الدرس 56

الخلل الواقع في الصلاة

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

تقدم في الأمر الخامس: أنّ سيّدنا فصّل في الأمارات المثبتِة للقبلة، بين الأمارات الحدسية والأمارات الحسّية.

فذْكرَ: أنّ الحدسية لا دليل على اعتبارها في مورد يمكن نيله بالحس. ومثّلَ للأمارات الحدسية: بما يتولد منه الظن بالقبلة، كالمحاريب والقبور؛ فإنّ الإستناد إلى محاريب المسلمين وقبورهم في استكشاف القبلة من الأمارات الحدسية؛ فلولا قيام سيرة المتشرعة عليها لما قلنا بحجيتها، وإنّما نقول بحجيتها في فرض عدم إمكان تحصيل العلم كما ذكرَ.

وأمّا الأمارات الحسّية: فهي عبارة عن الطريق المؤدي للوصول إلى القبلة حسّاً أو بمقدمات قريبة من الحس. نظير استقبال قرص الشمس في اليوم الثامن من برج الجوزاء، حيث إنّه مساوقٌ لاستقبال جرم الكعبة قطعاً، وهذه الأمارات الحسّية حجة مطلقاً، والوجه في ذلك: أنّها مفيدة للعلم، فلا وجه لتحديد حجيتها بفرض دون فرض. وبناءً على هذا التقسيم الذي ذكره «قده»: أنّه لو قامت البيّنة على القبلة - أي: شهادة رجلين عادلين أو عدل، بل مطلق الثقة - لما بنينا عليه في الأصول من حجية خبر الثقة في الموضوعات، فإن كان مستنداً إلى الحس فهو حجة مطلقاً، أي: سواءً أمكننا تحصيل العلم بالقبلة أم لا، والوجه في ذلك: إطلاق دليله. فإنّ مقتضى اطلاق دليل حجية البيّنة أو دليل حجية خبر الثقة: أنّه علمٌ، سواء أمكنك تحصيل العلم أم لا.

وأمّا إذا كانت البيّنة أو خبر الثقة مستنداً إلى الحدس: فلا حجية له أصلاً، لا أن نقول: أنّه حجة في فرض دون فرض، إذ المفروض أنّه من موارد الحس.

نعم، لو لم يمكنه تحصيل العلم، لدخلت هذه الأمارات الحدسية أو البيّنة المستندة إليها في عنوان التحرّي. وقد استفدنا من صحيحة زرارة يجزي التحري أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة أنّ التحرّي - أي الأخذ بالاحتمال الأقوى - مجزٍ، فيدخل الحدس ضمن عنوان التحرّي.

ويضاف إلى كلامه «قده»: أنّ ما دلّ على حجية البيّنة أو حجية خبر الثقة في مطلق الموضوعات، وإن كان مستنداً إلى الحس مقيّدٌ بما إذا لم يقم منشأ عقلائي على خلافه، فلو قام منشأ عقلائي على خلاف البيّنة أو على خلاف خبر الثقة فإنّه لا مقتضٍ فيه للحجية أساساً؛ بلحاظ أنّ ما دلَّ على حجيته ما هو إلّا إمضاء وإرشاد لما عليه البناء العقلائي، والبناء العقلائي قاصر عن الأخذ بالبيّنة أو خبر الثقة مع وجود منشأ على الخلاف، فلذلك في المقام نقول لو فحص المكلف وتوصل حدساً إلى أنّ القبلة جهة معينة ولكن البيّنة قامت على إنّه جهة أخرى استناداً إلى الحس، فهنا لا دليل لحجية البينة أو خبر الثقة في حقه.

الأمر السادس: في كلمات العلمين سيد العروة والسيد الخوئي: أنّه إذا لم يمكن تحصيل العلم بالقبلة فما هي الوظيفة؟.

قال سيدنا: «المشهور شهرة عظيمة، بل عن المعتبر وغيره نسبته إلى علمائنا، بل عن الغنية دعوى الإجماع عليه». أنّه يصلّي إلى أربع جهات، وخالف آخرون في ذلك.

وأما المشهور فذكروا عدة أدلة:

الدليل الأول: منجزية العلم الاجمالي؛ فإذا علم أن القبلة في إحدى الجهات الأربع، فمقتضى منجزية العلم الاجمالي: هو الفراغ اليقيني بالصلاة إلى الجهات الأربع.

هنا أشكل سيدنا: أنّه تارة نبني على أنّ القبلة خصوص جرم الكعبة، وتارة نقول أنّها أوسع من ذلك فما بين والشمال قبلة. وهذا المبنى لا يراه السيد الخوئي.

فإن قلنا بالمبنى الاول: أنّ القبلة لكل أحد جرم الكعبة، فلا مناص من الصلاة إلى سبعة جهات لا اربع، فإن مقتضى منجزية العلم الاجمالي أن يصلّي إلى سبعة جهات؛ والوجه في ذلك: ما ذكرناه سابقاً توضيحاً لكلام المحقق النائيني في كتاب الصلاة، وهو مبني على مقدمات ثلاثة:

المقدمة الأولى: إنّ نسبة الجبهة إلى دائرة الرأس نسبة السبعة، باعتبار أن الرأس مكون من ثمان وشعرون أصبعاً، وحيث إنّ الجبهة تساوي أربعة أصابع مضمومة فلا محالة تكون نسبتها إلى دائرة الرأس هي السبع.

