الإمامة والوساطة في الفيض

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۖ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا

صدق الله العلي العظيم

نتحدث في عدة محاور:

  • في مفهوم الإمامة.
  • في ضرورة الإمامة.
  • في أن علياً مجلى الإمامة ومظهرها.

المحور الأول: ماهو مفهوم الإمامة الذي نعتقد بأنه من ضرورات عقيدتنا وأصولها.

الإمامة هي عبارة عن الوساطة في الفيض سواءاً كان الفيض فيضاً تشريعياً أو كان فيضاً تكوينياً.

للتوضيح نضرب مثال: كل موجود وكل معلول لكي يوجد يحتاج الى مُقتضي وإلى واسطة في الفيض.

المقتضي ما منه الوجود، والواسطة في الفيض ما به فعلية الوجود، مثلاً: أنت عندما تريد أن تكتب فكرة معينة لكي توجد هذه الفكرة على الورق تحتاج الى عاملين:

العامل الأول: هو أنت التي تنتج الفكرة وتفيض الفكره فأنت تعتبر مقتضي لوجود هذه الفكرة لأن الفيض منك والنتاج منك لكن هذه الفكرة لا تتجسد على الورق إلا بواسطة قلم، حبر أو مادة معينة.

العامل الثاني: الواسطة المادية ألا وهي القلم الذي من خلاله تجسدت هذه الفكرة على الورق كذلك هذا الوجود بأسره.

كل موجود بهذا الوجود من أصغرة ذرة إلى أعظم مجرة يحتاج وجوده إلى عاملين المقتضي وهو مامنه الوجود، والواسطة في الفيض وهو مابه فعلية الوجود، مثلا: الله تبارك وتعالى عندما تتعلق مشيئته بإيجاد الجنين في بطن أمه هذا الجنين حتى يوجد يحتاج إلى عاملين: عامل يعطيه الحياة وهو الله عز وجل ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي نفخ الروح يعني هبة الحياة يعطي هذه المادة المنوية الحياة لكي تتحول إلى إنسان متكامل ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ «12» ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ «13» ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.

العامل الثاني: هو المادة، الجنين شئ مادي إذن الذي أعطاه الحياة هو الله، لكن الواسطة في إفاضة الحياة عليه هو هذه المادة المنوية التي تكون منها.

كل موجود يحتاج الى مقتضي وهو منه الوجود وواسطة في الفيض وبها فعلية الوجود.

إنطلاقا من هذه الفكرة نريد أن نفهم الإمامة ماذا تعني؟ الإمام ماذا يعني؟ ومنصب الإمامة ماذا تعني؟

الإمام هو الواسطة في الفيض، الإمامة هي الوساطة في الفيض سواءاً كان الفيض تشريعي أو فيضاً تكويني.

الفيض التشريعي: الله تبارك وتعالى سن الإسلام، سن الدين ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ هناك دين، الله تبارك وتعالى رسم الدين رسم التشريع في لوح معين وجعل واسطة في إفاضة التشريع إلى المجتمع البشري والواسطة هو الإمام سواءاً كان نبي أو غير نبي لأن بعض الأنبياء أيضاً أئمة، القرآن يقول: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ «72» وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين «73»

الإمام واسطة في الفيض يوصل الفيض التشريعي إلى المجتمع البشري والإمام أيضاً واسطة في الفيض التكويني. كيف يعني واسطة في الفيض التكويني؟ عندما يقول عز وجل: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وقال في آية أخرى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ مامعنى يهدون بأمرنا؟ الهداية على نوعين هداية خلقية وهداية أمرية.

الهداية الخلقية: بمعنى الإرشاد إلى الطريق كما يقوم به العلماء والأنبياء.

الهداية الأمرية: بمعنى أن الإمامة واسطة في إفاضة النور على قلب المؤمن.

كما أن الإمامة واسطة في إيصال التشريع الى المجتمع البشري، الإمام واسطة في إفاضة المقامات الروحية والأنوار الألهية في قلوب المؤمنين، الإمام له الولاية على أن يتصرف في نفوس المؤمنين ويزرع فيها النور، نور العبادة، نور الهداية، نور الأرتباط، نور العروج إلى الله تبارك وتعالى، الإمام قادر على ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ معناه أن النبي له ولاية على الأنفس ليست ولايته على الأنفس فقط ولاية الأمر والنهي بمعنى إذا أمر أو نهى يجب الإمتثال، بل ولايته أن له قدرةً على زرع الهداية في النفوس التي يجتبيها ويختارها ويصطفيها هذا معنى يهدون بأمرنا. ربما شخص يقول: أنتم تبالغون بشأن الأنبياء والأئمة كيف يتصرفون في النفوس؟ القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «1» مَلِكِ النَّاسِ «2» إِلَهِ النَّاسِ «3» مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ «4» الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ «5» يعني إبليس له ولاية يتصرف في النفوس فيبث فيها الوسوسة، يعني الأحاديث الشيطانية أحاديث المعصية إذا إبليس له القدرة نستغرب الإمام المعصوم له القدرة أن يكون له عمل مضاد لعمل إبليس، كما أن إبليس له القدرة على بث الوسوسة في قلوب العباد الإمام له القدرة على العمل المضاد وهو أن يبث نور الهداية في النفوس المؤهلة لهذا النوروهذا هو معنى قوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ.

أنت تقرأ في الزيارة الجامعة: ”وَأَرْواحُكُمْ فِي الارْواحِ وَأَنْفُسُكُمْ فِي النُّفُوسِ“ مامعنى أرواحكم في الأرواح؟ يعني لأرواحكم قدرة على التصرف في الأرواح، لأنفسكم قدرة على التصرف في النفوس وهذا معنى ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ولهذا قال النبي: ”ألست أولى بكم من أنفسكم، قالوا: بلى يارسول الله، قال: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره وأخذل من خذله وأدر الحق معه أينما دار“. هناك أناس حضروا بهذه الهداية الأمرية مثل: كميل بن زياد، رشيدالهجري، حبيب بن مظاهر، حجر بن عدي وأمثال هؤلاء الصفوة المنتخبة التي حضيت بهداية أمير المؤمنين علي .

المحور الثاني: الإمامة هي الوساطة في الفيض سواءاً كان تشريعي أو فيض تكويني، هل الإمامة ضرورة؟

الذي جعل النبوة أصلا من أًصول الدين هو الذي جعل الإمامة أصلا من أصول الدين، والذي جعل النبوة ضرورة من ضرورات الدين هو الذي جعل الإمامة ضرورة من ضرورات الدين، الإمامة ليست إلا إمتداد للنبوة، الإمام إمتداد للنبي دوره دور النبي غالب الأمر أنه لايوحى إليه كما أن النبوة ضرورة وأصل الإمامة أيضاً ضرورة وأصل لماذا؟

نستفيد من آيات القرآن الكريم أن الهدف من النبوة هدفان: هدف أدنى وهدف أقصى.

الهدف الأدنى: هو ما أشارت إليه الآية المباركة: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ الهدف الأدنى من وجود النبي أن يوجد حجة لله على الأرض، وجود حجة لله على الأرض يحتج به الله على عباده ويحتج به العباد على ربهم، وهو الذي عبرعنه الإمام أمير المؤمنين : ”بلى والله لاتخلو الأرض من حجة لله إما ظاهر مشهور أو خائفا مغموراً“ وورد في تفسير الآية: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ عن أبي عبدالله الصادق قال: ”لاتخلو الأرض من إمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله وهو حجة لله على عباده“ وذلك قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْفيأتي قوم النبي مع النبي، ويأتي قوم علي مع علي، وقوم الحسن مع الحسن، وكل إنسان مات بين ظهرانيه إمام فإنه يُدعى به يوم القيامة.

الهدف الأقصى: هو قول الله عزوجل: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ معناه إقامة العدالة.

ربما ينفك الهدفان، ربما يوفق المعصوم للهدف الأقصى كما حصل لرسول الله ولأمير المؤمنين علي ، وربما تمنع الظروف المعصوم من الوصول إلى الهدف الأقصى فيتحقق الهدف الأدنى وهو أن وجود المعصوم عبارةٌ عن وجود حجة لله على أرضه يحتج بها على عباده ويحتج عباده بهاعليه.

فمن خواص دعاء النِدبة على الأدعية الأخرى إنه يتضمن كل عقائد الإمامية، عقيدة الإمامية في التوحيد في العدل في النبوة في الإمامة في الغيبة، هذا الدعاء من شرافته وعظمته أنه يتضمن تفصيلاً لعقائد الإمامية لذلك ينبغي تعليم أبنائنا وأجيالنا قراءة دعاء النِدبة لأنه يربيهم على هذه العقائد الحقة التي وردت في النصوص الشريفة عن آل محمد، لاحظوا في دعاء الندبة ”وَ كُلٌّ شَرَعْتَ لَهُ شَريعَةً، وَ نَهَجْتَ لَهُ مِنْهاجاً، وَ تَخَيَّرْتَ لَهُ اَوْصِياءَ، مُسْتَحْفِظاً بَعْدَ مُسْتَحْفِظٍ مِنْ مُدَّةٍ اِلى مُدَّةٍ، اِقامَةً لِدينِكَ، وَ حُجَّةً عَلى عِبادِكَ، وَ لِئَلّا يَزُولَ الْحَقُّ عَنْ مَقَرِّهِ وَ يَغْلِبَ الْباطِلُ عَلى اَهْلِهِ، وَ لا يَقُولَ اَحَدٌ لَوْلا اَرْسَلْتَ اِلَيْنا رَسُولاً مُنْذِراً وَ اَقَمْتَ لَنا عَلَماً هادِياً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ اَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى“ هنا سؤال:

إذا كانت الإمامة منصبا لدى الإمامية لتحقيق أهداف معينة فكيف يجتمع ذلك مع عقيدة الإمامية وغيبة الإمام؟

يقول قائل هذا تناقض عند الإمامية لأنهم من جهة يقولون لابد من وجود إمام لماذا؟

لكي يمارس أهداف معينة ومن جهة أخرى يقولون إمامنا الثاني عشر غائب، إذن مقتضى غيبته تعطيل أدوار الإمامة وتضييع أهداف الإمامة، كيف نجمع بين قولنا الإمامة ضرورة، الإمامة أصل من الأصول وقولنا أن الإمام غائب مع أن غيبة الإمام تعطيل أدوار الإمامة وتضييع أهدافها.

فكيف الجمع بين معتقد الإمامة ومعتقد الغيبة؟

غيبة الإمام المنتظر «عج» إنما تمنع الوصول إلى الهدف الأقصى وهو إقامة العدالة وهو غائب هذا صحيح، ولكن هذا لايمنع أن يقوم الإمام بسائر أدوار الإمامة وهو غائب وإن كان لا يمكنه الوصول إلى الهدف الأقصى لكنه يمكنه القيام بأدوار الإمامة وهو غائب، كيف؟

أهم أدوار الإمامة الهداية وحفظ الدين، مامعنى حفظ الدين؟

الهداية قلنا تارة تكون خلقية وتارة تكون أمرية، والهداية لا تنفك عن وجود الإمام متى ما وجد الإمام فدوره الهداية وهذا الدورالذي يمارسه الإمام المنتظر يهدي من يلتقي به، يهدي من يسترشد به وإن كان لايعرف أنه الإمام المنتظر لكنه يقوم بدورالهداية بأجلى مصاديقه بل يقوم بالهداية الأمرية بالصفوة التي ينتخبها ويرتضيها ويصطفيها فهو يقوم بالهداية الخلقية والأمرية.

الدور الثاني حفظ الدين: هذا الدين الذي نزل من السماء ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُهذا الدين له أصول وثوابت وله متغيرات تتبع بإختلاف الظروف وإختلاف الحاجات، الدين إذا لاحظناه له مساحتان: مساحة المتغيرات ومساحة الثوابت.

مساحة المتغيرات: يختلف فيها الفقهاء تُركت هذه المساحة للفقهاء يختلفون، يحددون آرائهم فيها إلى أن يظهر المهدي المنتظر «عج».

وأما مساحة الثوابت: الدين له ثوابت له أصول هذا الدين في كل مدة يتعرض لمحاولات التحريف لمحاولات الطمس التحريف ليست لمتغيراته التحريف لثوابته، من الذي يتصدى لحفظ الدين بحفظ ثوابته؟

الدين يحتاج في كل مرحلة إلى رقابة إلى رصد وهذه الرقابة والرصد دوره حفظ ثوابت الدين حفظ ركائزه، حفظ أصوله فحفظ الدين هدف ودور أصيل من أدوار الإمامة يقوم به الإمام وهوغائب.

كيف يقوم به الإمام وهو غائب؟ الإمام المنتظر له شبكة ممتدة شرقاً وغرباً، الإمام المنتظر وهو غائب يمارس حكومة ظلية. «هناك حكومة فعلية وحكومة ظلية» يمارس شبكة ممتدة من الرجال والنساء شرقاً وغرباً يتصل بعضها بالبعض الآخر ماورد عنه «عج»: ”وما بثلاثين من وحشة“ حول الإمام ثلاثون رجلاً في كل فترة زمنية، هؤلاء هم وزرائه هم وكلائه هم أوتاده، في الأدعية الشريفة: ”السلام على الأوتاد والأبدال والحفظة والرواد“ هذه الشبكة لها رتب هناك من الوتد والبدل والحفظة والرائد يعتم عليها الإمام، ربما يكون الإنسان في هذه السلسلة وهو لايدري أنه من ضمنها إلا إنه يسير طبق أوامر وإرشادات معينة.

إذن الإمام يمارس دوره وهو غائب وإن كان لم يصل الى هدفه الأقصى وهو إقامة العدالة إلا عند خروجه كما ورد عن النبي محمد : ”لولا لم يبقى من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً“

المحور الثالث: الإمامة الوساطة في الفيض، الإمام المنتظر يقوم بهذه الوساطة كما هو دأب آبائه الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومجلى الإمامة وأول مظهر من مظاهر الإمامة أمير المؤمنين علي ولذلك ورد في الرواية عن الصادق : ”كلنا في الفضل سواء وعلي له شأن“ والفرد الأجلى أمير المؤمنين عندما نقف على سيرته المشرقة، ماهي أبرز صفة في شخصية الإمام علي ؟

أبرز صفة للإمام علي قوة الإرادة، إرادة حديدية لا تتزلزل صامده كالجبل الأشم، علي يساوي الصمود، يساوي التحدي، علي طأطأ له التاريخ إجلالاً لقوة إرادته.

ماهي مظاهر قوة الإرادة في شخصية أمير المؤمنين علي ؟

المظهر الأول: إصراره على إقامة العدالة وإن كلفته حياته وقد كلفته حياته، الإمام علي لم يستقر حكمه أبداً، الذي إستمر أربع سنوات وأشهر وهذه الأربع سنوات خرجت عليه الرايات شرقاً وغرباً يوم الجمل، يوم صفين، يوم النهروان، وكانت هناك حروب طاحنة في خلال حكومته لأنهم رأوا العدالة بارزة واضحة فأرادوا محوها وزلزلة أركانها، لكن علياً لم يتنازل ولم يتوانى ولم يتراجع إلا بإقامة العدالة، لما قُتل الخليفة الثاني جاءوا إليه، قالوا: يا أبا الحسن نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، قال: لا، تبايعوني على كتاب الله وسنة رسوله فقط.

فأخذت البيعة للخليفة الثالث، علي كان بإمكانه أن يمرر القضية إلى أن يصل إلى مبتغاه لكن علياً إنسان يتمتع بقوة الإرادة، عليٌ لما وصل إلى الحكم أقبل إليه الوجهاء قالوا لأميرالمؤمنين لو قدمت قريش على سائر القبائل وقدمت العرب على الموالي حتى يثبت سلطانك ويتوطد ملكك ثم أفعل ما تفعل، قال: ويحكم أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور. لا والله لو كان المال لي لساويت بينهم فكيف والمال مال الله.

