التدين بين المضمون والشكل

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في ثلاث نقاط:

  • في تحديد معنى العبادة.
  • وفي دراسة ظاهرة التدين.
  • وفي تسليط الضوء على أسباب تراجع التفاعل بين الجيل الجديد والأجواء الدينية.
النقطة الأولى: تحديد معنى العبادة.

الآية المباركة ذكرت أن الهدف من وجود الإنسان هو العبادة، والمراد من العبادة: الخضوع الناشئ عن إدراك العبودية، وحتى يتضح هذا التعريف نذكر أقسام الملكية بحسب النظرة الفلسفية، حيث يقسّم الفلاسفة الملكية إلى ثلاثة أقسام: الملكية الاعتبارية، والملكية الحقيقية، والملكية الحقة.

1- الملكية الاعتبارية: كأن يملك الإنسان شيئًا بالاعتبار، فمثلاً: الإنسان يملك أرضًا اشتراها أو ورثها أو وُهِبَت له، وملكية الإنسان للأرض ملكية اعتبارية وليست ملكية حقيقية؛ لأن هذه الملكية غاية ما يترتب عليها أنه يجوز له من الناحية القانونية أن يتصرف في الأرض ببنائها أو بالجلوس فيها أو ببيعها أو بهبتها لغيره، لكنه لا يقدر على إيجادها وإعدامها، فإذن هو لا يملك الأرض ملكية حقيقية؛ لأن إيجادها وإعدامها ليس بيده، وإنما بيد غيره.

2- الملكية الحقيقية: كملكية الإنسان لميوله القلبية، فإن ميولي بيدي، ولا أحد يجبرني عليها، فأحب من أشاء، وأبغض من أشاء، وأعتقد بما أشاء، ولا أعتقد بما أشاء، فميولي القلبية الداخلية بيدي، ولذلك يعبّر عن القلب بأنه منطقة حرة لا يستطيع أحد أن يكرهك عليها ولا أن يقسرك عليها، فقلبك منطقة حرة بيدك. يمكن لإنسان أن يكره لسانك لكنه لا يمكن أن يكره قلبك، فقد يكره إنسان لسانَك على أن تتلفظ بلفظ أو تتجنب موضوعًا معينًا، لكنه لا يمكنه أن يسيطر على قلبك. إذن فملكية الإنسان للقلب ملكية حقيقية، فالميول بيده وجودًا وعدمًا وتوجّهًا وانحرافًا.

3- الملكية الحقة: هذا القسم أقوى من القسمين السابقين، فإن الإنسان يتحكم بميوله القلبية، لكنه أحيانًا يرى تحول الميول لا يخضع لاختياره، فقد تتحول ميول الإنسان من دون اختيار منه، حيث يعزم على شيء ثم يتراجع عنه فجأة واحدة ولا يدري لماذا، أو يتراجع عن شيء ثم يعزم عليه فجأة ولا يدري لماذا، وقد يرى نفسه أحيانًا فرحًا منبسطًا ولا يدري لماذا، ويرى نفسه أحيانًا حزينًا كئيبًا متضايقًا ولا يدري لماذا.

إذن فهذه الحالات الانفعالية للنفس من الانشراح والانقباض والعزم والتراجع تعرض على الإنسان من دون اختيار منه ومن دون إرادة، وهذا دليل على أن هناك ملكية وراء ملكيته، وهي أقوى من ملكيته، وهي التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ. أقرب شيء إلى الإنسان هو قلبه، ومع ذلك الله يحول بين الإنسان وقلبه، فيتحكم في ميوله وانفعالاته وحالاته الوجدانية. وقال في آية أخرى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. والخلاصة: أن ملكية الله تعالى هي الملكية الحقيقية الحقة، لذلك بيده الوجود، وبيده العدم، وبيده الميول، وبيده التغير، وبيده التحول، وبيده التبدّل.

إذا أدرك الإنسان أنه مملوكٌ لله، وميوله مملوكة لله، وأعماله مملوكة لله، فهو مملوك صرفٌ لله عز وجل، وواقع تحت القبضة الإلهية، وتحت القسر الإلهي في أي وقت وفي أي زمن وفي أي لحظة وفي أي مكان. إذا أدرك الإنسان أنه ملكٌ صرفٌ لله «عز وجل» حصل له الخضوع إلى الله «تبارك وتعالى»، فالخضوع الناشئ عن إدراك العبودية والناشئ عن إدراك ملكية الله «عز وجل» يعبّر عنه بالعبادة، فعندما يقول القرآن: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، فمعنى ذلك: إلا ليصلوا إلى هذه الدرجة، وهي درجة الخضوع والتسليم والانقياد لله «تبارك وتعالى»، فدرجة الخضوع والتسليم والانقياد والاعتراف بأن الله يملكنا بتمام شؤوننا وأمورنا هي العبادة التي تحدثت عنها الآية المباركة.

النقطة الثانية: دراسة ظاهرة التدين.

هناك سؤالٌ كثيرًا ما يُطْرَح: ظاهرة التدين هل هي في حالة انتشار في مجتمعاتنا أم أن ظاهرة التدين في ظاهرة تضاؤل وتراجع وخفاء؟ هل التدين في طريق الانتشار أم أن التدين في طريق الانحسار والتراجع والتضاؤل؟ هذا سؤال يطرحه الكثير من الآباء والكثير من المخلصين للدين: في أية حال وفي أي مسار هو التدين؟

البعض يقول بأن التدين في حالة انتشار، ولذلك نرى الصحوة الإسلامية تملأ العالم، حيث إن أحداث 11 سيبتمبر في صالح الإسلام وليست ضده، والغربيون في أمريكا وفي أوروبا يتوقون الآن إلى أي كتاب يتحدث عن الإسلام، وهناك ملايين النسخ للقرآن وللكتب الإسلامية التي تنفذ خلال أيام قلائل في أمريكا وأوروبا، فالجميع يريد أن يقرأ عن الإسلام، والجميع يريد أن يتعرف على الإسلام، والجميع يريد أن يعرف معالم الإسلام وملامحه، فالتدين في حالة انتشار؛ لأن الصحوة الإسلامية سيطرت على الإعلام، وبدأ الإعلام الغربي والشرقي يدور بين فلكين: هل الإسلام أم الغرب؟ هل الإسلام أم الديمقراطية الغربية؟ فأصبح الإسلام جزءًا من السؤال، وجزءًا من الاستفهام المطروح على جميع القنوات وفي جميع الحوارات.

وفي المقابل، يقول البعض بأن التدين في حالة انحسار وتراجع؛ لأننا نجد تضاؤل عدد المصلين في المساجد، وتضاؤل عدد المحجبات، وتضاؤل عدد المتبرعين في الجمعيات والصناديق الخيرية، وتضاؤل الملتحين، وهكذا نجد أرقامًا عديدة تتضاءل وتتراجع، وهذا التضاؤل قرينة واضحة على أن ظاهرة التدين في حالة تراجع وانحسار، وليست في حالة انتشار وصيوع وذيع لها في كل مكان.

نحن عندما نطرح هذا السؤال - هل التدين في حال انتشار أم في حال انحسار - فلا بد من أن نحدّد أولاً معنى التدين، ونعرف الفرق بين التدين وروافد التدين، فإذا حدّدنا التدين وحدّدنا الفرق بينه وبين روافده استطعنا الإجابة عن هذا السؤال، فما هو التدين؟ وما الفرق بينه وبين روافد التدين؟

عندما التأمل في مضامين ومداليل القرآن الكريم نرى أن التدين الواقعي هو العبادة، والعبادة - كما شرحناها - هي الخضوع النفسي الداخلي لله «تبارك وتعالى»، وهذا التدين يظهر في حالات الضعف والقوة عند الإنسان، فمثلاً: يقول القرآن الكريم: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، أي أن الشهوة عندما تسيطر على الإنسان، وينجرف نحو المعصية، تطرؤ عليه لمحة ربانية من الله «تبارك وتعالى»، وتحصل له حالة من الخوف والحذر والقلق، فيتراجع عن المعصية، وهذه الحالة من الخوف والحذر علامةٌ على التدين، حيث ظهر التدين هنا بالخضوع لله «عز وجل» في حالات المعصية.

وكذلك الحال في حالات القوة، فإن الإنسان عندما يتقدّم للعطاء الاجتماعي، بالمساهمة في الجمعيات والصناديق الخيرية مثلاً، فإن دافعه هو ما تحدث عنه القرآن الكريم بقوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، فهنا ظهر التدين من خلال الخضوع لله في حالات القوة.

إذن فالتدين هو الخضوع النفسي لله عز وجل، ولذلك هناك فرق بين روافد التدين وبين التدين، فإن روافد التدين على أقسام ثلاثة: الرافد العقلي، والرافد العاطفي، والرافد التعبدي، وبإيضاح هذه الروافد يتضح الفرق بينها وبين التدين.

الرافد الأول: الرافد العقلي.

التدين ليس حالةً عاطفيةً. الإنسان قد يصبح متدينًا - كما هو حال الكثير من الشباب - لأن أصدقاءه متدينون، أو لأن بيئته بيئة متدينة، أو لأنه سمع المحاضرة فأثّرت فيه، والحال أن هذا مجرد تدين عاطفي انفعالي، يزول بأسرع وقت، ويزول لأدنى هزة، ويزول لأدنى إعصار، ولأدنى عاطفة. يجب أن يكون التدين على أساس عقلي، ويجب أن يكون المتدين صاحب وفرة من الأدلة ومن البراهين العقلية، بحيث يكون إنسانًا مثقفًا مطلعًا، فإن المتدين غير المثقف تدينه معرّض للزوال، ومعرّض للانقراض، ومعرّض للخفاء؛ لأنه لا يرتكز على أسس عقلية، فلا بد من وفرة على الأدلة العقلية، كدليل وجود الله، ودليل نبوة النبي، ودليل إمامة الإمام. لا بد أن يكون المتدين في حالة بحث وتنقيب وثقافة ومعرفة بالبراهين والأدلة التي تدعم تدينه؛ لكي يكون على أساس راسخ ودعامة وطيدة.

مثال: قناة المستقلة ظهرت منذ شهر رمضان إلى الآن، وطرحت شبهات في العقيدة الإمامية، وبمجرد أن طرحت هذه الشبهات أصاب الكثير من الناس حالة من الفزع والقلق والشك، وكأن المذهب الشيعي سقط! هذا المذهب الذي ظل 1400 سنة صامدًا شامخًا، له علماء وفلاسفة ومفكرون، وله كتب ومطارحات فكرية، أسقطته قناة المستقلة خلال شهر واحد! وبدأت حالة القلق والفزع تنتشر في نفوس كثير من المتدينين: كيف نجيب عن هذه الشبهات؟! كيف نجيب عن هذه الأسئلة؟! كيف نحل هذه الطلاسم؟! وبدأ الاتكال على المنبر الحسيني اتكالاً كبيرًا، بحيث أصبح الناس يطالبون المنبر الحسيني بالإجابة عن جميع الأسئلة والشبهات والإشكالات، وإلا فالمنبر مقصّرٌ ومتراجعٌ ومتخاذلٌ؛ لأن هذه القناة زرعت شكوكًا وقلقًا وفزعًا في نفوس المؤمنين!

هذا يكشف عن ضحالة الثقافة، ويكشف عن عدم إصرار المؤمنين على الثقافة العقائدية، فإننا مشغولون مع بيوتنا وأهلنا ووظائفنا وأولادنا ونزهاتنا وسفراتنا ولذاتنا، فلا نفتح كتابًا ولا نقرأ موضوعًا ولا نحاول أن نثقف أنفسنا، وإنما الوظيفة كل الوظيفة على المنبر الحسيني! وأما نحن فلا شغل لنا سوى أن نذهب إلى الوظيفة، ونرجع من العمل، ونتغدى، ونخرج في نزهة، ونلتقي مع الأصدقاء، وانتهى الأمر! هذا كاشفٌ عن حالة من التقصير، فإن عندنا تقصيرًا في الجانب الثقافي وفي الرافد العقلي للتدين، ونتيجة هذا التقصير أصاب الكثيرُ منا الفزعُ والقلق، إن لم يصبه الشك والتردد والريبة في بعض المعتقدات والمبادئ! رغم أن الكتب متوفرة، والعلماء متوفرون، والمواقع الإنترنتية التي تتحدث عن العقيدة الإمامية متوفرة، ومع ذلك فالتراجع وعدم الإصرار على الثقافة حالة منتشرة ومخيّمة على الكثيرين.

إذن فالرافد العقلي مطلوب، فإن الإنسان إذا كانت عنده ثقافة قوي إيمانه واعتقاده وتدينه، فالتدين يحتاج إلى رافد عقلي، وهذا ما نصّت عليه الآية المباركة: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، أي أن الخضوع النفسي يتأثر بالعلم، فالعلم رافد عقلي، والعلم طريق من طرق الخضوع النفسي، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ.

الرافد الثاني: الرافد العاطفي.

نلاحظ أن التدين يعرض عليه الجفاف أحيانًا، فيشعر بأنه يتعامل مع الدين معاملة حرفية وظيفية، كما يتعامل مع وظيفته تمامًا، فمثلاً: أنا موظف في المدرسة أو في أرامكو أو في البريد، وأتعامل مع وظيفتي معاملة حرفية، حيث يوجد لدي جدول أعمال معروف، وأبدأ بهذه الجدول من الساعة الثامنة إلى الساعة الواحدة مثلاً، فإذا قمت به انتهت وظيفتي. الكثير من الناس تدينه هو عبارة عن معاملة حرفية، حيث يتعامل مع الصلاة معاملة جافة، ويتعامل مع الدعاء معاملة جافة، فيصلي لأن الله أمره بالصلاة فقط، ويقرأ الدعاء لأنه مستحب فقط، فتعامله مع الدعاء ومع العبادة ومع المسجد تعاملٌ حرفيٌ وظيفيٌ، أي أن المسجد والدعاء من جدول أعماله فقط، ولا شيء غير ذلك. ولذلك هذا الإنسان لا يتذوق الدعاء، بل يقرؤه بدون تذوق، وهذا نظير الإنسان الذي يأكل الطعام وهو لا يرغب فيه.

ولذلك إذا رأى الناس يصلون النافلة فإنه يصلي مجارةً لهم بدون إقبال ولا تذوق ولا تفاعل، وهذا ما نعبّر عنه بمرض الجفاف العاطفي، وهو ما عبّر عنه القرآن بمرض القسوة، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، فيصبح القلب قاسيًا كالصخرة الصماء، بحيث لا يتفاعل مع دعاء ولا مع عبادة ولا مع نافلة ولا مع قراءة قرآن، وهذا الجفاف الروحي وهذه القسوة تضعف التدين، وتضعف حالة الخضوع عند الإنسان، ولذلك يحتاج الإنسان إلى روافد روحية، كصلاة الجماعة، والأجواء المسجدية، والأجواء المأتمية، فإن هذه الأجواء تصبغ على الإنسان حالة من التفاعل والتجاوب والتعاطف مع العبادة ومع الدين، فصلاة الجماعة رافدٌ عاطفيٌ للدين.

كذلك الدعاء المبكي، ولا أعني أي دعاء، بل الدعاء المبكي، كأدعية الصحيفة السجادية، فإن الإنسان يحتاج إلى البكاء، لأن القلب المتصلب كالصخرة الصماء لا يذيبه إلا الدعاء المبكي، فإن هذا الدعاء هو الذي يغسل القلب وينفضه ويهزه من عميق وجدانه، ويزرع فيه الرافد العاطفي للدين. ولذلك الإمام زين العابدين يقول: ”وما لي لا أبكي“، البكاء وسيلة ضرورية ورافد عاطفي لديني وعبادتي، ”وما لي لا أبكي ولا أدري إلى أين مصيري وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت“، فالإنسان محتاج إلى روافد عاطفية كما هو محتاج إلى روافد عقلية.

الرافد الثالث: الرافد التعبدي.

الإنسان أحيانًا يطرح سؤالاً: لماذا اللحية؟ ما هي قيمة اللحية؟! أنا متدين سواء جعلت اللحية أم حلقتها، فالتدين لا ربط له باللحية. لماذا يحرم استماع الأغاني؟! ما المانع من أن أروّح عن نفسي وأهز وجداني بأن أستمع لأغنية مطربة تعطيني شيئًا من النشوة والسعادة وتغيير الأجواء الروتينية الثقيلة؟! أي ربط بين التدين وبين حرمة سماع الأغاني؟!

