العناصر الرسالية في شخصية الداعية ”الجزء الأول“

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [1] 

هذه الآية المباركة نحن نقرؤها في كلّ يوم جمعةٍ ونمرّ عليها من دون أن ندقق ونتأمّل في مدلولاتها وفي مضامينها، فكّرتُ في هذه الآية المباركة في الليلة السابقة فتوصلتُ إلى أنّ في هذه الآية عشرة بحوث لم يتعرّض لها أحدٌ من المفسّرين ولم يمرّ عليها أحدٌ من الباحثين، ولابدّ من المرور عليها ولو إجمالاً لمعرفة ما تنطوي عليه هذه الآية الصغيرة التي تمرّ على ألسنتنا كثيرًا عند قراءتها وتلاوتها.

البحث الأوّل: هو عنصر البعث، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ماذا ينطوي عليه عنصرُ البعث من مدلول اجتماعي ينتهجه كلّ داعيةٍ وكلّ مَنْ يحمل هدفًا نبيلاً؟

البحث الثاني: حول قوله: ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ هل هذه الفقرة رمزٌ للبرهان على صدق نبوّة النبي أم أنّ هذه الفقرة بيانٌ لفطريّة الدّين الذي أتى به النبيُ محمّدٌ ؟

البحث الثالث: عندما قال: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ما هو المقصود بالتلاوة؟ هل المقصود به إبلاغ وحي السّماء أم المقصود به الإشارة إلى الإعجاز الحسّي للقرآن الكريم الذي لا يقل عن درجات إعجازه ومراتب إعجازه في المساحات الأخرى؟

البحث الرابع: عندما قال القرآن الكريم: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ هل المقصود بالتزكية هنا التزكية الخلقيّة أم التزكية الأمريّة؟ هل المقصود بها التزكية الانفعاليّة أم المقصود بها التزكية الفعليّة؟ هذا هو البحث الرابع.

البحث الخامس: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ما هو المقصود بتعليم الكتاب؟ هل هو التعليم الموضوعي أم التعليم التجزيئي؟ هل هو التعليم المنهجي أم التعليم الحرفي؟ فإنّ هذه كلها أقسامٌ وأنواعٌ ودرجاتٌ لتعليم القرآن.

البحث السادس: عندما قال: ﴿وَالْحِكْمَةَ، ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ والحكمة تنقسم إلى حكمةٍ فكريّةٍ وحكمةٍ سلوكيّةٍ وعمليّةٍ، فهل المقصود الإشارة إلى تعليم الحكمة الفكريّة أو المقصود الإشارة إلى تعليم الحكمة السلوكيّة العمليّة؟

البحث السابع: عندما قال: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ هل هذه الفقرة تتحدّث عن معلومةٍ تاريخيّةٍ مرّت بها الأمّة العربية قبل بعثة النبي محمّدٍ أم المقصود بها الإشارة إلى مدلول تربوي يعتمد عليه القادة والدّعاة ألا وهو بعث روح النشاط والمواصلة والاستمرار في مسيرة الدّعوة وحركة التغيير؟

البحث الثامن: عندما قال: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ هل هذه الأدوار أدوارٌ طوليّة أم أدوارٌ عرضيّة؟ يعني: هل أنّ كلّ دورٍ من هذه الأدوار يتوقف على دورٍ سابقٍ أم أنّ هذه الأدوار في عرضٍ واحدٍ وفي رتبةٍ واحدةٍ من دون توقفٍ لكلّ دورٍ على دورٍ آخر؟

البحث التاسع: عندما تعرّض لهذه الأدوار في قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴿يُزَكِّيهِمْ ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ عندما تعرّض لهذه الأدوار هل استعراض هذه الأدوار من أجل بيان وظيفة الدّعاة من رجال الدّين ومن المبلغين أم من أجل الحديث عن العناصر المقوّمة للشخصيّة المؤمنة الملتزمة؟

البحث العاشر: أنّ هذه الأدوار التي تعرّضت لها الآية المباركة هل هي تفسيرٌ للرّسالة حيث قال: ﴿رَسُولًا مِنْهُمْ ثم قال: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فهل هذه تفسيرٌ لمعنى الرّسالة وبيانٌ لما استبطن عليه عنوان الرّسالة أم أنّ هذه وظائف أخرى تحلى بها النبي محمّدٌ كما تحلى بوصف الرّسالة؟

هذه بحوثٌ متعدّدة لا أظنّ أنّني أستطيع أن أقف على كلّ بحثٍ منها بشكلٍ تفصيلي مستوعبٍ لتمام أطرافه وجهاته ودقائقه، ولكنني أتعرّض لبعضٍ منها في هذه المحاضرة وأتعرّض لبعضٍ آخر في محاضرة الليلة الآتية بمناسبة مولد النبي المصطفى ، في هذه الليلة بعد الصّلاة أتعرّض لبعض البحوث الأخرى المرتبطة بالآية المباركة.. نأتي الآن للبحث الأوّل من البحوث التي استعرضناها إجمالاً.

البحث الأوّل:

القرآن الكريم يقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ، ذكرنا في الأسبوع الماضي عندما تحدّثنا عن قول النبي محمّدٍ : ”لو لم يبق من الدّنيا إلا يومٌ لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا“، تحدّثنا عن معاني البعث في القرآن، قلنا بأنّ البعث:

1/ قد يأتي بمعنى: الإرسال، ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [2] .

2/ وقد يأتي بمعنى: الإظهار، مثل: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [3] .

3/ وقد يأتي بمعنى: إعادة الحياة، ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [4] .

4/ وقد يأتي بمعنى: الرفعة والإعلاء، كما في قوله تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [5] .

نريد أن نقول اليوم: جميع معاني البعث تشترك في عنصرٍ واحدٍ ألا وهو عنصر المحركيّة، البعث بمعنى التحريك، البعث بمعنى مبدأ الحركة وميلاد الحركة، عندما يعبّر بالبعث فالبعث ينطوي على حركةٍ تولدت وانبثقت من منشأ معيّن واستمرّت هذه الحركة تحت إطارٍ معيّنٍ وفي طريقٍ معيّنٍ، ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴿بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ البعث بمعنى ميلاد الحركة، بمعنى: انبثاق الحركة، كلّ بعثٍ يستبطن على نوع من الحركة، «بعث الحياة» يعني: حركة الحياة في الجسم وفي العظام البالية النخرة، «بعث الرّسل» يعني: انبثاق الحركة التغييريّة في جسم الأمّة وفي جسم المجتمع، «بعث المقام المحمود» ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا يعني: أنّ النبي يعيش حركة تكامليّة من مقام إلى مقام أرقى منه حتى يصل إلى المقام الأسمى من المقامات التي أعدّها الله للجنس البشري، إذن البعث ينطوي على الحركة، ﴿بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني: خلق حركة تغييريّة في جسم الأمّة من خلال إرسال النبي ، البعث ينطوي على الحركة.

بما أنّ عنوان البعث يستطبن معنى الحركة فالآية المباركة لا تريد أن تتحدّث عن مسألةٍ تاريخيّةٍ وهو أنّ الله أرسل للأمّة العربية رجلاً منهم! لا، تريد أن تشير الآية المباركة وترمز الآية المباركة لمدلول اجتماعي من خلال التعبير بالبعث، ما هو هذا المدلول الاجتماعي؟

هذا المدلول الاجتماعي هو عبارة عن أنّ دور كلّ مَنْ يحمل هدفًا، أيّ إنسان يحمل هدفًا، كلّ إنسان يحمل هدفًا ويجيء إلى المجتمع بذلك الهدف لابدّ أن يكون وصوله للهدف عبر نظام الحركة وعبر طريق الحركة، والمقصود بالحركة: أنّه لابدّ أن يدرس خطواته ولابدّ أن ينتهج الحسابات الدّقيقة لكلّ مرحلةٍ يمرّ بها كي يعرف أنّه يسير على ضوء نظام حركي أو أنّه مازال في حالة الجمود وفي حالة الرّكود.

الإنسان الذي يفتح مشروعًا تجاريًا «إنسانٌ يفتح مشروعًا تجاريًا» أليس هذا الإنسان في كلّ مرحلةٍ يقوم بحساباتٍ ماليّةٍ ليعرف أنّ أمواله تتحرّك أم أنّ أمواله جامدة؟! أليس مقتضى الحكمة بما أنّه يريد أن يصل إلى هدف الرّبح، يريد أن يصل إلى هدف جمع الثروة وتحصيلها، إذن لأجل أن يصل إلى هذا الهدف هو في كلّ مرحلةٍ يقوم بحساباتٍ ماليّةٍ ليعرف أن أمواله في إطار الحركة، هل أنّ أمواله في حركةٍ استثماريّةٍ أم أنّ أمواله في حالة ركودٍ وجمودٍ؟! كما أنّ من يفتح مشروعًا تجاريًا لابدّ له من حساب مسيرته التجاريّة إذن أيّ إنسان يحمل هدفًا لابدّ أن يؤطر هدفه بإطار الحركة.

العالم الدّيني، الخطيب، المصلِح، الذي يرأس جمعيّة خيريّة، الذي يرأس مشروعًا ثقافيًا، الذي يرأس مشروعًا اجتماعيًا.. كلّ إنسان يحمل هدفًا إذن لابدّ أن يكون طريقه طريق الحركة إلى الهدف، فلابدّ أن يحاسب خطواته ولابدّ أن يحاسب منهجه، في كلّ مرحلةٍ وفي كلّ وقتٍ يحاسِب: ماذا وصلنا إليه وماذا خسرناه؟ ما هي الإيجابيات التي ترتبت على مسيرتنا وما هي السلبيّات التي ترتبت على مسيرتنا؟

عالم الدّين، الخطيب، المصلِح، الذي يرأس أيّ مشروع اجتماعي.. لابدّ أن يقرأ منهجه في كلّ زمن وفي كلّ مرحلةٍ ليعرف أنّه فعلاً يتحرّك أو أنّه مازال جامدًا، ماذا أثمرت مشروعاته الثقافيّة؟ ماذا أثمرت مناهجه الفكريّة؟ ماذا أثمرت أطروحاته وتطلعاته؟

لابدّ أن يتعرّف على ذلك من خلال المحاسَبة الدّقيقة لكلّ خطوةٍ ولكلّ مرحلةٍ، إذا عرف أنّه يسير في إطار البعث «يعني: في إطار الحركة» إذن فمسيرته مثمرة، وأمّا إذا تخلف عن الحركة وتقهقر إلى الوراء إذن ليس هو مندرجًا ومؤطرًا بإطار البعث الذي طرحته الآية المباركة: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ يعني: خلق حركة تغييريّة تؤتي ثمارها كلّ حينٍ بإذن ربّها ببركة جهود النبي وطاقات النبي محمّدٍ .

البحث الثاني:

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ المفسّرون هنا اختلفوا: هل أنّ «الأميّين» بمعنى: الذين لا يقرؤون ولا يكتبون فالنبي أميٌ مثلهم أو أنّ معنى «الأميّين»: هم أهل مكّة؛ لأنّ مكّة أمّ القرى فمن ينتسب إليها يقال له: «أمّيّ» كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا - يعني في أمّ القرى - أُمِّهَا رَسُولًا [6]  فالأميّون يعني أهل أمّ القرى، هل هذا أو هذا؟

أنا لا أريد أن أتعرّض لهذا البحث، أقول: هناك بحث آخر غير هذا الذي ذكره المفسّرون، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ هل أنّ هذه الفقرة ترمز إلى البرهان على صِدْق نبوّة النبي أو أنّ هذه الفقرة ترمز إلى فطريّة الدّين الذي بُعِثَ به النبي المصطفى ؟

حتى أشرح لك هذا المعنى التفت إليّ، العلماء يقولون: البرهان على صِدْق نبوّة النبي دليلٌ رياضيٌ يعبّر عنه بدليل «حساب الاحتمالات»، ما معنى هذا الدّليل الرياضي في مقامنا هذا «في محلّ كلامنا هذا»؟

العلماء يقولون: دليل حساب الاحتمالات هذا الدّليل الرياضي يشتمل على فقرةٍ وهي: كلما كانت النتيجة أضخم من المقدّمات نكتشف من خلال ذلك أنّ هناك عنصرًا خفيًا وراء المقدّمات ولد هذه النتيجة وخلق هذه النتيجة، مثلاً: لو كان عندك مثلاً ولدٌ من أبناء عمّك أو من أبناء إخوانك، ولدٌ صغيرٌ عمره ست سنوات في أوّل سنة ابتدائي، هذا الولد الصغير أرسل إليك رسالة وفتحت هذه الرّسالة فوجدت قصيدة بديعة في مستوى شعر أحمد شوقي أو في مستوى شعر الجواهري أو في مستوى شعر مصطفى جمال الدّين مثلاً «في مستوى الشعراء الكبار» وقال الطفلُ في هذه الرّسالة أنّ هذه القصيدة قصيدتي وهي كالتالي.. أنت قرأت الرّسالة، هنا أنت ماذا تصنع؟! أنت الآن بفطرتك وبسليقتك تطبق دليل حساب الاحتمالات، تقول: هناك مقدّمات وهناك نتيجة، المقدّمات: أنّ هذا الطفل عمره ست سنوات، أنّ هذا الطفل لا يحمل أيّ ثقافةٍ أدبيّةٍ أبدًا، أنّ هذا الطفل لم يسعه الوقت ليتعلم نظم الشعر واختيار الأساليب الأدبيّة المثيرة، أنّ هذا الطفل لم يمر بمخزون تجريبي في مجال الأدب كي ينتج منه هذا المخزون من هذه القصيدة.. هذه هي المقدّمات، ولكن ما هي النتيجة؟! النتيجة أكبر بكثيرٍ من المقدّمات، النتيجة أنّه أتى بقصيدةٍ أدبيّةٍ رائعةٍ في مستوى الشعراء الأوائل، في مستوى الطليعة من الشعراء، إذا قارن الذهنُ بين النتيجة وبين المقدّمات ماذا يقول؟! بما أنّ النتيجة أضخم من المقدّمات إذن هناك عنصرٌ وراء هذه المقدّمات ساهم في كتابة هذه القصيدة، ساهم في إيجاد هذه القصيدة وفي إنشائها، هناك يدٌ أدبيّة ساعدت هذا الطفل واستنسخت أو كتبت أو أنشأت له هذه القصيدة البديعة، هذا يسمّى بدليل حساب الاحتمالات من خلال هذه الفقرة التي قرأنها.

نطبق هذا الدّليل على نبوّة النبي ، النبي .. طبعًا نحن نأتي إلى المقدّمات الظاهريّة، الله أعلم بالواقع، الواقع لم ينكشف لدينا في ذلك الوقت، نحن نأتي للمقدّمات الظاهريّة، من هو؟! رجلٌ يتيمٌ، لا يقرأ ولا يكتب «إلى أن بُعِثَ لم يكن يقرأ ولا يكتب»، رجلٌ لم يدرس أصلاً، يعني لم يحضر عند معلم حتى ليتعلم الحروف أو ليتعلم المواد الأوليّة من التعليم، لم يحصر عند أيّ معلم إطلاقًا إلى أن بلغ عمره أربعين سنة، ثالثًا: هذا الرّجل الأمّيّ الذي لم يتعلم ولم يدرس هذا الرّجل لم يختلط - ثابتٌ تاريخيًا - لم يختلط بعلماء اليهود ولا بعلماء النصارى كي يستفيد من التوراة أو يستفيد من الإنجيل أو يستفيد معلومات تاريخيّة أو غيبيّة من خلالها يستطيع أن يختلق نبوّة أو يختلق قيادة معيّنة، لم يختلط بأيٍّ من علماء اليهود ولا علماء النصارى، هذا الرّجل لم يشترك في أيّ موسم أدبي ولا أيّ محفلٍ ثقافي، في الجاهليّة كانت تقام مواسم أدبيّة، كانت تقام مواسم شعريّة، ما كان هذا الإنسان يدخلها ولا يشترك فيها كي نقول: استفاد بعضًا من أدبها أو بعضًا من نثرها أو بعضًا من ثقافتها، إذن هذا الرّجل - هذه هي المقدّمات - أميٌ لا يقرأ ولا يكتب، لم يتعلم، لم يختلط بالعلماء «علماء اليهود ولا علماء النصارى»، أيضًا ماذا؟! لم يشترك في محفل أدبي ولا ثقافي في الجاهليّة أبدًا، هذه المقدّمات، فجأة وإذا أتى هذا الرّجل بكتابٍ معجزٍ في لفظه، في معلوماته، في أدائه، في نظمه، في قوانينه.. ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [7] ، هنا نجري دليل حساب الاحتمالات، نقول: النتيجة أكبر من المقدّمات، النتيجة أضخم من المقدّمات، هذه المقدّمات لا تولد هذه النتيجة، بما أنّ النتيجة أضخم من المقدّمات حالاً العقل يقول: هناك عنصرٌ غيبيٌ، هناك عنصرٌ وراء المادّة ووراء الطبيعة، ذلك العنصر هو الذي نسخ هذا الكتاب، هو الذي أبدع هذا الكتاب، هو الذي أوجد هذا الكتاب، وإلا هذا الرّجل بهذه المقدّمات لا يستطيع - بل من المستحيل - أن يأتي بمثل هذا الكتاب، إذن هناك عنصرٌ وراء هذه المقدّمات أبدع هذا الكتاب ألا وهو العنصر الغيبي ألا وهي اليد الإلهيّة ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [8] .

فهمنا البرهان على نبوّة النبي، هذا البرهان نفسه نستفيده من نفس الآية التي قرأناها: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ نفس هذه الفقرة ترمز إلى هذا البرهان، يريد أن يقول لهم: إذا كان هذا المبعوث من الأميّين ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ إذا كان هذا المبعوث أميًا بُعِثَ من الأميّين ومع ذلك أتى بكتابٍ عجز عنه المثقفون فضلاً عن الأميّين فهذا دليلٌ قاطعٌ وبرهانٌ ساطعٌ على صِدْق نبوّة محمّدٍ ، إذن كلمة ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ هذا التعبير يرمز إلى البرهان، يعني: مَنْ كان أميًا لا يستطيع أن يختلق كتابًا مثل هذا الكتاب، فمجيئه بهذا الكتاب دليلٌ على صِدْق نبوّته .

أو أنّ هذه الفقرة من الآية المباركة ترمز إلى فطريّة الدّين الإسلامي الذي بُعِثَ به النبيُ، كيف ترمز إلى فطريّة الدّين الإسلامي؟

علماء النفس يقولون: لغة التفكير على قسمين:

1 - لغة أوليّة.

2 - ولغة ثانويّة.

ما هو الفرق بين اللغة الأوليّة واللغة الثانويّة؟

صنفٌ من الناس يفكّر بلغةٍ أوليّةٍ، وهناك صنفٌ من الناس لا، يفكّر بلغةٍ ثانويّةٍ، ما هو الفرق بين اللغتين؟

كلّ إنسان عندما يفكّر فهناك أصولٌ لتفكيره يعتمد عليها، كلّ إنسان عندما يفكّر هناك طرقٌ لتفكيره يعتمد عليها، من يرتبط بالفلسفة تكون أصول تفكيره أصولاً فلسفيّة، من يرتبط بالفقه تكون أصول تفكيره أصولاً فقهيّة، من يرتبط بعلم النفس أو علم التربية تكون أصول تفكيره أصولاً نفسيّة، كلّ من يتأثر بثقافةٍ معيّنةٍ فأصول تفكيره تتأطر بإطار تلك الثقافة وتنحصر وتتقوقع في إطار تلك الثقافة التي تأثر بها، هذا الإنسان ماذا يسمّى؟! هذا يقال: يفكّر بلغةٍ ثانويّةٍ وليس بلغةٍ أوليّةٍ، يعني: أصول تفكيره «جذور تفكيره» نابعة من ثقافته التي تأثر بها وارتبط بها، أمّا هناك صنفٌ من الناس لا، لغته لغة أوليّة، ما معنى ذلك؟

أصول تفكيره أصولٌ فطريّة، مثلما نقول: هذا الإنسان فطري، هذا الإنسان يفكّر بطبعه، بفطرته، لا من خلال ثقافةٍ، ولا من خلال نظم معيّنةٍ، ولا من خلال مبادئ معيّنةٍ، هذا إنسانٌ ما درس ولا تعلم ولا تثقف، إذن أصول هذا الإنسان وجذوره في مقام التفكير أصولٌ فطريّة طبيعيّة، يفكّر بمقتضى طبيعته، بمقتضى فطرته، بمقتضى سليقته، وليس متأثرًا بأيّ منهج ولا بأيّ إطار ثقافي آخر.

من هنا كلمة «الأميّين» أنا أقول: لا يراد بها من لا يقرأ ولا يكتب، ولا يراد بها أهل أمّ القرى، لا، المراد بالأميّين معنى ثالث، ما هو؟ هو من يفكّر بلغةٍ أوليّةٍ، الأميّون الفطريّون، الأميّ هو الشخص الفطري الذي يفكّر بلغةٍ أوليّةٍ، الأمّيّ هو الذي لم تتأثر أصول تفكيره ولا جذور تفكيره بثقافةٍ ولا بمنهج آخر، إنسانٌ كما ولدته أمّه، ولذلك يسمّى أميًا، «أمّي» يعني: كما ولدته أمّه، «أمّيٌ» ليس معناه أنّه لا يقرأ ولا يكتب، يعني: يقرأ ويكتب وأيّ شيءٍ آخر ولكنّ تفكيره على مقتضى أميّته، على مقتضى فطرته، على مقتضى سليقته وطبعه، الأميّون هم الفطريّون، ولعلّ الآية الأخرى في القرآن الكريم: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [9]  يعني: فطريّون يأخذون المعلومات بصورتها الفطريّة النقيّة من شوائب الثقافات «العارية من شوائب الثقافات الأخرى»، فطريّون يفكّرون بلغةٍ أوليّةٍ، القرآن الكريم يريد أن يقول أنّ الدّين الذي بُعِثَ به النبيُ ليست أطره أطرًا فلسفيّة ولا أطره أطرًا علميّة ولا أطره أطرًا ماديّة، يعني أنّ أصول هذا الدّين وجذور هذا الدّين ليست نتاجًا بشريًا وليست نتاجًا لعقلٍ بشري كي تكون متأثرة بثقافةٍ معيّنةٍ أو بإطارٍ معيّنٍ، هذا الدّين دينُ السّماء وبما أنّه نتاجُ السّماء إذن أصوله أصولٌ فطريّة، أصولٌ إنسانيّة، أصولٌ طبيعيّة، هذا الدّين لأنّه نتاج السّماء فهو على طِبْق اللغة الأوليّة وليس على طِبْق اللغة الثانويّة، لأنّ هذا الدّين ليس نتاجًا بشريًا إذن أصول تفكيره أصولٌ فطريّة، لذلك النبيُ جاء إلى الفطريّين بدينٍ فطري ينسجم مع أصول تفكيرهم ومقتضى سليقتهم، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [10] .

البحث الثالث:

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ أتعرّض لهذا البحث الثالث وأنتهي إن شاء الله، ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ما هو المقصود بالتلاوة؟

كثيرٌ منا عندما يقرأ الآية المباركة يتصوّر أنّ المقصود بقوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يعني: يبلغهم الوحي!

نحن نلاحظ في القرآن الكريم أنّ كثيرًا ما يُرْبَط بين اسم النبي وبين الرّسالة، أنت تلاحظ القرآن الكريم جميع الآيات التي ذكرت اسم النبي ذكرت الرّسالة، مثلاً:

1 - ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [11] .

2 - ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [12] .

3 - ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [13] .

4 - ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [14] .

جميع الآيات إذا تتبعتها تلاحظ أنّها تقرن بين اسم النبي وبين الرّسالة، النبي هو الرّسول، محمّدٌ هو الرّسول، هل المقصود بالتلاوة هنا التبليغ؟ ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني: بما أنّه رسولٌ فوظيفة الرّسول تبليغ ما أرْسِلَ إليه تبليغ ما أوحِيَ إليه، ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يعني: يبلغهم وحي السّماء كما هي وظيفته! هذه هي وظيفته وهذا هو المقصود من الآية المباركة أم أنّ المقصود شيءٌ أعمق من ذلك وشيءٌ أدقّ من ذلك؟

ليس المقصود بالتلاوة هنا مجرّد تبليغ الرّسالة وتبليغ الوحي، بل المقصود بالتلاوة: الإشارة إلى الإعجاز الحسّي للقرآن الكريم، ما معنى الإحساس الحسّي للقرآن الكريم؟

القرآن الكريم كما هو معجزة في صياغته - صياغته العربية صياغة بليغة إعجازيّة - هو معجزة أيضًا في ماذا؟ في معلوماته، القرآن طرح قوانين تتعلق بجسم الإنسان، تتعلق بالفلك، تتعلق بالفضاء، طرحها قبل ألف وأربع مئة سنة من التقدّم العلمي والتكنولوجي، كما أنّ القرآن معجزة في معلوماته معجزة في غيبيّاته، القرآن تنبأ بأحداثٍ حصلت بعد نزوله بسنين طويلةٍ، كما أنّ القرآن الكريم معجزة في تنبؤاته القرآن معجزة حتى في نغمته، الموسيقى القرآنيّة موسيقى إعجازيّة، صوت القرآن، نغمة القرآن هي نغمة إعجازيّة، هناك إعجازٌ حسيٌ يكمن في ماذا؟ يكمن في صوت القرآن، يكمن في نبرة القرآن وفي نغمة القرآن الكريم، كيف هذا؟

لابدّ أنّكم اطلعتم على هذا البرنامج، تكرّر في عدّة قنوات، في قناة الجزيرة أتِيَ بهذا الدكتور العراقي الدكتور أحمد الحنفي تعرّض للإعجاز في القرآن الكريم وتحدّث عن الإعجاز الصّوتي للقرآن الكريم، وقال بأنّه ثبت بالتجربة - تجربة كرّرت مئات المرّات - أنّ عندنا شخصين مصابين بالقلب أو أنّ هذين الشخصين مصابان بحالة ارتفاع في حركة القلب وسرعة النبض، نضع هذين الشخصين اللذين يعيشان سرعة في النبض، نضعهما، نقرأ على أحدهما آياتٍ من القرآن الكريم بنوع من التلاوة ولا نقرأ على الآخر، نجد أنّ الأوّل الذي يستمع لآياتٍ من القرآن الكريم على نحو التلاوة يصاب ويعرض عليه الاستقرار والهدوء أكثر من الإنسان الآخر، وقد أقيمت التجربة مئات المرّات حتى ثبت لهم هذا المعنى: أنّ لتلاوة القرآن الكريم «لأداء القرآن الكريم» تأثيرًا إعجازيًا، الموسيقى القرآنيّة عند تلاوة القرآن وأدائه لها تأثيرٌ إعجازيٌ على اطمئنان النفس وعلى استقرار النفس وعلى هدوء النفس ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [15] ، وقال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [16] .

من هنا الآية المباركة تقول بأنّ هناك فرقًا بين القراءة والتلاوة، ليست كلّ قراءة تلاوة، التلاوة شيءٌ والقراءة شيءٌ آخر، لم يكن الرّسولُ يقرأ بل كان يتلو ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ - لا يقرأ عليهم، بل - يَتْلُو عَلَيْهِمْ، فرقٌ بين القراءة وبين التلاوة، التلاوة ما معناها؟

التلاوة معناها: قراءة القرآن وأداء القرآن بشكل ينقل مضمونَ القرآن من خلال النغمة الصوتيّة، التلاوة هي عبارة عن: أداء القرآن أداءً ينقل تأثيره الرّوحي وتأثيره الغيبي عبر الموسيقى الصوتيّة، عبر النغمة الصوتيّة، عبر النبرة الصوتيّة، هذا هو المسمّى بالتلاوة، وليست التلاوة مجرّد القراءة، لا، التلاوة شيءٌ والقراءة شيءٌ آخر، ولأنّ النبي كان أجود الناس تلاوة فكانت تلاوته للقرآن تغزو النفوس وتسيطر على القلوب وتكهرب مَنْ يستمع إلى القرآن حتى قالوا عنه: شاعر، أو قالوا عنه: ساحر، وحتى قال عنه الوليدُ: «إنّني لأسمع كلامًا ما هو من كلام الإنس، ولا هو من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّه ليعلو ولا يُعْلَى عليه».

وهذا أيضًا ما يذكره القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ [17] ، القراءة ليس فيها «حق» و«ليس حقًا»! واحد يقرأ يقرأ، لكن التلاوة لا، التلاوة على درجاتٍ وعلى أقسام، هناك درجة أعلى من التلاوة وهناك درجة أدنى من التلاوة، ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ وهذا ما ورد في التاريخ عن الإمام زين العابدين : كان إذا قرأ القرآنَ وقف الناسُ عند بيته يستمعون إلى تلاوته للقرآن .

إذن الموسيقى القرآنيّة تنثر إعجازًا حسيًا للقرآن، تنثر إعجازًا صوتيًا للقرآن، فكان النبي المصطفى من خلال أدائه للقرآن يبرهن على صِدْق القرآن وعلى عظمة القرآن من خلال الإعجاز الحسّي الذي يتمثل عند قراءته للقرآن الكريم، ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.

والحمد لله ربّ العالمين

[1]  الجمعة: 2.
[2]  الشعراء: 36.
[3]  البقرة: 213.
[4]  يس: 52.
[5]  الإسراء: 79.
[6]  القصص: 59.
[7]  الإسراء: 88.
[8]  النجم: 4.
[9]  البقرة: 78.
[10]  الروم: 30.
[11]  آل عمران: 144.
[12]  الأحزاب: 40.
[13]  الصف: 6.
[14]  الفتح: 29.
[15]  الأنفال: 2.
[16]  الرعد: 28.
[17]  البقرة: 121.