الدور الأسري للمرأة في الإسلام

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا

صدق الله العلي العظيم

تقدّم إلينا جمعٌ كثيرٌ من الإخوة لطلب تغيير خارطة الموضوعات التي بدأنا بها، فاستجبنا لطلبهم، ولذلك نتجه هذه الليلة إلى مسار آخر، وإلى منهج آخر. انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في نقطتين:

النقطة الأولى: مفهوم النظرية الجندرية.

تحدثت مجموعةٌ من القنوات الفضائية - ومنها قناة الجزيرة - قبل شهر تقريبًا عن مفهوم الجندر، وقد طُرِح هذا المفهوم في مؤتمر التنمية والسكّان في القاهرة عام 94، وتكرر طرحه في مؤتمر المرأة في بكّين عام 95، وتكرّر تناوله في مقررات حقوق الإنسان 254 مرة. مفهوم الجندر بدأته الفيلسوفة الوجودية «سيمون فواغ» في كتابها «الجنس الثاني»، وشرحته إحدى الكاتبات العربيات في كتابها «جدلية الجنس».

ويرتكز هذا المفهوم على الفرق بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي، إذ لا إشكال في أن هناك فوارق طبيعية بين الرجل والمرأة، وبعبارة أخرى: هناك فوارق فيسيلوجية وظيفية هرمونية بين الرجل والمرأة، ولكنها مجرد فوارق طبيعية تفرض على المرأة الحمل والإنجاب والإرضاع.

وفي المقابل، يوجد عنصر ثقافي، وهو إعطاء الدور للمرأة، فمثلاً: اعتبار المرأة زوجة، واعتبارها أمًا، واعتبارها مربيةً. هذه مجرد فوارق ثقافية كما يقول الجندريون، بمعنى أن الطبيعة لم تفرض على المرأة أن تكون أمًا ولا زوجةً ولا مربيةً، ولكن التاريخ والمجتمع البشري لأعرافه وعاداته ورواسبه الثقافية هو الذي فرض على المرأة أن تكون أمًا أو زوجةً أو مربيةً، فهذه الوظائف ما فرضتها الطبيعة، وإنما فرضها المجتمع الذكوري، أي أن التاريخ من خلال رواسبته وتقاليده وعاداته فرض أن للرجل مقام الإدارة والرئاسة، وفرض أن يكون للمرأة مقام الأمومة والتربية ونحو ذلك. ولذلك الجندريون فرّعوا على هذا المفهوم عدة أمور:

الأمر الأول: أن المرأة لها حريتها في التصرف في جسدها.

إذا أرادت المرأة أن تبقى كما هي، أو إذا أرادت أن تحوّل نفسها إلى ذكر، أو إذا أرادت أن تحوّل نفسها إلى جنس ثالث، أو إذا أرادت أن تمارس العلاقة مع الرجل، أو إذا أرادت أن تمارس العلاقة مع امرأة أخرى.. فكل هذه الأمور ترجع إليها. الجندريون يقولون: يُتْرَك للمرأة حريتها في التصرف في جسدها كما تريد؛ لأن الطبيعة لم تفرض عليها أن تكون زوجةً أو أمًا أو مربيةً.

لذلك في مؤتمر التنمية والسكّان الذي عُقِد في هولندا سنة 99 للهجرة، قرّر هذا المؤتمر توصيةً لجميع حكومات العالم أن توزّع حبوب منع الحمل في المدارس والكليات والجامعات، وأن تخصّص عيادات في مختلف المناطق للقيام بالإجهاض الآمن، وبذلك يعطى للمرأة حق التصرف الجنسي في جسدها، وتوفّر لها رعاية الإجهاض الآمن ووسائل منع الحمل.

الأمر الثاني: التحرّر من الأسرة.

لماذا الأسرة بشكلها التقليدي؟! نحن تعرّضنا لهذا المفهوم لأن الأمم المتحدة تريد أن تفرض هذا النوع من القرارات وهذا النوع من المفاهيم على الشعوب الأخرى قبلت أم لم تقبل، ولذلك لا بد أن يلتفت المسلمون إلى هذه المفاهيم التي تعبر من خلال القنوات، وتعبر من خلال ما يسمّى بالديمقراطية، وما يسمّى بعمليات الإصلاح والتغيير، حيث يراد عبور هذه المفاهيم ونفوذها إلى أذهان الشعوب.

من المقررات في وثائق الأمم المتحدة أن الأسرة لا يجب حصرها في الشكل التقليدي، والمقصود بالشكل التقليدي للأسرة: أنها تتكوّن من أب بذكر، ومن أم أنثى، ومن أطفال، فلماذا لا تتحرر المرأة من هذا الشكل التقليدي؟! يمكن أن تتكوّن الأسرة من أشكال أخرى: من رجلين، أو من امرأتين، أو من رجل وجنس ثالث، أو من امرأة وجنس ثالث، فلماذا ينحصر ميثاق الأسرة والربط الأسري بهذا الشكل التقليدي؟! هذا الشكل إنما هو متعارفٌ بين المجتمع البشري نتيجة تأثير التاريخ الذكوري - كما يعبرون - على المجتمعات الإسلامية والشرقية بالذات.

الأمر الثالث: الفرق بين الرجل والمرأة نوعيٌ وليس طبيعيًا.

يجب أن يكون الفارق بين الرجل والمرأة على أساس الإبداع والجهد، فكل من بذل جهدًا ملك وظيفة ومنصبًا، فالفارق بين الرجل والمرأة فارقٌ نوعيٌ يبتني على أساس الجهد والقدرة والإبداع، وليس فارقًا طبيعيًا نتيجة أن هذه امرأة وأن هذا رجل، فمن حق المرأة - كما يقولون - أن تكون رئيسًا لبلد، وأن تكون قائدًا لجيش، ومن حقها أن تكون - كما أصبحت الآن - قائد طيارة، ومن حقها ومن حقها... كل ذلك يتفرع على أن الفرق بين الرجل والمرأة فرقٌ نوعيٌ، أي أنه يبتني على الإبداع والقدرة، وليس فرقًا طبيعيًا.

هذه خلاصة مفهوم الجندر، وهو مفهوم يبلّغ له المثقفون، ويبلّغ له الذين ينادون بعمليات التغيير والإصلاح في الشعوب الإسلامية، ويمرّرون مثل هذه المفاهيم عبر قنواتهم وندواتهم ومؤتمراتهم، فلا بد أن نلتفت إلى مثل هذه الأمور.

النقطة الثانية: موقف النظرية الإسلامية من النظرية الجندرية.

النظرية الإسلامية عندما نبحث عنها نركّز على عدة عناصر:

العنصر الأول: ما هو الفارق بين النظريتين؟

الفرق بين النظريتين في أن الحقوق الأسرية والوظائف الأسرية للمرأة هل ترتبط بالاختلاف الطبيعي بينها وبين الرجل أم لا ترتبط بذلك، وحتى تتضح هذه النقطة نضرب مثالاً بالوظائف الاجتماعية. من الواضح أن الوظائف الاجتماعية ما فرضتها الطبيعة، فإن الإنسان لم يخلق وهو موظف، كما لم يخلق وهو مدرس، ولم يخلق وهو طبيب، وإنما المجتمع بعد أن تشكّل وقام كيانه، وفُتِحَت الفرصة والمجال لكل شخص بحسب مجهوده وإبداعه وقدراته الذاتية والخاصة، فإن نتيجة التسابق بين أبناء المجتمع في ميادين العمل، أصبح هذا مدرسًا، وأصبح ذاك طالبًا، وأصبح الثالث طبيبًا، وأصبح الرابع مهندسًا. إذن فهذه الوظائف ليست وظائف طبيعية، بل هي وظائف اكتسابية فرضها التسابق في مجال العمل وفي ميدان الحيوية الاجتماعية.

عندما نشكّل أسرة ونقول بأن هذا أب وزوج، وتلك أم وزوجة، فهذه وظيفتها الأمومة، وذاك وظيفته القيمومة على الأسرة، فهل وظيفة القيمومة للرجل - بمعنى إدارة الأسرة - ووظيفة الأمومة للمرأة وظيفتان طبيعيتان، أم أنهما وظيفتان اكتسابيتان فرضهما الجو الاجتماعي والتاريخ الاجتماعي؟

هنا موطن الخلاف بين النظرية الإسلامية والنظرية الجندرية، فإن النظرية الجندرية تقول بأن الوظائف الأسرية وظائف اكتسابية كالوظائف الاجتماعية، فكما أن الإنسان ما خلق طبيبًا، ولا خلق مدرسًا، وإنما الأجواء الاجتماعية - أجواء التسابق في ميدان العمل - جعلت هذا طبيبًا وذاك مدرسًا، كذلك المرأة ما خُلِقت أمًا والرجل ما خلق زوجًا ولا أبًا، وإنما التاريخ والعادات والأعراف الاجتماعية هي التي أعطت للرجل منصب القيمومة، وأعطت للمرأة منصب الأمومة، فالاختلاف اختلاف اكتسابي نتيجة التاريخ الذكوري المسيطر على المجتمع.

وأما النظرية الإسلامية فتقول: كون الأنثى أمًا وكون الذكر قيمًا على الأسرة أمرٌ طبيعيٌ فرضته الطبيعة، فالاختلاف بين وظيفة المرأة ووظيفة الرجل اختلاف طبيعي فرضته طبيعة الشخصين، ولم يفرضه المجتمع برواسبه الذكورية، فهناك فرق بين الوظائف الاجتماعية، وبين الوظائف الأسرية، فإن الوظائف الأسرية فرضتها الطبيعة، ولم تفرضها ثقافة المجتمع أو تاريخه، وهذا هو الفرق بين النظريتين.

العنصر الثاني: فلسفة الدور الأسري للإنسان في الإسلام.

نحن نقول بأن الإسلام له فلسفة على ثلاثة مواقع: الموقع الأول: دور الإنسان في الكون، والموقع الثاني: دور الإنسان في المجتمع، والموقع الثالث: دور الإنسان في الأسرة. الإسلام دينٌ له فلسفةٌ حول هذه المواقع كلها، وفلسفة كل دور مرتبطة بفلسفة الإسلام في الدور الآخر، أي أن فلسفة الإسلام حول الإنسان فلسفة متواصلة وليست منفصلة.

لذلك لا يمكن لك أن تناقش الإسلام في فلسفته لدور الإنسان في الأسرة ما لم تطلع على نظرية الإسلام حول دور الإنسان في المجتمع، ولا يمكن لك أن تناقش الإسلام حول فلسفته في الدور الاجتماعي للإنسان ما لم تطلع على نظريته حول دور الإنسان في الكون، فنظريات الإسلام نظريات متصلة، بعضها يتمم بعضًا، وكلها ترجع لجذر واحد، وترجع لنقطة واحدة، ولمبدأ واحد، فلا يمكن التفكيك بين النظريات الإسلامية وبين الفلسفات الإسلامية من حيث المناقشة ومن حيث التحليل، ومن هنا فإننا نرجع أولاً إلى الفلسفة الأولى من هذه الفلسفات، ثم ننطلق للفلسفتين الأخريتين.

الموقع الأول: موقع الإنسان في الكون.

ما هو موقع الإنسان في الكون؟ ما هو دور الإنسان في الكون؟ ماذا يقرّر الإسلام عن مواقع الإنسان في الكون؟ الإسلام يقول: الإنسان في الكون خليفة، دوره دور الخلافة، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فالهدف من وجود الإنسان في هذا الكون هو الخلافة، والخلافة هي إقامة الحضارة، إذ أن الإنسان مسؤول عن إقامة حضارة على هذا الكون.

ربما يقول قائل: الإنسان ما خلق للحضارة، بل خلق للعبادة؛ لأنه الله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، فالهدف من خلق الإنسان هو العبادة، وليس الهدف من خلقه إقامة الحضارة. نحن نقول: لا فرق بين العبارتين؛ إذ أن إقامة الحضارة السماوية على الأرض هي العبادة؛ لأن الإنسان دوره في هذا الكون إقامة الحضارة، وإقامة الحضارة تستتبع أمرين:

الأمر الأول: أن التعاليم الحضارية - أي: المواد التعليمية التي على أساسها يقيم الإنسان الحضارة في هذا الكون - هي تعاليم سماوية، فالمادة الخام التي ينتقل منها الإنسان لإقامة الحضارة هي مادة سماوية، فالخلافة هي الهدف من وجود الإنسان، وهي تعني إقامة الحضارة تحت نظام سماوي، وهذه هي العبادة؛ لأن العبادة ليست صلاة وصومًا وحجًا فحسب، بل العبادة هي أن تكون حضارتك وسوقك وبنكك وتجارتك ومعاملاتك كلها تحت إطار النظام السماوي، لا تحت إطار النظام الأرضي، فأنت في خلافتك في الأرض وفي حضارتك تبعد الله «تبارك وتعالى».

