السيد منير الخباز بين نظرتين

محمد علي جليح شبكة أخبار القطيف

عندما تستقرئ نتاج العلامة السيد منير الخباز، تجد أنهُ نتاج مليء بالعطاء والفكر وأسهل ما يبرهن على ذلك كلهُ ويدل عليه هو منبره، الذي أعجب بهِ وأشاد بطرحهِ النوعي من هو خارج المدرسة الإمامية فضلاً عمن هو داخل الدائرة الشيعية، ومصنف ضمن أطرها وذلك لما يحمل هذا المنبر من خطاب مميز، فهو يتعاطى مع القضايا أياً كان نوعها بتحليل فكري معمق وبأدوات حوزوية أصيلة وبموضوعية تامة، ولا يظهر هذا التجلي جلياً إلا لمن قرأ محاضرات سماحة السيد بقراءة مجردة، ومن ضمن ما قرأت مؤخراً مما لهُ نحو اتصال بهذا الشأن، مقالاً يناقش فِيهِ الأخ - محمد الصادق - ما طرحهُ سماحة السيد في موسم المحرم معنوناً بعنوان: «الفلسفة الخبازية للدولة الإسلامية»، وقد ناقشهُ من عدة جهات، وأنا احببت من خلال هذا المقال أن أناقش المناقشة نقداً لنقدهِ ويجدر بنا التنبه هنا الى أن ماطرحه السيد من محاضرات هذا العام حول النظام الاسلامي ليس دعوة منه إلى تأ سيس دولة دينية لا سنية ولا شيعية وإنما هي مجرد بحوث تحليلية أراد بها الاجابة بشكل مختصر وبمقدار مايسع الوقت له عن التساؤلات المطروحة من قبل بعض الباحثين حول دولة الامام علي وحول معالم الدولة الدينية في الفكر الامامي فهو مجرد بحث فكري، وقد حصرت ما طرحهُ الصادق في التالي:

لقد أورد الصادق على سماحة السيد إيراداً وهو تجاهلهُ لقضية بالغة الحساسية، وهي النزاع على هوية الدولة الإسلامية، ولكنهُ في المقابل رسخ لفكرة الأغلبية والأقلية المذهبية داخل الدولة الاسلامية على حساب الهوية السياسية، وهذه الإشكالية بحسب قول الصادق تعزز التصادم والتأزم بين المذهبين، لأن الحالة السردية والرموز التاريخية للشيعة مناقضة للحالة السردية والرموز السنية، ويجاوب على هذه الإشكالية من نفس محاضرة سماحة السيد فإنهُ عندما عرض ماهية الدولة الدينية ذكر أنه في حال تعدد الأديان أو المذاهب، فحينئذٍ لابد من إيجاد حل تجنباً لأي نزاع قد يجري في هوية الدولة أو ماهيتها وأنها دولة سنية أو شيعية، وهذا الحل له صيغتان:

  • الصيغة الأولى:

أن يكون هناك عقد اجتماعي بين أبناء الدولة على تحكيم مذهب الأغلبية ومعنى تحكيم مذهب الاغلبية هو تطبيق آراء رموزها والقبول بسيرورتها التاريخية دون اعتراض نعم قد يحصل اختلاف تاريخي في نزاهة بعض الرموز وأهليته وهو حاصل على كل حال سواءا كانت الدولة دينية أم مدنية وهو اختلاف تاريخي لايضر بمسيرة الدولة مادامت تخضع في ذلك لعقد اجتماعي واضح بين أبنائها فإذا اتفقوا على ذلك فأي مشكلة في البين!

  • الصيغة الثانية:

هي أن يكون هناك اتفاق بين أبناء الوطن الواحد، على أن يكون المرجع في القضايا والأحوال الشخصية لكل مذهب هو أحكام وقوانين مذهبه الديني.

وأيضا كانت هناك للأخ الصادق محطة استفهام ثانية، تتمثل في أن تعريف سماحة السيد للدولة الإسلامية يفتقد لعنصر الحدود، وهذا ما يجعل الدولة تميز الناس بالدين بينما هناك حدود ثابتة للدولة الحديثة، فالدولة القومية الحديثة هي دولة حدودها حدود الجماعة السياسية، وذكر أيضاً أن القومية عبارة عن شعور بوحدة المصير لجماعة ثقافية، وقد ظهرت كفكرة في وجه الاستعمار ولمعالجة مسألة التمييز أو أفضلية بعض الفئات الاجتماعية على البعض الآخر، كما كان حاصلاً في الدولة الدينية والدولة القومية هي من أسس فكرة المساواة داخل حدود الدولة الوطنية، وأيضا توهم الصادق أن سماحة السيد منير الخباز حاول الإيحاء جزافاً بأن المواطنة وجدت لحل معضلة التمييز التي خلقتها القومية، ورداً على هذا الاستفهام ساق سماحة السيد أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إلى حدود الدولة الدينية، وهو أن حدود الدولة حدود عقلية اختيارية لاجغرافية وهي أن كل جماعة أ وقوم أو بلد من البلدان آمن بالاسلام بطواعيته وقناعته. فهو ضمن حدود الدولة فانها توفر له حقوق المواطنة وكذلك تدخل في حدود الدولة الدينية وإطارها كل جماعة أو بلد لم يؤمن بالاسلام وانما آمن بعدالة الدولة فرغب في الانضمام لها عن طريق عقد الذمة او المعاهدة والصلح فهو ضمن الدولة ايضا وهذا كله يعني أن الدولة الدينية لها حدود وأن حدودها لاتتضمن تمييزا بالدين لان حدودها تتبع الاتجاه العقلي الناتج عن القناعة والاختيار ولاتختص بالمسلمين بل تشمل كل من آمن بعدالة الدولة ورغب في الانضمام اليها فهل ان هذا الامر بعد تمييزا!، وذلك على خلاف الدولة الوضعية إذ أن حدودها جغرافية، فيقال أنهُ من دخل في هذه الحدود الجغرافية هو منتم للدولة ومن لم يدخل إليها فهو ليس بمواطن، وبالتالي فإن هذه الحدود إجبارية وقائمة على التمييز على خلاف حدود الدولة الدينية، فإن حدودها اختيارية وبعيدة عن التمييز، وأما مسألة أن المواطنة متأخرة أو متقدمة تراتبياً على القومية، فإن سماحة السيد في المحاضرة نقل عن هوبز باؤم في كتابه عصر الامبراطورية ترجمة فايز الصياغ ص 291 ومابعدها هذه الفكرة ولم يخترعها اختراعاً حيث ذكر في الكتاب أن الدول الاوروبية أدركت في أواخر القرن التاسع عشر أن المجد والحضارة في أن تتحول الى مفهوم الامة وهو الدين المدني الجديد الذي يعني اللغة الموحدة والاطار الواحد وهو إطار بريطانيا او فرنسا مثلا الذي تذوب فيه القوميات المختلفة والاديان واللغات المتباينة وكلامه في هذه الصفحات يعني بوضوح أن مفهوم المواطنة بمعنى الانتماء للدولة فقط لالشيء آخر جاء لاذابة التمييز الذي زرعته القوميات المتناثرة والطبقية الاجتماعية من عمال وبرجوازيين ثم يذكر بنفسه ان هذا المفهوم الجديد وهو مفهوم الدولة يتضمن بعض التمييز ايضا..

الأمر الآخر الذي ذكره الصادق أن سماحة السيد، عرف المواطنة في الدولة الوضعية بأنها علاقة قانونية بين الفرد والدولة التي يعيش فيها، وأن هذا المواطن المرتبط بتراب وطنه له حقوق وعليه واجبات وأنه متساو فيها مع بقية المواطنين بغض النظر عن عرقه أو دينه أو مذهبه، وعند التأمل في هذا التعريف يجد الصادق أنه مولود من رحم الدولة الحديثة، وهذا المفهوم بهذا البيان هو متفوق على تعريف المواطنة في الدولة الدينية، إذ أن الدولة الدينية تقسم الناس إلى عدة طبقات ودرجات فهناك مسلمون وأهل كتاب وملاحدة، وعلى هذا فإن لتعريف المواطنة في الدولة الوضعية امتيازاً على التعريف في الدولة الدينية، وللجواب على هذه المفاضلة المدعاة من الأستاذ الصادق أقول أن سماحة السيد عرف المواطنة في الدولة الوضعية ولم يعرف الدولة كمصطلح لجميع الدول حتى يقال أن هذا التعريف للمواطنة جاء من رحم الدولة الحديثة، فكيف عممتموه للدولة الدينية وانما ذكره السيد كتعريف للمواطنة في الدولة الوضعية ثم ناقشه بأن الانتماء الى التربة لايكفي في تحقيق المواطنة في الدولة الدينية بل يحتاج لعناصر أخرى وأيضا هو صرح بأن جميع من يؤمن بالسماء حتى ولو لم يكن مسلماً هو في مرتبة واحدة، وعرض واحد في الدولة الإسلامية كدولة أمير المؤمنين من حيث واجبات وحقوق المواطنة، فكما يطالب الذمي بضريبة الجزية فإن المسلم مطالب بضريبة الزكاة أيضا، بلا فرق بينهما وهذا ليس تمييزاً فأخذ الضريبة على المواطن في الدولة الدينية ليس من باب التمييز أو المن أو الشرط عليه، وإنما لإنعاش الوضع الاقتصادي وقد اوضح في ليلة الحوار أن المواطنة هي مجموعة من الحقوق والواجبات الا أن الحصول على الحقوق كاملة منوط بأمور فالمسلم اذا لم يدفع الزكاة مع قدرته المادية على الدفع أخذت من ماله أو يحرم بعض الحقوق كالراتب الوارد من أراضي الخراج وكذلك أهل الديانات الاخرى لو لم يدفعوا الجزية يحرموا بعض الحقوق لا أن المواطنة تسلب عنهم لذلك لافرق في درجة المواطنة ببن المسلم وغيره ولاشرط مقابل الوجود كما تطرق سماحة السيد في هذا السياق أنه لايجوز قتال أي منتمي للدولة الدينية مالم يكن باغيا معتديا وحتى الفرد الذي لايؤمن بالله ليس محروما من حق الحياة والكرامة مالم يكن معتديا وباغيا، فالمواطن غير المسلم ما دام غير معتدياً وباغياً فهو محترم في الدولة الإسلامية، ولا يحق لأي شخص أو جهة ظلمه والتعدي عليه وغصبه أي حق من حقوقه المشروعة.

وفي جانب آخر أشكل الصادق إشكالاً مفاده أنهُ كيف ستتعامل الدولة الدينية مع غير المؤمنين بالغيب، خاصةً وأن سماحة السيد قد نظر في محاضرتهِ إلى مضمون مختصره أن فلسفة الإيمان بعالم الغيب والماورائيات دخيلة في بناء الدولة وتشييد دعائمها، كما أنه تسائل عن كيفية تعامل الدولة والنظام السياسي في الفكر الديني مع المقصرين في المشاركة في عملية الإعمار والبناء والإنتاج، وتعقيباً على هذه التساؤلات ذكر سماحة السيد عدة بنود بهذا الترتيب:

  • أولاً: إن من لم يؤمن بالغيب أي لا يؤمن بالسماء إطلاقاً فإن الدولة تتعامل معهُ بعقد المعاهدة، وبالتالي فإنهُ محمي من الدولة كما صنع رسول الله حيث أقام صلحاً مع مشركي قريش مرتين وعندما دخلت مكة في ضمن الدولة الدينية بعد الفتح لم يفرض الرسول على من لم يؤمن به منهم الدين بل قال اذهبوا فانتم الطلقاء وعاشوا مواطنين ضمن الدولة.
  • ثانياً: الإشكال بالنسبة إلى مسالة الإعمار ليس بوارد، فإن سماحة السيد كان في صدد مناقشة تعريف المواطنة بحسب المنهج اللاديني، وذكر أن ملاك المواطنة في الدولة الوضعية هو الانتماء للتربة وهذا الملاك ليس كافياً، لأن الانتماء للتربة بوحده يعتبر تمييزاً، ولذلك فإن الدين وضع عنصراً آخراً وهو عنصر الإنتاج والإعمار وهذا العنصر الذي يحدده هي الدولة، ولا يقال هنا بأن الفرد غير المنتج سيخرج من الدولة الإسلامية، وسيطرد منها بحسب هذا القانون لأن المواطنة هي حق أصيل له نعم هو لن يعطى جميع حقوق المواطنة مقارنة بالمواطن المنتج لقبح المساواة بين من قدم حضارة وبذل تضحيات جسام في سبيل ذلك وبين من لم يبذل أي جهد يذكر لتحقيق هذا الهدف مع قدرته على ذلك، فالمساواة تعتبر ظلم نقيض للعدل في هذه الحالة وهذا محل اتفاق عليه بين العقلاء وأما تحديد من يعمر الارض ومن لايعمر وماهو مستوى الاعمار فهذا أمر مقدور لكل دولة القيام به من خلال مؤسساتها المختلفة فكما تقدر الدولة على تحديد من يدفع الضريبة ومن يتخلى عنها وماهو مستوى الدخل لكل مواطن من خلال حسابه ونتاجه كذلك تقدر على تحديد مسالة الاعمار.

