أقسام العلم في القرآن الكريم

تحرير المحاضرات

بسم الرحمن الرحيم

﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا

صدق الله العلي العظيم.

ذكرنا في اليومين السابقين أنه قد يُستشهد بهذه الآية المباركة وأمثالها من الآيات على عدم عصمة النبي المصطفى محمد ، بإعتبار أن العصمة تابعة للعلم، فالعصمة تعريفها: إمتناع وقوع الخطأ لعلم مانع، فإذا لم يكن هناك علم مانع فليس هناك عصمة، فإذا قررت الآية أن النبي لم يكن عالمًا فترة ًمن الزمن حيث قالت: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ فإذا لمن يكن عالمًا فترة من الزمن إذاً لم يكن معصومًا في تلك الفترة، بلاحظ أن العصمة تابعة للعلم، فالفترة التي لم يكن عالمًا فيها لم يكن معصومًا في الجهات التي لم يتعلمها سواء كانت عصمة علمية أو عصمة عملية.

فهذه الشبهة أو هذه الفكرة وهي الاستشهاد بهذه الآية القرآنية وأمثالها من الآيات كقوله عز وجل: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، أو قوله عز وجل: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ هل يصح الاستدلال بهذه الآيات على عدم عصمة النبي في ما لم يعلم في فترةٍ من حياته أم لا يصح هذا الاستدلال؟

تم الذكر أن الاستدلال غير صحيح لِمَ؟ لأن هناك مضامين يجب أن نفرق بينها:

المضمون الأول وهو: الفرق بين ما بالذات وما بالعرض.

المضمون الثاني وهو: الفرق بين درجات اليقين من علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.

المضمون الثالث: الفرق بين أقسام العلم:

هناك علم عقلاني، هناك علم وجداني، هناك علم شهودي. فأي قسم من أقسام العلم تنفيه هذه الآية عندما تقول: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ؟ وأي قسم من العلم تنفيه هذه الآية وهي قوله عز وجل: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ؟ وأي قسم من العلم تنفيه هذه الآية وهي قوله عز وجل: ﴿َمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ؟

العلم أقسام: هذه الشبهة لا تختص بالآيات التي وردت في حق النبي المصطفى بل هذا الإشكال يأتي حتى في الآيات التي تتحدث عن علم الله عز وجل. بعض الآيات التي تتحدث عن علم الله عز وجل لو قرأناها قراءة بدوية سطحية لدلتنا على أن الله عز وجل لم يكن يعلم ثم صار يعلم حتى الله عز وجل، إذا أخذنا بالقراءات البدوية بالقراءات الصورية للآيات المباركات حتى بالنسبة إلى الله عز وجل هناك بعض الآيات تقول نعم لم يكن عالمًا ثم صار عالمًا، مثلًا قوله عز وجل: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ، الله عز وجل قبل هالبتلاء ما كان يعرف الصابرين والمجاهدين بالبتلاء صار يعرف المجاهدين والصابرين، مثلاً قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ معنى أنه من قبل ما يجعل القبلة الله عز وجل ما كان يعلم من يبتع الرسول ومن لا يتبعه.

مثلًا قوله تعالى: ﴿بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، قبل البعث ما كان يعلم أي الحزبين أحصى، مثلًا قوله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا معنى أنه قبل الآن ما كان يعلم أن فيك ضعفاً. ما هو تفسير هذه الآيات القرآنية؟

إذا قرأناها بالقراءة البدوية الظاهرية قلنا نعم هذه الآيات تدل على أن الله عز وجل ما كان يعلم ثم علم، ما هو تفسير هذه الآيات القرآنية؟ نفس تفسيرها هو تفسير ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ما تفسر به الآيات القرآنية التي تدل على أن الله عز وجل لم يعلم ثم علم تدل دلالة بدوية ظاهرية، هو نفس تفسير الآيات القرآنية التي تدل بالدلالة البدوية الظاهرية على أن النبي ما كان يعلم ثم علم ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ التفسير هو التفسير. ما هو التفسير؟

نقول بأنه نرجع للقواعد الحكمية والفلسفية: الثابت قد تتغير صوره ونتيجة تغير صوره يقال تغير العلم به، والحال أنه شيء ثابت تغيرت صوره.

مثلاً أنا الآن طبيب جراحة، أدرس العملية الجراحة كعملية زرع عضو في البدن، دراسة نظرية مفصلة، وأستاذي مثلًا عنده وسائل ايضاح عنده ومقطوعات مصورة معينة من خلالها أنا كطالب أدرس كيفية العملية الجراحية لوضع صمام صناعي للقلب، بعد الدراسة أصبح عندي معلومة معينة عن هذه العملية الجراحية، بعد ذلك جاء مقام التطبيق أصبحت طبيب والآن أمارس هذه العملية الجراحية بنفسي فنفس العملية علمت بها من قبل، أنا لست جاهلًا بها لو لم أكن عالمًا لما طبقتها صحيح؟ فأنا عندي علم بالعملية الجراحية قبل أن أقوم بتطبيقها، لما قمت بتطبيقها علمت بها أيضا علمًا ثانياً بصورة أخرى، العملية الجراحية لزراعة صمام صناعي هذه العملية شيء ثابت أنا علمت به بصورة نظرية ثم علمت به بصورة عملية، معلوم واحد تعددت صوره فيقال تعدد العلم به، فلو جاء شخص قال لي: لم تكن تعلم بالعملية الجراحية قبل اليوم. أقول له كلامك صحيح لم أكن أعلم لأنني كنت أعلم بها بصورة وأصبحت أعلم بها بصورة أخرى. تعدد الصور في الواقع لا تعدد العلم، المعلوم شيء واحد تعددت صوره فلأجل تعدد الصور قيل بأن العلم تعدد، لم تكن تعلم بهذه الصورة أصبحت تعلم بهذه الصورة.

بالنسبة إلى الله عز وجل: هذا الإنسان قبل ما يولد هو موجود، هذا الوجود المادي صورة من صور الإنسان، وإلا الإنسان وجد قبل ذلك، مراحل يمر بها فقط، فالدنيا محطة لكن قبل هذه المحطة كان في محطة أخرى، الإنسان تتعدد محطات وجوده وتتعدد صور كينونته، وإلا هو موجود قبل هذا الوجود المادي ﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا.

قال عز وجل لم يكن شيئًا مذكورا، الإنسان قبل أن يوجد كان شيئًا لكن لم يكن مذكورًا لم يكن معروفًا وإلا هو كان موجودًا وصار مذكورًا.

الإنسان مر بعالم الملكوت وهو عالم الذر عالم الأرواح، ثم نزل إلى عالم الملك وهو عالم المادة، فانتقل من عالم إلى عالم، ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ، حتى الإنسان كان عندنا في الخزائن أخرجناه من الخزائن، هذا الإنسان كان شيء وكان في عالم الملكوت أردنا أن ننزله إلى الأرض وإلى عالم الملك والمادة فوضعنا له قدر، هذا الإنسان يعيش كذا، هذا الإنسان أبن كذا، هذا الإنسان أمه كذا، زمانه مكانه عيشته ذكاءه مقدراته حددنا الحدود كلها وأنزلناه ﴿َمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، فهذا الإنسان لم يتغير، إنما تغيرت صورته، كان موجودًا بوجود ملكوتي صار موجودًا بوجودٍ ملكي.

هل تغير علم الله عز وجل؟ يقولون التغير في المعلوم، الإنسان هو نفسه تغير، بذرة صارت شجرة فالذي تغير هو البذرة، نطفة صار جسد اللي تغير هو النطفة، المعلوم تغير، الإنسان هو الإنسان كان ملكوتيًا صار ملكيًا تغير المعلوم من صورة إلى صورة نتيجة هذا التغير يُقال: عَلِمَ الله عز وجل به عِلمًا جديدًا، إنما الصورة تغيرت فيُقال: كان يعلم الله عز وجل به بصورة الآن الله عز وجل يعلم به بصورة أخرى بحسب الاصطلاح العلم الأول: علم سيني، والعلم الثاني: علم فعلي.

الله عز وجل قبل أن يخلق هذا الإنسان في عالم الدنيا يعلم أن هذا الإنسان سيولد ويكون طفلًا ويفعل الذنب الفلاني سيصير مستقبله ومنصبه كذا وسيختم حياته بكذا، س وس وس يسمونه علم سيني، العلم السيني صار علمًا فعلياً، هذه تحليلات عقلية فقط العقل يحلل يقول: كان له علم سيني صار له علم فعلي، كان معلومًا بصورة صار معلومًا بصورة ثانية وإلاّ فالمعلوم شيء واحد هذه الآيات القرآنية كلها بهذا المعنى.

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ، يعني نحن نعلم بالمجاهدين والصابرين قبل الابتلاء علمًا سينيًا، وبعد الابتلاء صار العلم علمًا فعليًا. ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ الله يعلم من يتبع الرسول ومن لا يتبع، لكن كان العلم علمًا سينيًا بعد أن تحقق تغيير القبلة غير بعض الناس قبلتهم، قالوا: إما نصلي لهذه الجهة أو لا نصلي، موجود بها تاريخيًا أعترض بعض الصحابة، ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ هذا كان أمر امتحاني فجعلنا القبلة لبيت المقدس فترة من الزمن لنمتحنهم عندما نقوم بتغير القبلة، كان المعلوم بصورة سينية صار المعلوم بصورة فعليه، نتيجة تغير الصورة، يقال تغير العلم، تحليل عقلي. ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فهو يعلم أن فيكم ضعفًا من الأول لكن كان سينيًا صار فعليًا.

إذن هذا بالنسبة إلى علم الله عز وجل، وهو الخالق المصور البارئ، نطبق هذا على النبي المصطفى وعلمه.

النبي المصطفى كان يعلم بالقرآن من قبل نزوله، والقرآن الكريم نفسه قد دلى على ذلك حيث قال: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17 «فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «18». لا تحرك لسانك فانتظر حتى ينزل الوحي.

وقال في آية أخرى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا، القرآن موجود عنده، لكن يقول له لا تذكره لأحد قبل أن نوحيه إليك، فهو يعلم بالقرآن، نزل جبرائيل بالقرآن فما الذي تغير، الصورة تغيرت، كان يعلم بالقرآن بصورة صار يعلم بالقرآن بصورة أخرى، وهذا التغير في الصورة أوجب تغير العلم تغير عقلي وإلا ليس تغير واقعي، كان يعلم بالقرآن الكريم علمًا عقلانياً، كان عقل النبي فكان يختزن مضامين القرآن الآن تحول القرآن الكريم إلى لفظ يسمعه من فم جبرائيل ، تحول القرآن إلى صورة من مضامين عقلانية إلى ألفاظ يقرأها ملك يشهده النبي أمامه، ملك واقف أمامه بصورته يقرأ هذا القرآن ألفاظًاً يتلقاها النبي ويسمعها، نفس القرآن كان بصورة عقلانية أصبح بصورة مادية لفظية، صورة المعلوم تغيرت، نتيجة تغير صورة المعلوم يقال: النبي لم يعلم بالقرآن بهذه الصورة إلا بعد أن نزل عليه جبرائيل ، هو يعلم بالقرآن ولكن بصورة أخرى فيصح لنا أن نقول: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ.

نأتي للآيات القرآنية الأخرى مثلا قوله عز وجل: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ الصحابة القرآن الكريم يتحدث عنهم بأن بعضهم منافقون فليس كل من رأى النبي فهو صحابي محترم، لا، قد يكون منافق، ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ هل كان النبي لا يعلم المنافقين؟ كان يعرفهم واحداً واحدا، ولذلك في الآية المباركة ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ، ماهي مناسبة نزول الآية؟ أن النبي استدعى عبدالله بن أبي سلول وهو رأس من رؤؤس المنافقين ”قال له : أنت تخطط ضد الإسلام ولك مكائد ضد الإسلام، تجلس مع فلان وتعمل مع فلان وكذا، قال عبد الله: من الذي أخبرك؟ قال النبي جبرائيل. قال له عبد الله: ليس صحيح، فأنا أصلي وأصوم، النبي أظهر له من عظمة خُلقه كان يداري الكل، كان يحافظ على بقاء الإسلام في ذلك الوقت في أول عهده، فالإسلام في بداية عهده كان يحتاج إلى المدارة والمراعاة، كان النبي يظهر لهم أنه قبلهم صدقهم، فقال له النبي : إذاً أنت تقول جبرائيل كلامه ليس بصحيح قبلنا كلامك اليوم، فلما خرج قال إن محمدًا أُذُن“. معناها يصدق كل ما يسمع «أُذُن» قال له جبرائيل بشيء فصدقه ثم قلت له شيئًا أخر فصدقني هذا أُذّنُ فنزل قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴿لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمۚ هو يقوم بهذا في سبيل حفظ هذا المجتمع، فالنبي كاشف المنافقين وعارفهم واحدًا واحدًا، إذا ما معنى قوله عز وجل: المنفي هو العلم الحسي العلم الشهودي لا أصل العلم كيف؟ مثلا: أن تعرف أن إبنك يشرب دخان كل يوم بعد الفطور، فأنت بسلامك عليه شمتت الريحه، فأنت تعرف أن أبنك يشرب دخان أكيد، بس أنت ما شفته بعينك يشرب، مع أنك تعلم 100% أنه يشرب دخان إلا أن هذا العلم عقلاني ما تحول إلى علم حسي، وفي يوم من الأيام دخلت عليه ورأيته يدخن، مالذي تغير؟ لم يتغير شيء فأنت تعلم من الأول، الذي تغير صورة المعلوم وهو شرب إبنك للدخان، هذا المعلوم كان بصورة عقلانية صار بصورة حسية، فيصح حينئذٍ أن أقول لك: لم تكن تعلم بأن إبنك يشرب الدخان، لم تكن تعلم بالصورة الحسية كنت تعلم بصورة أخرى، الآن علمت بذلك بصورة حسية، فالآية المباركة تقول ﴿لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُم معناها بصورة حسية، تعرفهم أشخاصهم أعمالهم لكنك ماشهدتهم بعينك وهم يخططون ضد المسلمين ويكيدون المكائد، لماذا حملنا الآية على العلم الحسي؟ نلاحظ هذه من مداليل اللغة العربية، فاختلاف الألفاظ يوجب اختلاف المعاني، ما قال لا تعلم بهم، قال لا تعلمهم، فرق بين العبارتين، علمتُهُ غير علمتُ به. علمت بالسيارة معنى أن هناك سيارة موجودة على باب المسجد، أما علمتها إذا رأيتها، العلم بالشيء غير علمُهُ، علم به علم بوجوده ولو علمًا عقلانية، أما علمتُه معناها شهدتُه، هذا يعبر عن العلم الشهودي، فإذا إختلاف التعبير القرآني هو بنفسه قرينة على حمل الآية على هذا المعنى، الله عز وجل يقول لنبيه ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ معناها علمًا شهوديًا، لكن ﴿نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ نعلمهم علمًا شهوديًا لأن رقابة الله عز وجل محيطة بالعوالم كلها، عالم الجبروت عالم الملكوت عالم الملك، جميع العوالم خاضعة لرقابته وشهوده عز وجل، لأن سائر المعلومات حاضرة عنده عز وجل علمًا حضوريًا.

وكذلك الآيات القرآنية الأخرى مثلًا قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ «4» عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ «5» ذو مرة فأستوى، من هو شديد القوى؟ جبرائيل هو شديد القوى قويُ أمين، كيف علمه؟ النبي يعلم، النبي صاحب الولاية على الوجود كله بما فيه من ملائكته وسمائه وأرضه، فمن هو جبرائيل بالنسبة إلى النبي، جبرائيل يتشرف أن يكون خادمًا لمحمد . الجد المرحوم الشيخ فرج العمران «قدس سره» يذكر في كتابه الأزهار الأرجية هذا الكتاب النافع، يذكر سندًا صحيحًا منه إلى حديث الكساء إلى جابر بن عبدالله الأنصار رضي الله عنه الذي روى حديث الكساء، فلما اجتمعوا تحت الكساء قال الله عزو وجل ”يا مَلائِكَتي وَيا سُكَّانَ سَماواتي إِنّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنَّيةً وَلا أرضاً مَدحيَّةً وَلا قَمَراً مُنيراًوَلا شَمساً مُضيِئةً وَلا فَلَكاً يَدُورُ وَلا بَحراً يَجري وَلا فُلكاً يَسري إِلاّ في مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ الَّذينَ هُم تَحتَ الكِساءِ“ إذا الكون كله لأجلهم من هم هؤلاء؟ فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ: ”هُم أَهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَعدِنُ الرِّسالَةِ هُم فاطِمَةُ وَأَبُوها، وَبَعلُها وَبَنوها“ جبرائيل خادم لهؤلاء ، «فَقالَ جِبرائِيلُ: يا رَبِّ أَتَأذَنُ لي أَن أَهبِطَ إلىَ الأَرضِ لأِكُونَ مَعَهُم سادِساً؟ فَقالَ اللهُ: نَعَم قَد أَذِنتُ لَكَ» إذا بالنتيجة جبرائيل كيف يكون معلم للنبي وهو خادم للنبي ؟ فهو معلم بصورة أخرى، لا أن النبي لم يكن يعلم القرآن، كما قلنا هو يعلم بالقرآن من قبل نزوله ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ إذا جبرائيل أضاف؟ أضاف صورة جديدة من صور العلم لا أكثر، نضرب لك مثال حتى يكون أوضح، أنا الآن أنشئ فكرة من الأفكار في ذهني، أقول لإبني أكتب هذه الفكرة لي، فيقوم بكتابتها، بعد أن يكتب إبني الفكرة ماذا اضاف إبني لي، أنا أعلم بالفكرة من قبل، فأنا الذي صنعة الفكرة وأنا أعلم بها قبل إبني، فإبني مجرد كاتب كتب الفكرة، أصبحت الفكرة مكتوبة، كانت عقلانية أصبحت مكتوبة، فالذي خدمني فيه إبني أنه حول المعلوم من صورة إلى صورة، إبني الآن علمني، معنى أنه أضاف لهذا المعلوم صورة جديدة.

النبي يعلم بالقرآن من قبل نزوله، جبرائيل شرفه الله عز وجل بأن جعله حاملًا لألفاظ القرآن، ومبلغًا إياها للنبي ، فجبرائيل عَلَمَ النبي الصورة اللفظية للقرآن، لا أنه علمهُ أصل القرآن بعد أن لم يكن يعلمه.

الآية الأخيرة، قوله عز وجل: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ.

في هذه الآية معنى أن النبي أذنب فكيف يقول له عز وجل ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ، نبين أن الآية طبيعية، الفرق بين العتاب وبين الشفقة؟ أسلوب العتاب غير أسلوب الشفقة، وهذا أسلوب شفقة وليس أسلوب عتاب.

للتوضيح: نفترض بأن هناك شخص صديقك أُعتدي عليه إما بكسر سيارته أو بضرب ولده، إلاّ أن صديقك لخلقه عفا، هو معتدى عليه لكن هو عفا، جاءه المعتدي قال: أنا كسرت سيارتك، قال له اذهب المسامح الله، فكان أمام صديقك حلان: إما أن يعفوا، وإما أن يطالب بإصلاح السيارة، أو قتل له ولد قتل له أب مثلًا، إذا قتل له فصار هو ولي الدم، من حق ولي الدم أن يطالب بالقصاص ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا وليه فله الحق في المطالبة بالقصاص، وله أيضًا أن يعفو، افترض صديقك ما طالب بالقصاص عفا، أنت الآن لا تأتي لم معاتبته إنما مشفقاًعليه تقول له: سامحك الله لماذا عفيت عنه، لو طالبت بالقصاص لشفيت غليلك. أنت عندك غليل يبقى إلى آخرعمرك يغلي، هذا الغليل الذي في قلبك لن يشفيه إلا القصاص، فيصح لك أن تشفق على صديقك، هوأخذ بحل خُلقُي ينسجم مع خُلقه ينسجم مع طبيعة كرمه، هو ما أخطأ لكن أنت تقول له من باب الشفقة عليه لأنك تراه يغلي قلبه تقول له: سامحك الله عفا الله عنك لماذا عفوت عن فلان وقد اعتدى عليك لو لم تعفو عنه لشفيت غليلك، هذا لا يقال انه أرتبك ذنب، لا.

النبي الأعظم محمد لما تجهزوا للقتال، مثل ما يحدث بالعراق أفتت المرجعية بالجهاد فخرج الناس زحفًا، حتى أنك ترى المرجعية الشيعية كلمتها، لا يوجد مذهب من المذاهب الإسلامية عندهم شخصية بهذه القوى أبدًا، هذه ميزة المذهب الشيعي، لا يوجد مذهب من المذاهب الإسلامية يمتلك شخصية مؤثرة في المسلمين كما يمتلك الشيعية الإمامية، مثلا لو صارت عند المسلمين من المذاهب الأخرى مشكلة في فلسطين ولا يوجد أعظم من هذه المشكله وتقوم شخصية علمائية سنية يا أيها الناس أخرجوا، فالذي يخرج مئة شخص أو ألف، هل يمتلك المسلمون من المذاهب الأخرى شخصية مؤثرة بحيث كلمتها كلمة نافذة تحرك الملايين؟ لا يمتلكون.

هذا من مميزات ومعالم قوة المذهب الإمامي، هذا طبعًا ما يختص بالسيد السيستاني كل مرجعية عامة عند الشيعة هي هكذا، الإمام الخميني الإمام الخوئي الإمام الحكيم كان قبلهم، كلمة واحدة تحرك الملايين. المذهب الشيعي من مميزات عظمته أن من يصل فيه إلى المرجعية العامة ويصبح المرجع العام للشيعة الإمامية يمتلك قدسية مؤثرة في النفوس، يستطيع أن يحرك العالم بكلمة واحدة.

فكيف بالأئمة المعصومين ! نحن ما رأينا الأئمة المعصومين بل أدركنا هؤلاء المراجع الأتقياء العدول فكيف بكلمة الأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. إذًا المذهب الشيعي يمتلك قوة خاصة، ولذلك كل من يساهم في تقوية المرجعية يساهم في تقوية المذهب وتقوية الدين، كل من يساهم في إضعاف المرجعية والتنقيص من قدرها والاعتداء على شخصيتها فهو يريد أن يفصل الأرضية الشعبية عن منصب القيادة ومنصب الزعامة وهو بالتالي يخدم أعداء الدين وأعداء المذهب، الذين تراهم في بعض القنوات من الشيعة مع الأسف، عندما يكون لديه قناة صار أعظم العلماء الآن، ومن خلال هذه القناة يضرب في المراجع الخميني فيه، الصدر فيه، الخوئي فيه، السيستاني فيه، الشيخ بهجت فيه، فلان فيه. إذا رموزه شموسه أنجمه قيادته زعامته ضربت إذا هذا المذهب بحد ذاته فيه خلل صح أم لا؟ عندما يأتي شخص من ملة أخرى يسمع هذا الكلام الخميني فيه خدش، الصدر فيه خدش، الخوئي في خدش. لو أن هذا المذهب خير ما كان علماءه فيهم خدش وخلل، معناه الخلل في المذهب نفسه ليس فيهم.

إذًا بالنتيجة صار تضعيف العلماء والقدح فيهم تضعيفًا للمذهب، أي إنسان عنده عقل وعنده تفكير يقول هذا: والله لو المذهب خير ما صار نجومه وشموسه وقادته أصحاب خلل وخدش كما يقول هذا المعمم في هذه القناة وأمثالها. إذا هؤلاء ورائهم أيادي تريد أن توهن المذهب تريد أن تضرب المذهب، فلأجل ذلك هم ليلاً نهاراً يعملون على إضعاف المرجعية على كسر المرجعية حتى لا يبقى لها تأثير في نفوس المسلمين حتى لا يبقى لها قيادة في نفوس المسلمين، وبالتالي إضعاف مقام المرجعية إضعاف للمذهب، خصوصًا في هذا العصر وفي هذا الزمان، لكن الحمد الله، أما الزبد زبد، فالذي يفكر في تغيير نفوس المسلمين، أبدًا أبدًا، لن يصل إلى شئ، أما الزبد ﴿َأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ، كم تكلموا طوال هذه السنين شخص فيه كذا وشخص فيه، أصدر السيد السيستاني كلمة تبخرت الكلمات كلها، رأوا أن القوة في التأثير لم تتغير.

إذًا فبالنتيجة نرجع إلى مدلول الآية المباركة ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم النبي أعلن الجهاد جاء المسلمون المتحمسون للجهاد سمعًا وطاعة يارسول الله، جاء جماعة قالوا له اسمح لنا يارسول الله المعذرة منك، النبي قال لهم إذهبوا مأذونين، النبي كان بإمكانه أن يقول، لا، لا أذن أدخول المعركة، فإذا دخلوا المعركة سينكشف انكشافًا حسيًا الكاذب والصادق، الصادق والكاذب فيتبتين دوره في المعركة، النبي ما اتخذ هذا الحل، هو ما أخطأ لأنه تعامل بمقتضى كرمه وخلقه العظيم ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ هو من رحمته تعامل، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ تعامل معهم بمنطق الرحمة، هو لم يخطأ في هذا القرار، لكن هذا القرار كلف النبي ألمًا ووجعًا بأن هؤلاء الأصحاب الذين دائماً بجنب النبي هم الذين يتخلفون ويستأذنون، هذا كلف النبي ألمًا ووجعًا الله تبارك وتعالى إشفاقًا على النبي قال له ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ تعلمهم علمًا حسيًا، فهذا أسلوب شفقة وليس أسلوب عتاب.

والحمدلله رب العالمين