فصل الخطاب - الحلقة 1

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ورد عن الإمام الحسين أنه قال للوليد بن عتبة والي المدينة آنذاك: «أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»

في هذا الخطاب الحسيني يتحدث الحسين عن أول بيان من بيانات ثورته المباركة وهو إعلان عدم أهلية طاغية زمانه للخلافة، وقد تحدث الحسين أولاً عن المؤهلات التي تتوفر في شخصيته، وتحدث ثانيًا عن الإخفاقات والعيوب التي تتجسد في شخصية الطرف الآخر، فمما تحدث به أولاً عدة مؤهلات:

المؤهل الأول «إنا أهل بيت النبوة»

وتعبير الحسين ب «بيت النبوة» للإشارة إلى أن المقصود بأهل البيت عندما يطلق في القرآن الكريم ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويطلق في الروايات الشريفة فليس المراد به أهل بيت النبي ، ولا المراد به أهل البيت بمعنى أهل البيت الحرام في مكة المكرمة، وإنما المراد بأهل البيت أهل بيت النبوة، فإن النبوة امتدت في هذا البيت منذ زمن إبراهيم الخليل إلى زمن النبي محمد ، فقد قال القرآن الكريم: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا وأي ملك أعظم من النبوة والرسالة والإمامة في هذه الذرية الطاهرة؟! وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فالمقصود ببيت النبوة السلالة والأسرة التي انحدرت من نبي إلى نبي ومن وصي إلى وصي حتى كان خاتمها النبي محمد ، فلأجل ذلك نحن ننحدر من عروق طاهرة، وننحدر من جذور طيبة، يغمرها طيب النبوة، ويغمرها عطر الرسالة، ويغرمها صفاء الوحي، «إنا أهل بين النبوة» أي أننا ننحدر من سلالة الأنبياء والمرسلين والأوصياء، ونحن أصحاب الملك الذي عناه الله تعالى بقوله: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ألا وهو السيادة الحقيقية المبتنية على الإمامة المجعولة من قبل الله تبارك وتعالى، ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا.

المؤهل الثاني «ومعدن الرسالة»

أي أن الرسالة المحمدية وهي رسالة التشريع التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، رسالة التشريع لدى الناس روافدها وظواهرها ولكن لدينا معدنها، نحن البيت الذي نزل فيه الوحي، فلذلك المعدن عندنا، عندنا معدن الرسالة، وهذا ما عبر عنه الإمام الصادق في قوله: «لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، إنما هي أصول علم نتوارثها كابرًا عن كابر عن رسول الله »، فمعدن الرسالة بمعنى أصول التشريع، بمعنى أسس التشريع عندنا، وليس عند الناس إلا الروايات والأخبار عن هذا التشريع، أما حقيقة هذا التشريع وأصوله وأسسه فهي عندنا وليست عند غيرنا، وهذا ما عبر عنه الإمام الصادق في قوله: «وإن عندنا الجامعة، قيل: وما الجامعة؟ قال: كتاب بإملاء رسول الله وخط علي فيه جميع ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة».

ففي هذه الفقرة وهي قوله: «معدن الرسالة» دلالتان:

1/ دلالة مطابقية: وهي أن أصول التشريع وأسسه عندنا لا عند غيرنا.

2/ ودلالة التزامية: وهي أننا أئمة مجعولون من قبل الله تبارك وتعالى، فإن من كان عنده أصول التشريع، فإن من كانت عنده أسس التشريع لا يمكن إلا أن يكون إمامًا مجعولاً من قبل الله تبارك وتعالى، لأن الإمام هو المسؤول عن حفظ التشريع، فلابد أن تتوفر لديه أصوله وأسسه وحقيقته.

«ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة»

الملائكة تختلف علينا، ملائكة هذا الكون كله تختلف علينا، «ومختلف الملائكة» أي المكان الذي تختلف عليه الملائكة لأجل الاستمطار، ولأجل الاستنزال، ولأجل الاستئذان، وهذا ما تؤيده الروايات الكثيرة الواردة في تفسير قوله تعالى في سورة القدر: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ «4» سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ حيث قالت الآية ﴿تَنَزَّلُ أي «تتنزل» أي: يستمر نزولها إلى يوم القيامة في كل ليلة القدر، وجاءت الرواية لتفسر من تنزل عليه الملائكة لتستمطر منه الرحمة وتستأذنه في التصرف، قال: «هو الإمام، هو الحجة، ولولا الحجة لساخت الأرض بأهلها».

«ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم»

في الرواية التي يرويها الفريقان من الشيعة والسنة عن الإمام أمير المؤمنين قال للرسول : «يا رسول الله منا المهدي أم من غيرنا؟ قال: منا، بنا فتح الله وبنا يختم»، الفتح والختم عام للوجود التكويني وللوجود التشريعي، نحن فاتحة هذا الوجود التكويني كله، بما أن الله تبارك وتعالى خلق هذا الوجود كله من الحقيقة المحمدية، من نور محمد وآل محمد كما ورد عنه : «خلق الله نوري ونور علي قبل أن يخلق الكون بألفي العام»، «خلقكم الله أنوارًا فجعلكم بعرشه محدقين».

