المعاني الروحية والتربوية في دعاء الإمام زين العابدين

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

صدق الله العلي العظيم

هذا   الذي  تعرف  البطحاءُ  iiوطأته

هذا    ابنُ   خيرِ   عبادِ   اللهِ   كلهمُ

هذا   الذي   أحمدُ   المختارُ   iiوالدُهُ

وليس    قولك   مَنْ   هذا   iiبضائرهِ

يكاد     يمسكه     عرفانَ    iiراحتهِ

ينشق  ثوبُ الدجى عن صبح iiغرّتهِ

ما   قال  «لا»  قط  إلا  في  iiتشهدهِ

مِنْ   معشرٍ   حبهمُ   دينٌ  iiوبغضهمُ

إنْ   عدّ  أهلُ  التقى  كانوا  iiأئمتهمْ















 
والبيتُ    يعرفه    والحلُ    والحرمُ

هذا   التقيُ   النقيُ   الطاهرُ   العَلَمُ

صلى   عليه  إلهي  ما  جرى  القلمُ

العُرْبُ  تعرف  مَنْ  أنكرتَ  iiوالعجمُ

ركنُ   الحطيم   إذا  ما  جاء  يستلمُ

كالشمسِ تنجاب عن إشراقها الظلمُ

لولا   التشهدُ   كانت   «لاؤه»  iiنعمُ

كفرٌ     وقربهمُ    منجىً    ومعتصمُ

أوقيل  مَنْ خيرُ أهل الأرضِ قيل iiهُمُ

حديثنا حول شخصية الإمام زين العابدين في محورين:

  • القيم التربوية المستفادة من شخصيته.
  • الدور الإعلامي الذي قام به صلوات الله وسلامه عليه.

المحور الأول: حول القيم التربوية.

أولاً نتعرف ما معنى القيم، ثم نتحدث عن القيم التربوية في شخصيته، إذا رجعنا إلى علم النفس أو علم الاجتماع لنتعرف على مفهوم القيمة وتحديد عنوان القيمة هنا ماسلو يقول بأن القيمة تكافئ الحاجة، كلما كانت هناك حاجة فهناك قيمة، لأن القيمة هي النسق الذي يحدد إشباع الحاجة وتلبية الحاجة، مثلاً: الإنسان يحتاج إلى الزواج لأنه يحتاج إلى الاستقرار العاطفي، الإنسان قبل الزواج يعيش قلقًا عاطفيًا، اضطرابًا عاطفيًا، فهو يحتاج إلى استقرار في عواطفه ومشاعره، وهذا الاستقرار توفره الزوجة، توفره المرأة، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا السكون هو الاستقرار العاطفي، فكلما كانت هناك حاجة كانت هناك قيمة، بما أن الإنسان يحتاج إلى الاستقرار العاطفي إذن هناك قيمة وهي أن الزواج قيمة من القيم الإنسانية، مبدأ من المبادئ الإنسانية، لأنه يلبي حاجة بشرية، لكن ملتون - أحد علماء النفس الآخرين - يطرح نظرية أصح من نظرية ماسلو، يقول: ليست القيمة مكافئة للحاجة، القيمة هي التي توفق بين الحاجات وبين الأهداف والغايات، لماذا؟

لأننا لو قلنا بأن القيمة تكافئ الحاجة هذا معناه أننا نصطدم مع الواقع، لأننا نرى أن الحيوانات لديها حاجات لكن ليس لديها قيم، فإذن ليس هناك تكافئ بين الحاجات وبين القيم، قد توجد الحاجات كما في الحيوانات وليس هناك قيم، هذا معناه أن القيم أوسع مجالاً من الحاجات، وذلك: القيم هي مثلٌ معرفية، يعني: معلومات، القيم مثل معرفية وظيفتها التوفيق بين الحاجات وبين الغايات، مثلاً: الإنسان يحتاج إلى الزواج لأجل الاستقرار العاطفي، لكن ليس الاستقرار العاطفي هدفًا في حد ذاته، الاستقرار العاطفي وإن كان حاجة بشرية لكنه ليس هدفا في حد ذاته، هدف الإنسان أعلى من الاستقرار العاطفي، وإلا لم يكن فرق بينه وبين الحيوان، الهدف الذي يميز الإنسان عن غيره أن الزواج بالنسبة إليه مفتاحٌ لإقامة مجتمع صالح، مجتمع يبني الحضارة، يبني المجتمع، الأسرة مجتمعٌ صالحٌ، إذن الهدف الإنساني هو بناء المجتمع الصالح، والحاجة هي الحاجة إلى الاستقرار العاطفي، هنا تأتي القيمة توفق بين الحاجة إلى الاستقرار العاطفي وبين الهدف الذي يطلبه الإنسان وهو إنشاء مجتمع صالح فتقول القيمة: القيمة أن تكوّن أسرة، القيمة أن تشكّل مجتمعًا، وليست القيمة أن تلتقي بامرأة توفر لك الاستقرار العاطفي فقط، فالقيمة مثالٌ معرفيٌ يقرر أن الأسرة هي المبدأ، لأنها هي التي توفق بين الهدف وبين إشباع الحاجة، وليس كل ما يلبي الحاجة فهو قيمة، هذا هو تعريف القيمة.

القيم التي تجلت في شخصية الإمام زين العابدين صلوات الله وسلامه عليه، نذكر منها قيمًا ثلاثة:

القيمة الأولى: قيمة المزج بين الروح العبادية والروح الاجتماعية، ما معنى هذا الكلام؟

الآن أنا أطرح بحثًا عرفانيًا طرحه علماء العرفان، وهو أن الإنسان بحسب طبعه لا يقدر على أن يجمع بين قوتين في عمل واحد وفي وقت واحد، الإنسان عنده عدة قوى:

1/ قوة عقلية تفكر، تحلل.

2/ قوة قلبية تفرح، تحزن.

3/ قوة ضميرية تراقب السلوكيات والتصرفات.