علي أميرالمؤمنين صبت الدنيا جماتها على يديه، خليفة المسلمين بيده الثروات كلها ولكنه كان بنعل مخصف وثوب مرقع يمشي بلا حرس وبلا خدم، ويدخل بيت مال المسلمين ويخرج الثروة ويوزعها ثم يكنس بيت مال المسلمين، ويصلي فيه ركعتين ثم يقول: ”لو شئت لأهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعلا باليمامة أو الحجاز من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص، أأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرا، أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر وحسبك داءا أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد“

المظهر الثاني لقوة الإرادة:

العبادة، كيف كانت عبادة علي؟

كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، ثمان ساعات كل يوم يقضي ثلث يومه في العبادة. وكيف كانت عبادته؟ عبادة الخشوع والخضوع، زين العابدين وهو إمام معصوم مفترض الطاعة كان بطريقة جده الإمام علي كان يقول لولده جعفر الباقر ناولني صحيفة أعمال جدي أمير المؤمنين كي اقتدي به، فيناوله الصحيفة فيقرأها زين العابدين ويبكي ثم يقول من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين.

قوة إرادته فرضت نفسها على شخصيته فلا تمر لحظة من لحظات حياته إلا ويقضيها في العبادة، ويقضيها في العروج الى الله، ويقضيها في الإستغراق في ملكوت الله وكان يقول: ”ركعة لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها“

المظهر الثالث من مظاهر قوة إرادته:

كان منبع الرحمة منبع العطف منبع الحنان، هذا الرجل الذي تراه بطلاً، الذي قلع باب خيبر يفتحه أربعون يغلقه أربعون وتراه خشن في ذات الله، صُلب في تطبيق أحكام الله، لكنه بين الفقراء ذلك الإنسان المتواضع المتحبب لهم يعيش عيشتهم يأكل أكلهم، يشرب شرابهم، علي بقوة إرادته جمع بين البطولة في مواجهة الكفر والطغيان وبين التواضع في جذب الفقراء والمساكين.

دخل ضرارة ابن ضمرة على معاوية ابن ابي سفيان وكان ضرار من أصحاب الإمام علي، قال معاوية ياضرار صف لي علياً وكان هذا بعد مقتل الإمام علي بسنوات، قال: اعفني من ذلك فإني لا اطيق أن أتذكر اميرالمؤمنين قال: أقسمت عليك إلا أن تصف لي عليا، قال: إن أبيت إلا أن اصفه، كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول عدلا ويحكم فصلا، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا ويقلب كفيه على ما مضى، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته، يتحبب إلى المساكين ويعظم أهل الدين، لا يطمع القوي في ظلمه ولا ييأس الضعيف من عدله، وكان فينا كأحدنا يدنينا منه إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكنا لا نكلمه هيبة له فإذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، ولقد رأيته ليلة من لياليه وهو في محرابه وقد أرخى الليل سدوله، وهو قابض على شيبته يتململ تململ السليم ويقول إليك يا دنيا غري غيري لقد بنتك ثلاثاً لا رجعة لي بعدها، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. أمير المؤمنين الذي إمتلئ قلبه رحمة وعطفا، كان بنفسه يحمل جراب الطعام على ظهره مملؤ بالخبز واللحم يدور به على الفقراء ليلا يطعمهم ويسقيهم، كان بنفسه يمر على الزمنة «المشلول والمقعد» في بيوتهم ينظفهم يسقيهم يطعمهم يجالسهم يحادثهم وهو خليفة المسلمين، لما فرغ الإمام الحسن من دفنه ورجع إلى الكوفة وإذا بالطريق يمر الإمام على بيتٍ يسمع فيه حنيناً وأنين وإذا دخل الإمام إللى ذلك البيت رأى رجلا مسنا مقعدا مكفوفا، قال: ما يبكيك؟ قال: أبكي على فراق حبيبي، قال: من هو حبيبك؟ قال: شخص لا أعرفه يأتيني كل ليلة يطعمني يسقيني يداريني، ومتى انقطع عنك؟ قال: إنقطع عني منذ ثلاث ليال لا أرى له وجهاً ولا أسمع له صوتاً، قالوا: صفه لنا صار يصفه ويصف صوته، كلامه، قالوا: أيها الشيخ أتعرف من هذا، قال: لا أعرفه، قالوا: هذا أبا الحسن علي بن أبي طالب.

الله أكبر يا أبا الحسن حنون على الأيتام عطوف على الأرامل على المساكين فكيف حال ابنته العقيلة زينب عندما فقدته في هذه الأيام العصيبة، ساعد الله قلبك مولاتي.

والحمدلله رب العالمين