الأمر الثاني: كلما توسّعت الحضارة الكونية اُكْتُشِفَت أسرار الكون، واُكْتُشِفَت رموزه، وحُلَّت طلاسم الكون، وكلما اُكْتُشِفَت الرموز ظهرت القدرة الإلهية، وظهر الإبداع الإلهي، وظهرت الحكمة الإلهية، ولذلك قال «تبارك وتعالى»: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. إقامة الحضارة الكونية اكتشافٌ لقدرة الله، واكتشافٌ للإبداع الإلهي، ومن الواضح أن اكتشاف الإبداع الإلهي من أوضح مظاهر العبادة والقرب من الله «عز وجل»، فلا فرق بين قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وبين قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وكذلك قوله: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ.

الموقع الثاني: موقع الإنسان في المجتمع.

هناك بحث في علم الاجتماع لا وقت عندنا للتعرض إليه: هل الإنسان اجتماعي بطبعه أم أن الإنسان إنسان تعاقدي؟ هل الإنسان مضطر لتأسيس مجتمع؟ هل يجد أن طبيعته وميوله تفرض عليه أن يؤسّسًا مجتمعًا، أم أن الإنسان لا يحتاج إلى المجتمع، ولكنه إذا اضطر فإنه يتعاقد مع غيره في سبيل تكوين المجتمع؟

النظرية الأولى: نظرية التعاقد.

النظرية الشائعة في علم الاجتماع أن المجتمع تعاقدي وليس طبيعيًا، أي أن الإنسان ليس اجتماعيًا بطبعه، بل إن الإنسان يستطيع أن يعيش وحده في الأدغال وفي المغارات وفي الكهوف وفي أي مكان، ولا يرى ميوله الإنسانية تفرض عليه أن ينضم إلى مجتمع أو أن يؤسّس مجتمعًا، ولكن إذا اضطر إلى ذلك وصار مع جماعة في مكان واحد، فإنه يضطر إلى أن يستخدمهم ويستخدموه، وهذا ما يعبّر عنه بنظرية الاستخدام.

أنا نجّار، فأنت تستخدمني لصناعة السرير، وأنت مدرّس، فأستخدمك لتدريس ابني، وذاك الشخص طبيب، فأستخدمه للعلاج، والطبيب يستخدمني - إذا كنت أنا مهندسًا - في بناء بيته، فالإنسان ليس اجتماعيًا بطبعه، ولكنه إذا اضطر لتكوين المجتمع انطلق من نظرية الاستخدام من أجل تأسيس المجتمع، ونظرية الاستخدام هي المسماة بالتعاقد الاجتماعي أو الميثاق الاجتماعي، حيث يحصل بين أبناء المجتمع عملية ميثاق وعملية تعاقد: كلٌ منا يستخدم الآخر في مجال خبرته واختصاصه.

النظرية الأخرى: الإنسان اجتماعي بطبعه.

هذه هي النظرية التي نحن نؤيدها، فنحن نقول بأن الإنسان اجتماعي بطبعه، أي أنه فُطِر على حب المجتمع، فهو مفطور على ذلك، وميوله ميول اجتماعية بفطرته، وجُبِل على ذلك، فنزعاته نزعات اجتماعية، فالإنسان اجتماعي بالطبع، أي أن الإنسان بطبعه - إلا إذا كان إنسانًا متوحشًا أو شاذًا - يميل إلى الاختلاط والارتباط بالمجتمع، وهذا ما يؤكده أيضًا علماء النفس، فإن المدرسة التحليلية في علم النفس - وكذلك المدرسة الاستبطانية - تؤكد على أن من الحاجات الأساسية عند الإنسان حاجة الإنسان للانتماء الاجتماعي، فهو محتاج إلى أن ينتمي إلى مجتمع. ومن أجل هذه الحاجة الأساسية نقول: الإنسان طبيعته تفرض عليه تأسيس المجتمع.

وهذا ما نطقت عليه الآيات القرآنية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، فالنزعة الطبيعية عند الإنسان هي التعارف والارتباط والانتماء الاجتماعي، وذلك لأن الانتماء الاجتماعي يوفّر عند الإنسان الشعور بالأمن، والشعور بالطمأنينة، ويفتح أمام الإنسان الفرصة للإبداع والتغيير والعطاء، فحاجة الإنسان للمجتمع حاجة طبيعية، وحاجة فطرية، فالإنسان اجتماعي بطبعه، وهذه هي فلسفة الإسلام لدور الإنسان في المجتمع.

الموقع الثالث: موقع الإنسان في الأسرة.

دور الإنسان في الأسرة ينحدر عن دوره كخليفة في الكون، وينحدر عن دوره في المجتمع كإنسان متعارف ومتواصل مع الإنسان الآخر، إذ أن العلاقة بين الرجل والمرأة هي علاقة تعارف، فدور الإنسان في الأسرة ينحدر عن دوره الاجتماعي، فالعلاقة هي علاقة الارتباط والتواصل.

وهنا مربط الفرس، وموقع الخلاف بيننا وبين النظرية الجندرية، فإننا نقول بأن الاختلافات الطبيعية بين الرجل والمرأة تفرض على كل منهما التواصل مع الآخر والارتباط به، ولذلك كارل في كتابه «الإنسان ذلك المجهول» وديورانت في كتابه «قصة الحضارة» في بحث مباهج الفلسفة يذكران خلافاتٍ طبيعيةً بين الرجل والمرأة، فالرجل أكثر خشونة، والمرأة أكثر لطفًا، والرجل إحساسته هجومية، بينما المرأة إحساستها سلمية، والرجل يرى سعادته في المنصب والجاه، بينما المرأة ترى سعادتها في امتلاك قلب الرجل.

إذن هناك اختلافات ميولية وطبيعية بين الرجل والمرأة، وهذه الاختلافات الطبيعية تفترض أن يكون دور الرجل والمرأة دور التواصل والتكامل، وهذا ما أكدت عليه الآية المباركة: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، وليست المسألة مسألة تفضيل، فإن الإسلام لم يفضل الرجل على المرأة، كما لم يفضل المرأة على الرجل، وإنما رأى أن كلاً منهما من موقعه محتاجٌ إلى الآخر، وكلاً منهما من موقعه مضطرٌ للارتباط بالآخر والتواصل مع الآخر، فالعلاقة بينهما علاقة التبادل والتكامل، وليست علاقة التقاطع، ولذلك عبّر القرآن الكريم بتعبير دقيق عن هذه العلاقة، فقال بأن النساء لباس للرجال، والرجال لباس لهن، لماذا؟

أولاً: اللباس يوفّر حمايةً للإنسان، إذ أن اللباس يحمي الإنسان من الحر والبرد، ومن آفات الطبيعة، والرجل يحمي المرأة من الانزلاق والانحراف، كما أن المرأة تحمي الرجل من الانزلاق والانحراف، فكل منهما يوفّر حمايةً للآخر.

ثانيًا: اللباس الذي ألبسه يعدَّ زينةً لي، والإسلام يرى أيضًا أن الرجل زينةٌ للمرأة، والمرأة زينةٌ للرجل، فزوجتكَ هي مظهركَ، ومظهركِ هو زوجكِ، ولذك الروايات تؤكد ”اختاروا لنطفكم؛ فإن العرق دسّاس“، وفي رواية أخرى: ”إياكم والمرأة الحسناء في منبت السوء!“؛ لأن المرأة زينتك ولباسك ومظهرك، وكذلك يخاطب المرأة: ”إذا جاءكم من ترضون خُلُقَك ودينَك فزوّجوه“، فيجب أن يكون زوجكِ ذا خلق ودين؛ لأنه مظهرٌ وزينةٌ لكِ.

هذا التعبير القرآني نفسه يحمل بين طياته أن الرجل والمرأة ينحدران عن طبيعة واحدة، وعن منبع واحد، فكل منهما يشعر في صميم وجدانه وفي صميم كيانه أنه محتاجٌ إلى حنان الآخر ودفئه وعنايته، وهذا ما تركّز عليه الآيات القرآنية: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي أنكم طبيعة واحدة ﴿أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، وفي آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ أي: من طبيعة واحدة.

نتيجة البحث:

إذن وصلنا إلى مكمن الاختلاف بين النظرية الجندرية والنظرية الإسلامية، فإن النظرية الإسلامية تقرّر أمرين:

الأمر الأول: أن الوظائف الأسرية - كون الذكر قيِّمًا وكون الأنثى أمًا مربيةً - اختلاف طبيعيٌ فرضته الطبيعة، فإن طبيعة الرجل والمرأة هي طبيعة التبادل والتواصل، وطبيعة التبادل والتواصل تقتضي أن يكون الرجل زوجًا والمرأة زوجة، وذاك قيمًا وهذهِ أمًا.

الأمر الثاني: علماء الاجتماع أنفسهم يقرّرون أنه لا يمكن للإنسان أن يُبْدِع في أي مجال إلا إذا كان المجال مناسبًا لطبيعته وميوله، ولذلك لو أخذتَ ابنك الذي ليست عنده أي رغبة في الطب ووضعتَه في مجال علم الطب لما أبدع، وكذلك لو وضعتُه في قسم الرياضيات مع أن ميوله متجهة نحو علم الطب، فلا يبدع الإنسان في مجال إلا إذا كان منسجمًا مع طبيعته وميوله.

ومن هذا المنطلق وضع الإسلام المرأة في الوظيفة المنسجمة مع طبيعتها الأنثوية، فوضعها أمًا مربيةً مدرّسةً طبيبةً ممرضةً أديبةً مثقفةً، وهذا كله ينسجم مع طبيعتها الأنثوية. كما وضع الرجل في وظيفة تتناسب مع طبيعته الذكورية من كونه قيّمًا على الأسرة ومديرًا لأوضاعها، أو كونه ينطلق إلى منطلقات أخرى، كقائد جيش ورئيس حرب وصاحب معسكر، فإن هذا كله ينسجم مع الطبيعة الذكرية للرجل.

مسألة التفاضل بين الرجل والمرأة:

الإسلام - كما ذكرنا - لم يفضّل الرجل على المرأة، ولذلك نرى القرآن الكريم ضرب مثلاً للذين آمنوا بالنساء، حيث قال: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، فآسية بنت مزاحم مثلٌ للذكور والإناث في الصمود والتحدي وقوة الإرادة أمام الإغراءات وأمام الدنيا وزخارفها وبهارجها، والمثل الآخر للذين آمنوا: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا، فمريم مثلٌ للعفاف، ومثلٌ للتواصل والقرب من الله «تبارك وتعالى».

ومن أعظم الأمثال للمرأة المؤمنة: فاطمة الزهراء التي مدحها القرآن الكريم في آية المباهلة: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ، فاعتبر فاطمة الزهراء ممثلة لنساء الأمة كلهن، فاختصر «نساءنا» في امرأة واحدة، وهي فاطمة الزهراء. كما مدحها في آية التطهير عندما قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، فكانت تحت الكساء مع أبيها حيث قال: ”اللهم هؤلاء أهل بيتي“ كما في صحيح مسلم. ومدحها القرآن أيضًا في سورة الدهر: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا.

هذه المرأة العظيمة مدحها القرآن لأنها فعلاً تحلّت بأروع الصفات والخصال التي أرادها الله «تبارك وتعالى» للمرأة المسلمة وللمرأة المؤمنة. فاطمة الزهراء «سلام الله عليها» انظر إلى تاريخها، تاريخ البطولة والجهاد، حيث وقفت دفاعًا عن منصب الإمامة، ودفعت عن حق الأمة الإسلامية في القيادة والإمامة، وبذلت كل ما عندها في سبيل الدفاع عن موقف الإمامة وحق الأمة الإسلامية في القيادة والإمامة، وقالت: ”وماذا نقموا من أبي الحسن؟! نقموا منه والله نكير سيفه، وقلة مبالاته بحتفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته“.

السيدة الزهراء لها ثقلٌ عظيمٌ في نفوس المسلمين، ولها مركزٌ كبيرٌ في قلوب المسلمين، ولذلك الإمام علي كان يكرّم أولادها أكثر مما كان يكرّم أولاده، ولذلك قدّم محمد بن الحنفية يوم صفين وأعطاه الراية، فقالوا: يا أبا الحسن، كيف قدّمت ابن الحنفية على الحسن والحسين وهما إمامان قاما أو قعدا؟ قال: ”محمد ولدي أزجّ به في المهالك، وهذان ولدا رسول الله ثقلا رسول الله في الأرض، أحافظ عليهما، وأرعى عهدهما“، فكان يجعل أولاده فداءً لأولاد فاطمة، وكان يجعل أولاده ضحيةً وقربانًا لأولاد فاطمة الزهراء «سلام الله عليها»، ولذلك تزوّج فاطمة الكلابية أم البنين الأربعة؛ حتى تلد له أولادًا يفدون بأنفسهم ابنه الحسين بن علي.