نقول: كما أن هناك روافد عقلية يحتاج إليها التدين، وروافد عاطفية يحتاج إليها التدين، كذلك يوجد روافد تعبدية يحتاج إليها التدين، فمثلاً: لماذا نصلي المغرب ثلاث ركعات ولا نصليها أربع ركعات؟! لماذا نطوف بالكعبة سبعة أشواط ولا نطوف ثمانية أشواط؟! لماذا نرمي الجمرة بسبع حصيات ولا نرميها - بما أنها رمز للشيطان - بمئة مثلاً؟! لماذا هذه الأعداد؟! هذه كلها مظاهر تعبدية، والهدف منها تربية روح التعبد عند الإنسان.

ولذلك الجندي عندما يدخل التدريب الإجباري - كما في بعض الدول - يقال له: اعمل التدريب الفلاني، استرح، استعد، يمين، يسار، شمال، فوق، تحت... فإن قال: ما هو الداعي؟! ما هو السبب؟! لماذا؟! قيل له: لا علاقة لك بالداعي والسبب، فإن الغرض من هذا التدريب أن نربيك على روح الإطاعة، فليس الهدف هدفًا رياضيًا ولا اجتماعيًا ولا ماديًا، وإنما الهدف منه أن تربّى على روح الإطاعة، حتى تصبح إنسانًا مطيعًا.

كذلك عندما يقول لنا الإسلام: صل المغرب ثلاث ركعات وطف سبعة أشواط بلا زيادة ولا نقصان، فإن الهدف من هذه الأمور تربية إرادة الإنسان على روح التعبد والتقيد بالأوامر الشرعية، فإذا قام الدليل لدى الفقيه على حرمة حلق اللحية، وقال بأن حلق اللحية حرام، أو قال بأن الأحوط وجوبًا عدم حلق اللحية، أو قال بحرمة استماع الأغاني، فإن الهدف من هذه الأحكام الشرعية هو تربية روح التعبد والتقيّد عند الإنسان، ولذلك نعبّر عنها بالروافد التعبدية.

إذن فالإنسان محتاج إلى رافد عقلي ورافد عاطفي ورافد تعبدي، فإذا اجتمعت هذه الروافد واقترنت كان خضوع الإنسان لربه خضوعًا راسخًا صامدًا، وكان الإنسان متدينًا تدينًا حقيقيًا. وعلى ذلك، فعندما نسأل: هل التدين في حال انتشار أم التدين في حال انحسار وانكسار؟ فالجواب عن ذلك: أن التدين ليس هذه المظاهر، فهو ليس مجرد اللحية، وإنما اللحية رافد من الروافد التعبدية، وليست هذه الروافد هي التدين، وكذلك تضاؤل عدد المصلين لا يعني أن التدين تراجع، وتضاؤل عدد المحجبات لا يعني أن التدين تراجع، وإنما هذا تراجع في روافد التدين وليس في نفس التدين. كذلك عندما يقال بأن الصحوة الإسلامية ملأت العالم، فإن هذا لا يعني أن التدين ملأ العالم، وأصبح الكل خاضعًا لله عز وجل، حتى يقال بأن التدين في حال انتشار وذيوع. إذن فلا بد من تحديد معنى التدين لنعرف أنه في حال انتشار أم في حال انحسار.

النقطة الثالثة: تسليط الضوء على أسباب تراجع التفاعل بين الجيل الجديد والأجواء الدينية.

المشكلة الفعلية المعاصرة ليست هي مشكلة تراجع التدين، بل إن المشكلة الفعلية أن الجيل الجديد من أبنائنا - جيل الثانوية وجيل الجامعة - غير متفاعل مع الأجواء الدينية، فإذا ألقينا نظرة على المساجد نجد أن أغلب حضور المساجد هم من الكبار، من سن الثلاثين فما فوق مثلاً، وكذلك الحال في حضور المآتم، وكذلك أيضًا المشاركات في الصناديق الخيرية وفي الأعمال التطوعية وفي الندوات وفي المهرجانات وفي الاحتفالات، فالمشكلة الخطيرة هي عدم تفاعل الجيل الجديد مع أجواء التدين، ومع أجواء المسجد، ومع أجواء المأتم، ومع أجواء الجمعية، ومع سائر الأجواء التدينية الأخرى.

وهذه مشكلة خطيرة؛ لأن هؤلاء هم المستقبل، وبالتالي إذا انقرض الجيل القديم فسيبقى الجيل الجديد بلا أجواء دينية، فالمشكلة كل المشكلة تكمن بين عدم التفاعل بين الجيل الجديد بشكل واضح وبين الأجواء الدينية، وبعبارة أخرى: عدم التفاعل بين الجيلين، فإن جيل الثلاثين فما فوق ليس متفاعلاً في الأجواء الدينية مع جيل العشرين فما تحت، ولا نستطيع تحديد طرق علاج أي مشكلة اجتماعية حتى نحدد أسبابها، فإذا عرفت أسباب المشكلة عرفت طرق علاجها والوقاية منها، ولذلك نتعرض لبعض أسباب هذه المشكلة حتى نعرف من خلالها طرق علاجها وطرق الوقاية منها.

السبب الأول: غياب الدور التربوي.

الدور التربوي للأسرة وللمدرسة دورٌ مُغَيَّبٌ، فمثلاً: الأب مشغول بوظيفته وعمله ورزقه وجيبه، وليس عنده وقت ليجلس ساعة في اليوم أو ساعة في الأسبوع مع أبنائه ليتحدث معهم عن أهمية المسجد، وعن قيمة أهل البيت، وعن أهمية الدعاء، وعن أهمية النافلة، وعن أهمية القرآن. إذا كان الأب بنفسه غير متفاعل فكيف يتفاعل أبناؤه؟! الدور التربوي للأبوين غائب.

من الضروري أن يجلس الأب مع أبنائه ولو ساعة في الأسبوع للحديث عن عطاء المسجد، وعطاء الخطيب، وعطاء المنبر، وعطاء الإصلاح الاجتماعي، وعن عطاء أهل البيت وأهمية تاريخهم. فليسأل كل واحد منا نفسَه: أينني عن قوله تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا؟! أنا أراقب ابني حتى يذاكر دروسه، وحتى ينجح في الامتحان، وأراقبه كي يتفاعل مع المدرسة أو الكلية أو الجامعة، ولستُ مستعدًا لمراقبته من ناحية تفاعله مع المسجد أو المأتم أو الأجواء الدينية الأخرى!

كذلك حال المدرس مع الأسف، إذ لعل 50% من المدرسين هم من أبناء مجتمعنا الآن، وهم من أبناء هذا الدين، والقسم الأكبر منهم من طبقة المتدينين والملتزمين، ومع ذلك أين هو الدور التربوي؟! الدور التربوي غائب، إذ أن علاقة المدرّس مع التلميذ علاقة شرح المادة! أنا أشرح المادة ولستُ مكلفًا بشيء! أنا أشرح المادة وأخرج من الفصل! لا يا أخي، أنت مكلف، والقرآن نفسه يراك مكلفًا، حيث يقول: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فالمدرس مكلف ومسؤول. على المدرس أن يفهّم هذا الطفل ما معنى الصداقة، ومن هو الصديق الصالح، ومن هو الصديق الفاسد، وما هي الشلة الصالحة، وما هي الشلة الفاسدة، وما هي الأجواء المتدينة، وما هي الأجواء غير المتدينة. عليك أن تبعث روح التدين والانضباط والالتزام في نفس هذا التلميذ وفي قلبه، فقد ورد في الرواية عن أمير المؤمنين : ”إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، كلما ألقي فيها شيءٌ قبلتُه“، فازرع فيه الخيرَ، ولا تزرع فيه أشواك الشر.

السبب الثاني: قصور الخطاب المنبري والمسجدي.

مع الأسف، الخطاب الديني في المسجد والمنبر ما زال خطابًا متخلفًا قاصرًا، إذ ما زال هذا الخطاب محصورًا في المسائل الفقهية، وما زال محصورًا في القضايا العقائدية الخالصة، وهذه القضايا مهمة، إذ أن الفقه مهم، والعقيدة مهمة، ولكن ينبغي للخطاب المسجدي والمنبري أن يكون خطابًا مواكبًا للعصر، ومواكبًا لعجلة الزمن، ومواكبًا لحركة الحضارة. ينبغي أن يكون الخطاب ملامسًا للمشاكل اليومية، وملامسًا للحياة المعاصرة، وملامسًا للهموم الآنية التي تشغل كل إنسان. إذا أراد المسجد وأراد المنبر أن يحضر الجيل الجديد فعلى الخطاب أن يكون خطابًا جذّابًا، فإن الخطاب المنبري والمسجدي إذا كان خطابًا جذّابًا لهذا الجيل، جاء هذا الجيل إلى المسجد وإلى المنبر.

ولذلك نجد أن القنوات الفضائية سحرت هذا الجيل؛ لأن لها أساليب جذّابة. فليكن للمنبر والمسجد أساليب جذابة؛ حتى تجذب هذا الجيل إليها. الخطاب المسجدي والمنبري ينبغي أن يكون راصدًا لما يثار في الساحة العالمية وفي الساحة الإقليمية وفي الساحة الاجتماعية يوميًا. الخطاب المنبري يرصد ما يقال في القنوات الفضائية، ويرصد ما يثار في الساحة الاجتماعية، ويرصد المشاكل المعاصرة المتجددة يوميًا؛ حتى يقدّم الحلول وطرق العلاج، وحتى يتحدث مع الطفل، ومع الشاب، ومع الكبير، عن معاناته وهمومه ومشاكله المعاصرة، وحينئذٍ يكون الخطاب المنبري والمسجدي خطابًا جذّابًا، وحينئذٍ ينحل جزءٌ كبيرٌ من مشكلة غياب الجيل الجديد عن الأجواء الدينية.

السبب الثالث: الافتقار إلى مراكز الأبحاث.

مع الأسف الشديد، نحن عندما تعرض مشكلة اجتماعية، أو تعرض ظاهرة اجتماعية معينة... مثلاً: الكثير من الشباب أيام ليلة النصف من شعبان أو ليلة النصف من شهر رمضان يستغلون هذه المناسبة لتقليد الغرب، حيث يلبسون أزياء غريبة، يستخدمون التفحيط بالسيارات والدراجات النارية، وقد يعتدون على بعض الأشخاص الآخرين، أو قد يعتدون على بعض الممتلكات، وقد يعتدون على بعض الأموال، وقد يتلاعبون بالثروات، ونحو ذلك من التصرفات.

هذه الظاهرة عندما تطرأ فما هي وظيفتنا تجاهها؟ هل وظيفتنا عليها أن ننعى عليها ونبكي قائلين: لماذا حدثت؟! هل وظيفتنا أن نتحدث على المنابر والمساجد بطريقة الوعظ والنصيحة والتهديد والتوعيد؟! ليست هذه وظيفتنا، بل إن وظيفتنا تركيز مراكز بحوث، فإن هذه الظواهر الاجتماعية تحتاج إلى من يدرسها، وتحتاج إلى من يسلط الضوء عليها، وتحتاج إلى أخصائيين اجتماعيين ونفسيين. المجتمع لا بد أن يتطور ويتقدّم في هذا المجال.

الجمعية الخيرية ليست وظيفتها فقط جمع التبرعات وصرفها على الفقراء، واللجنة الأهلية ليست وظيفتها فقط تفعيل بعض المواهب والمهارات الفنية والتقنية، بل إن وظيفة جمعياتنا ولجاننا ومساجدنا أكبر من ذلك. وظيفتها المنسجمة مع العصر هي تأسيس مراكز البحوث، بحيث يكون عندنا مركز بحوث يضم أخصائيين اجتماعيين ونفسيين يدرسون هذه الظواهر، ويدرسون هذه الأشخاص الذين يقومون بهذه الظواهر، ويدرسون ظروفهم ودوافعهم، ويدرسون ومختلف الحلول وطرق العلاج عندهم، وتُكْتَب على ضوء دراساتهم بحوثٌ.

خطيب المنبر إذا صعد وأمامه بحوث اجتماعية يستند إليها، فهذا خير من أن يصعد المنبر ويتكلم ارتجالاً ومن عقله من دون إحصائيات ولا أرقام ولا أدلة ولا براهين ولا بحوث اجتماعية يرتكز عليها ويستند إليها. نحن نحتاج إلى مراكز للبحوث الاجتماعية حتى نستطيع من خلالها على مواجهة هذه الظواهر، والتغلب عليها، وحسم مادة انتشارها وذيوعها، وإلا فلا فائدة.

التدين هو عبارة عن الاقتداء بخط أهل البيت ، وهذه الليلة ليلة شباب كربلاء، ليلة علي الأكبر، الذي ضرب المثل الأعلى للشاب المتدين، الشاب الذي تجاوب وتقارن عقله مع عاطفته، الشاب الذي ضحى بنفسه قربانًا في سبيل الله.