لا يمكن للإنسان أن يجمع بين قوى متعددة في آن واحد أو في عمل واحد، لأضرب لك مثالاً: الرياضة والفلسفة، الرياضة تحتاج إلى قوة بدنية، قوة عضلية، من يريد أن يصبح لاعبًا رياضيًا عليه أن يتمركز حول بدنه وعضلاته فترة من الزمن حتى يتأهل لأن يكون لاعبًا رياضيًا، ومن أراد أن يكون فيلسوفًا عليه أن ينسى بدنه لأن الفلسفة هي تحريك وتمركز حول القوة العقلية، الفيلسوف يحلق بعقله في التحليل والتأمل ويغفل عن شؤونه البدنية والمادية، إذن الفلسفة تحتاج إلى قوة عقلية، والرياضة تحتاج إلى قوة بدنية، هل يمكن للإنسان في شهر واحد أن يصبح فيلسوفًا ورياضيًا؟! لا يمكن، لأنهما قوتان متغايرتان، كل قوة منهما تحتاج إلى تمركز، تحتاج إلى تفرغ، فلا يمكن للإنسان بطبعه أن يجمع بين القوتين في عمل واحد أو في وقت واحد.

أيضًا الإنسان عنده علاقات مختلفة:

1/ الإنسان عنده علاقة مع السماء.

2/ عنده علاقة مع الأرض «مع الطبيعة».

3/ عنده علاقة مع أخيه الإنسان.

كل إنسان عنده هذه العلاقات الثلاث، العلاقة مع السماء تحتاج إلى قوة، يعني: من يريد أن يكون عابدًا لابد أن يتمركز حول قلبه، لأن العلاقة مع السماء موطنها القلب، الخشوع، الخضوع، فمن يريد أن يتحول إلى إنسان عابد لابد أن يتمركز حول القوة القلبية، من يريد أن يتحول إلى إنسان عامل يزرع الأرض، يبنيها، يحرث، لابد أن يتمركز حول القوة البدنية التي تحتاج إلى كدح وبذل جهد، من يريد أن يتحول إلى إنسان اجتماعي متفرغ للصناديق الخيرية والمشاريع الإنسانية والمشاريع الثقافية فلابد أن يتمركز حول قوة الضمير التي تدفعه للخير، للعطاء، للثقافة، للبذل.

إذن الإنسان عنده قوى ثلاث لأن عنده علاقات ثلاث، لا يمكن لإنسان عادي أن يجمع بين العلاقات الثلاث بقوة واحدة وبدرجة واحدة، لا يمكن، يعني: لا يمكن لإنسان عادي أن يصبح عابدًا، ليس شخصًا يصلي طبعًا، كلنا نصلي، لا نريده أن يصلي، عابد، أن يتحول إلى إنسان عابد وإنسان عامل وإنسان اجتماعي في آن واحد، الإنسان العادي لا يقدر، الإنسان العادي لا يمكن أن يجمع بين العلاقات الثلاث بقوة واحدة، بتمركز واحد، بمهارة واحدة، إذا تفرغ لعلاقة فهو على حساب علاقة أخرى، لو أصبح عابدًا فهو على حساب علاقاته الاجتماعية، لو أصبح اجتماعيًا فهو على حساب علاقته العبادية، لو أصبح إنسانًا عاملاً كادحًا فهو على حساب عبادته وعلى حساب علاقاته الاجتماعية، كل قوة تطغى على القوة الأخرى، هذا معنى الآية: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ لا يمكن.

الإمام زين العابدين مثل لنا أن الإنسان الكامل يمكنه أن يمزج بين القوى الثلاث وبين العلاقات الثلاث في عمل واحد بل في وقت واحد، قوة المزج بين القوى، قوة المزج بين العلاقات المختلفة هذا قيمة إنسانية عالية تحتاج إلى طاقة نفسانية هائلة، أن يكون الإنسان قادرًا على المزج بين القوى، قادرًا على المزج بين العلاقات المختلفة، فهو عابد وهو عامل وهو اجتماعي في آن واحد، هذا يحتاج إلى طاقة نفسانية غير طبيعية، طاقة تسيطر على أعصابه وعلى عقله وعلى تركيزه بحيث يركز على العبادة ويركز على المجتمع ويركز على العمل بقوة واحدة وبنفس واحد، هذا يحتاج إلى طاقة نفسانية هائلة.

كان علي بن أبي طالب كذلك، علي بن أبي طالب كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وفي نفس الوقت كان يحرث الأرض ويزرعها بيديه، واحتفر ماء ينبع وتصدق بها على الفقراء، علي بن أبي طالب في الوقت الذي يصلي ألف ركعة ويحتفر ماء ينبع علي بن أبي طالب يدور على فقراء المدينة أو الكوفة يطعمهم الخبز واللحم وهو يأكل الخبز اليابس، كيف استطاع علي أن يتمركز في العلاقات الثلاث بنفس واحد، بدرجة واحدة، بتمركز واحد، من دون أن تطغى علاقة على علاقة أو قوة على قوة، كما كان علي بن أبي طالب كان زين العابدين ، الإمام زين العابدين كان يصلي مئات الركعات، الإمام زين العابدين كان يتعلق بأستار الكعبة.

يقول طاووس الفقيه: رأيته متعلقًا بأستار الكعبة في ظلام الليل وهو يئن أنين الثكلى: ”إلهي ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولا بأمرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي، وأعانني عليها شقوتي، وغرني بذلك سترك المرخى علي“ قلتُ: أنت ابن رسول الله وهكذا تقول؟! قال: ”دع عنك حديث أبي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًا، وخلق النار لمن عاصاه ولو كان سيدًا قرشيًا“.

كان غارقًا في العبادة، غارقًا في الخشوع، هذا الشخص الغارق في الخشوع يقول عنه ابنه الإمام الباقر: ”كان أبي يعول مئة أسرة“، تصور، تصور إنسانًا واحدًا يعول مئة أسرة، الأسرة كم واحد فيها؟ قل على الأقل: ثلاثة، يعني: يعول ثلاثة مئة شخصًا، يحتاجون إلى نفقة، يحتاجون إلى عقل، يحتاجون إلى وقت، يحتاجون إلى تفرغ، يعول مئة أسرة ويصلي مئات الركعات ويتعلق بأستار الكعبة وقلبه غارق في ملكوت الله عز وجل، يجمع بين العلاقات وبين القوى المختلفة في عمل واحد في مشروع واحد.

