الدرس 47

حقيقة العلم الإجمالي

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

تقدمت الصياغة التي ذكرها المحقق العراقي «قده» لإثبات منجزية العلم الاجمالي على نحو العليّة.

الوجه الثاني: أن يترقى على ما أفاده العراقي، فيقال كما ذكره المحقق النائيني في فوائد الاصول «ج3 ص75» وذكره المحقق العراقي في نهاية الافكار «ج3 ص305»، ترقياً على الوجه السابق، ومحصله:

أننا لا نحتاج لإثبات المنجزية على نحو العلية، أن نقول: أن العلم الإجمالي انكشاف لواقع معيّن، وذلك الواقع المعين هو المتنجز بالعلم وليس المتنجز المعلوم بالذات وهو الصورة، ولأجل أن كل طرف من أطراف العلم الاجمالي شبهة مصداقية تنجز العلم في الاطراف ببركة قاعدة الاشتغال، لا نحتاج إلى ذلك.. بل يكفي في منجزيته على نحو العلية العلم بواقع الالزام، فإن التنجز من عوارض العلم بالإلزام وان لم نعلم المتعلق، فالعلم بالمتعلق لا دخل له في المنجزية، فإن سر المنجزية أن تحرز أنّ الإلزام من قبِل المولى دخل في عهدتك وأن لم تحرز متعلق ذلك الإلزام؛ لأجل ذلك يكفينا في المنجزية أن نعلم بوجوب الصلاة. وامّا تلك الصلاة هل هي الظهر أو الجمعة؟ فهذا التردد في المتعلق لا دخل له في المنجزية؛ ولأجل ذلك لا نحتاج أن ندّعي أن المتعلق في الواقع تنجز علينا بل نغض النظر عن المتعلق، فنقول: إنّ واقع الإلزام قد دخل في العهدة ومقتضى اشتغال العهدة به يقيناً الفراغ اليقيني.

فإن قلت: لازم كلامكم أنّ العلم بنجاسة التكليف لا منجزية له، مثلاً: لو عَلِمَ المكلف إجمالاً إما بوجوب الجمعة أو حرمة العصير العنبي، فهو لم يعلم بإلزام معين كالوجوب أو الحرمة، وإنما علم بجنس التكليف الجامع بين الوجوب والحرمة، فمقتضى كلامكم ان التنجز من عوارض العلم بالإلزام أن لا تنجز في المقام.

قلنا: ما دام هناك علم بتكليف إلزامي فقد دخل الإلزام في العهدة، وهذا هو سر المنجزية، وإن كان هذا الإلزام متردداً بين نوعين، إلا أن المهم اشتغال العهدة بالإلزام، نعم لو توارد على مورد واحد: كما لو علمنا أنّ صوم عاشوراء أما واجب أو حرام، فهنا قد يقال: لا يصلح العلم الإجمالي بالإلزام المردد بين الوجوب والحرمة للمنجزية والبيانية، لدورانه بين المحذورين بلحاظ ورودهما على متعلق واحد، وإلا لولا هذا المحذور لقلنا إن احراز دخول أصل الالزام ولو لم نعرف نوعه في العهدة كاف في المنجزية بلا حاجة لمبنى العراقي في حقيقة العلم الاجمالي، وما يترتب عليه.

ولكنّ سيدنا الخوئي بحسب ما نَقْلَ عنه سيد المنتقى في «ج5 ص77» نقلاً عن الدراسات «ج3 ص248 إلى 254» أنّه ناقش كلا الوجهين، فقد ناقش بالنقض والحل:

أما النقض فبموردين:

الأول: لو فرضنا أننا علمنا بنجاسة أحد الإنائين الأزرق أو الأبيض وكان الازرق مورداً لاستصحاب النجاسة حيث كان نجسا سابقاً، فمقتضى استصحاب النجاسة فيه نجاسته، وجِدَ علم اجمالي أم لا، فتجري أصالة الطهارة في الإناء الأبيض بلا معارض، وينحل بذلك العلم الإجمالي حتّى عند العراقي، فكيف رخّص الشارع بإجراء أصالة الطهارة في أحد الطرفين مع أن العلم الاجمالي علّةٌ تامّةٌ للمنجزية؟.

فإن قلت: يعتبر في منجزية العلم الاجمالي تعلقه بتكليف جديد، إذ إنّ العلم بالنجاسة لو كان المتعلق له الإناء الأبيض لكان صالحاً للتنجيز، وأما لو كان المتعلق الاناء الازرق، لم يكن العلم بالنجاسة متضمناً لتكليف جديد لوجود استصحاب النجاسة في الإناء الازرق فلا يرد النقض، لأنك يجب ان تنقض بموردٍ تنجّزَ فيه العلم الاجمالي على كل حال، لكي تقول أن العلم الاجمالي مع تنجزه جرى الأصل في أحد طرفيه.

وأما في هذا المورد: ليس العلم الاجمالي منجزاً، إذ لم يتعلق بتكليف جديد على كل تقدير.

قلت: لا برهان على أنه يعتبر في منجزية العلم الإجمالي تعلقه بتكليف جديد على كل تقدير، فإن الصحيح: أنَّ منجزية العلم الاجمالي تدور مدار تعلقه بتكليف فعلي سواء كان تكليفاً جديداً على كل تقدير أم لا، فإن المهم عقلاً أنه تعلق بنجاسة فعلية؛ نعم في الإناء الازرق يوجد سببان ومنشأن للمنجزية: 1 - الاستصحاب، 2 - والعلم الاجمالي. ولكنه لا يلغي منجزية العلم الاجمالي.

إذاً فتحكّم النقض عليكم بجريان الأصل الترخيصي وهو أصالة الطهارة مع كون العلم الاجمالي منجزاً.

المورد الثاني للنقض: ما سُمي بموارد جعل البدل، كما في فرض العلم التفصيلي فضلاً عن الاجمالي، مثلاً: إذا علم تفصيلاً بوجوب صلاة الظهر، وصلّى، وبعد الصلاة شكّ هل أنه ترك ركناً كالركوع أم لا؟ ويحتمل الالتفات اثناء العمل، فلا ريب عند الكل في جريان قاعدة الفراغ رغم وجود علم تفصيلي بالتكليف وهو العلم بوجوب صلاة الظهر، وهذا مُنبهٌ على أنّ العلم التفصيلي ليس علّة تامّة للمنجزية فضلاً عن العلم الاجمالي.

فإن قلت: كما في كلمات العراقي انه لا يصحّ النقض بمثل هذا المورد إذ إن الشارع نزّل الصلاة التي جرت فيها قاعدة الفراغ منزلة الامتثال فلم يصطدم هذا الترخيص مع المنجزية وحكم العقل. وبيان ذلك:

إنّ العلم تفصيلاً أو اجمالياً مؤثر في مقامين على نحو الطولية:

المقام الأول: منجزية التكليف وفي طول تأثيره في هذا المقام يؤثر في لزوم الامتثال، المرحلة الاولى العلم يقول: التكليف الفعلي منجز ولا مجال للترخيص في هذا المقام، إذ بعد العلم تفصيلا أو إجمالاً بتكليف فعليّ فالترخيص في هذا التكليف المعلوم نقض للغرض.

وفي طول هذا التأثير يقال: حيث تنجز عليك التكليف فلابد لك من الامتثال فلزوم الامتثال تأثير آخر للعلم في طول تأثيره في المنجزية.

والاصل المُدّعى وهو «قاعدة الفراغ» لم يجر في المقام الأول كي يصطدم مع علّية العلم للمنجزية، وإنما جاء في المقام الثاني أي: بعد الفراغ عن المنجزية، وعدم ورود الاصل لهذا المقام ووصلت النوبة إلى استتباع العلم للزوم الامتثال، جاء الشارع ورخّص في مقام الامتثال، وهذا الترخيص لا يصطدم بالعلم الاجمالي لأنّه ترخيص بتنزيل، أي: بجعل بدل، حيث قال الشارع: انا لا اعارض قول العقل، ان الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، وانما اقول: الفراغ المطلوب عقلاً يتحقق بالصلاة التي جرت فيها «قاعدة الفراغ»، فهذا التنزيل وجعل البدل كاشف ومنبّهٌ على العليّة التامّة، ولأجل ذلك لم يرخّص الشارع في ضرب هذه العلية، وإنما نزّل الامتثال المحتمل منزلة الامتثال اليقيني.

ولكن سيدنا قال: هذا التحليل غير واضح، والوجه في ذلك: انّ الاحكام العقلية لا يتغير تأثيرها بتغيير الصياغة والاعتبار، بيان ذلك:

إذا قيل: يقبح العقاب بلا بيان، فهذا حكم عقلي موضوعه عدم العلم، فإذا قال الشارع: إذا قام لديك خبر ثقة على التكليف فلا يقبح العقاب، فيقال: كيف يمكن التصرف في مورد القاعدة العقلية؟ فإن هذا التنزيل مجرد صياغة ولا يتغير في واقع المطلب إذ ما دام العقل يحكم بالقبح مع عدم العلم فلا يتغير بقول الشارع هذا علم، والعقل لا يراه علم.

إذاً إما أن لا يحكم العقل بقبح العقاب مع عدم العلم، وهذا خلف الكبرى، أو يحكم فلا يرتفع حكمه بتغيير الصياغة والاعتبار، ونفس المشكلة في المقام فإن العقل إما أن يحكم باتاً بالاشتغال أو لا يحكم، فإذا حكم بضرورة الامثال اليقيني فالترخيص بالامتثال يصطدم مع العقل مهما غيرت العبارة أو الصياغة.

والحمد لله رب العالمين