المقدمة الثانية: أنّه لو وقعت دائرة صغيرة ضمن كبيرة وكانا مشتركين في المحيط، فإنّ كل جزء من الدائرة الصغيرة يوازي نفس الجزء من الدائرة الكبيرة فيتسع باتساعه، فلو رسمنا دائرة لرأس المصلي الذي تكون الجبهة بالنسبة إليه بمقدار السبع ورسمنا دائرة للأرض كلها بما يشمل الكعبة وجعلنا القطر للدائرتين، واحداً يمر برأس المصلّي فلا محالة السبع من الدائرة الصغيرة وهو دائرة رأس المصلّي مواز للدائرة الكبيرة، غاية الأمر أنّ هذا السبع من الكبيرة يتسع باتساع محيطها، فلأجل ذلك: لو وقعت الكعبة في إطار هذه السبع، بمعنى: أنّ المصلّي واقعاً كانت جبهته موازية لجهة الكعبة، كما لو فرضنا أنّ الكعبة في جهة الغرب أو المصلّي اتجه للغرب، فلا محالة الجبهة محاذية حقيقة لجرم الكعبة باعتبار أن سبع الجبهة مواز لسبع الدائرة الكبيرة، والمفروض أنّ الكعبة واقعة في إطار هذا السبع، فأي سهم يخرج من الجبهة يقع على الكعبة.

المقدمة الثالثة: مقتضى ذلك انقسام دائرة الأفق إلى سبعة أقسام، فمن أجل تحصيل العلم بالصلاة إلى جرم الكعبة لابد من الصلاة إلى سبعة جهات، أي: سبعة أقسام بعدد أقسام دائرة الأفق. وبعبارة أخرى: إنّ نسبة سبع الدائرة إلى تمام محيط الدائرة نسبة «52 درجة»، لأنّ محيط الدائرة يساوي «360»، فسبعها بمقدار «52» وشيء.

وحينئذٍ بناءً على ذلك نقول: ما كان ضمن «53 درجة» فهو ضمن سبع الدائرة، لأجل ذلك: لو افترضنا أنّ المصلّي توجه إلى جهة الغرب التي هي جهة الكعبة وصلّى، فإذا لم تخرج الكعبة عن «52 درجة» فمقتضى ذلك وقوع المحاذاة الحقيقية بين جبهة المصلّي وبين جرم الكعبة؛ فمقتضى ذلك: من أجل تحصيل العلم بوقوع الصلاة إلى نفس الكعبة أن يكرر الصلاة في كل «52 درجة» فيكون احرز أنّه صلّى إلى جرم الكعبة.

ول?ن، في «ج11، ص442» قال: «نظراً إلى أنّ عرض الجبهة التي هي المناط في المواجهة تعادل أربع أصابع تقريباً التي نسبتها إلى مجموع دائرة الرأس وهي ثمان وعشرون إصبعاً تقريباً هي السبع، وبما أنّ تمام الدائرة ثلاثمائة وستون درجة فسبعها يكون اثنتين وخمسين درجة. وعليه: فعند الاتجاه إن كانت‌ الكعبة موازية لوسط الجبهة فهو، وكذا لو كانت منحرفة إلى أحد الجانبين، أي: بمقدار ست وعشرين درجة من كل جانب، فإن الانحراف بهذا المقدار غير قادح في صدق الاستقبال الحقيقي كما تقدم، وإنما القادح هو الأكثر من ذلك».

أقول مقتضى ذلك: أنّه لو كانت الكعبة منحرفة بمقدار «27 درجة» فإنّ هذا قادح في الاستقبال مع أنّ مقتضى كلامه السابق أنّ الكعبة لو وقعت في أول الجبين فهل هذه الصورة منافية للاستقبال أم لا؟. فهذا التفصيل لا معنى له لأنّ الكلام أنّه متى ما وقعت الكعبة ضمن السبع فالاستقبال متحققٌ، لا يتصور انحراف ل «26 درجة»، إمّا أن تكون الكعبة واقعة ضمن السبع أو لا كعبة، إمّا منحرفة «26» أو أزيد فهذا التفصيل لا معنى له. ففرق بين ما ذكره في «ص432 - 443». هذا كله إذا بنينا على أنّ القبلة عين الكعبة.

وأمّا إذا بنينا على التوسعة: أي: أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة، فتكفي الصلاة إلى ثلاثة جهات. قال سيدنا: ب «جواز الاكتفاء بثلاث صلوات إلى زوايا مثلث مفروض في دائرة الأُفق، إذ البعد بين كل زاويتين منها مائة وعشرون درجة، فغاية الانحراف حينئذٍ ستون درجة، لكن النص قد دلّ على لزوم الأربع، فيؤخذ بهذا العدد تعبداً». فمتى ما وقف المصلّي إلى أي جهة فالمفروض أن ما بين اليمين واليسار قبلة ما بين اليمين إلى اليسار «180 درجة»، محيط الدائرة «360 نصفها 180»، فإذا قلنا أنّ القبلة ما بين المشرق والمغرب، أي ما بين ال «180 درجة» قبلة، وعليه حتّى نحرز وقوع الجبهة إلى الكعبة أو ما بين مشرقها ومغربها نقسّم الدائرة إلى ثلاثة أقسام كان كل قسم «120 درجة»، فإذا صلّى المكلّف على رأس «120» ثلاث صلوات فهو قد أحرز أنّه إما اتجه إلى عين الكعبة أو ما بين مشرقها ومغربها.

ومقتضى ذلك: أنّ الانحراف الضائر ما كان أكثر من «60 درجة». هذا تمام كلامه في الرد على الدليل الأول.

والحمدُ لله ربِّ العالمين