بل إن الإمام زين العابدين لوّن العبادة باللون الاجتماعي، ولوّن العمل الاجتماعي باللون العبادي، أعطى للعبادة بعدًا اجتماعيًا، وأعطى للمجتمع بعدًا عباديًا، استطاع أن يجمع بين اللونين وبين الروحين، الإمام زين العابدين لا يعتبر المحراب جزيرة منفصلة عن المجتمع، بل يرى المحراب مدرسة لتهذيب العلاقات الاجتماعية.

زين العابدين وهو في المحراب يبكي وهو يقول: ”اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظُلِمَ بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره، ومن ذي فاقة سألني فلم أوفره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن مسيء اعتذر إلي فلم أعذره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره، اللهم سددني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، اللهم وفقني أن أشكر الحسنة وأغضي عن السيئة“.

المحراب تلون باللون الاجتماعي، صار المحراب مدرسة لتهذيب العلاقات الاجتماعية، كما أنه لوّن العمل الاجتماعي بلون العبادة، نحن نظن لقصور عقولنا أن العبادة هي الصلاة، هي السبحة، هي المحراب، هي المسجد، بينما الإمام زين العابدين يقول لنا: هذه ليست هي العبادة، هي طقوس للعبادة، هذه مظاهر للعبادة، العبادة الحقيقية في السلوك النقي، في السلوك الصافي، في العلاقات الاجتماعية الطيبة، زين العابدين يقول: ”لا تغتروا بكثرة صلاتهم ولا بكثرة صيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركهما استوحش ولكن اختبروهم - أين؟ - عند صدق الحديث وأداء الأمانة“ هذه هي العبادة الحقيقية.

إذن هناك بعدٌ اجتماعيٌ للعبادة، وهناك بعدٌ عباديٌ للعمل الاجتماعي، ولذلك كان الإمام زين العابدين يقول: ”صدقة السر تطفي غضب الرب“، إذا أردت أن تعمل للمجتمع فليكن عملك سرًا حتى يكون أقرب إلى الله تبارك وتعالى، ”صدقة السر تطفي غضب الرب“ وكان يخرج ليلاً يحمل جراب الطعام على ظهره متلثمًا لا يعرفه أحد يدور على الفقراء والمساكين، فإذا رأوه تباشروا وقالوا: جاءنا صاحب الجراب، وما عُرِفَ أنه زين العابدين حتى وُضِعَ على المغتسل بعد موته فرأوا أثر الجراب على ظهره.

القيمة الثانية: الروح الغيرية، ما معنى الروح الغيرية؟

نحن إذا وجدنا شخصًا معطاء، شخصًا ينشئ صندوقًا خيريًا لتزويج العزاب مثلاً، إذا رأينا شخصًا ينشئ صندوقًا خيريًا من أمواله الخاصة لتزويج العزاب نتساءل: ما الذي يدفعه لإنشاء هذا الصندوق؟ هذا سؤالٌ فلسفيٌ طرحه الفلاسفة، ما الذي يدعو الإنسان للبذل وللعطاء بلا مقابل؟ لماذا الإنسان يعطي بدون مقابل؟ لماذا؟ هناك نظريات:

النظرية الأولى: غريزة حب الذات.

يقولون: هذا الإنسان لأنه يحب ذاته يعطي بلا مقابل، لأنه إذا أعطى بلا مقابل اكتسب سمعة، وهو يحب السمعة، أو لأنه إذا إعطى بلا مقابل اكتسب ثوابًا، والثواب يخدم ذاته، فهو انطلاقًا من حبه لذاته يحب الثواب، وانطلاقًا من حبه لذاته ينشئ الصندوق الخيري، هذا انطلاق من غريزة حب الذات، هذه نظرية.

النظرية الأخرى: نظرية الفناء.

نظرية الفناء يعني أن هذا الإنسان إذا ربي من صغره، منذ طفولته ربي على أن يعطي، على أن يكون كريمًا، علمه أبواه على أن يكون كريمًا بلا مقابل، إذا تربى ينشأ وهو إنسانٌ كريمٌ، هذا الإنسان عندما يعطي لا لأجل غريزة حب الذات بل لأنه ربي على الفناء، يعني: الفناء في الآخرين، ربي على الذوان في الآخرين، فهو يعطي بلا مقابل انطلاقًا من غريزة الفناء التي ربي عليها لا من غريزة حب الذات، هذه النظرية الثانية.

نحن نطرح نظرية ثالثة نستفيدها من الإمام زين العابدين صلوات الله وسلامه عليه ألا وهي نظرية الامتداد الوجودي، نسميها نظرية امتداد الوجود، نسميها نظرية الروح الغيرية، ما معنى نظرية امتداد الوجود والروح الغيرية؟

