فصل الخطاب - الحلقة 2

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين

من البيانات التي ارتبطت بانطلاقة الثورة الحسينية البيان الذي أفاضه الحسين عند قبر جده المصطفى حيث قال: «اللهم إن هذا قبر نبيك محمد وأنا ابن بنت نبيك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أحب المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه إلا اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا» ثم جعل يبكي عند القبر الشريف.

وهذا البيان يتضمن عدة مضامين ومقاطع:

المضمون الأول: التعريف بنفسه «اللهم إن هذا قبر نبيك محمد وأنا ابن بنت نبيك»

فإن هذا المقطع يلاحظ فيه هدفان:

1 - الهدف الأول: أن يكون تمهيدًا للتوسل الذي سيذكره الإمام في المقطع الثالث.

2 - والهدف الثاني: التعريف بشخصه «وأنا ابن بنت نبيك» أي أنني من يمثل صاحب هذا القبر بعد وجوده، وهذا هو الإعلان الثاني لأحقيته وأوليته وأجدريته للخلافة بعد وفاة واستشهاد أخيه الحسن بن علي صلوات الله وسلامه عليهما، فهو يقول بأني «أنا ابن بنت نبيك» وهذا قاله الحسين يوم عاشوراء: «فإن كنتم في شك من ذلك أفتشكون أني ابن بنت نبيكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم»، وليس المقصود بالبنوة هنا البنوة النسبية كي يقال بأن البنوة النسبية لا تعني شيئًا فإن ابن نوح كان ابنًا لنبي ولكن نوحًا تبرأ منه وقال: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، وإنما المقصود بالبنوة الوراثة، أي أنني وارث علمه ووارث وحيه ووارث تشريعه، «اللهم إن هذا قبر نبيك محمد» وأنا الوارث لصاحب هذا القبر، ورثت صفاته، وورثت التشريع منه، وورثت علمه، وورثت حكمته، فأنا الأجدر بأن يمثله على هذه الأرض.

«اللهم إن هذا قبر نبيك وأنا ابن بنت نبيك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت»، بمعنى أنني وضعت في زاوية وهي إما بيعة يزيد وإما أن أقتل وليس هناك شق ثالث، إما أن أقتل أو أبايع يزيد بن معاوية، «وقد حضرني من الأمر ما قد علمت» وهذا الأمر لم يتعرض له إمام من الأئمة إلا الحسين وهو أنه وُضِعَ في زاوية بين القتل وبين البيعة.

«اللهم إني أحب المعروف وأنكر المنكر»

وهذا هو المقطع الثاني من المقاطع الشريفة في هذا البيان الشريف، الحسين في هذا المقطع يتحدث لنا عن أمرين:

1 - الأمر الأول: هو العصمة، من كان يحب المعروف وينكر المنكر بطبعه لا بتأثير خارجي ولا بهداية من الغير فهو المعصوم حقًا، القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى بقوله: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى، هناك من يمتلك هداية ذاتية، أي أنه بذاته هادٍ ومهدي، وهناك من يمتلك هداية غيرية وعرضية، أي أنه يكتسب الهداية من غيره، فأيهما أولى بمقام الإمامة والوصاية؟! أيهما أولى بمقام القيادة والقدوة.

كما يقال هناك شاعر مطبوع وهناك شاعر مُتَكَلِفٌ، هناك من يكون الشعر طبعًا له لا يتكلف فيه، وهناك من يحتاج إلى أن يتعلم هذه الملكة وهذه الموهبة ألا وهي موهبة الشعر، الحسين يقول: أنا ذات طُبِعَت على حب المعروف وإنكار المنكر، فاللذة بالمعروف طبع متأصل في شخصيتي، والنفور من المنكر طبع متأصل في ذاتي، فهي ذات طاهرة مطهرة تمتلك الهداية الذاتية، وهذا هو معنى العصمة، فإذا كنت ممن تحلى واتسم بالعصمة فأنا أولى من قيادة الأمة من غيري الذي لا يعرف للمعروف أثرًا ولا ينكر للمنكر أثرًا.

2 - والأمر الثاني الذي أراد بيانه الحسين عله السلام: بما أني شخص أُعَدُ مصدرًا للمعروف وأُعَدُ مناوئًا ومعارضًا للمنكر فأنا أولى الناس بأن أخوض خطة إصلاحية تبتني على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك ذكر في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية: «إني ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمتي جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»، إذًا من كان بطبعه محبًا للمعروف ومنكرًا للمنكر فهو الأولى بأن يتبنى إستراتيجية وخطة ثورية تغييرية إصلاحية شعارها حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.

المقطع الثالث هو مقطع التوسل «وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه»

الحسين يتوسل بالقبر وبصاحب القبر، وكلاهما من الأمور التي اتفق المسلمون المنصفون على مشروعيته وعلى استحبابه وعلى عظمته، التوسل بصاحب القبر رسول الله ، فالقرآن الكريم يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا، والآية مطلقة تشمل حال حياته وما بعد وفاته، الرسول وسيلة إلى الله تبارك وتعالى في حياته وبعد وفاته.

وقد روى الطبراني في المعجم الكبير أن الرسول حين دفن فاطمة بنت أسد الهاشمية اضطجع في قبرها وقال: «اللهم إني أسألك بحق نبيك وبحق الأنبياء من قبلي إلا غفرت لأمي فاطمة بنت أسد ووسعت عليها مدخله»، فالرسول هنا يتوسل بنفسه ليعلم الأمة أنه الوسيلة كما يتوسل بالأنبياء من قبله مع أنهم موتى ومع ذلك توسل بهم النبي ليبين للناس أن الأنبياء هم أولى من الشهداء بالحياة البرزخية التي من خلالها يسمعون كلام المتوسلين ويدعون ربهم في إجابة توسل المتوسلين حيث قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فهذه الحياة التي أعطيت للشهداء، الأنبياء أولى بهذه الحياة من الشهداء لأشرفيتهم ولأفضليتهم عليهم.

إذًا فبالنتيجة: بما أن صاحب هذا القبر حي بحياة برزخية يسمع من خلالها ويرى فأنا أتوسل به كما أرشد هو للتوسل به، «اللهم إني أسألك بحق القبر ومن فيه».

والوسيلة الأخرى هي القبر نفسه، فكيف لا يكون القبر وعاءًا للوسيلة وهو وعاء القداسة؟! القرآن الكريم يتحدث عن وادي طوى، يقول: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى يعتبر الوادي طوى واديًا مقدسًا مع أنه تراب وحجر، وما كان واديًا مقدسًا إلا لأن موسى الكليم وطأ ذلك الوادي برجله، فرجل النبي إذا وطأت مكانًا أصبح مقدسًا، ﴿إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى.

وقال القرآن الكريم﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وما مقام إبراهيم إلا صخرة، ولكن هذه الصخرة اكتسبت القداسة من صعود النبي إبراهيم عليها، إذًا فحتى الحجر والتراب إذا وطأه جسم مُلِئَ بالتقوى والعبادة، إذا وطأه جسم مقدس يكتسب القداسة منه، فكيف بالقبر الذي حوى ذلك الجسم الطاهر؟! أشرف وأفضل نفس في هذا الوجود حوى جسمها ذلك التراب فكيف لا يكون ترابًا مقدسًا؟! وإذا كان ترابًا مقدسًا كان موضعًا للتوسل والتبرك.

وقد روى الترمذي في سننه والحاكم في مستدركه أن أصحاب رسول الله كانوا يتبركون بوضوء رسول الله، أي بالماء الذي يتقاطر من جسمه، وكان في يوم العاشر عندما حلق شعر رأسه في منى جعله للمسلمين فأخذوا شعره يتبركون به، فكما أن شعره بركة والماء الذي يلامس جسمه بركة فكذلك القبر الذي هو فيه موضعٌ للبركة والتوسل.

«بحق القبر ومن فيه إلا اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا»

وهنا وصل الحسين للمقطع الأخير من بيانه، وفي هذا المقطع الأخير أشار الحسين إلى مراتب العروج إلى الله والتعلق بالله تبارك وتعالى، وهي مراتب ثلاثة: مرتبة التوكل ومرتبة الرضا ومرتبة التسليم.

1 - أما مرتبة التوكل فهي مرتبة الثقة بالله

رضيت  بما  قسم  الله iiلي

كما أحسن الله فيما مضى

 
وأوكلت أمري إلى iiخالقي

كذلك   يحسن   فيما  iiبقي

2 - والمرتبة الأخرى مرتبة الرضا بأن يرضى الإنسان بما قدر الله له، وإن كان ما قدر الله له نوائب ومصائب دنيوية، لكن الإنسان يعقد قلبه على الرضا بهذه النوائب والمصائب، وهذه مرتبة أخرى من مراتب التعلق بالله.

3 - والمرتبة الثالثة مرتبة التسليم وهي مرتبة الفناء في الله فلا يرى الإنسان شيئين: هو وَ الله، بل لا يرى إلا الله، مرتبة التسليم ألا يرى الإنسان إلا ربه كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : «ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه».

وهذه المراتب عبر عنها الحسين في يوم عاشوراء عندما سقط من فرسه قال: «اللهم رضاً بقضائك وتسليمًا لأمرك يا غياث المستغيثين»، وعبر عنها هنا في هذا البيان الشريف: «إلا اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا»، أنا لا أريد إلا مرتبة الرضا، وأنا لا أريد إلا مرتبة التسليم لأوامرك ولنواهيك، ولا أريد أن يكون لنفسي شيء، وهذا كما قاله جده رسول الله يوم الطائف: «لك العتبى حتى ترضى».

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين