تأثير الفلسفة الفارسية على التشيع

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

صدق الله العلي العظيم

بما أن الآية المباركة تتحدث عن الموقع القدسي لأهل البيت - وهو موقع العصمة والطهارة - لذلك وقع البحث عن علاقة المسلمين بأهل البيت ، وفي هذه العلاقة تحدثت مجموعة من الأقلام، كالدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه العقل العربي وصراع الأضداد، والدكتور أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام، والشيخ محمد أبو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية.

هؤلاء ذكروا أطروحة محصّلها أن التشيع مر بمرحلتين: مرحلة التشيع العربي، ومرحلة التشيع الفارسي، حيث وُلِدَ التشيع العربي في أحضان الجزيرة العربية على يد مجموعة من العرب، كأبي ذر الغفاري، وحجر بن عدي الكندي، وأمثالهم، وكان هذا التشيع العربي يحمل خصائص متجانسة مع المذاهب الإسلامية الأخرى، ولم يكن بعيدًا عن الأجواء الإسلامية المحيطة به.

وبعد ذلك توسعت رقعة التشيع ودخل المجتمع الفارسي في إطار المذهب الشيعي، وأصبحت أقطاب هذا المذهب من علماء الفرس، فأدخلوا في المذهب الشيعي مفاهيم ليس لها أصلٌ من الشريعة، وإنما هي مفاهيم استقيَت من الفلسفة الفارسية الإشراقية، التي كان يمتلكها المجتمع الفارسي أيام كسرى وقبل الإسلام، فنصير الدين الطوسي وابن سينا وشهاب الدين السهروردي وملا صدرا الشيرازي صبغوا المذهب الشيعي بالصبغة الفارسية، أي: بمفاهيم فارسية مستقاة من الفكر الفارسي الإشراقي الذي كان مهيمنًا على الحضارة الفارسية قبل الإسلام، وبذلك ابتعد التشيع عن أجوائه العربية، وعن حظيرته الإسلامية، لأنه اكتسب مفاهيم جديدة ودخيلة.

من هنا بدأت بعض الأقلام تركز على الفرق بين التشيع العربي والتشيع الفارسي، ولكل منهما معالم يختلف بها عن الآخر، حيث طرحت مجموعة من الأقلام وجوهًا خمسة للفرق بين هذين التشيعين:

الوجه الأول: في النظر إلى الوجود.

كيف ننظر إلى الوجود؟ هل نظرنا للوجود على نحو الكثرة أم الوحدة؟ أنا عندما ألقي نظرة على ما حوله أرى حقائق عديدة، كالإنسان والحيوان والنبات والجماد، فهل الوجود هو هذا؟ هل الكون يحمل حقائق عديدة أم أن ما يراه الإنسان يختلف عن الواقع؟

العلم والتشيع العربي يرى أن الوجود - كما نراه - حقائق متعددة، فالإنسان يغاير الحيوان، والحيوان يغاير النبات، والنبات يغاير الجماد، فالوجود يراه التشيع العربي على نحو الكثرة، وأما الفلسفة الفارسية الإشراقية فقد طرحت نظرًا آخر، حيث قالت بأن هذا الوجود الذي نراه حقائق هو في الواقع حقيقة واحدة، فليس في الوجود أشياء متعددة، بل لا توجد سوى حقيقة واحدة، وهي الله تبارك وتعالى، وأما الإنسان والحيوان والنبات والجماد فهي مجرد أوهام، ﴿إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، فهذه مجرد رموز تعبّر عن ذلك الموجود الواحد والحقيقة المطلقة، ألا وهي الله تبارك وتعالى، أي أن الفلسفة الفارسية تنظر إلى الوجود على نحو الوحدة لا الكثرة.

الوجه الثاني: في مصادر المعرفة.

العلم الإنساني والتشيع العربي يرى أن مصادر المعرفة مصدران: العقل والوحي، فهناك معلومات نكتسبها من العقل، وهناك معلومات نكتسبها من الوحي، فمثلاً: حسن الأشياء وقبحها - كحسن العدل والأمانة وقبح الظلم والخيانة - نكتسبه من خلال العقل، ولكن هناك معلومات لا يصل إليها العقل، بل مصدرها هو الوحي، كالمعلومات المرتبطة بعالم القبر والبرزخ والقيامة والملائكة.

ولكن عندما نقرأ كلمات شهاب الدين الشهروردي أو بعض كلمات ملا صدرا الشيرازي نجد أن المصدر للمعرفة واحد، وهو الوحي، وإنما الوحي له درجات، فأعلى درجة من درجات الوحي هي الشهود، بمعنى أن ينكشف لدى الإنسان عالم الملكوت، فيشهد الملك فيحدّثه، وأدنى مرتبة من مراتب الوحي هي الإلهام، كما حدث لأم موسى، فإنها امرأة عادية قد ألهمت، كما قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، فما حصل لأم موسى وحي، ولكنه أدنى درجة من الوحي، بينما ما يحصل للنبي عبارة عن أعلى درجات الوحي، وهكذا هي النفس البشرية إذا تخلت من الرذائل وتحلت بالفضائل، حيث يتجلى فيها نور الوحي، ومن خلال نور الوحي تُلْهَم، وتصل إلى المعارف الصائبة، فمصدر المعرفة الصائبة هو الوحي، وهذه الفكرة دخلت على التشيع من خلال الفلسفة الفارسية.

الوجه الثالث: مسألة الإمامة أو الزعامة.

التشيع العربي لا يرى الإمامة بالوراثة، بل يراها بالكفاءة، أي أن الشيعة الأوائل قالوا بإمامة علي لأنه أكفأ من غيره، وبعد موته قالوا بإمامة الحسن لأنه أكفأ من أخيه الحسين، وبعد موت الحسن لم يذهبوا لأولاد الحسن، بل ذهبوا للحسين، وبعد وفاة الإمام الباقر اختلف الشيعة العرب، فمنهم من قال بأن الكفاءة عند زيد بن علي، وصارت الفرقة الزيدية، ومنهم من قال بأن الكفاءة عند جعفر، فصارت فرقة الجعفرية، وبعد وفاة الإمام الصادق اختلفوا أيضًا، حيث رأى قسم الكفاءة في إسماعيل، فصارت فرقة الإسماعيلية، وقسم آخر رأى الكفاءة في موسى بن جعفر، وهم الإمامية، فالشيعة العرب ما كانوا يرون الإمامة بالوراثة، بل كانوا يرونها بالكفاءة، حيث كانوا ينتخبون الأكفأ.

بينما الفلسفة الفارسية تختلف عن ذلك، حيث كان المجتمع الفارسي منذ أيام الملوك الساسانيين الذين حكموا بلاد فارس يرى أن الله تبارك وتعالى هو الموجود الأول والأخير، وأن ما في الكون مجرد رموز وإشارات للباري تبارك وتعالى، فإذا كان الرمز أكثر تجليًا لله عز وجل فهو أولى من غيره، فكلما صار الإنسان أكثر مظهرًا وتجليًا لله عز وجل فهو الأكفأ من غيره، ولذلك المجتمع الفارسي كان يرى أن الملوك الساسانيين عائلة تجلى الله فيهم، فهم أكثر الناس مظهرية وتجليًا لله عز وجل، ولأجل ذلك ثبت فيهم الملك، وثبتت فيهم الزعامة بالوراثة.

عندما دخل الفرس إلى الإسلام أدخلوا هذا المفهوم نفسه، حيث قالوا بأن أهل البيت - من الإمام علي إلى الإمام الثاني عشر «عجل الله فرجه الشريف» - مجموعة تجلى الله فيهم، وبما أنهم تجليات لله وهم أقوى رموز تشير إلى الله لذلك ثبتت فيهم الإمامة بالوراثة، كما كانت في الملوك الساسانيين، فهذا مفهومٌ دخيلٌ على التشيع، وقد جاءت به الحضارة الفارسية والفلسفة الإشراقية.

الوجه الرابع: مسألة المعارضة أو الولاية.

التشيع العربي هو حركة معارضة منذ أول يوم، حيث كان الإمام علي حركة معارضة، وكذلك كان أبناؤه، حيث حوّل الإمام الحسين المعارضة إلى معارضة عسكرية دموية، وامتدت المعارضة من الحسين إلى زيد بن علي بن الحسين إلى أبناء الحسن إلى الحسين بن علي صاحب معركة فخ، والتشيع العربي ما عُرِف إلا بالمعارضة والثورة والمواجهة، فكان تاريخه تاريخ معارضة ودماء.

بينما التشيع الفارسي قال بأن هناك فرقًا بين الفقهاء وبين غيرهم، فإن الفقهاء ورثوا التجلي من الله، حيث كان الأئمة هم تجليات الله، وفي عصر الغيبة أصبح الوريث للأئمة في تجلي الله هم الفقهاء، فالفقهاء ورثوا الأئمة في تجليات الله في شخصياتهم، ولذلك الفقيه مقدّس، فلا يعارَض، والراد عليه راد على الله ورسوله، وهو على حد الشرك بالله، فهذه القدسية للفقيه جاءت من الفلسفة الفارسية، وليست من أصل شرعي، ولذلك جاؤوا بأحاديث تؤيد فكرتهم، من قبيل: العلماء ورثة الأنبياء، ومن رد عليهم فقد رد على الله... إلخ.

ومن هنا نشأت ولاية الفقيه، فإنها مستقاة من الحضارة الفارسية ومن الفلسفة الإشراقية، حيث أن الفقيه لأنه ورث التجلي والقداسة حق على الأمة أن تستمع له وأن تطيعه وألا تعارض، فقتلوا روح المعارضة والرفض الموجودة في التشيع العربي بهذه الطريقة من الديكتاتوية المصنوعة بثوب جميل.

الوجه الخامس: مسألة الشعيرة.

التشيع العربي ما كان يعرف شيئًا اسمه شعيرة وشعائر، إذ أن طبيعة العرب هي الحزن المؤقت، ولكن دخلت عليهم ما يسمّى بالشعائر، كاللطم على الصدور، والتطبير بالسيوف، والضرب بالسلاسل، وإقامة المآتم سنويًا، وهذه كلها مفاهيم فارسية دخلت على المجتمع العربي، حيث دخل الشاه عباس الصفوي العراق وحكمها، وفرض هذه الطقوس - طقوس التطبير والضرب بالسلاسل - حتى صار الشيعة يجلدون أنفسهم وصدورهم بالسلاسل، وكل ذلك لأجل الطقوس التي نشرتها الثقافة الفارسية.

وكان للثقافة الفارسية هدفٌ من وراء ذلك، حيث كانوا يقولون بأن الأئمة تجليات لله، ولذلك كما كانوا يصنعون للملوك الساسانيين صاروا يصنعون للأئمة، حيث كانوا يحبون على الأقدام عندما يصلون إلى الملك الساساني، ويقبلون التراب الذي يطؤه، وقد انتقل هذا المفهوم للتشيع، فقال علماء الفرس للشيعة العرب بأن الأئمة تجليات لله، فينبغي أن تكون علاقتنا بنا علاقة فناء واستغراق، بحيث ننسى فيها أنفسنا وذواتنا، ونحبو على الأرجل، ونطبر، ونلطم، حتى نحقق الفناء والاستغراق في شخصيات أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

والمحصّلة: أن هذه الوجوه كلها توصل إلى نقطة معينة، وهي أن التشيع العربي فقد صفاءه ونقاءه وحسنه عندما اختلط بالتشيع الفارسي، وضاعت المفاهيم بين ما هو أصيل وما هو دخيل.

هذه الأطروحة يروّج لها هذه الأيام، خصوصًا في أوضاع العراق، حيث يوجد شيعة عرب وشيعة فرس، فصاروا يحاولون تأصيل هذه المفاهيم حتى يقسموا الوجود الشيعي إلى قسمين، ولكننا إذا تأملنا نجد أن هذه الأطروحة بما طرحت من الوجوه المختلفة اشتملت على الخلط، وعلى نسبة أشياء لم نجدها في كتاب معتبر، ولأجل ذلك نذكر هذه الوجوه وجهًا وجهًا لنناقشها.

 الوجه الأول: هل ننظر للوجود على نحو الكثرة أم ننظر إليه على نحو الوحدة؟

عندنا نظريتان: نظرية وحدة الوجود من ناحية، وهي نظرية الفلاسفة، ونظرية وحدة الموجود من ناحية أخرى، وهي نظرية طرحها بعض علماء العرفان، وتعرّض لهذا الكلام كله السيد الخوئي «قدس سره» في كتابه التنقيح في شرح العروة الوثقى، عندما تعرض لنجاسة الكفار، وذكر فرق الكفر، وبحث في أن نظرية وحدة الوجود توصل إلى الكفر أم لا، وحتى يتضح الفرق بين النظريتين نذكر مثالاً.

مثال: إذا قارنا بين نور الشمس ونور الشمعة نجد أنهما نوران مختلفان وليسا نورًا واحدًا، ولكل نور خصائص طبيعية معينة، ولكنهما يجتمعان في قاسم مشترك نعبّر عنه بحقيقة النور، فهما نوران وإن اجتمعا في حقيقة النور، وهكذا الحال بالنسبة لوجود الإنسان ووجود الله عز وجل، فإن للإنسان وجودًا، والله له وجود، فهناك وجودان، ولكن وجود الإنسان وجود محدود العلم والحياة والطاقة، بينما وجود الله وجود لامحدود، ولكن الوجودين يشتركان في حقيقة واحدة نعبّر عنها بحقيقة الوجود، فالوجودات متعددة ولكنها تشترك في حقيقة الوجود، وهذه هي نظرية وحدة الوجود.

وأما نظرية وحدة الموجود فتقول بأن الوجود واحد، وأما ما نراه - من إنسان وشجر ونبات وحجر - فمجرد أوهام، فليس هناك وجودات متكثرة، بل الوجود واحد، ولذلك يستشهد بعضهم بدعاء يا مجير الذي يُقْرَأ في أيام البيض من شهر رمضان المبارك، حيث ورد فيه: ”تعاليتَ يا موجود“، أي أنه الموجود الحقيقي، وأما ما سواه فهو مجرد رموز وإشارات ومجاز، وليس وجودًا حقيقيًا.

نظرية وحدة الوجود هي التي يقول بها الفكر الشيعي من فرس وعرب، وأما نظرية وحدة الموجود فيقول بها بعض علماء العرفان لا جميعهم، فكيف تقول بأن التشيع العربي يرى الكثرة بينما التشيع الفارسي يرى الوحدة؟! والحال أن بعض علمائنا الفرس يرى نظرية وحدة الوجود ولا يرى نظرية وحدة الموجود، فليس هناك تداخلٌ بين الفكر الفارسي والفكر العربي كما صُوِّر في الكلام.

الوجه الثاني: هل للمعرفة مصدران، وهما: العقل والوحي، أم مصدر واحد، وهو الوحي؟

نحن لم نجد في كتاب شيعي معتبر يقول بأن مصدر المعرفة واحد، وهو الوحي، سوى كلمات موجودة عند شهاب الدين السهروردي، وهذا لا يعبّر عن فكر المذهب الشيعي، حتى يقال بأن الفلسفة الفارسية غيّرت مفاهيم التشيع العربي إلى مفاهيم التشيع الفارسي، وإذا أراد الإنسان أن يعرف مصادر المعرفة في الفكر الشيعي فليرجع إلى كتب أصول الفقه من ناحية، ككتب السيد الخوئي والسيد الصدر، وإلى كتب علم الكلام من ناحية أخرى، ككتب العلامة الحلي ونصير الدين الطوسي.

إذا راجعنا هذه الكتب نجد أن الشيعة - بمن فيهم من فرس وعرب بلا استثناء - يرون أن المرجعية الوحيدة والأولى في استكشاف الحقائق هي العقل، فحتى الوحي إنما نثبت بالوحي، ولولا العقل لما ثبت أن هناك وحيًا وأنبياء وأئمة، فالمرجعية الأولى للعقل وليست لغيره.

ولذلك يذكر علماؤنا دليلين عقلين على وجود الله ووحدانيته ونبوة النبي وإمامة الإمام: الدليل الأول هو دليل الحسن والقبح العقليين، والدليل الثاني هو دليل حساب الاحتمالات، وحتى الوحي لا يثبت إلا عن طريق هذين الدليلين، فالمرجعية الأولى للفكر الإمامي هي العقل، وإن كانت بعض المعلومات قد وصلتنا عن طريق النقل والوحي، ولكن المرجع الأول هو العقل.

الوجه الثالث: هل الإمامة بالانتخاب أم بالوراثة؟

أولاً: هذه النظرة - التفريق بين العرب والفرس - هل جاءت من الإسلام أم من خارجه؟!

أول من ركّز هذه النظرة هم بنو أمية، وذلك عندما وصلوا إلى السلطة، حيث أبعدوا الموالي - الفرس العجم - وأعطوا المناصب للعرب، وبدأت الطبقية وحس الفرق بين العربي والفارسي، فبنو أمية هم أول من أصّل هذا الأصل، وبقيت عليه بعض الأقلام الإسلامية إلى يومنا هذا، حتى صار بعض الكتّاب ينسبون كل شيء لا يعجبهم إلى الفرس!

بينما لا نجد لذلك أصلاً عندما نرجع إلى الأصول الإسلامية، حيث نقرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، والمقصود من التعارف حوار الحضارات لا صدام الحضارات، حيث توجد حضارة هندية وحضارة عربية وحضارة فارسية وحضارة إنجليزية، وغير ذلك، والمطلوب هو تلاقح الحضارات، بحيث تستفيد كل حضارة من الحضارة الأخرى.

وهذا ما ورد عن النبي ، حيث قال: ”كلكم لآدم، وآدم من تراب“، وكان من أصحابه أبو ذر الغفاري العربي، ومن أصحابه أيضًا سلمان الفارسي الذي قال فيه: ”سلمان منا أهل البيت“، وقد مشى الخليفة الثاني مع هذا المفهوم الإسلامي، حيث نصب سلمان الفارسي وليًا على المدائن، فلم تكن هذه الفروقات بين العرب والفرس إلا عندما جاء بنو أمية.

ومن الغريب أن نجد عند بعض المفكّرين العرب هذه النزعة - نزعة العروبة والفرس - مع أنه مفكر أو أديب مثقف، فمثلاً: عندما نقرأ بعض شعر الدكتور غازي القصيبي - وهو أديب مثقف - نجد هذه النزعة تظهر على شعره من حيث لا يريد، حيث يقول:

عربي         قرآننا        iiعربي

نحن   حزب   الإله  منا  رسول

وفتى   ذي   الفقار   منا   iiعليٌ

هاكم المصحف الطهور اقرؤوه

قال  ربي  شورى وما قال iiربي







 
ليس    فيه    رطانة    iiشوهاءُ

الله   منا   الحسين   iiوالزهراءُ

صدحت     بالعروبة    الأسماءُ

أين     فيه     تقدّس    iiالفقهاءُ

كهنوت    يسومكم    ما   يشاءُ

أي أن تقديس الفقهاء لم يأتِ من القرآن، بل أتى من منابع فارسية، ولعل هذه المفاهيم وردت في شعره من دون اختيار ولا قصد.

ثانيًا: إذا كان كون مجموعة من علماء الشيعة من الفرس يعني أن المذهب اختلط بمفاهيم فارسية قديمة، فإن هذا الإشكال لا يختص بالشيعة، بل ينسحب على غيرهم من المذاهب، فإن الإمام أبا حنيفة مثلاً ليس عربيًا، بل هو النعمان بن محمد بن ثابت بن زوطي، وكان مولى من الموالي لبني تيم، أي أنه ليس عربيًا، وقد ذكر ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب أن الإمام الوحيد هو أحمد بن حنبل، وأما بقية الأئمة فكلهم موالي، أي أن أصولهم ليست عربية.