إذًا «بنا فتح الله» أي من أنوارنا افتتح كتاب هذا الوجود وافتتحت صفحة هذا الوجود، «وبنا يختم الله» فإن الدولة التي يختم الله بها هذا الوجود المادي هي دولة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، «يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا».

وكما أن بنا الفتح والختم في عالم الوجود التكويني فبنا الفتح والختم في عالم الوجود التشريعي، ففاتحة التشريع محمد ، وخاتمة التشريع محمد المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، فمبدأ التشريع على يد النبي وخاتمة التشريع تبليغًا وتطبيقًا وترويجًا على يد المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

هذه مؤهلاتنا، العامل الوراثي - وهو الانحدار من سلالة الأنبياء - عندنا، وعامل العلم بالتشريع وأسراره وموارد تطبيقاته «ومعدن الرسالة»، وعامل الإدارة الكونية لإدارة هذا الكون كله عندنا لأن الملائكة الموكلين بإدارة الكون يختلفون لدينا، وبما أن فاتحة الوجود وفاتحة التشريع وختامه بيدنا فجميع المؤهلات للخلافة والإمامة والسيادة تجتمع وتتوافر في شخصياتنا.

وأما الطرف الآخر: «ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق».

1» «فاسق»

فسقت الحبة يعني خرجت منها نواتها، هذا الرجل خرج عن القوانين الدينية، خرج عن إطار الدين، الفسق عبارة عن الخروج عن إطار القوانين الدينية، وكيف يكون خليفة للمسلمين يريد أن يرعَ قوانين الإسلام وهو أول من يخرج عنها ويتمرد عليها؟!

2» «فاسق، شارب الخمر»

والمقصود بذلك أنه مضافًا إلى فسقه فإن شرب الخمر فسق، لكن مضافًا إلى ذلك فإن كثيرًا من العرب في الجاهلية كانوا فاسقين، لكنهم كانوا يتعففون عن شرب الخمر لأن في شرب الخمر من الوضاعة والخساسة والرذالة لا يقدم عليه الكريم من الناس، حتى ولو كان فاسقًا، كثير من الناس قد يكون متمردًا على القوانين الشرعية، ولكن كرم نفسه وعزة نفسه يأبى عليه أن يتناول الخمر؛ لأن عزة نفسه تفرض عليه أن يبقى واعيًا مسيطرًا على انفعالاته وخواطره وجوراحه وجوانحه طول وقته، يزيد لم يخرج فقط عن القوانين الدينية بل خرج حتى عن طيب النفس، وخرج حتى عن عزة النفس وتناول ما لا يتناوله من يعف نفسه عن مثل هذه الرذائل.

3» «رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة»

وهذا التعبير له مدلولان:

  1. مدلول مطابقي: أنه انتهك حرمة النفوس المحترمة بإقدامه على قتلها وإبادتها والقضاء عليها، فقد كان في زمن أبيه وهو في القصر متجبرًا يستهتر بالنفوس فيقتل كل من يعارضه ويناوئه.
  2. والمدلول الالتزامي لذلك: أن الخلافة منصب وُضِعَ لحفظ النفوس، وُضِعَ لحفظ النفوس من التلف والهدر والزوال، فإذا كان الخليفة إنسانًا معروفًا بقتل النفوس وعدم العناية بكرامتها وحرمتها فكيف يكون خليفة على المسلمين ويناط به حفظ نفوس المجتمع الإسلامي؟!

4» «قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق»

وهذا أشد من قوله «فاسق»، أي أن هذا الشخص لم يكتفِ بأن يكون فاسقًا متمردًا على القوانين الشرعية بل أنه يلتذ بإعلان الفسق ويلتذ بإعلان الرذيلة، وبذلك يحصل المائز بينه وبين أبيه فإن أباه معاوية فاسق، ولكن لم يكن معلنًا بالفسق كما كان يزيد بن معاوية.

5» «معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»

بعد أن عُرِفَت مؤهلاتنا وعُرِفَت عيوب الطرف الآخر فلا يعقل أن يبايع من ينحدر من سلالة الأنبياء والأوصياء من كان معلنًا بالفسق متجاهرًا به فإن في هذه البيعة إذلالاً، لا إذلالاً لشخص الحسين كشخص، وإنما هو إذلال لمنصب القيادة ولمنصب الإمامة ولهذه الأسرة النبوية التي تنحدر من إبراهيم لمحمد .

ولذلك قال في خطاب آخر: «ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة» أي: إذلال منصب الإمامة، بيعة يزيد إذلال لمنصب الإمامة، «وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجذور طابت وحجور طهرت».

«ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»، بعد هذا البيان سينتشر صيته في الناس وستعرف الناس من هو أولى منا بالخلافة والبيعة.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين