؟

وقد قيل في بعض الكلمات ان مقصوده من الفرد المردد العنوان المنتزع من احدى الخصوصيات الخارجية، فلو فرضنا ان هنا عدة كتب مختلفة في الخصوصيات ككتاب المكاسب والكفاية والكافي فقلت علمت ان احد هذه الكتب للشيخ الطوسي فعنوان الأحد منتزع من احد الخصوصيات الموجودة في الخارج، ولذلك المشار اليه بعنوان الأحد الفرد أي المتشكل بخصوصية خارجية، وهو شبيه بالكلي في المعين، غاية الامر ان الكلي في المعين من قبيل الكم المتصل والفرد المردد من قبيل الكم المنفصل، بيان ذلك اذا قيل بعتك صاعا من هذه الصبرة فنسبة الصاع للصبرة نسبة الكم المتصل لان المراد به كسر من هذا المجموع بينما اذا قيل احد هذه الكتب  بما هي متفرقة ومفرزة  للشيخ الطوسي فنسبة الأحد لها نسبة الكم المنفصل لا المتصل، وهذا المعنى من الفرد المردد ذكره سيد العروة في باب البيع فقال اذا قال وهبتك احد العبدين صحّ واما اذا قال بعتك احد العبدين لم يصح لان العبدين اما مختلفان قيمة فالبيع غرري واما متحدان قيمة فالموجب لفساد البيع الجهالة فان جهالة المبيع مانعة من صحة البيع اجماعا وان لم تستلزم الغرر بخلاف باب الهبة حيث لا ترد هذه المحاذير فيها.

فالمقصود بأحد العبدين العبد المتشكل بخصوصية خارجية.

هذا فيما ذكر في بيان المقصود بالفرد المردد في عبارة صاحب الكفاية، ولكن يلاحظ على ذلك ما ذكرناه سابقاً من انّ الفرد المردد متقوم باللاتعين والبدلية، ومقتضى تقومه باللاتعين أنّ انطباقه على احدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح فاذا قيل عملت بكذب احد الخبرين كان انطباق المعلوم بالإجمال وهو وجود خبر كاذب على ما دل على تعين الجمعة او على تعين الظهر ترجيح بلا مرجح بل هما متكافئان من هذا الحيث وهذه الجهة ولأجل ذلك لو بصرت بخبر كاذب تفصيلا بان اطلعت على ان ما دل على تعين الجمعة يوم الجمعة كاذب لا استطيع ان اقول هذا ما علمته اولا بل غيره، فان ما علمته اولاً كِذب احدهما لتضادهما ولا كذب احدهما لأجل مطابقته للواقع، والكذب الناشئ عن التضاد مما لا تعين له لأنّه ليس المراد بكذبه عدم مطابقته للواقع بل المراد بكذبه انه لا يعقل صدق الضدين فحينئذٍ متعلق العلم المعبر عنه بالفرد المردد لا تعين له فلو حصلت على معين فهذا علم تفصيلي وذاك علم اجمالي، وانه متقوم بالبدلية بمعنى ان لا ينطبق على اثنين بل لا محالة على هذا او هذا، من هنا يتبين وجه المناقشة في ما ذكر وهو ان انتزاع عنوان الأحد من الخصوصيات الخارجية مباشرة بلا واسطة لازمه ان عنوان الأحد المنتزع منها قابل لان ينطبق على واحد او اثنين لأنّه لا يوجد واسطة بين الخصوصيات الخارجية وبين عنوان الأحد فلا يمكن ان يزيد العنوان المنتزع على منشأ انتزاعه فيؤخذ في العنوان المنتزع قيد البدلية مع انه ليس موجودا وقائما بالمنتزع منه، فلا محالة عنوان الأحد المنتزع من الخصوصيات الخارجية كلي وهذا الكلي لا يأبى الانطباق على اكثر من فرد وان كان لا يحتاج لذلك ففرق بين ان نقول يكفي في صدق الأحد فرد ولكنه من جهة اخرى لا يأبى الانطباق على اكثر من فرد فلو قلت اغسل هذا الثوب بماء من هذه المياه فانه لا يأبى الانطباق على غسله بأكثر من ماء في آن واحد ما دام منتزعا بنحو مباشر من الخصوصيات الخارجية، بينما الفرد المردد متقوم بالبدلية ان لا ينطبق على اكثر من اثنين بل اما هذا او هذا.

والحمد لله رب العالمين