فصل الخطاب - الحلقة 4

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

من البيانات الحسينية التي رافقت حركة الحسين وثورته المباركة ما كتبه الحسين إلى رؤساء الأخماس في البصرة وأوصله بيد مولى له يقال له سليمان، وهذا البيان المبارك اشتمل على عدّة مقاطع شريفة مباركة:

المقطع الأوّل: الحديث عن مقام النبوّة.

في قوله : «أمّا بعدُ فإنّ الله قد اصطفى محمدًا من خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما أُرْسِلَ به» والهدف من هذا المقطع التمهيد للمقطع الذي يليه، فإنّ الحسين حينما يتحدّث عن مواصفات النبي بذلك يعقّبه عمّن هو أولى بخلافة النبي وعمّن هو أحقّ بخلافة النبي فهو من يملك مواصفاتٍ تتقارب وتتماثل مع مواصفات النبي ، لذلك تحدّث أوّلاً عن مواصفات النبي الأعظم تمهيدًا لبيان من هو الأحقّ بخلافة النبي ، فقد ذكر للنبي أربع مواصفات:

المقام الأول: «إنّ الله اصطفى محمدًا من خلقه»

الاصطفاء هو عبارة عن العصمة، ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ اصطفاء هؤلاء النخبة بمعنى خلقهم ولهم ذوات عاطرة ولهم أرواح طيّبة هادية مهدية لا تعرف الميل إلى الرذيلة ولا تعرف النزوع نحو المعصية، فهي ذوات مصفّاة مطهّرة، لذلك قال: «إنّ الله اصطفى محمدًا من خلقه» هذا إشارة إلى المقام الأوّل من مقامات النبي ألا وهو مقام العصمة.

المقام الثاني: «وأكرمه بنبوته»

المقام الأوّل يمهّد للمقام الثاني، فإنّ هذه الذات الطاهرة لما كانت ذاتًا قدسية، لمّا كانت ذاتًا معصومة، لمّا كانت ذاتًا طاهرةً طيّبة لذلك أصبحت وعاءً مناسبًا ومحلاً مناسبًا لإفاضة الوحي عليها، فإنّ الله حكيم والحكيم من يضع الأمور في مواضعها ومقتضى حكمته أن يجعل رسالته في الموضع اللائق بها، ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ لذلك بما أنّ هذه الذات المحمدية ذاتٌ قدسية استحقّت هذه الذات الإكرام من قِبَل الله تبارك وتعالى وأن تكون موطنًا للنبوة، أي لإفاضة الوحي من قبل الله تبارك وتعالى، فإنّ الوحي اتصالٌ ملكوتيٌ بين المخلوق والخالق، وهذا الاتصال الملكوتي يتوقف على استعدادٍ وإشراقٍ من قِبَل النفس القدسية، وهذا ما تجسّد في النبي الأعظم .

المقام الثالث: «واختاره لرسالته»

فإنّ مقام الرسالة بعد مقام النبوّة، لمّا أعطاه الله الوحي أعطاه الرّسالة السّماوية الشّاملة، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، الله تبارك وتعالى جعل الرّسالة الخاتمة الصّالحة لكلّ زمانٍ ومكانٍ وجيلٍ وحضارةٍ بيد هذا الشخص على يد النبي محمدٍ ، «واختاره لرسالته».

المقام الرابع: «ثم قبضه إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما أُرْسِل به»

بمعنى أنّ النبي من جملة مقاماته مقام النصح والتبليغ، فإنّ النور يفيض النور على غيره، النبي كما أنّه كان ذاتًا نورانيةً كان نوره يفيض على الناس في نصحه وتبليغه، فأراد أن يقول بأنّ النبي كما كان معصومًا في ذاته فقد كان معصومًا في علمه وقد كان معصومًا في سلوكه فلم يصدر منه إلا النصح ولم يصدر منه إلا الهدى، ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.

المقطع الثاني: الحديث عمّن هو أولى وأجدر بخلافة النبي.

بما أنّ هذه مواصفات القيادة النبوية فلابدّ أن يكون مواصفات الخليفة للقيادة النبوية ومن يكون امتدادًا للقيادة المحمّدية أن يكون حاملاً لهذه المواصفات التي تحدّثنا بها عن النبي ، فلذلك قال: «وكنّا أهله، وأوليائه، وأوصيائه، وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس»، إذن هنا الحسين يتحدّث عن مؤهّلات ومواصفات لا يتمتّع بها غير الأئمة المعصومين من أهل البيت ، فهم الجديرون بمقام الخلافة للنبي .

الصفة الأولى: «أهله»

ليس المقصود بالأهل الأهل النسبي فإنّ الأهل النسبي للنبي لا ينحصر بالأئمة المعذصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بل المقصود بأهله عندما يقول «وكنّا أهله» الإشارة إلى العصمة، أي أنّ آية العصمة والطهارة وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا نحن المقصود بها، فنحن أهله، فبما أنّ القرآن تحدّث عن أنّ أهل بيت النبي طاهرون معصومون فألئك الذين تحدّث عنهم القرآن هم نحن، كما كان النبي يقف عند بيت علي وفاطمة ويقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، «وكنّا أهله» هذه إشارة إلى السمة الأولى، أي: سمة العصمة.

السمة الثانية: «وأولياءه»

الأولياء ما هو المقصود بهم هنا؟

المقصود بهم النصرة، من الذين تحمّلوا إشادة هذا الدين على أكتافهم وجراحهم؟!

نحن، كما أنّ الله تبارك وتعالى عندما اختار محمدًا للرسالة إنّما اختاره لأنّه أقوى الناس إرادةً وأشدّهم صبرًا في حمل هذا الدين، فإنّ الدين يحتاج إلى حمل فكري وهو العلم ويحتاج إلى حملٍ عملي وهو أن يتكفّل أناسٌ بالتضحية وبالبذل والعطاء في سبيل إشادة هذا الدين وفي سبيل نشره وترويجه، إذن كما أنّ النبي اختاره الله لحمل هذا الدين علمًا وتعليمًا وتطبيقًا وتضحيةً فقد اختارنا نحن لِأنْ نكون أوليائه، أي لِأنْ نكون دعائمه وأوتاده في نشر هذا الدين، ولذلك قالوا: قام الإسلام على دعامتين: مال خديجة وسيف علي ، أهل البيت هم الذين حملوا الدين عملاُ كما حملوه علمًا، فعليٌ بذل نفسه في سبيل الله، والحسين ضحّى بنفسه في سبيل الله، والأئمة الطاهرون بذلوا أنفسهم في سبيل هذا الدين، غيرهم تمتّع بالسلطة والملك وأمّا هم فقد بذلوا التضحيات في سبيل إقامة هذا الدين، «وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه».

المقام الثالث: مقام الوصاية.

ليس هذا المقام جعلاً من قِبَل النبي أو ترشيحًا أو اختيارًا من قِبَل النبي أو من قِبَل السماء وإنّما هو جعلٌ إلهيٌ ونصٌ وتعيينٌ لا مناص ولا حياد عنه، «وأوصياءه» فإنّ مقام الوصاية إلينا.

المقام الرابع: «وورثته».

بيدنا مقاليد الأنبياء والمرسلين فنحن أولى بأن نكون امتدادًا للأنبياء والمرسلين في القيادة الروحية والسياسية لهذه الأمّة، فقد ورد عن الإمام الصادق : «وإنّ عندنا الجفر الأحمر قيل: وما الجفر الأحمر؟ قال: سلاح رسول الله، وإنّ عندنا الجفر الأبيض قيل: وما الجفر الأبيض؟ قال : صحف إبراهيم وزبور داوود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وفرقان محمدٍ ، وإنّ عندنا الجامعة قيل: وما الجامعة؟ قال: كتابٌ طوله سبعون ذراعًا بإملاء رسول الله وخطّ عليٍّ عليهما السلام فيه جميع ما يحتاجه الناس من حلالٍ وحرامٍ حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة، وإنّ عندنا مصحف فاطمة وفيه علم ما كان وما يكون وأسماء كلّ ملكٍ يملك الأرض»، إذن بما أنّ المواريث عندنا لذلك نحن أولى بأن نكون امتدادًا للأنبياء والمرسلين.

ولذلك نقرأ في زيارة الحسين: «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله ونوح نبي الله وإبراهيم خليل الله» باعتبار أنّ الحسين بيده جميع مواريث الأنبياء والمرسلين.

«وأحقّ الناس بمقامه في الناس» من ملك المواصفات السابقة أصبح هو الأحقّ والأجدر بأن يكون خليفة للنبي وأحقّ الناس بمقامه في الناس.

المقطع الثالث:

تحدّث الحسين عن السياسة العلوية التي انتهجها أهل البيت في مقابل اغتصاب حقّهم وهو حقّ الخلافة بل حقّ الأمّة في القيادة الرشيدة منهم، قال: «فاستأثر قومنا بذلك فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ونحن نعلم أنّنا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولّى» هنا يتحدّث الحسين عن أنّ المنهج الذي خطّه الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وآله بعد وفاة النبي كان منهج المسالمة ولم يكن منهج المواجهة فقال: «فاستأثر قومنا بذلك فرضينا» لم يكن هذا الرضا رضا إيجابيًا، فهنالك رضا إيجابي بمعنى الإقرار بشرعية من تسلّم الخلافة، وهذا لم يحصل، وهنالك رضا سلبي بمعنى عدم المواجهة والمحاربة، لماذا؟

لأجل أمرين:

1. كراهة الفرقة: ألا يحصل بعثرة في صفوف المسلمين والإسلام حديث عهدٍ بالناس.

2. حبّ العافية: لا لأنفسهم فإنّهم خُلِقُوا للقتل والموت، وإنّما حبّ العافية للأمّة حيث قال الإمام الحسن : «إنّ الأمر الذي اختلفتُ فيه أنا ومعاوية حقٌّ لي تركته لإصلاح أمر الأمّة وحقن دمائها» فالمقصود من العافية يعني الحفاظ على دماء الأمّة وأعراضها وأموالها، «ونحن نعلم أنّنا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا» فإنّ هذا الحقّ مضافًا إلى أنّه تفضّلٌ من قِبَل الله علينا بالإمامة فإنّنا أيضًا نستحقّه، فهذا الحقّ تفضّليٌ واستحقاقيٌ، نستحقّه بما نمتلك من مواصفات ومؤهّلات.

المقطع الأخير:

تحدّث عن الدعوة التي يقوم بها فقال: «وقد بعثتٌ رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه فإنّ السنّة قد أُمِيتَت والبدعة قد أُحْيِيَت فإن تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد» بعد أن تحدّث الحسين عن مواصفاته فمقتضى هذه المواصفات من كان من المعصومين ومن الأولياء والأوصياء وورثة النبي فلا محالة لن يكون داعيًا إلا إلى كتاب الله وسنّة رسوله، من كان حقًّا لم يصدر منه إلا الحقّ، «وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه - لماذا؟ - فإنّ السنّة قد أُمِيتَت والبدعة قد أُحْيِيَت - من قِبَل الأمويين - فإن تسمعوا قولي - وتسيروا على منهجي تصلوا إلى الهداية الرشيدة - أهدكم إلى سبيل الرشاد».

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين