الفقه الإمامي في تعامله مع النص

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ «17» الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ

صدق الله العلي العظيم

هناك فكرة طرحتها مجموعة من الأقلام الإسلامية حول تعامل الفكر الإمامي مع النصوص، ومضمون هذه الفكرة أن هناك ازدواجية في تعامل الفكر الإمامي مع النصوص، سواء كانت نصوصًا قرآنية كانت نصوصًا نبوية، فليست هناك مقاييس ثابتة يمشي عليها الفكر الإمامي، بل تتنوع وتختلف المقاييس باختلاف المواضع، وهذا يعني أن هناك ازدواجيةً في الفكر الإمامي في مجال تعامله مع النص.

لأجل بيان الموضوع نذكر ثلاثة مظاهر لهذه الازدواجية:

المظهر الأول: التأرجح بين التأويل والاستظهار.

الفكر الإمامي أحيانًا يتعامل مع النص بالتأويل، فلا يأخذ بظاهره، وأحيانًا يرفض التأويل ويصر على الأخذ بالظاهر، فمثلاً: الفكر الإمامي عندما يقرأ قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، الفكر الآخر يقول: نحن نأخذ بظاهر الآية ونثبت أن لله مجيئًا، وإن كنا لا نفهم كيفية هذا المجيء، بينما الفكر الإمامي يرفض الأخذ بالظاهر، ويقول: ليس لله مجيء، ولا بد من تأويل الآية، فنقول: ﴿وجاء ربك أي: وجاء أمر ربك.

كذلك عندما يقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا «1» لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا.

الفكر الآخر يقول: ظاهر الآية أن النبي يذنب، وله ذنب سابق وذنب لاحق، لكن الفكر الإمامي لا يأخذ بظاهر الآية، بل يؤولها ويقول: ﴿ما تقدم من ذنبك أي: من ذنب قومك من حقك وليس من ذنبك أنت، فهو يؤول الآية على خلاف ظاهرها.

وفي المقابل، الفكر الإمامي نفسه يصر في ميدان آخر على العمل بالظاهر، كما في حديث الغدير الوارد عن النبي : ”ألا فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله“.

الفكر الآخر يحاول أن يؤول الحديث فيقول: الحديث لا ربط له بالخلافة، ”من كنت مولاه“ أي: من كنت ناصره ومحبوبَه، ”فعلي مولاه“ أي: فعلي ناصره ومحبوبه.

لكن الفكر الإمامي هنا يرفض التأويل ويقول: لا بد من الأخذ بالرواية على ضوء ظاهرها، فنقول: ظاهر المولى ولي الأمر، ”من كنت مولاه“ أي: من كنت وليه أمره فعلي ولي أمره.

من هنا يقال: لماذا أخذتم بالتأويل في الآيات القرآنية، بينما في حديث الغدير تعملون بالظاهر؟! هذا يكشف عن تأرجح، أي أن هناك عقائد مسبقة في الفكر الإمامي، فإذا وافق النص العقيدةَ عُمِل بظاهره، وإذا خالفها أُوّل، وهذا يعني أن هناك تأرجحًا بين التأويل وبين العمل بالظاهر، وهذا يعني أن هناك ازدواجية في الفكر الإمامي في مجال تعامله مع النصوص.

المظهر الثاني: التناقص والتهافت بين مجال الفقه ومجال العقيدة.

الفكر الإمامي على مستوى علم الفقه: الفقهاء لا يقبلون الاستناد إلا على رواية صحيحة، وأما الرواية غير الصحيحة لا يقبلونها ولا يستندون إليها، فمثلاً: عندنا رواية تقول: صلى الحسن والحسين «عليهما السلام» خلف مروان بن الحكم، فلو أتى شخص واستدل بهذه الرواية وقال بأنها تدل على جواز الصلاة خلف الإنسان المنحرف، لقال له الفقيه: أنا لا أعتمد على هذه الرواية؛ لأنها رواية ضعيفة السند، وأنا لا أفتي ولا أستدل إلا برواية معتبرة السند.

لكن عندما نأتي إلى مجال العقائد نجد أن علماء الفكر الإمامي يقبلون كل رواية تتحدث عن مقامات أهل البيت ومنازلهم على عواهنها، فلا يفحصون عن سندها ولا يقولون بأنها ضعيفة أو غير ضعيفة، فمثلاً: الفكر الإمامي يقرّر أن هناك علاقةً وجوديةً بين الكون وبين الإمام المعصوم، ويدّعي أن هذه الفكرة أتت من روايات، كحديث الكساء مثلاً: ”ما خلقت سماء مبنية ولا أرضًا مدحوة ولا قمرًا منيرًا ولا شمسًا مضيئة ولا فلكًا يسري ولا بحرًا يجري إلا لأجل هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء، قيل: ومن تحت الكساء؟ قال: هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها“، والحال أن حديث الكساء ضعيف السند، فكيف تبني عليه عقيدة؟!

كذلك زيارة الجامعة الواردة عن الإمام الهادي ، فإنها تتحدث عن نفس المضمون حيث تقول: ”بكم فتح الله وبكم يختم، وبكم ينزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض...“، والحال أن في طريق هذه الزيارة موسى النخعي، وهو مجهول، فكيف تأخذون بزيارة الجامعة مع أن طريقها غير تام؟!

إذن أنتم في مجال الفقه لا تقبلون إلا الروايات الصحيحة، بينما في مجال العقيدة تقبلون الروايات وإن لم تكن تامة سندًا، وهذا يعني أن هناك تهافتًا وتناقضًا في الفكر الإمامي بين مجال الفقه ومجال العقيدة، وهذا مظهر آخر للازدواجية في التعامل مع النص.

المظهر الثالث: المأزق بين الفقيه والمثقف.

الفكر الآخر خطا خطوة جبّارة وتخلص من هذا المأزق، حيث غربل التراث كاملاً ونخله وانتقى منه الأحاديث الصحيحة، وكتب كتاب صحيح مسلم وكتاب صحيح البخاري، وهكذا تخلص من المأزق كله، بحيث يأتي الفقيه والمثقف على حد سواء، فإن احتاج الفقيه إلى حديث أخذه من كتاب صحيح، وإن أراد المثقف أيضًا أن يكتب بحثًا استطاع أخذه من ذلك الكتاب الصحيح، فلا يوجد مأزق ولا مشكلة أبدًا.

بينما في الفكر الإمامي يوجد هنالك مأزق، فإننا عندما نسأل فقهاء الإمامية: أين الكتاب الصحيح عندكم؟! هل هو الكافي؟! يقولون: لا يوجد عندنا كتاب صحيح، فحتى الكافي فيه صحيح وضعيف، وكذلك حال من لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار، وهذا يخلق مشكلة ومأزقًا بينكم وبين المثقف؛ فإن المثقف الإمامي لا يستطيع أن يكتب بحثًا؛ لعدم وجود مادة صحيحة، وإذا أراد أن يستدل من حديث قيل له بأنه ليس حديثًا صحيحًا فلا يصح الاستدلال به.

إذن هناك مظاهر متعددة تنبه وتكشف على أن هناك ازدواجيةً في الفكر الإمامي في تعامله مع النصوص، وفي مقابل هذه الفكرة نقول: لا توجد هنالك ازدواجية في الفكر الإمامي في تعامله مع النصوص، بل إن مقاييس الإمامية مقاييس ثابتة وواضحة، وبيان ذلك:

1/ المظهر الأول: التأرجح بين التأويل والاستظهار.

القاعدة الأساسية هي العمل بالظاهر، وهذا ما عليه بناء العقلاء في كل مجتمع وأمة، حيث يأخذون بظاهر النص ولا يؤولونه، فمثلاً: لو اكتشف شخصٌ أن هناك صكًا يثبت أن جده اشترى بيت جاره، مما يعني أن ذلك البيت أصبح ملكه بالوراثة، فذهب إلى المحكمة ليرفع دعوى ضد جاره حتى يثبت ملكيته للبيت، فحينئذٍ ألا تأخذ المحكمة بظاهر الصك؟!

من الواضح أن الجواب بالإثبات، ولا يصح للمحكمة أن تقول: لن نأخذ بظاهر هذا الصك؛ إذ يُحْتَمَل أن الجد قد اشتراه ثم باعه مثلاً، بل ينبغي عليها أن تأخذ بظاهر هذا الصك وترتب الأثر عليه وإن كان مكتوبًا قبل مئة سنة، وذلك لأن بناء العقلاء قائم على العمل بظاهر الكلام.

وقد سار علماء الإمامية على هذه القاعدة العقلائية، ولذلك يعملون بظاهر حديث الغدير ويقولون بأن عليًا هو ولي الأمر بعد موت النبي ، ولكن العمل بالظاهر قد يرفع الإنسان يدَه عنه أحيانًا، وذلك إذا قامت قرينةٌ لفظيةٌ أو عقليةٌ على خلاف الظاهر، وهذا ما عليه بناء العقلاء أيضًا.

مثال: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه.

هذه الآية ظاهرها أن من سبق إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار فهو صافٍ مصفّى لا تجوز الخدشة فيه، ولكن لا يمكننا العمل بهذا الظاهر؛ لوجود آيات أخرى تقيّد هذه الآية، والقرآن يقيّد بعضه بعضًا، كقوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.. إلى قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا، أي أن المغفرة والأجر العظيم مخصوص بالذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم فقط، ولذلك نقول بأن هذه الآية تقيّد تلك الآية.

وهذا ما يفعله الفقيه - سواء كان شيعيًا أم لم يكن شيعيًا - عندما يأتي لقوله تعالى: ﴿وأحل الله البيع وحرّم الربا، إذ لا يصح لفقيه يقول بأن الآية تدل على جواز كل بيع بلا قيود أبدًا؛ لوجود آيات أخرى تقيّد هذه الآية، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ، أي أن البيع الذي عن تراض حلال وما سواه ليس كذلك.

إذن القرآن يقيّد بعضه بعضًا، فنحن إنما رفعنا اليد عن ظاهر آية المهاجرين والأنصار لوجود قرينة لفظية، وقد تكون القرينة عقلية، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، فإن العقل يقول بأن الله يستحيل عليه المجيء؛ لأن المجيء من صفات الأجسام، والله ليس بجسم، ولو كان جسمًا لكان محدودًا، والمحدود يفتقر إلى غيره، والله هو الغني، فيستحيل أن يكون جسمًا، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وهذا يعني أن هذه الآية يخالف ظاهرها العقل، فلا بد من رفع اليد عن ظاهرها بأن يقال بأن معناها: وجاء أمر ربك.

إذن القاعدة الأساسية عندنا هي الظاهر، لكننا نرفع اليد عن الظاهر إذا قامت قرينة لفظية أو عقلية، ومن هنا نقول: لقد قامت عندنا القرينة العقلية على أن النبي معصومٌ عن الخطأ والزلل، إذ لو لم يكن معصومًا لانتقض الهدف من بعثته، وهو وثوق الناس به، فإنه لو لم يكن معصومًا لما وثق الناس به، فينتقض الهدف من بعثته، وتكون بعثته لغوًا، ولذلك نقول بأن ظاهر الآية المباركة: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ مخالف لحكم العقل، فلا بد من رفع اليد عن ظاهرها، فنقول بأن المقصود من الذنب فيها ذنب قوم النبي في حقه.

وهذا من قبيل أن يقول زيدٌ لبكر: أعجبني ضربك، فإن هذه العبارة تحتمل معنيين: تارة يكون مقصود زيد أنه فرح لأنه رأى بكرًا يُضْرَب، وتارة أخرى يكون مقصوده أن ضرب بكر لشخص آخر قد أعجبه، فالعبارة تحتمل أن الضارب هو بكر كما تحتمل أنه المضروب، وهكذا هو الحال في الآية المباركة: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، فإنها تعني: ما تقدم من ذنب الناس في حقك، لا من ذنبك أنت في حق الله أو في حق الآخرين، وبتعبير علماء اللغة: هذا مصدر مضافٌإلى المفعول وليس مصدرًا مضافًا إلى الفاعل.

والخلاصة: أن القاعدة عندنا هي العمل بالظاهر، ولا نرفع اليد عن العمل به إلا إذا قامت قرينة لفظية أو عقلية على خلاف، فليست عندنا مقاييس متأرجحة أبدًا.

2/ المظهر الثاني: التناقض بين مجال الفقه ومجال العقائد.

هناك فرقٌ بين المنهج السلفي وبين المنهج الإمامي، فإن المنهج السلفي في تصحيح الأحاديث يختلف عن المنهج الإمامي، ولا يصح للسلفي أن يحاكم المذاهب كلها على ضوء منهجه هو، فإن الآخرين لهم مناهج في تصحيح الأحاديث كما أن له منهجًا.

بيان ذلك: أن المقياس في المنهج السلفي هو رواة السند، حيث يقرأ الرجال الذين رووا الحديث ليرى هل هم ثقات أم ضعاف، فإن كانوا ثقاتٍ أخذوا بالحديث، وإلا طرحوه، ولكن المنهج الإمامي يختلف عن ذلك، وهو منهج العالم العقلائي، فإن المنهج العقلائي في تصحيح التاريخ هو قراءة الرواية مع القرائن التي تكتنفها، لمعرفة أن هذه القرائن هل تؤيد الرواية أم تعاكسها.

مثال: لو كان زيدٌ جالسًا في المسجد، وأتى عمرو - وهو ثقة - وأخبره بأن هناك انفجارًا بالقرب من المسجد أسفر عن قتل عشرين شخصًا مثلاً، فحينئذٍ سيشك زيد في كلام عمرٍ؛ إذ أن الانفجار له صوت وضجة عارمة، فلو كان لبان.

هنا المخبِر ثقة بحسب الفرض، ولكن خبره إذا كان غير مطابق للقرائن، فحينئذ لا يؤخذ به، والعكس صحيح أيضًا، فلو أتى بكر - المعروف بالكذب - وأخبر زيدًا بأن حافلتين تقلان زوار الحسين قد انفجرتا في بغداد مثلاً، فحينئذٍ قد يحتمل زيد الصدقَ؛ باعتبار أن هذا الخبر ليس بعيدًا عن الجماعات التكفيرية التي أهلكت الحرث والنسل، وتزداد نسبة احتمال صحة الخبر إذا سمعه زيد في الراديو ورآه في التلفاز وقرأه في الجريدة مثلاً، حتى يصل إلى اليقين بالخبر بسبب اجتماع هذه القرائن وتراكمها، مع أن الخبر - في الأساس - أتى من شخص كاذب.

إذن ليس المناط عند العقلاء وثاقة الراوي، بل الميزان عند المجتمع العقلائي لقبول الخبر ورفضه هو موافقة الخبر للقرائن المحفوفة به وعدم موافقته، والإمامية يمشون على هذا المقياس العقلائي، إذ أن عندهما أصلَيْن يسيروا عليهما في تصحيح النصوص: أحدهما يرجع للعامل الكمي، والآخر يرجع للعامل الكيفي.

1/ العامل الكمي: تعدد الطرق.

مثال: قد يقال بأن ما ورد النبي محمد : ”أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها“ حديث ضعيف السند؛ لأن رواته ضعاف! والحال أن هذا الحديث تعددت طرقه ورواته، حيث نقل الشيخ عبد الحسين الأميني «رحمه الله» في كتاب الغدير هذا الحديث عن العشرات من كتب إخواننا أهل السنة بين مؤرخ ومحدث، وهذا التعدد في الطرق والرواة يوصلنا إلى الاطمئنان بصدور الحديث، وهذا ما يسمّى بدليل حساب الاحتمالات، وهو دليل رياضي مفاده أن الاحتمالات كلما تراكمت وتصاعدت زادت نسبة الوثوق إلى أن تصل إلى الاطمئنان، فلو كان الطريق الأول يحتمل فيه الكذب، فإن نسبة هذا الاحتمال تضعف عند إضافة الطريق الثاني، وتضعف أكثر عند إضافة الطريق الثالث والرابع... إلى أن تتلاشى نسبة احتمال الكذب ونحصل على الوثوق والاطمئنان بهذا الحديث.

2/ العامل الكيفي: الموافقة الروحية.

مثال: لو قرأ شاعر أو أديب ديوان المتنبي، ثم قيل له بأن هناك بيتًا قد قاله المتنبي يقول:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص=فهي الشهادة لي بأني كاملُ

فكيف يستطيع أن يعرف أن هذا البيت هل هو للمتنبي أم ليس له؟ هل يذهب إلى الراوي ليرى هل هو ثقة أم لا؟! وإذا لم يستطع أن يجد راويًا هل يستحيل أن يثبت نسبة البيت إلى المتنبي؟!

من الواضح أن الجواب بالنفي، إذ توجد طرق وآفاق أخرى لإثبات هذا البيت للمتنبي، فإن المتنبي شاعرٌ، وكل شاعر له لغة معينة وأسلوب معين، فللبحتري لغة، وللفرزدق لغة أخرى، وللرضي لغة ثالثة، وللمتنبي لغة رابعة، فإذا كان الإنسان أديبًا وقرأ لغة بيت من الشعر استطاع معرفة صاحبه من خلال لغته وأسلوبه، فإذا وجد اللغة منسجمةً مع لغة المتنبي مثلاً استطاع إثبات البيت له.

وهذه الطريقة طريقة عقلائية، فإن المفكرين الفرنسيين والأوروبيين مثلاً إذا أرادوا محكامة قصة معينة في تاريخ أوروبا وأمريكا فإنهم لا يقرؤون الرواة لإثبات صحة القصة أو خطئها، بل يقرؤون اللغة، فإذا كانت لغة القصة منسجمةً مع ظروفها قبلوها وإلا فلا.

مثال أوضح: مصدّق بن شبيب الواسطي - أحد علماء إخواننا أهل السنة - كان يدرس كتاب نهج البلاغة ويقرؤه على أستاذه أبي محمد ابن الخشّاب، إلى أن وصل إلى الخطبة الشقشقية التي يتظلم فيها الإمام علي من الأوضاع ويدينها، فيقول: ”لقد تقمصها ابن أبي فلان وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلي الطير، فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبًا“.

استغرب مصدّق من هذه الخطبة فسأل أستاذه ابن الخشّاب: أما ترى أنها منحولة؟ فقال له أستاذه: إني لأعلم أنها منه ومن كلامه كما أعلم أنك مصدّق، فقال له: يقولون أن الرضي هو الذي اختلقها ونسبها إلى الإمام علي، فقال: لقد قرأنا شعر الرضي ورسائله وفنه في الكلام وما رأينا كلامه مع هذا الكلام في خل ولا خمر.

ومقصوده أنه لا توجد أدنى نسبة بين كلام الرضي وبين هذا الكلام، وهذه هي قراءة اللغة والأسلوب والنفس التي تحدثنا عنها، ولم يرجع ابن الخشّاب إلى رواة ليثبت أو ينفي النسبة أبدًا، ولذلك ابن أبي حديد المعتزلي - وهو عالم محلق ذو آفاق واسعة - يقول: إذا قرأتَ نهج البلاغة وجدتَه ماءً واحدًا، ونفسًا واحدًا، وأسلوبًا واحدًا، لا يختلف، كالجسم البسيط الذي لا تختلف أبساطه، بل هو كالقرآن أوله كوسطه، ووسطة كآخره.

هذا من علماء إخواننا أهل السنة، ولكنه من خلال قراءة اللغة والأسلوب ميّز أن هذا من كلام الإمام علي أم ليس من كلامه.

ولذلك عندما نقارن بين خطب الرسول وخطب الإمام علي نجد فرقًا بين اللغتين والأسلوبين، فإن أسلوب النبي أسلوب الموجّه، إذ أنه دائمًا ما يخاطب الجماهير بالتوجيه والإرشاد، فأسلوبه أسلوب توجيهي إرشادي، بينما أسلوب الإمام علي أسلوب منظر مفكّر.

كذلك عندما نقرأ أدعية الإمام علي - كدعاء كميل ودعاء الصباح - وأدعية الإمام زين العابدين، فإن أدعية الإمام علي مطبوعة بلغة فلسفية علمية، بينما أدعية الإمام زين العابدين لغتها لغة الرقة والعاطفة والنفس الشفافة.

إذن فاللغات والأساليب تختلف، ونستطيع تمييز كلام أمير المؤمنين أو زين العابدين من خلال دراسة اللغة، وكذلك الحال في القرآن الكريم، فلو قيل: قال الله في القرآن: «من صام ولا صلى غدا في النار يتقلى»! أين القرآن من هذه؟! أين لغة القرآن من هذه اللغة؟! أين أسلوب القرآن من هذا الأسلوب؟!

والخلاصة أن النص نستطيع تمييز صحته من فساده من خلال قراءة لغته وأسلوبه.

ولذلك إذا جئنا إلى حديث الكساء نجده حديثًا متعدد الطرق، وهذا العامل الكمي يوجب الوثوق بصدروه، وأما زيارة الجامعة الواردة عن الإمام الهادي فليس لها طرق متعددة، لكن أسلوبها ولغتها ورصانتها ومضامينها متطابقة مع أسلوب أهل البيت ولغتهم ومضامينهم، مما يؤكد صدورها عن أحد أهل البيت، وهو الإمام الهادي «صلوات الله وسلامه عليه».

والنتيجة: أن هناك فرقًا بين المنهج عند الإخوة السلفيين وبين المنهج عند الإمامية، ومنهج الإمامية في تصحيح الحديث منهج واحد، وهو قراءة الحديث من خلال القرائن التي تكتنفه.

3/ المظهر الثالث: المأزق بين الفقيه الإمامي والمثقف الإمامي.

نحن نقول: ليس هناك مأزق أبدًا، وبيان ذلك يتوقف على ذكر عدة أمور:

أولاً: ليست المسألة أننا لا نستطيع أن نكتب كتابًا صحيحًا، ولكن المسألة هي أن فكرة كتابة كتاب صحيح السند فكرة عقيمة وفاشلة ومرفوضة لا نريدها ولا نؤيدها ولا ندعو إليها، ولذلك لا يوجد شخصٌ من فقهائنا المعروفين كتب كتابًا صحيحًا، وإن كان قادرًا على انتقاء الأحاديث وكتابة مثل هذا الكتاب.

والسر في اعتبار هذه الفكرة فكرةً عقيمةً يكمن في أنها تعطيلٌ لحركة الاجتهاد، إذ أن العقل لا يتوقف، وكلما تقدمت الحضارة توسعت العلوم، وإذا توسعت العلوم اتسعت الآفاق، ولذلك قد يتوصل الفقيه إلى طرق لم يتوصل إليها فقيه قبله.

لذلك عندما نقارن بين فكر الشيخ المفيد - وهو علم من أعلام الطائفة الإمامية - وفكر السيد الخوئي «قدس سره» نجد الفرق شاسعًا، وكأننا نقارن بين شخص يدرس في الصف السادس من المرحلة الابتدائية وبين أستاذ في الجامعة، وذلك يعود إلى اختلاف الزمن وتقدم العلوم واتساع الآفاق والمدارك، حيث جاء السيد الخوئي بعد تراكم معلومات وخبرات وتجارب، وهذا التراكم جعله مفكرًا أقوى.

إذن كلما تقدم الزمن واتسعت العلوم وتوسّعت الآفاق توصل الفقيه إلى طرق لم يُسْبَق بها، ولذلك لا يصح أن يقال: عقمت الأمهات عن إنجاب شخص كالسيد الخوئي! لأن العلم لا يقف وتوسّع المعلومات والآفاق لا يقف عند حد معين، فقد يأتي بعد ثلاثين أو خمسين سنة من يبتكر طرقًا ومن ينفتح على آفاق لم يتوصل إليها فقيهٌ قبله، وهذا مقتضى طبيعة تقدّم العلوم وتوسّعها.

ومن هذا المنطلق نقول: لو كتبنا كتابًا صحيحًا، وقلنا بأن الشيعة كتبت كتابًا صحيحًا سنة 1426 هـ ، وأتى بعد خمسين أو مئة سنة فقيه وابتكر طرقًا جديدة لتصحيح الروايات، فرأى أن ما اعتبرناه صحيحًا ضعيف عنده، وما اعتبرناه ضعيفًا صحيح عنده، لقال بأن الخطوة التي أتعبنا أنفسنا عليه سنة 1426 هـ  لا قيمة لها؛ لأنه توصل إلى طرق جديدة لم نصل إليها نحن.

ولذلك الكتب الروائية - كالكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه - بين أيدي الفقهاء إلى أن يقوم القائم، فكل فقيه يبدع ويفكر ويبتكر ويقبل منها ما يقبل ويرفض منها ما يرفض، وأما فكرة كتابة كتاب صحيح فهي تعطيل لحركة الاجتهاد.

ثانيًا: ليس المهم هو الصحيح، إذ لا يؤخذ بكل رواية صحيحة.

مثال: روى الشيخ الصدوق في «من لا يحضره الفقيه» رواية معتبرة وصحيحة، ويرويها أيضًا إخواننا أهل السنة، وهي أن الرسول الأعظم صلى صلاة الظهر ركعتين، ثم استدبر القبلة، فقيل له: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: ما نسيت ولا قصرت الصلاة، فأخبروه بأنه صلى ركعتين، فقام وأكمل صلاته!

هذه رواية معتبرة صحيحة السند، لكننا لا نأخذ بها؛ لأن عندنا آيتين في القرآن: إحداهما تقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، والأخرى تقول: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، فهل النبي داخل في فويل أم هو داخل في قد أفلح؟! فهذه الرواية وإن كانت صحيحة السند إلا أننا نطرحها ولا نعمل بها؛ لأنها تخالف ما هو المعلوم عن عصمة النبي وكماله.

إذن فليس المهم كتابة كتاب صحيح السند؛ لأن المهم ليس هو صحة السند، وإنما المهم صحة مضمون الرواية، وقد تكون الرواية صحيحة السند لكن لها معارِضًا، فلا بد من البحث عن المعارِض وإجراء قواعد المعارضة لترجيح إحدى الروايتين.

ثالثًا: المثقف الشيعي ليس في أزمة؛ لأنه إذا أراد أن يعرف صحة الرواية من عدمها فما عليه سوى أن يسأل الفقيه لتنتهي المشكلة، وإن كان لا يريد أن يسأل الفقيه فليدرس علم الرجال، فإنه لا يستغرق وقتًا طويلاً، ولو قرأ مثقف ذكيٌ قواعدَه على رجل من أهل العلم لاستوعبه في شهرين أو ثلاثة فقط ولو على ضوء مبنى دون بقية المباني، ويستطيع بعد ذلك أن يكتب بحثًا ويثبت أن الرواية التي اعتمد عليها صحيحة على ضوء مبنى السيد الخوئي مثلاً، فليس هناك مأزق ولا مشكلة خطيرة أبدًا، بل الأمر سهل ولا يقبل التصعيد لهذه الدرجة.

من كلامنا كله فهمنا أن الفكر الإمامي فكر عقلاني يستند أولاً وآخرًا إلى منطق العقل وحركته، وهو مصداق لقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ «17» الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ.

حتى مرويات يوم العاشر التي يسمعها الإنسان من الخطباء يستطيع التأمل فيها والمقايسة بينها، فمثلاً: قد يسمع الإنسان من خطيب أن السيدة زينب كانت جالسة عند الجسد الشريف عند ذبح الحسين، بينما قد يسمع من خطيب آخر أنها كانت في الخيمة، والإمام زين العابدين هو الذي أخبرها بمقتل أبيه الحسين، فكيف يجمع بين الروايتين؟!

الجواب عن ذلك: هناك زينبان: زينب العقيلة الكبرى، وزينب الوسطى المكناة بأم كثلوم، وزينب التي حضرت ذبح الحسين هي الوسطى المكناة بأم كثلوم، وأما زينب العقيلة الكبرى فكانت في المخيم؛ لأنها المسؤول الأول عن العيال والأطفال، فكانت مع الإمام زين العابدين .

ومن هنا بعض العلماء يجمع بين الروايات فيقول: زينب المدفونة في الشام هي زينب العقيلة الكبرى، وزينب المدفونة في مصر هي زينب الوسطى المكناة بأم كثلوم.

فعلى الإنسان أن يقرأ الروايات ويقارن ويسأل حتى تتميز وتتضح له المعلومات، لا سيما معلومات يوم العاشر.