وأخيراً اعترض الصادق في مقالهِ هذا اعتراضاً راجعاً بتصورهِ إلى وجود خلط بين المذهبية والطائفية عند سماحة السيد، كما كانت له وقفة مع فكرة الأخوة الإيمانية بين الشيعة، والتي تلزمهم بقضاء حوائج بعضهم البعض داخل مؤسسات الدولة، وهذه الفكرة بحسب وجهة نظره أي الصادق تؤسس لشبكة مصالح اقتصادية وسياسية بين المذهب، ستنتهي لا محالة إلى إنتاج حالة طائفية، ودفعا لهذا الاعتراض نجيب بأن سماحة السيد لم يتحدث عن الطائفية كمصطلح بل تحدث عن الطائفية كبذرة ومنشأ فاننا قد نتحدث عن مصطلح الطائفية بحسب المقياس القانوني وهو يختلف عن مصطلح المذهبية وقد نتحدث عن منشأ حصول الطائفية والسبب في شيوعه ولا شك أن منشأ الطائفية هو احتكار الحقيقة المطلقة إذ أن هذا المنشأ يمنح امتيازات لجماعة دون جماعة بلا سبب سوى ما بينه سماحة السيد هذا بالنسبة للشق الأول، وأما بالنسبة للشق الثاني وهو شق الأخوة الإيمانية فإن هذا النوع من الأخوة لا يتضمن تمييزاً أو تفرقة طائفية أصلاً، لأن ثبوت حسن قضاء الشيعي لحاجة أخيه الشيعي بحسب النظام، لا ينفي ثبوت حسن أن يقضي الشيعي حاجة المسلم الآخر مذهبياً والرواية الصادقية التي تلاها سماحة السيد في المحاضرة عند حديثه عن الاخوة الايمانية وما يترتب عليها من آثار تدل دلالةً واضحةً لا لبس فيها على حث الشيعة على الأمانة مع جميع المسلمين وأداء الحقوق لهم فجميع المسلمين مما ينبغي قضاء حاجاتهم الا أن الاخ المؤمن منهم تقضى حاجاته بسببين وهما أخوته في الدين وأخوته في الايمان والمسلم تقضى حاجاته بسبب واحد وهو الاخوة في الدين مضافاً إلى أن سماحة السيد لم يصرح بأن مقتضى الأخوة الإيمانية هو تشكيل فريق اقتصادي أو سياسي، بمعزل عن الدولة ولم يتفوه بذلك أبداً، ولم يدع لأن يخرج الناس على الأنظمة والقوانين انتصاراً لهذه الأخوة وتعصبا لها، فإن إثبات هذا يحتاج لتصريح صريح وبين ولا مكان للتأويلات والتخمينات في مقام الإثبات، كما هو متسالم عليه بين ذوي الألباب ونقل السيدأيضا رواية مفادها من لم يقضي حاجات اخوانه يبتليه الله بالضغط عليه من قبل الظالمين والمستبدين اعداء الله فيقضي حاجاتهم خوفا ومع ذلك يعاقب عليها

  • الخاتمة:

إن المثقف الحقيقي الواعي ومن يكون رأيه زيناً للعالم وسنداً للمجتمع ومكسباً عاماً هو الذي يحلق بسراج بصره، وملكة نظره لتمام أطراف موضع نقده، وجميع جوانب محل تأمله بأناة وفحص ومتابعة لكل أو جل معالم الإشكالية التي سلط الضوء عليها وركز المجهر حولها، وذلك حتى يكون الجواب عنها جواباً على واقع معلوم، هذا من جهة ومن جهة أخرى من واقع الحال نقول إن الارتجال في النقد الفكري سيجر إلى التأسيس لظواهر مماثلة ارتجالية تفضي إلى فوضى علمية ومعرفية نحن في غنى عنها، لاسيما وأننا نشهد كل هذه الكوارث والمشاكل في مختلف المجالات السياسية التدبيرية، أو الاجتماعية، أو السلوكية، أو الفكرية في كوكب أصبح شعار الفوضى الخلاقة عنصراً خفياً في إدارة وتمويل المشاريع التي تجري على سطحهِ وفي أرضه.