أنا أنقلك إلى صورة حية أسألك عنها: بماذا تفسر علاقة الأم بالطفل «خصوصًا في العامين الأولين»؟ الأم عندما ترضع الطفل ما هي علاقتها به؟ علاقة الأم بالطفل في العامين الأولين لا علاقة غريزة حب الذات، لا علاقة فناء، بل علاقة غيرية، بل علاقة امتداد الوجود، يعني: الأم تعتبر الطفل مازال في أحشائها، مع أنه خرج منها، مع أن الطفل خرج منها وصار الآن بين يديها لكن مازالت تشعر، إلى أن يمر سنتان مازالت تشعر الأم أن هذا الطفل بين أحشائها، أنها ضلع من أضلاعها وجزء من قلبها وجزء من كيانها، هذا شعور يؤكده علماء التربية، الأم مازالت تشعر حتى بعد الولادة أن هذا جزء منها، ضلع من أضلاعها، فلذة من كبدها، لذلك الأم تتألم لهذا الطفل أكثر مما يتألم هو لنفسه، تشعر بآلامه، تشعر بمشاعره، كأنها هو، وكأنه هي، تعيش نفس مشاعره، تعيش نفس عواطفه، تعيش نفس آلامه، تشعر الأم بآلام الطفل ومشاعره وعواطفه كأنه قلبها تمامًا، بل عندها حدسٌ قويٌ، سريعًا ما تلتفت إلى الآلام، سريعًا ما تلتفت إلى مشاعره، سريعًا ما تلتفت إلى نظراته، إلى قسماته، إلى تصرفاته، يعني أن الأم تعيش امتداد الوجود، يعني: تشعر أن وجودها ممتد، يشمل حتى هذا الطفل، فكأن الطفل عضو من أعضائها، جزء من أجزائها، معنى امتداد الوجود هو هذا، امتداد الوجود يعني أن يشعر الإنسان أن وجوده يشمل غيره، فغيره جزءٌ منه، وجزءٌ من كيانه، لذلك يتألم لغيره، يتحسس لغيره، يفرح لغيره، يحزن لغيره، الغير جزءٌ منه.

وهذا المعنى الموجود في الأم موجودٌ بصورة أروع وبصورة أقوى فيمن؟ في النبي محمّدٍ ، القرآن الكريم يقول: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ما معنى «من أنفسكم»؟ هو نظرية امتداد الوجود، ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ أتدري أن النبي يشعر بأمته أعظم مما تشعر الأم بولدها؟! أتدري أن النبي يتألم لأمته أكثر مما تتألم الأم لطفلها؟! هذا ليس كلامًا مجازيًا، خُلِقَ النبي هكذا، خُلِقَ النبي إنسانًا يشعر أن الآخرين جزءٌ منه، خُلِقَ النبي هكذا، خُلِقَ النبي وهو يشعر أن أمته قطعة من كبده، قطعة من قلبه، قطعة من بدنه، ضلعٌ من أضلاعه، كان يشعر بالألم ويشعر بالمرارة لأمته أكثر مما يشعرون لأنفسهم، إذا تألم أحدٌ من أمته هو يتألم له أكثر مما يتألم لنفسه، خُلِقَ النبي أعظم من الأم بالنسبة لولدها، هذا نظرية امتداد الوجود، النبي يرى وجوده ممتدًا واسعًا يشمل الآخرين، يتسع للآخرين، يحتضن الآخرين، وهذا ما يقرره القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، النبي طاقة من الرحمة، طاقة هائلة عملاقة من الرحمة، معنى كلمة الرحمة هي معنى كلمة امتداد الوجود، هي معنى كلمة الروح الغيرية، النبي يخدم الآخرين بأي دافع؟ لا بدافع حب الذات، ولا بدافع الفناء، بل بدافع أن الآخرين جزءٌ منه، جزءٌ من ذاته، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فعندما يعطى الإنسان طاقة هائلة من الرحمة بحيث لا يفكر إلا في غيره، ولا يحب إلا غيره، ولا يتألم إلا لغيره، ولا يشعر إلا بغيره، فهذا الإنسان خُلِقَ وعنده وجود امتدادي، عنده روح غيرية.

وهذا الذي ثبت للنبي المصطفى ثبت لأهل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، كيف؟

أنت تقرأ في زيارة الجامعة - الزيارة الواردة عن الإمام الهادي - زيارة معتبرة، ماذا تقرأ؟ ”أنفسكم في النفوس، أرواحكم في ال...“ ما هو معنى «أنفسكم في النفوس»؟ نفس الإمام أين، أنفسنا أين، كيف تصير نفس الإمام في أنفسنا؟! ”أنفسكم في النفوس“ معنى هذه الكلمة هو الامتداد الوجودي، نفس الإمام طاقة من الرحمة تسع كل النفوس، نفس الإمام طاقة من الرأفة تحتضن كل النفوس، نفس الإمام تشعر بأن النفوس الأخرى جزءٌ منها وضلعٌ من أضلاعها، لذلك آثار هذه الروح الغيرية تتجلى في عدة أمور، تتجلى في عدة صور:

الصورة الأولى: علاقة زين العابدين مع الفقراء.

كان إذا جاءه فقيرٌ... طبق هذا علينا نحن، هل هكذا نحن أو لا؟! كان إذا جاءه فقيرٌ قبّله، يعني: الإمام يقبّل الفقيرَ ويبتسم ويقول: مرحبًا بمن يحمل زادي إلى الآخرة، ثم يناوله نفقته، لولا أنه يشعر أن الفقراء جزءٌ منه لما تعامل معهم هذه المعاملة.

صورة أخرى: مع أعدائه.

أتدري عندما ثار أهل المدينة في معركة الحرة، ثاروا على الأمويين وما أبقوا أمويًا في المدينة إلا وقتلوه، خرج مروان بن الحكم خائفًا على نفسه ومتورطًا أين يذهب بعائلته، كانت عنده عائلة كبيرة، إلى أين يُذْهِبُهَا؟! ذهب إلى عبد الله بن عمر، قال: خذ عائلتي أنا لا أستطيع أن أبقى في المدينة، قال: أنا لا أستطيع اعفني من ذلك، تحير مروان بن الحكم كيف يشرد ويبقي عائلته في المدينة وهي عائلة كبيرة، أقبل الإمام زين العابدين ومروان عدوه اللدود، أقبل إليه وأخذ عائلته واحتضنها في بيته وأنفق وأغدق وأنعم عليها حتى قالت بنات مروان: ما لقينا حفاوة وكرمًا من آبائنا كما لقينا من زين العابدين، هذه الروح الغيرية، هذه نظرية الامتداد.

وصورة ثالثة: دعاء الإمام.

