فصل الخطاب - الحلقة 7

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين

من البيانات الحسينية المعاصرة للشروع في الثورة قوله : «الحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلا بالله وصلى الله على رسوله، خُطَّ الموت على ابن آدم مخط القلادة على جيد الفتاة...» إلى آخر كلماته الشريفة..

وهذه الخطبة تتكون من مقاطع ثلاثة:

المقطع الأول: الحديث عن عظمة الشهادة

وقد تحدث الحسين عن هذا المضمون في عدة فقرات أولها قوله: «خُطَّ الموت على ابن آدم مخط القلادة على جيد الفتاة» وهذا التعبير كناية عرفية عن إحاطة الموت بالإنسان وأن الإنسان محدودٌ بالموت شاء أم أبى ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ فكما أن القلادة تحيط بعنق الفتاة فكذلك الموت يحيط بعنق الإنسان ولا يمكنه الفرار منه..

ثم ذكر في فقرة أخرى: «وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِير لي مصرعٌ أنا لاقيه» من المراتب العِرفانية التي يتسم بها المتعلق بالله عز وجل مرتبة الفناء في الله، ومرتبة الفناء في الله لها مستويان:

المستوى الأول: المستوى السلوكي

أما على المستوى السلوكي، فالفاني في الله هو المُخلَص الذي لا يجد إلا الله تبارك وتعالى، قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ المُخلَص هو الذي طهر الله قلبه وأخلص نواياه بحيث لا ينوي شيئًا إلا في الله، حتى أكله أو شربه أو نومه أو أنفاسه وجميع حركاته وسكناته لا تصدر منه إلا لله، فلا يوجد في قلبه داعٍ دنيوي حتى لو كان داعيًا مباحًا ولا يوجد في قلبه انجذابٌ نفسي نحو عملٍ لداعٍ من الدواعي الدنيوية أو النفسية أو المادية، وإن كان ذلك أمرًا مباحًا، فكل دواعيه ونواياه وأهدافه وجميع حركاته وسكناته هي لله تبارك وتعالى كما عبَّر الإمام أمير المؤمنين : «ما رأيتُ شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه»..

المستوى الثاني: المستوى الختامي

وأما على مستوى الختام أي على مستوى لقائه مع الله عز وجل فإن الفانين في الله علاقتهم بالله وقت الختام أي وقت الموت لها ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة الرضا

هؤلاء فانون في الله راضون بالموت بأي صورة كان وبأي نحوٍ كان «أوَلسنا على الحق يا أبتاه؟ قال بلى، قال إذن لا نبالي وقعنا على الموت أم وقع الموتُ علينا» الرضا بالموت والاطمئنان بالموت هو أول مرحلة من مراحل الفناء في الله في الختام أي في ختام هذه الحياة، وهذا ما عبَّر عنه كثير من الأئمة الطاهرين إتباعًا للآية المُباركة ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي فالاطمئنان بالموت والرضا بالموت هو أول مرحلة من مراحل الفناء في الله يوم الختام..

المرحلة الثانية: مرحلة الشوق

بأن يشتاق الإنسان لما بعد الموت، أي أن يشتاق لخلَّص الأصفياء والأولياء والأوصياء ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا فالشوق لما بعد الموت مرحلة أخرى من مراحل الفناء في الله يوم الختام، وهذا ما عبَّر عنه الحسين هنا بقوله «وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف» فكما عبَّر صلوات الله وسلامه عليه عن المرحلة الأولى وهي مرحلة الرضا بالموت بقوله «خُطَّ الموت على ابن آدم مخط القلادة على جيد الفتاة» فقد عبَّر عن المرحلة الثانية من مرحلة الفناء في الله وهي مرحلة الشوق بقوله «وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف» وكيف لا يكون له ولهٌ إلى أسلافه وموته امتدادٌ لسيرة أسلافه، فإن موته بالشهادة هي سيرة أسلافه ومن سبقه كأبيه أمير المؤمنين وأخيه الحسن وأمه فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين..

المرحلة الثالثة: مرحلة الشكر

بأن يعتبر الإنسان أن موته في هذا الطريق نعمة من الله تبارك وتعالى تستحق الشكر، فهو راضٍ بها ومشتاقٌ إليها ويشكر الله عليها لأنه يعتبرها نعمة من النِعم، لذلك لا خوف في نفسه ولا قلق ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وقد عبَّر الحسين عن هذه المرتبة أي مرتبة الشكر بقوله «وخِير لي مصرعٌ أنا لاقيه» أي أن هذا المصرع اختير لي بأنه خيرٌ لي فإن الله لا يختار لعبده شيئًا إلا إذا كان خيرًا له تبارك وتعالى، لأجل ذلك الحسين يعتبر مصرعه هذا خيرًا له ونعمة أنعم الله بها عليه وهي نعمة تستحق الشكر..

ثم تحدث عن هذا المصرع بقوله «كأني بأوصالي تقطعها عُسلان الفلاة  أي ذئاب الفلاة كناية عن وحوش بني أمية والتابعين لهم  بين النواويس  وهي منطقة  وكربلاء فيملأن مني أكراشًا جوفًا وأجربة سغبًا» بمعنى أن الذين سيقاتلونني لن يكون قتالهم بهدف ديني ولا بهدف اجتماعي وإنما كان قتالهم بهدفٍ ماديٍ بحت، وفي هذا البيان إعلامٌ مضاد من قِبل الإمام لإعلام بني أمية، فإن الدولة الأموية آنذاك كان إعلامها تصوير حركة الحسين بأنها فتنةٌ وشقٌ لعصا المسلمين، فالحسين أراد في مقابل هذا الإعلام أن يصدر إعلامًا مضادًا وهو أن الذين يقاتلونه لا يقاتلونه لأجل دينٍ أو لأجل هدفٍ اجتماعيٍ وإنما قتالهم لهدفٍ ماديٍ بحت حيث قال: «فيملأن مني أكراشًا جوفًا  أي أنهم بقتلي يكتسبون جوائز مالية ومناصب مادية  فيملأن مني أكراشًا جوفًا وأجربة سغبًا لامحيص عن يومٍ خُطَّ بالقلم»..

وهنا في هذا المقطع حينما يقول «لا محيص عن يومٍ خُطَّ بالقلم» وهو فإن ظاهره علم الإمام بمنيته وعلم الأئمة بمناياهم علمٌ بالنسبة لبعض الأئمة علمٌ معلق على البداء فهو علم غير حتمي، وبالنسبة للبعض الآخر فهو علم حتمي كما هو بالنسبة للحسين فإن ظاهر بيانه هذا أنه عِلمه بمنيته وبلاياه علمٌ حتميٌ لا يتخلف ولا يتأخر..

إذن، علوم الأئمة بمناياهم وبلاياهم ينقسم إلى قسمين باختلاف الأئمة الطاهرين، فبعضهم يعلم بموته علمًا حتميًا تنجيزيًا وبعضهم يعلم بموته وبلاياه علمًا معلقًا على البداء ونفوذ المشيئة الإلهية في شرائط معينة إذا تحققت تحقق موته، وبالتالي فسواء من علم علمًا تنجيزيًا أو من علم علمًا تعليقيًا معلقًا على البداء فإنهم في كلا الأمرين فوضوا الأمر إلى الله تبارك وتعالى واستسلموا لما أراده الله تبارك وتعالى وفي ذلك كمال التسليم والارتباط والفناء في الله «لا محيص عن يومٍ خُطَّ بالقلم»..

المقطع الثاني: الحديث عن عظمة الشهيد

أي عظمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم الذين هم رموز مقام الشهادة ورواد طريق الشهادة، تحدث عنه الحسين عندما عرض المقامات المعنوية والكمالات الروحية التي تحلَّى بها أهل البيت بحيث أصبحوا لائقين ومؤهلين لأن يكونوا رموز الشهادة..

المقام الأول: «رضا الله رضانا أهل البيت»

وهنا نلاحظ أن الإمام الحسين لم يقل أن رضانا تابع لرضا الله وإنما قال «رضا الله رضانا أهل البيت» فهو نفس التعبير الذي ورد عن النبي في حق فاطمة الزهراء «يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها»

إذن هذا التعبير ليس إشارة إلى العصمة بل هو إشارة لمرتبة أعلى من مرتبة العصمة، لو كان هذا التعبير إشارة لمرتبة العصمة لقال رضانا لرضا الله عز وجل، ولكنه قال «رضا الله رضانا أهل البيت» وهذه المرتبة هي مرتبة المظهرية، بمعنى أن الله تبارك وتعالى صاغ ذوات المعصومين المقدسة صياغة بحيث تكون إرادتهم دائمًا كاشفة عن إرادة الله، ومشيئتهم دائمًا حاكية عن مشيئة الله تبارك وتعالى، فلا تتعلق إرادتهم ومشيئتهم بشيءٍ إلا وهي كاشفة ومظهرٌ حاكٍ لإرادة الله ومشيئته، إذن قوله «رضا الله رضانا أهل البيت» بمعنى أن الإرادة والمشيئة لدينا مظهر حاكٍ صادق عن إرادة الله ومشيئته..

المقام الثاني: مقام قوة الإرادة

لماذا أصبحنا مظهرًا لإرادة الله ومشيئته؟ لأننا نتحلى بمقام روحي لم يتحلى به أحد من المسلمين «نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين» قوة الإرادة الحديدية التي يمتلكها أهل البيت لم يمتلكها غيرهم وهذا هو سر مقاماتهم فإن الله تبارك وتعالى علِم أن هؤلاء الطاهرين سيكونون أقوى الناس إرادة وأشدهم صبرًا وثباتًا، لذلك رزقهم مرتبة الإمامة والعصمة منذ ولادتهم لأنه علِم أنه حتى لو لم يرزقهم هذه المقامات العظيمة فإنهم سيتحلون بأقوائية الإرادة وأشديّة الصبر، فإنهم أقوى الناس إرادة وأشدهم صبرًا على كل حال «نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين»..

المقام الثالث: «لن تشذّ عن رسول الله لُحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس»

أنهم امتدادٌ لرسول الله وأنهم خطهم خط رسول الله وأن بقاء رسول الله فيهم، وهذا ما عبَّر عنه النبي بقوله: «حسين مني وأنا من حسين» أما الحسين منه فهو واضح وأما أنه من الحسين فلأن بقاء النبي بالحسين، فلولا الحسين لما بقي النبي، ولهذا قال: «لن تشد عن رسول الله لُحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرُّ بهم عينه وينجزُ بهم وعده»..

المقام الرابع: «وينجزُ بهم وعده»

أن وعد الله الذي وعد الله به نبيه ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أن هذا الوعد الذي وعد الله به نبيه إنما سيتحقق على يد أبنائه الطاهرين «وينجزُ بهم وعده»..

المقطع الثالث: الحث نحو التضحية والجهاد

في قوله: «ألا من كان فينا باذلاً مهجته  فإن بذل المهجة في سبيل الأئمة بذلٌ للمهجة في سبيل الدين لأنهم مظهر الدين وأوتاده  موطِّنًا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحلٌ مصبحًا إن شاء الله تعالى» وكان هذا بيانًا واضحًا للثورة الحسينية..

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..