دفع الشبهات في العصمة

تحرير المحاضرات

بسم الرحمن الرحيم

﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا

صدق الله العلي العظيم

هناك مقالة أو فكرة لبعض الباحثين تتعلق بحديث القرآن الكريم عن عصمة النبي المصطفى محمد ، وملخص هذه الفكرة يعتمد على مقدمتين:

المقدمة الأولى: ما هو تعريف العصمة؟

العصمة هي: امتناع وقوع الخطأ لعلمٍ مانع. الإنسان قد لا يخطأ في حياته ولكن عدم الخطأ لا يعني أنه معصوم، إنما العصمة هي أن يمتنع منه الخطأ لا أنه لم يخطأ بل يمتنع منه الوقوع في الخطأ، وإمتناع الوقوع في الخطأ لأجل علم مانع. وقد قُسمت العصمة إلى: عصمة علمية وعصمة عملية، لأن العلم المانع تارة يكون علماً نظريًا وتارةً يكون علماً عمليًا مثلًا: إذا أراد الإنسان أن يتصور عالم القبر أو أراد الإنسان أن يتصور عالم الآخرة أو أراد الإنسان يتصور عالم الملائكة فهو هنا يحتاج إلى علمٍ إلا أن هذا العلم علم نظري لأن العلم بأقسام الملائكة بأدوار الملائكة بوظائف الملائكة لا علاقة له بالسلوك ولا علاقة له بالعمل فالعلم بهذا العالم علمٌ نظري، وإذا حصل الإنسان على هذا العلم صار معصوم في هذه الجهة عصمة علمية وليس عصمة عملية لأن هذا العلم لا علاقة له بالعمل والسلوك، فهو عندما يتصور عالم الملائكة مثلا أو عندما يتصور عالم الكواكب الأخرى أو عالم المجموعات الشمسية الأخرى إذا كانت تصوراته عن علم فهو معصوم لأنه لم يخطأ في تصوراته إلا أن هذه العصمة عصمة علمية، وهناك علم دخيل في مقام السلوك دخيل في مقام العمل، العلم بآثار الطاعات العلم بآثار المعاصي العلم بالنتائج التي تترتب على الطاعات أو النتائج التي تترتب على المعاصي، هذا العلم لأن له علاقة وربطاً بالسلوك فما يترتب عليه يعبر عنه بالعصمة العملية، من عَلِمَ بآثار الطاعات وآثار المعاصي إمتنعت أن تصدر منه لأجل علمه بآثارها فهذه هي العصمة العملية. ومن الواضح كما ذكرنا أمس تفصيلا أن العلم المتعلق بمقام العمل، العلم قد يكون صارفًا عن المعصية وقد لا يكون صارفًا عن المعصية.

فالعلم المتعلق بالعمل على نوعين:

- هناك علم صارف عن المعصية.

- هناك علم ليس صارفا عن المعصية، مثلًا: علم الإنسان بأن هذا الدواء فيه آثار جانبية كل دواء لها أثار جانبية كل دواء لا يخلو عن آثار جانبية على الإنسان، لكنني ذهبت إلى الطبيب ونصحني الطبيب بأن أشرب هذا الدواء وأنا أعلم بأن له آثار جانبية إلا أن هذا العلم لم يصرفني عن شرب الدواء، أشرب الدواء مع علمي بأن لهذا الدواء آثار جانبية ربما تصل أحيانًا في بعض الظروف إلى حد الخطر على الجسم إلى حد الخطر على الحياة، مع وجود هذا العلم عندي لكنني أشرب هذا الدواء وأقدم على شربه، فهذا العلم الموجود عندي ليس صارفًا عن الإقدام على شرب الدواء إذاً أنا لست معصومًا في هذه الجهة، مادام العلم الموجود عندي ليس صارفًا لست معصومًا، أما لو عرض عليّ مثلا: ماء قذر عرض عليّ بول في كأس أو أخلاط من الرأس أومن الحلق تُجمع في كأس وتُعرض عليّ ولو كان الكأس معطرًا ولو كان الكأس مزينًا ولو كان الكأس وضع على طاولة مزينة مزخرفة، إلا أن علمي بأن هذا المائع بول أو أن هذا المائع أخلاط أو أن هذا المائع قذارات هذا العلم يمنعني من الشرب فهو علم صارف، ليس كالدرجة الأولى من العلم وهو العلم بأن للدواء آثار جانبية لا، هذا علم أقوى علمٌ أوضح علم أكمل علم بأن هذه قذارة يترتب عليها المفسدة لا محالة، هذا العلم الأوضح علم صارف علم مانع فأنا من دون أن يجبرني أحد من دون أن يقسرني أحد أنا معصومٌ عن شرب البول، يعني يمتنع شرب البول يمتنع صدور شرب البول مني لأجل علمٍ صارف لأجل علمٍ مانع.

فالعصمة ليس هي عدم الوقوف في الخطأ، كثير من الناس ما يقع في الخطأ وُفق طول حياته ما يقع في الخطأ بس هذا مو عصمة، العصمة أن يمتنع مو أن لا يقع، أن يمتنع وقوع الخطأ منك علمًا إن كنت معصومًا عصمة علمية أو عملًا إن كنت معصومًا عصمة عملية، أن يمتنع وقوع الخطأ لعلم مانع أو لعلم صارف هذه هي حقيقة العصمة، ولأجل ذلك مثلاً الإمام المعصوم يعلم بآثار المعاصي وبالنتائج الوخيمة المترتبة على المعاصي كما تعلم أنت بقذارة البول تمامًا كما أن الإنسان العادي معصوم عن شرب البول لأن لديه علم يصرفه عن شرب البول وهو العلم بقذارته أيضًا الكذب الغيبة النميمة عقوق الوالدين، سائر المعاصي تكون في نظر المعصوم كهذه القذارات كالبول والمني والأخلاط وما أشبه ذلك، هذه المعاصي بنظر المعصوم كهذه القذارات تماماً، يمتنع عن مزاولتها بإختياره وإرادته، ومنشأ امتناعه عن مزاولتها والوقوع فيها أن لديه علمًا صارفًا عنها، فالامتناع المستند إلى العلم الصارف يسمى بالعصمة، هذه هي حقيقة العصمة. هذه هي المقدمة الأولى.

المقدمة الثانية:

بما أن العصمة تابعة للعلم فإذا لم يكن هناك علم إذا ليس هناك عصمة، فهل أن النبي الأعظم بنظر القرآن الكريم بشاهدة القرآن الكريم هل أن النبي الأعظم كان يعلم كل شيء كي يكون معصومًا في كل شيء عصمة علمية وعصمة عملية أم لا؟ بما أن العصمة تابعة للعلم ومتفرعة على العلم سواء كانت عصمة علمية أم عصمة عملية هل أن النبي الأعظم كان بنظر القرآن وبشهادة القران يعلم كل شيء مما يتعلق بالعلوم العلمية، وعلم كل شيء مما يتعلق بالعلوم العملية كي يكون معصومًا عصمة علمية وعصمة عملية أم لا؟

نرجع إلى آيات القرآن الكريم:

الآية الأولى قوله عز وجل: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا، فهذه الآية ظاهرها أن النبي لم يكن يعلم ثم علمه الله تعالى، إذاً لم يكن معصومًا فيما لم يعلمه ثم صار معصومًا فيه.

ظاهر الآية الأخرى مثلًا قوله عز وجل: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ «4» عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ «5» معنى أن جبرائيل ، عندما إلتقى به جبرائيل عند سدرة المنتهى علمه جبرائيل علم النبي ﴿علمه شديد القوى، فإذا قبل أن يعلمه جبرائيل لم يكن عالمًا وإذا لم يكن عالمًا لم يكن معصومًا في هذه الجهة التي تعلمها من جبرائيل .

والآية الثالثة وهي قوله عز وجل: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا

مثلا قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ بمعنى أنه قبل ذلك لم يكن يعلم الكاذبين.

مثلا قوله عز وجل: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ

فمجمل هذه الآيات بظواهرها تدل على أن هناك قسمًا لم يكن يعلمه النبي سواء هذا القسم أرجعناه إلى العلوم العلمية النظرية أو أرجعناه هذا القسم إلى العلوم العملية، لم يكن يعلم النبي به فعَلِم َ به، إذاً لم يكن معصومًا من جهته لأن العصمة تابعة للعلم، فإذا فقد العلم فقد ما كان تابعًا له ألا وهو العصمة.

هنا أمور لا بد من معرفتها والتدقيق فيها.

الأمر الأول: هناك فرق بين ما هو بالذات وما هو بالعرض.

هذا اصطلاح فلسفي، الأشياء هناك ما هو بالذات وما هو بالعرض، نبين ذلك.

نأتي لهذا الماء، الماء أخرجناه من الثلاجة باردًا وضعناه على النار فاكتسب الحرارة من النار، حرارة الماء هل هي بالذات أم هي بالعرض؟ طبعًا ليست بالذات، الماء بذاته ليس حارًا الماء اكتسب الحرارة من النار فحرارة الماء ليست بالذات بل هي بالعرض يعني حرارة مكتسبة من شيء آخر، أما عندما نأتي إلى النار مثلًا، النار بطبعها حارة حرارة النار ذاتيةٌ للنار فالنار بطبعها حارة، حرارة الماء بالعرض حرارة النار بالذات. هناك أشياء بالذات هناك أشياء بالعرض.

مثلا: أنت ترى أبناءك واحد منهم تراه كريم بطبعه من صغره يضحي بحاجياته، والإبن الثاني ليس كريماً لا يعطي فأنت تعلمه على العطاء وعلى الكرم أنت تعلمه وعلى التضحية بأن يضحي ببعض ماله وببعض ما عنده إلى أن يكتسب الصفة، فتقول: إبني الثاني كرمه بالعرض يعني إكتسبه ولم يكن ذاتيًا إنما إكتسبه، هناك ما بالذات العوارض الصفات هناك عوارض بالذات هناك عوارض بالعرض.

نطبقها على الصفات اللازمة للإنسان.

هذا الإنسان يمتلك ذكاء من الله خلقه وبرأه هو يمتلك ذكاء لكن هل الإنسان هو الذي أعطى نفسه الذكاء أم الإنسان اكتسب الذكاء من معطيه ألا وهو الله عز وجل. ذكاء الإنسان هل هو بذاته أو هو إكتسابي أو هو عرضي؟ طبعًا عرضي، حتى لو ولد وهو ذكي حتى مع أن هذا الإنسان قد ولد وهو ذكي مع ذلك يقال ليس الذكاء له بالذات إنما الذكاء له بالعرض يعني لولا عطاء الله لما كان ذكيًا ولذلك يصح أن تقول للإنسان: لولا فضل الله عليك لما كنت ذكيًا، لولا فضل الله عليك لما كنت ابن فلان مع انه ولد وهو ابن فلان، منذ ولادته هو ابن فلان ولكن مع ذلك تقول له: لولا فضل الله عليك لما كنت ابن فلان كان أنت ابن صدام مثلا لكن الله تفضل عليك خلاك ابن فلان المعروف بالفضل والتقوى، لولا فضل الله عليك لكنت ابن صدام ابن فرعون لكن الله تعالى تفضل عليك جعلك ابن فلان العبد الصالح، كونُ الإنسان ذكيًا كونُ الإنسان ابن فلان كل ذلك بالعرض لا بالذات يعني بعطاءٍ وفضلٍ من الله عز وجل لا أنه عنده بذاته، الموجود الوحيد الذي كل الكمالات له بالذات هو الله عز وجل فقط، وجوده عين ذاته لم يكتسبه من غيره كماله عين ذاته لم يكتسبه من غيره فهو عين الوجود وعين الكمال، لأنه لم يكتسب كمالا ولا وجودًا من غيره هو الموجود الوحيد، وما سوى الله تعالى فكماله بالعرض فوجوده بالعرض فخيره بالعرض، ولأجل توضيح هذا المصطلح نأتي إلى الآيات المباركات لنفهمها.

الآية المباركة وهي قوله عز وجل: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا بمعنى الرسول قبل أن ينزل عليه الوحي ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا بمعنى لم يكن يعرف ماهو الإيمان؟ الآن لا يعرف ما الكتاب لكن حتى الإيمان لا يعرف عنه، هذا غير معقول وقد عُرف كل المؤرخين مجمعون على أن النبي منذ صغره كان على ملة إبراهيم الخليل وكان يعرف بالصادق الإيمان، كيف ما كان يدري ماهو الإيمان؟ والنبي عرف عنه منذ صغره أنه الصادق الأمين وأنه كان يعبد الله عز وجل، إذا كيف لم يكن يعرف ما الإيمان؟ من هنا لا بد أن نفهم، نحن كيف نفهم الآيات؟ نفهمها عندما نعرضها على القرائن العقلية على القرائن التاريخية والقرائن السياقية كل هذه تتدخل في تحديد المراد من الآيات، هذه الآية عندما نعرضها على القرائن السياقية والتاريخية، كيف أن النبي لم يكن يعرف ماهو الإيمان، إذاً المراد بالدراية بالآية أن الدراية التي أُعطيتها هي درايةٌ بالعرض وليست درايةً بالذات، يعني أنت بذاتك بشر وبما أنك في ذاتك بشر فلو رجعت لذاتك فإنه لا دراية لك لا بالكتاب ولا بالإيمان، وإنما أصبحت ذا دراية بالكتاب والإيمان بعطاء من الله عزوجل، وإن كان النبي منذ ولادته ذا دراية بالكتاب والإيمان لكنه هذه الدراية التي وهبت له منذ ولادته بالكتاب والإيمان ليست دراية بالذات وإنما هي دراية بالعرض، مثل ما قلنا الإنسان ذكي منذ ولادته لكن ذكاءه بالعرض، هو ابن فلان منذ ولادته لكن هذه النعمة بالعرض وليست بالذات أيضًا أنت تعلم كل شيء لكنك درايتك ليست بالذات وإنما هي دراية بالعرض.

وأما التعبير﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ بمعنى أنه مر عليه زمان لم يكن يعلم ما الكتاب ولا الإيمان بعدها علم، لا، كان هي عبارة عن الكينونة، تارة تدل على الزمن وتارة تنسلخ منها الدلالة على الزمن، مثلًا عندما يقول الله عز وجل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ما كان هل فقط في الزمن الماضي والآن أصبحنا معذبين بمعنى أن الله في الزمن الماضي ما كان مُعذبًا حتى يبعث رسولاً والآن أصبح معذبًا، طبعًا لا، هو ليس معذب إلى يوم القيامة، ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا عبر بكان في هذه الآية لا دلالة لها على الزمن سُلخت منها الدلالة على الزمن وأريد بها مطلق الكينونة ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا معناها ولسنا معذبين في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل.

مثلا قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا وما كان الله مهلك القرى معناها فقط في الزمن الماضي؟ أما الآن يمكن أن يهلك القرى! لا، هذه إشارة إلى نسق وقاعدة إلهية أن الله تعالى لا يعذب أمة حتى يبعث فيها رسولا، لا يعذبها بدون رسول فهو يبعث فيها رسول يُرشدها يهديها فإذا عصت وأصرت على المعصية والغواية عذبها. ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ «112» النحل.

﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ معنى أنه ما كان في الزمن الماضي، لا، الكون هنا بمعنى الكينونة، أنه ليس من شأنه عز وجل وليس من دأبه تعالى أن يهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا، فكان ليس دائمًا تدل على الزمن. تقول مثلاً لإبنك يعمل عمل غير لائق، يعمل عمل مشين: ما كان هذا العمل مناسبًا لك، ما كان هذا العمل لائقًا بك. معنى ما كان في الماضي لائق بك الآن صار لائق بك، لا، المقصود بكان هنا مطلق الكينونة ما كان العمل لائق بك وما كان العمل مناسبًا لك معناها: ليس مناسبًا لطبعك وشأنك في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، فمجرد التعبير بكان لا يدل على أن النبي فعلاً ما كان يعلم مر عليه زمن منذ ولادته إلى أن بعث ما كان يعلم، لا الكتاب ولا الإيمان، لا، ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ما كان، معناها ليس من شأنك، نفي الكون يعني نفي الشأنية ليس من شأنك الدراية بالكتاب والإيمان بذاتك لأنك لست إلهًا، وإنما شأنك الدراية بالكتاب والإيمان من عطاء إلهك عز وجل بالعرض لا بالذات.

الأمر الثاني: هناك فرق بين درجات اليقين.

ما قلنا فيما سبق هناك علم اليقين وهناك عين اليقين وهناك حق اليقين وكل هذه الدرجات مستفادة من القرآن الكريم.

قال عزو جل: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ «1» حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ «2» كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «3» ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «4» كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ «5» لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «6» ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ «7» ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ «8»

كيف نرى جهنم؟ كأن يقول شخص: إن شاء الله لا نرى جهنم، لكن نحن نرى جهنم، إن شاء الله نحن ليس من أهل جهنم، أما إننا لا نرى جهنم؟ كما نرى الجنة نرى جهنم، لكن رؤية جهنم والعلم بجهنم واليقين بجهنم له درجات.

﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ «5» لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «6 هذه درجة أولى من رؤية الجحيم. أنت في الدنيا على قيد الحياة لو كان لك درجة من اليقين لرأيت جهنم في المعاصي، فالمعاصي التي نزاولها قطعة من جهنم، لو كان للإنسان علم اليقين لرأى حرارة جهنم في هذه المعاصي التي يمارسها ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أعمالكم هي جزاؤكم هذه المعاصي هي جمرات جهنم وهي وقود جهنم، ليس مكان فقط، هي لهب يغلي، هذا اللهب الذي يغلي هو أعمالنا ومعاصينا ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا من هو وقودها؟ نحن قودها إذا كنا من أصحاب المعصية نحن وقودها، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة الإنسان بمعاصيه هو قطعة من جهنم هو وقود لجهنم ولهب جهنم ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ.

النتيجة: لو كان عندنا علم اليقين لرأينا جهنم تغلي في سلوكنا وأعمالنا التي تكون من المعاصي والقبائح. والإمام أمير المؤمنين علي أشار إلى هذه الدرجة من علم اليقين قال: ”لو كشف لي الغطاء ما إزددت يقينًا“ معناها أنا موجود في الحياة الدنيا وأنا أرى جهنم في الأعمال والقبائح وأرى الجنة في الصالحات والطاعات، ولو كُشف لي الغطاء معناها مت، كشف الغطاء بمعنى الموت، ولو كشف لي الغطاء ما إزددت يقينًا، ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ «5» لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «6» وأنتم في الدنيا، ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ «7» معناها في الآخرة، إذا وصل الإنسان إلى الآخرة رأى النار مستعرة رأى الجنة مزدهرة، فرأى النار رؤية أخرى وحصل له درجة أخرى من اليقين هذه الدرجة الثانية تسمى عين اليقين. كان عنده علم اليقين وأصبح عنده عين اليقين.

حاجة طبيعية أنت الآن في بيتك وترى الدخان بمجرد أن تراه تعرف أن هناك نار، يقينك بالنار لأجل رؤيتك للدخان يسمى علم اليقين، وأما إذا رأيت النار بنفسك ووصلت حرارتها إليك يسمى هذا عين اليقين، اليقين يتطور اليقين يتكامل.

وهناك درجةٌ أخرى ألا وهي درجة حق اليقين، القرآن مواعظ موارد للعظة والعبرة والتدبر ﴿َفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، هذا القلب المقفل، بالمعاصي والذنوب افتح القفل حتى ينفتح قلبك على التدبر في القرآن وتلقي مواعظ القرآن

القرآن الكريم في سورة الواقعة يقول: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «77» فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ «78» لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «79» تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ «80» أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ «81» وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «82» فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ «83» وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ «84» إذا يحتضر شخص أمامك أنت تراه يحتضر، خصوصًا الأطباء، فالطبيب دائمًا يرى مرضى في حال الاحتضار ثواني ويموت، هذا الطبيب غالبًا يرى هذا المنظر، ولذلك يستحب للطبيب أن يلقن هذا المريض المشرف على الموت، إذا أستطيع أن أوجهه للقبلة وأقلها أقوم بتلقينه لأنه في أحوج اللحظات للتلقين، قله له: أيه العبد الصالح قل لا إله إلا الله قل محمد رسول الله قل علي ولي الله قل أئمتي الحسن والحسين وزين العابدين وهكذا، لقنهُ هو أحوج ما يكون في هذه اللحظات إلى التلقين، أنت تحسن إليه في وقت الاحتضار تلقنه هذه الألفاظ حتى لو لم يستطع التكلم وحتى لو غائب عن الوعي هي تصل إلى دماغه، هو في أحوج اللحظات إلى هذه الكلمات والتلقينات.

هذه الروح تصعد تبدأ تفارق هذا الجسم شيئًا فشيئًا إلى أن تنقطع عنه، ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ «83» وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ «84»، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ «85» نحن من خلال الملائكة، يوجد ملائكة الآن محيطة بهذا الجسم لكنك لا تبصرها.

﴿فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ «86» تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ «87» إذا كنتم قادرين على إرجاع الروح وهي الآن تصعد إذا لديكم قوة وقدرة أرجعها مرة أخرى.

ثم يقسم: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ «88» فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ «89» وهو يحتضر يرى الجنة والنعيم والروح والريحان، هو يحتضر ويرى كل ذلك.

﴿وأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ «90» فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ «91» ما كنا من المقربين على الأقل نكون من أصحاب اليمين، من يقول سلام؟ الملائكة تسلم على المحتضر، الملائكة تقول له لا تخف دركًا ولا تخشى، سلام سلام سلام.

﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ «92» فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ «93» وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ «94» إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «95» فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ «96» هو في طريقه إلى حفرة النار أنت لا تشعر به، فهذا الآن رأى الجحيم لكنه رآها بأعلى درجات اليقين. نسأل الله حسن العاقبة نسأل الله أن يختم لنا بخير، وأن يُحضينا بلقاء إمامنا أمير المؤمنين علي عند الاحتضار وعند لقاء الله تعالى.

يا  حار  همدان  من  يمت iiيرني

يعرفني       طرفه       iiوأعرفه

وأنت    عند   الصراط   iiتعرفني

أسقيك   من   بارد   على   iiظمأ

أقول للنار حين تعرضفي الحشر

دعيه     لا    تقربيه    إنّ    iiله









 
من    مؤمن   أو   منافق   iiقبلا

باسمه     والكنى    وما    iiفعلا

فلاتخف     عثرة     ولا     iiزللا

تخاله    في    الحلاوة    العسلا

دعيه      لا      تقتلي     الرجلا

حبلا    بحبل    الوصي   iiمتصلا

المحتضر لا يتردد أبداً أن هذا علي بن أبي طالب أم لا؟ بمجرد أن يرى وجه يلهمه الله عز وجل أن هذا هو علي بن أبي طالب لا يتردد، يعرفني طرفه مباشرة بمجرد أن يراني.

أيّها المُرجى لقاهُ في المماتْ =كلّ موت فيه لقياك حياةْ

ليتما عجّل بي ما هو آتْ =علّني ألقى حياتي في الردى

فائزاً منه بأوفى النِّعمِ

إذًا هناك درجات لليقين، هناك درجة علم اليقين درجة عين اليقين ودرجة حق اليقين.

من هنا نعلم مدلول الآية المباركة: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا الآية المباركة فرقت بين أسلوبين وبين طريقين.

الطريق الأول: أنزل. الطريق الثاني: عَلّم،. علم غير أنزل.

إختلاف التعبير يدل على اختلاف الطريق، معناها أن المعلومات التي لديك لديها طريقان، الطريق الأول: وحي «أنزل»، الطريق الثاني: إلهام «علم»، علم إشارة إلى الإلهام، أنزل إشارة إلى الوحي. أي أن المعلومات التي عندك لها رافدان، رافد الوحي ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ الكتاب وهو القرآن الكريم، والحكمة: الحكمة وضع الشيء في موضعه إعتماد على الأصول الأخلاقية العقلائية، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ معناه ألهمك، غير الوحي أعطاك إلهام. ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا معناها لم يكن يعلم، لا، لم يكن يعلم بدرجة حق اليقين، لكن كان يعلم بدرجة عين اليقين، فهو في تكامل، لا تمر عليه لحظة إلا وهو أكمل الخلق . لا تمر عليه لحظة منذ أن كان نورًا في ساق العرش يسبح الله ويقدسه ﴿خلقكم الله أنورًا فجعلكم بعرشه محدقين منذ أن كان نورًا في ساق العرش يسبح الله ويقدسه إلى يوم القيامة كل لحظة تمر على هذا النور القدسي هو أكمل الناس، أعلم الناس، أعرف المخلوقات كلها بكل شيء، ولكنه أيضًا في كل لحظة مع كونه أكمل الناس، في كل لحظة هو في تكامل، من مقام إلى مقام من درجة إلى درجة، من يقين إلى يقين، من معلومة إلى معلومة، في كل لحظة هو في حالة تكامل وترقي من مقام إلى مقام. ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ هذا من حيث علاقته بالله عز وجل، وإلا علم النبي بالتشريع، علم النبي ، بما كان وما يكون علم النبي بالدنيا وما فيها هذا علم ثابت، حصل للنبي صلى الله عليه منذ أول الأمر، لكن علمه بالله عز وجل، ويقينه صلى الله عليه واله بالله عز وجل في كل آنٍ يمر عليه هذا العلم وهو العلم بالله عز وجل، والعلاقة بالله عز وجل والارتباط بالله عز وجل يتكامل من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة، ﴿َعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا

والحمدلله رب العالمين