الإمام عندما يجلس في محرابه ويبكي ويقول: ”إلهي ما عصيتك إذ عصيتك“ ويقول: ”سولت لي نفسي“ فهل أن الإمام عصى ربه؟ هنا أقلام الإمامية يبحثون: ما معنى قول الإمام: ”عصيتك“؟ ما معنى قول الإمام: ”ظلمت نفسي“؟ ما معنى قول الإمام: ”تجرأتُ بجهلي“؟ ما معنى قول الإمام: ”أنا الذي فعلت، أنا الذي اعتمدت، أنا الذي تعمدت...“؟ ما معنى ذلك؟

هناك من يفسر دعاء الإمام بأنه تعليم، يعلمنا كيف ندعو ربنا، هناك من يفسر دعاء الإمام بأنه من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، بمعنى أن الإمام في حركة تكامل روحي، فكلما وصل إلى درجة يرى أنه مقصر ومذنب لأنه يستطيع أن يصل إلى درجة أكبر من الكمال الروحي فيعبر عن هذا الشعور بأنه ذنب وجريمة وإلا فليس ذنبًا وجريمة، وهناك تفسير ثالث - وهو الصحيح - ألا وهو نظرية امتداد الوجود، لأن الإمام يشعر أن المذنبين جزءٌ منه لذلك يعبر عن ذنوبهم بلسانه، الإمام يتألم للمذنبين، يتألم للعصاة، يتألم للمقترفين، أكثر مما يتألمون لأنفسهم، يشعر بلسعة الذنب أكثر مما يشعرون هم بلسعة الذنب، فيدعو بلسانهم بل ويبكي لحالهم بل ويتأثر لأجلهم بل ويغشى عليه لأنه يشعر أن المذنبين أبناؤه، جزءٌ منه، ضلعٌ منه، فإذا أذنبوا فذلك يثير حسرة وندمًا في قلبه وفي ضميره صلوات الله وسلامه عليه.

القيمة الثالثة: قيمة الرحيل.

الإمام زين العابدين كان يركز دائمًا على الموت، على ذكر الموت، كان يقول: ”وما لي لا أبكي ولا أدري إلى أين مصيري وأرى نفسي تخادعني وأيامي تخاتلني وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، وما لي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي“ وكان يقول في دعائه: ”وارحمني صريعًا على الفراش تقلبني أيدي أحبتي، وتحنن علي ممدودًا على المغتسل يغسلني صالح جيرتي، وتفضل علي محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجد علي وقد نزلت بك وحيدًا في حفرتي“، لماذا يركز الإمام على ذكر الموت؟

ربما يقول قائل... أدلر - هذا من علماء المدرسة التحليلية في علم النفس - يقول: تلقين الإنسان نفسه بالموت هذه حالة مرضية، تقدير الذات ينقسم إلى قسمين: تقدير صحي، وتقدير مرضي، إذا لقن الإنسان نفسه بأنه شجاع، بأنه كفء، بأنه مثقف، هذا تقدير صحي، أما إذا لقن الإنسان نفسه بأنه عاجز، ناقص، سيموت، سينتهي، سيرحل، هذا تقدير مرضي، تقدير للذات تقديرًا مرضيًا، تلقين الإنسان نفسه بالموت أو بالنقص تقديرٌ مرضيٌ، لماذا؟ لأنه يقود الإنسان إلى الإحباط، الإنسان إذا قال: أنا سأموت، يصبح محبطًا، يتراجع عن البناء، يتراجع عن الفاعلية، لا يبني، لا يبدع، لا يعطي، لأنه دائمًا يشعر بأنه سيرحل وسينقرض، إذن الشعور بالموت حالة مرضية تبعث على الإحباط والتراجع، هكذا يقول أدلر.

لكن زين العابدين يقول بأن ذكر الموت عاملٌ إيجابيٌ على العطاء وليس عاملاً سلبيًا، لماذا؟ لوجهين:

الوجه الأول: هناك نظرية في علم النفس، وهي نظرية تقبل الواقع، النظرية الواقعية، مثلاً: الإنسان الذي لا يذاكر، إنسان عنده امتحان فيزياء ولا يذاكر، قاعد على التلفزيون إلى الصباح وما ذاكر، عندما ذهب إلى الامتحان قال: أنا ألغيت الامتحان لأنني ما ذاكرت، أنا ألغيت الامتحان، هل يعد هذا الإنسان إنسانًا محبطًا؟ لا، بل إنسان واقعي، يعني: قرأ نفسه قراءة واقعية، فرأى أن حجم مذاكرته لا يؤهله للامتحان، فألغى الامتحان، إلغاء الامتحان ليس إحباطًا ولا تقديرًا مرضيًا بل هو تقبلٌ للواقع، نظرة واقعية، الإنسان الذي يقول: أنا لا أملك عقلية تساعدني على دراسة الطب، أنا أملك عقلية تساعدني على دراسة علم الإدراة مثلاً، هل يعد إنسانًا محبطًا؟ هذا إنسان واقعي قرأ حجمه وقدّر الموقف بمقدار حجمه.

إذن الإمام زين العابدين عندما يركز على ذكر الموت يركز على النظرية الواقعية، على أن نقرأ واقعنا أننا راحلون، أننا مسافرون، والإمام يركز دائمًا على النظرة الواقعية، يقول: ”اللهم لا ترفعني درجة عند الناس إلا حططتني في نفسي مثلها“ يعني: الهالة الإعلامية التي حولي، فلان عظيم، فلان كريم، هذه الهالة الإعلامية لا تخرجني عن النظرة الواقعية لحجمي، أنا أقرأ حجمي قراءة واقعية أكثر مما يقرؤني الناس، الإمام أمير المؤمنين يقول: ”ما لي ابن آدم والفخر؟! - دعه يقرأ حجمه - وإنما أوله نطفة وآخره جيفة“.

الأمر الثاني: أن ذكر الموت عاملٌ إيجابيٌ على العطاء وليس عامل إحباط، لماذا؟

لأن الموت يذكرك بأن الدنيا طريقٌ للآخرة، فبما أنّها طريقٌ للآخرة فازرع الورد في الطريق من الآن كيلا يكون طريقك مملوءًا بالشوك، إذن ذكر الموت يحركك على أن تزرع الورد، بينما الغفلة عن الموت تجعلك تزرع الشوك في طريقك، ذكر الموت عامل إيجابي على العطاء وليس عاملاً سلبيًا.