كذلك الحال في كتب الصحاح أيضًا، حيث أن أصح كتاب عند بعض المذاهب الإسلامية بعد القرآن هو كتاب صحيح البخاري، مع أن البخاري أتى من بخارة، أي أنه ليس عربيًا، وكذلك كان تلميذه الترمذي من بخارة، وكان النسائي من نسا، وهي قرية من قرى خراسان، أي أنه خراساني، وليس عربيًا، فالمسألة لا تختص بالشيعة، بل جميع المذاهب الإسلامية عندهم بعض العلماء الفارسيين، بل إن سيبويه - وهو إمام النحو - فارسي وليس عربيًا، فإذا كانت هذه المشكلة تشكّل إشكالاً فهي تشكّل إشكالاً على جميع المذاهب، لا على خصوص المذهب الشيعي.

ثالثًا: مسألة انتقال الإمامة في عائلة واحدة ليست نظرية فارسية، بل إنها نظرية قرآنية طرحها القرآن الكريم نفسه، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فكان الاصطفاء الإلهي في عائلة واحدة، ولذلك كان إبراهيم نبيًا، وابنه نبيًا، وحفيده نبيًا، وابن حفيده نبيًا، حتى وصلت النبوة إلى النبي محمد .

ولذلك ورد عنه: ”لم يزل الله ينقلني من أصلاب الطاهرين وأرحام المطهرات إلى أن أخرجني إلى عالمكم هذا، لم يدنسي دنس الجاهلية“، أي أن آبائي كلهم طاهرون بين نبي ووصي وتقي، وعلى ذلك فهذه النظرية قرآنية وليست فارسية، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، أي أن هذا البيت الطهارة فيه متوارَثة من سابق إلى لاحق.

وقد أخبر الرسول الأعظم في حديث الثقلين بأن المسألة تتناقل في ذريته، حيث قال: ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“، وهذا الحديث لم يورده الفرس، بل أورده العرب، حيث ذكره الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، وكذلك ابن حجر في الصواعق المحرقة، وذكره الإمام مالك في كتاب الموطأ أيضًا، وأشار مسلم في صحيحه أيضًا إليه، وهؤلاء كلهم عرب، مما يعني أن مسألة تناقل الإمامة من سابق إلى لاحق ليست نظرية فارسية.

رابعًا: نحن لا نرى الإمامة بالوراثة، وإنما نرى الإمامة بالنص الدال على الكفاءة، ولذلك لما توفي النبي ورثته فاطمة الزهراء، ولكن الإمامة كانت لعلي ، وبعد موت الإمام الحسن ورثه أبناؤه، ولكن الإمامة صارت لأخيه الحسين، وبعد موت الإمام الصادق لم تنتقل الإمامة لولده الأكبر عبد الله، وإنما انتقلت لولده الأوسط موسى بن جعفر، مما يعني أن المسألة ليست بالوراثة، بل هي مسألة كفاءة، فمن كان معصومًا عالمًا فهو الإمام، ولكننا نحدد المعصوم من غيره عن طريق النص، فقد كان زيد بن علي إنسانًا تقيًا ثائرًا، كما كان ابن أخيه جعفر الصادق تقيًا طاهرًا، وإنما استطعنا التمييز بين المعصوم الذي يحمل العلم عن غيره من خلال النص الوارد عن المعصوم السابق.

الوجه الرابع: مسألة ولاية الفقيه.

تصوير ولاية الفقيه على أنها مبدأ أدخله الفرس إلى الفكر الشيعي، واستغفلوا الشيعة بهذا المفهوم، نجيب عنه ب:

أولاً: مسألة ولاية الفقيه لا تحتاج إلى هذا التصعيد كله، بحيث تجعلها بعض الأقلام هي الفاصل الجوهري بين الفرس والعرب، فمن كان مؤمنًا بالفقيه فهو فارسي، والمتحرر من الفقيه عربي! والحال أن مسألة ولاية الفقيه مسألة خلافية بين الفقهاء، حيث قال بها من هو عربي، وأنكرها من هو فارسي، فلا ربط لها بين الفرس والعرب، وإنما هي مسألة خلافية بين الفقهاء، تتبع فهمهم واستظهارهم من النص.

مثال: ورد في مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق : ”انظروا إلى رجل روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكمًا، فإني قد جعلته عليه حاكمًا“، وقد اختلف الفقهاء في معنى الحاكم في الرواية، حيث ذهب السيد الإمام «قدس سره» إلى أن معنى الحاكم هو الولي، فتدل الرواية على ولاية الفقيه، بينما السيد الخوئي «قدس سره» قال بأن الحاكم في الرواية هو القاضي، فتدل الرواية على منصب القضاء للفقيه ليس إلا، فهذا مجرد اختلاف في فهم لفظة واردة في النص.

مثال آخر: ورد عن الإمام الحجة «عجل الله فرجه الشريف»: ”فأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله“، وقد اختلف الفقهاء في معنى الحجية في هذه الرواية، فقال بعضهم بأن هذه الحجية كحجية الإمام المعصوم، فتكون هذه الرواية دالة على أن للفقيه الولاية العامة، بينما بعض الفقهاء - كالسيد الخوئي - قالوا بأن المراد من الحجية الحجية في مقام الفتوى، أي أن فتواه حجة، وإلا فليست له ولاية عامة.

والخلاصة: أن مسألة ولاية الفقيه مسألة خلافية ناشئة عن اختلاف الفقهاء في فهم النصوص، وقد كان السيد الخوئي فارسيًا ولكنه لم يقل بالولاية، بينما السيد محمد باقر الصدر عربي، وقد قال بالولاية، فلا علاقة للمسألة بالعرب والفرس، بل هو أمر يتبع اختلاف ما يُفْهَم من النص، ولذلك بعض الفقهاء يقولون بالولاية العامة للفقيه، بينما بعض الفقهاء يقولون بولاية الأمة لا بولاية الفقيه.

ثانيًا: من يرى ولاية الفقيه لا يرى الفقيه ديكتاتورًا أو سلطانًا يسوق الأمة كما يريد وبحسب مزاجه، بل للفقيه ولاية، ولكن يوجد عنده برلمان ومجلس لتشخيص المصالح، وهؤلاء يكتبون له دراساتٍ وتجاربَ وبحوثًا، وبعد أن تُدْرس القضية بسلبياتها وإيجابياتها وأشارت عليه مجموعة العلماء والمختصين بأن الأمر يحتاج إلى أمر حاسم عن طريق الحكم الولايتي فإنه يصدره، فهو لا يصدر الحكم الولايتي من مزاجه الشخصي، أو من عوامل شخصية ذاتية، حتى يقال بأن منصب ولاية الفقيه منصب ديكتاتوري، بل لا يصدر الحكم إلا بعد دراسة ومشورة ونظر في الأمور، وهذا ما عليه سيرة علمائنا الأبرار.

الوجه الأخير: دعوى أن الشعيرة اكتسبها العرب من الفرس.

أولاً: الشعائر على قسمين: شعائر ثابتة، وشعائر متغيرة، والمقصود بالشعائر الثابتة الشعائر التي وردت فيها نصوص عن أهل البيت ، كشعيرة البكاء مثلاً، حيث ورد عن الإمام الصادق : ”من ذكِرنا عنده فسال من عينه مقدار جناح ذبابة غفر الله له ذنوبه“، وكذلك شعيرة إقامة المأتم على الحسين ، حيث ورد عن الإمام الباقر : يا فضيل، أتجلسون وتتحدثون؟ قلت: بلى سيدي، قال: ”إني أحب تلك المجالس، فأحيوا فيها أمرنا“، وكذلك شعيرة زيارة الحسين، فقد وردت فيها روايات متظافرة، كالرواية الصادقية: ”من زار الحسين كان كمن زار الله في عرشه“، وكذلك شعيرة اللطم على الصدر، حيث ورد في الرواية أن الحسين لما قتِل ندبن أهل البيت ولطمن بمرأى ومسمع من الإمام زين العابدين ، ولذلك صارت شعيرة اللطم شعيرة واردة، فهذه الشعائر ثابتة لا تقبل التغيير؛ لأنها وردت في النصوص.

وفي المقابل توجد شعائر متغيرة، وهي التي فرضها اختلاف المجتمعات والثقافات، ففي الهند مثلاً يمشي الشيعة على الجمر يوم عاشوراء، وهذه الشعيرة فرضتها الثقافة الاجتماعية التي يعيشونها، وأما نحن فليست عندنا هذه الشعيرة؛ لأنها هذه الثقافة ليست عندنا، فمثل هذه الشعائر متغيرة بتغير المجتمعات والثقافات.

ثانيًا: كيف نعتبر العمل شعيرة؟ وبعبارة أخرى: متى يصبح العمل شعيرة؟

الشعيرة ما يمتلك أحد صفتين:

الصفة الأولى: أن يكون مظهرًا للجزع على أهل البيت ، لما ورد عن الإمام الصادق في الرواية المعتبرة: ”كل البكاء والجزع مكروه ما خلا البكاء والجزع على الحسين “، فكل مظهر للجزع والحزن فهو شعيرة، ولذلك البكاء واللباس الأسود من الشعائر، وقد يقال: ما الفائدة من إظهار الجزع؟! أنتم طوال 1400 لا تتقدمون ولا تتطورون؟! إلى متى ستظهرون الجزع؟!

نقول: إظهار الجزع امتثالٌ لقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، فإن مودة أهل البيت واجبة، وإظهار المودة أمر راجحٌ، ومن إظهار المودة إظهار الجزع لأهل البيت وإظهار الفرح لهم، فقد ورد عنهم: ”شيعتنا منا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا“.

الصفة الثانية: التعبير عن الاحتجاج.

عندما نشاهد التلفاز نجد الإخوة الفلسطينيين - نصرهم الله على أعدائهم - عندما يحملون الجنازة يصفقون، مع أن التصفيق لم تأت به آية ولا رواية، وإنما هذا التصفيق مجرد تعبير عن الاحتجاج، فهم يعبرون عن احتجاجهم ضد الظلم والجرائم بالتصفيق، وهذا ليس معابًا، وهذا الأمر نفسه يفعله الشيعة الإمامية، فإنهم يلطمون صدورهم كتعبير عن الاحتجاج ضد الظلم والجرائم التي ارتكبت في حق أهل البيت .

وأما بعض المظاهر فهي محل كلام، كالتبرع بالدم أيام عاشوراء، فإن بعض المراجع في إيران دعا الشعب الإيراني إلى التبرع بالدم أيام عاشوراء، ولكن التبرع بالدم إذا أريد به استبدال الشعائر، بحيث يُتْرَك البكاء والمأتم وجميع الشعائر، فهذا لا يصح؛ لأن تلك الشعائر ثابتة وليست متغيرة، وأما إذا تبرع الإنسان بالدم صدقةً فهذا عمل لا بأس به، ولا يصح أن يقال بأنه عمل أتى من الفرس! فإن التبرع بالدم إحسانٌ إلى مسلم يحتاج إليه، والإحسان إلى المسلم قربة إلى الله صدقة، والصدقة مستحبة، وينبغي أن ينوي الإنسان أن يكون ثواب التبرع للإمام الحسين .

مسألة التطبير بالسيف والضرب بالسلاسل:

الهنود والباكستانيون والأفاغنة واللبنانيون والبحرينيون والعراقيون وقسم كبير من الشعوب تمارس هذا العمل، وإذا جئنا ووقفنا موقفًا موضوعيًا غير متحيزٍ لجهةٍ دون جهةٍ نجد أن من يمارس التطبير يضع نظريته، حيث يقول بأنه يمارس التطبير تعبيرًا لاستعداده عن التضحية، إذ لو برز الحسين حيًا لأراد دماءً وتضحياتٍ تقدّم بين يديه، ولا يريد أموالاً مثلاً، فالتطبير تعبيرٌ عن الاستعداد للتضحية في سبيل الحسين .

وكيفما كان، فإن الشعائر ليست مستوردة من الفرس، بل لها ميزانٌ، فإن انطبق عليها الميزان قبلناها، وإلا فلا.