الإمام زين العابدين رآه ابن شهاب الزهري في ظلام الليل وهو يحمل على ظهره متاعًا، قال: إلى أين سيدي؟ قال: ”إلى سفر أعددتُ له زادًا“، يقول: طلع الصباح فرأيته في المسجد، قلتُ: يا ابن الحسين قلتَ بأنك على سفر والآن أنت في المسجد؟! قال: ”يا ابن شهاب ليس السفر ما ظننت - أنا لست ذاهبًا إلى أوروبا - إنّه سفر الآخرة - أنا أذكّر نفسي بأني على سفر، ولأجل أني على سفر أحمل زادي - وزاد السفر إلى الآخرة بذل الندى - يعني ماذا؟ العطاء - والورع عن محارم الله“، إذن ذكر الله عاملٌ إيجابيٌ على أن نعطي الفقراء، على أن نبني حتى نزرع طريقنا بالورد، بالنور، ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ.

المحور الثاني: الدور الإعلامي للإمام زين العابدين.

يجعلنا أن نتساءل: ما هو الإعلام؟ وما تأثير الإعلام؟ وما دورنا نحن في مجال الإعلام؟ وما دور الإمام زين العابدين في مجال الإعلام؟

ما هو الإعلام أيها الإعلاميون؟

علماء الاجتماع يقولون: الإعلام وسيلة اتصال بين مصدر ومستقبل، يعني: الإعلام يتشكل من أربعة عناصر:

  1. مصدر: وهو الذي يكتب الخبر.
  2. مستقبل: وهي الجماهير التي تتلقى الخبر.
  3. رسالة: وهي المضمون الذي يصاغ من خلال هذا الخبر.
  4. ووسيلة: وهي القناة التي تنقل الخبر، قناة، إذاعة، صحيفة، منبر، مجلس، أي شيء آخر، هذا هو الإعلام.

 ما هو تأثير الإعلام؟ 

الإعلام نتلمس تأثيره في عدة موارد:

المورد الأول: توجيه المواقف.

لاحظوا عندما أساءت بعض الصحف الدنماركية لشخصية النبي محمد قامت وسائل الإعلام بحشد الموقف خير قيام، اشتركت وسائل الإعلام المختلفة في توجيه الأمة الإسلامية كلها إلى موقف واحد وهو موقف المقاطعة للبضائع الدنماركية، وأفتى بعض مراجعنا العظام بوجوب المقاطعة للبضائع الدنماركية احترامًا للدين ولشخص النبي المصطفى محمد ، فالإعلام حشد الناس حول موقف واحد، هذا أثر مهم من آثار الإعلام.

المورد الثاني: ربط العلاقات البينية والاجتماعية.

أنا في القطيف وأنا أقرأ على شاشة التلفزيون المجتمع الصيني، المجتمع الهندي، المجتمع الأمريكي، المجتمع الأوروبي، عاداتهم، تقاليدهم، ثقافتهم، آلامهم، أفراحهم، عندما أقرأ على شاشة التلفزيون المجتمعات الأخرى تتحقق بيني وبينها علاقة عاطفية وعلاقة قلبية شئت أم أبيت، الإعلام صار وسيلة لربط العلاقات الاجتماعية وتحويل العالم إلى أسرة واحدة وإلى قرية واحدة.

الأثر الثالث: الإعلام فتح علينا أبواب الثقافة.

صرنا نشاهد كثيرًا من البرامج العلمية، سواء في عالم الطب، في عالم الفيزياء، في عالم الحيوان، في عالم الإنسان، ولولا الإعلام لما وصلنا إلى ذلك.

الأثر الرابع: أن الإعلام فرصة للترويح عن النفس.

الإنسان عندما تضغط عليه هموم الحياة وأتعاب العمل وأتعاب الوظيفة وأتعاب العلاقات الاجتماعية يفتح التلفزيون ليشاهد فلمًا كوميديًا، هذا أمر لا بأس به للترويح عن النفس، وهذا أثر مهم من آثار الإعلام.

الإعلام له آثار ضخمة، إذا كنا نحن المسلمون نعرف الإعلام وأهمية الإعلام ف:

ما هو دورنا الإعلامي؟ 

نحن نمتلك أكبر مشروع وأكبر قضية، نحن المسلمون نمتلك مشروعًا حضاريًا إصلاحيًا، فما هو دورنا الإعلامي تجاهه؟ الحسين مشروع إصلاحي، الحسين كله مشروع إصلاحي، الحسين نادى بحقوق الإنسان، نادى بالحرية، نادى بالكرامة، نادى بالإباء، نادى بحقوق الإنسان، الحسين مشروع حقوقي، مشروع إصلاحي يستحق أن يتعرف عليه العالم كله ليتنفس أنفاسه، فماذا صنعنا نحن المسلمون تجاه قضية الحسين ؟ هل قضية الحسين مختصرة في ثلاثة عشر ليلة نقرؤها في محرم؟! الحسين هذا هو حجمه؟! ثورة الحسين المشروع الإصلاحي الحقوقي يتلخص في ثلاثة عشر ليلة يصعد فيها الخطيب على المنبر؟! لا، مشروع الحسين أعظم وأكبر وأوسع من ذلك، إذن ماذا صنعنا للحسين؟

نحن نحتاج إلى وسائل ثلاث من وسائل الإعلام: منبر الحسين، وقف الحسين، مسرح الحسين.

1. منبر الحسين: لا أقصد بالمنبر المنبر الذي يجلس عليه الخطباء، هذا موجود، نحن نحتاج إلى منبر آخر، إلى قناة خاصة بالحسين، قناة الحسين، قناة الحسين بلغات مختلفة، باللغة الإنجليزية، باللغة الفرنسية، باللغة الصينية، باللغة الهندية، باللغة، باللغة... قناة الحسين بلغات مختلفة، الحسين قضية استمرت قرونًا، تضحيات، فداء، ثورات، حركات، مشاريع، مطالب، مبادئ، حقوق... هذه القضية تحتاج إلى قناة تتخصص فيها، تتكلم عن الحسين، ثورة الحسين، أهداف الحسين، أنصار الحسين، الثورات التي تعاقبت بعد ثورة الحسين، من ثار على خط الحسين، كلمات الحسين، خطب الحسين، الحسين لا ينتهي بمنبر ولا بمجلس، تحتاج إلى قناة تتخصص باسم الحسين ، وبمختلف اللغات حتى يصل الحسين إلى كل قلب وإلى كل عقل.

2. نحتاج إلى وقف الحسين: ما معنى وقف الحسين؟

هناك وقوفات كثيرة باسم الحسين، نحن لا، نريد شيئًا آخر، نريد مؤسسة باسم الحسين، هذه المؤسسة لها فروع في جميع بلدان العالم، مثل مؤسسة التبشير المسيحي، المسيحيون عندهم مؤسسة تابعة للكنيسة، مؤسسة التبشير، أغلب بلدان العالم لهم فروع فيها، نحن نحتاج إلى فروع لمؤسسة الحسين في كل مدينة، في كل بلد، هذا الفرع - فرع المؤسسة - ماذا يصنع؟ هذا الفرع يستغل يوم عاشوراء، إذا جاء يوم عاشوراء يقوم الموظفون في هذه المؤسسة بتوزيع هدايا على أبناء المجتمع الذين حولهم، سواء كانوا يهودًا، أو نصارى، أو بوذيين، أو مسلمين، من أي فرقة كانوا، يوزعون عليهم هدايا رمزية باسم الحسين ، هدايا ملونة بلون الحسين، هدايا كتب عليها: هيهات منا الذلة، هدايا كتب عليها: خرجت لطلب الإصلاح، هدايا كتب عليها: إلهي تركت الخلق طرًا في هواك، كلمات الحسين تنفذ إلى القلوب بطبعها، لو أقمنا مؤسسة باسم الحسين في كل مجتمع حتى لو كان يهوديًا أو نصارنيًا لأوصلنا صورة الحسين إلى قلب كل إنسان.

3. نحن نحتاج إلى مسرح الحسين: مع الأسف إلى الآن الحسين لم يمثل تمثيلاً مسرحيًا جيدًا، تصوروا عمر المختار، عمر المختار قبل أن يمثل هل كان يعرفه أحد؟ ربما 1% من الأمة العربية كان يعرف عمر المختار، ولكن بعد أن تحول عمر المختار من تاريخ إلى فلم صار 60% من الأمة العربية تعرف عمر المختار، فهل الطائفة الإمامية لا تملك إمكانات مادية أو لا تملك إمكانات فنية أو لا تملك إمكانات تكنولوجية، لا تستطيع أن تخرج فلمًا عن الحسين كفلم عمر المختار؟! غريبٌ هذا، الطائفة الإمامية لا تقل في إمكانتها المادية والفنية عن غيرها، لا تخرج فلمًا يحوّل الحسين من كلمات رثاء إلى فلم يغزو الشرق والغرب؟! الإعلام من أجل الحسين يحتاج إلى بذل جهود، ربما يقول قائل: طيب نحن ما هي وظيفتها؟! نحن ليس لنا دخل بالموضوع، هذا شيء يعني على المؤسسات وعلى الأثرياء، نحن ما هو دورنا؟!

حتى أنت تستطيع أن تقوم ببعض الشغلات، ببعض القضايا الإعلامية البسيطة التي توصل فيها مبادئك، أحيانًا نحن لا نفكر، أحيانًا نظن الإعلام فقط قناة، الإعلام فقط قناة فضائية، الإعلام لا، لا ينحصر في القناة الفضائية، لاحظوا مثلاً: أنتم سامعين عن فلة، هذه الصورة التي يأخذها الأطفال فلة، ماذا كان قبل فلة؟ كان قبلها باربي، باربي تمثل المرأة أو الفتاة الغربية، وكانت شركة باربي نافذة في البلدان الإسلامية والعربية، فكّر إنسانٌ عربيٌ أن يخترع صورة فلة، لأن فلة سحنتها عربية، تلبس لباسًا عربيًا، تلبس لباسًا إسلاميًا، اخترع صورة فلة، خربت شركة باربي، ربحت ملايين، أنا رأيت في قناة الحرة برنامجًا عن فلة، ربحت ملايين الدولارات في مصر في سنة واحدة، لماذا؟ لأن المجتمع الإسلامي والمجتمع العربي استقطبته صورة من واقعه، استقطبته صورة من حياته، استقطبته صورة من محيطه، ترك باربي، ذهب إلى فلة، حتى الطفلة الآن تقول لها: بابا تريدين باربي؟! تقول: أي باربي أي خاربي؟! أريد فلة!.. لماذا؟ هذه وسيلة إعلامية بسيطة، استطاع هذا الإنسان باختراع هذه الصورة أن يعيد لهذا المحيط العربي الإسلامي شكلاً عربيًا إسلاميًا، هذه وسيلة إعلامية صغيرة.

نحن نحتاج إلى هذه الوسائل الإعلامية الصغيرة التي تخدم قضايانا، تخدم مبادئنا، تخدم قيمنا ومثلنا، لو أن إنسانًا أسس كلية أو مدرسة سماها مدرسة فاطمة الزهراء أو مدرسة زينب الحوراء وكانت هذه المدرسة الأهلية خاصة بتعليم الفتيات تعليمًا متقنًا بحيث تكون طالبات هذه المدرسة من الطالبات المتفوقات دائمًا على المراحل الثلاث أليس هذا وسيلة إعلامية جيدة تحمل اسم الزهراء واسم زينب الحوراء؟! لا نحتاج إلى قناة فضائية، ليس دائمًا الإعلام قناة فضائية، حتى هذه القضايا الصغيرة إعلام، المدرسة المحسنية في سوريا أسسها السيد محسن الأمين قبل أكثر من أربعين عامًا، أكثر، لعله خمسين عامًا، ومازالت المدرسة إلى يومنا هذا موجودة، أفضل الطلاب على مستوى الثانوية من هذه المدرسة في كل سنة، وعكست صورة مشرقة عن الشيعة، وعكست صورة مشرقة عن السيد الأمين، وعكست صورة مشرقة عن أن هؤلاء يحملون مستوى تعليميًا مرموقًا، الإعلام لا ينحصر في قناة فضائية، هناك وسائل عديدة لأن نتخذها إعلامًا لمبادئنا، لقضايانا، لقيمنا، لمثلنا.

وما هو دور الإمام زين العابدين في مجال الإعلام؟

ربما كتبت بعض الأقلام الإسلامية أن الإمام زين العابدين مال إلى الخنوع والاستسلام بعد مقتل أبيه الحسين، ولم يكن ثائرًا مثل أبيه، ولكننا إذا قرأنا زين العابدين قراءة صحيحة وجدنا أن زين العابدين استمر على ثورة أبيه لكنه حولها من ثورة عسكرية إلى ثورة ثقافية، إلى ثورة روحية، إلى ثورة إعلامية، زين العابدين لولاه لانطفأت شعلة الحسين، زين العابدين كان وسيلة إعلامية امتدادًا لصوت الحسين ولصرخة الحسين، زين العابدين مارس ثلاثة أدوار إعلامية:

الدور الأول: الدور الجماهيري.

وقف الإمام زين العابدين في الكوفة وأمام الناس وهو أسير مقيد، لم يمنعه الأسر من أن يقوم بدوره الإعلامي، قال: ”أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا علي بن الحسين بن أبي طالب، أيها الناس أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير دخل ولا ترات، أنا ابن المقتول صبرًا وكفى بذلك فخرًا“، أدخلوه مجلس يزيد بن معاوية مقيدًا، لم يمنعه القيد من أن يقوم بدور إعلامي في قلب العاصمة الأموية، وقف وهو يقول: ”أيها الناس لقد أعطينا ستًا وفضلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والشجاعة والسماحة والفصاحة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضلنا بأن منا المختار، ومنا الطيار، ومنا الصديق، ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنا سيدة النساء، ومنا سبطا هذه الأمة، أيها الناس أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن من طاف وسعى، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الردى، أنا ابن من عرج به إلى السماوات العلى فكان قاب قوسين أو أدنى من العلي الأعلى، أنا ابن المذبوح بكربلاء، أنا ابن الظمآن حتى قضى، أنا ابن العطشان حتى مضى“ وأجج القلوب ضد يزيد بن معاوية، حوّل الناس في الكوفة وفي الشام من معارضين شامتين إلى موالين معارضين ليزيد بن معاوية، استطاع بدوره الإعلامي الجماهيري أن يزرع صوت أبيه الحسين في كل قلب.

الدور الثاني: الدور الحواري.

كان يحاور الناس، يقنعهم بأبيه الحسين ، رآه شيخ في الشام، قال: الحمد لله الذي أهلككم ومكّن الأمير منكم، قال: يا شيخ، هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: هل قرأت قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى؟ قال: بلى، قال: نحن القربى يا شيخ، هل قرأت قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا؟ قال: بلى، قال: نحن أهل البيت يا شيخ، هل قرأت قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ؟ قال: بلى، قال: نحن هم يا شيخ، قال: أنتم آل رسول الله؟ قال: نعم، قال: آل رسول الله مصفدون مقيدون مشردون؟!

بناتُ زيادٍ في القصور مصونة

وآلُ  رسولِ اللهِ تدمى نحورهمْ

 
وآلُ  رسولِ  اللهِ  في  iiالفلواتِ

وآلُ    زيادٍ    حُفَّلُ   القَصِراتِ

وكان في مجلس يزيد بن معاوية فسمع المؤذن يؤذن، استغل الفرصة ليقوم بدوره الإعلامي، فبمجرد أن وصل المؤذن إلى الشهادة الثانية: أشهد أن محمدًا رسول الله، التفت زين العابدين إلى يزيد، قال: ”يا يزيد محمد جدي أم جدك؟ فإن قلتَ: جدك، فقد كذبت، وإن قلتَ: جدي، فلماذا أبدت عترته وانتهكت حرمته وسبيت ذريته؟!“ وضع بصماته التأثيرية على النفوس والقلوب من خلال قيامه بدوره الإعلامي.

الدور الثالث: الدور المسرحي.

بكى زين العابدين على أبيه الحسين أكثر من عشرين سنة، ما كان بكاؤه مختلقًا، كان بكاءً حقيقيًا لكنه كان بكاءً هادفًا، كان فعلاً ولم يكن انفعالاً، كان يخطط زين العابدين من خلال البكاء إلى إثارة المظلومية وتأجيج روح الحسين في كل من يسمعه وفي كل من يلقاه، ما وُضِعَ له شراب إلا وقال: ”وكيف أشرب وقد ذبح أبي الحسين عطشانًا؟!“، يذهب إلى السوق فيرى أهل السوق لا يذبحون الشاة حتى يسقوها ماء فيلتفت، يريد أن يثير أهل السوق إثارة إعلامية واضحة، فيلتفت ويقول: ”إلا أنت يا أبا عبد الله، لا يذبح الكبش حتى يروى من ظمأ ويذبح ابن رسول الله عطشانًا“.

يقول له أبو حمزة: سيدي إلى متى هذا البكاء؟ إني أخاف عليك أن تكون حرضًا أو تكون من الهالكين، قال: ”يا أبا حمزة لا تلمني، والله ما ذكرتُ مصرع أبي وإخوتي إلا خنقتني العبرة، يا أبا حمزة - أنت لم تر ما رأيته، رأيتُ أهلي مجزرين كالأضاحي - يا أبا حمزة ما ذكرتُ فرار عماتي وأخواتي وهن يصرخن وضيعتاه إلا وخنقتني العبرة“، كربلاء تعيش حرارة في قلب زين العابدين لأنه عاصرها من أولها إلى آخرها...

والحمد لله ربّ العالمين