الميزان في القيم الأخلاقية

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في ثلاث نقاط:

  • في بيان الميزان في قيمة القيم.
  • في بيان المعيار في الخلق.
  • في الحديث حول خلق الحرية عند الإنسان.
النقطة الأولى: بيان الميزان في قيمة القيم.

القيم التي نحن نؤمن بها.. نحن نؤمن بأن الصدق جميل، ونؤمن بأن الأمانة شيء جميل، فهل الميزان في قيمة القيم ميزان فطري أم ميزان اجتماعي؟ هناك بعض الأمور فطرية، وهناك بعض الأمور اجتماعية. مثلاً: حاجة الإنسان إلى الغذاء أمر فطري أقره المجتمع أم رفضه، وكذلك حاجة الإنسان إلى الجنس، فإن الفطرة تؤمن أن الإنسان يحتاج إلى الجنس والغذاء، وهذا الأمر الفطري لا يختلف باختلاف المجتمع ولا يتخلف بتغير الأزمنة، فهو أمر فطري ثابت.

لكن بعض الأمور ليست فطرية، وإنما هي أمور اجتماعية، كتقسيم الوقت مثلاً، فإننا نقسم الوقت إلى سنة، والسنة إلى اثني عشر شهرًا، والشهر إلى ثلاثين يومًا، واليوم إلى أربعة وعشرين ساعة، والساعة إلى ستين دقيقة، فهل هذا التقسيم فطري أم أمر اجتماعي؟ من الواضح أنه ليس فطريًا، وإنما المجتمع البشري من أجل تنظيم مصالحه وأهدافه اخترع هذا التقسيم، فقسّم الأوقات إلى سنين وشهور وأيام ودقائق، فهذا التقسيم أمر فطري وليس اجتماعيًا، ولذلك الإنسان الذي يعيش في الغابات مثلاً لا يعرف هذا التقسيم أبدًا، فهذا التقسيم من مخترعات المجتمع البشري، وإلا فلا يوجد شيء في الخارج اسمه سنة مقسم إلى ثلاثين شهر مقسم إلى أربعة وعشرين يومًا. إذن بعض الأمور فطرية، وبعض الأمور اجتماعية اخترعها المجتمع.

نحن نقول بأن الصدق شيء جميل وقيمة من القيم، فهل هذا الشيء من الفطرة أم من المجتمع؟ هل المجتمع اتفق على أن الصدق جميل كما اتفق على تقسيم الأوقات، أم أن هذا الشيء نبع من الداخل وجاء من الفطرة الإنسانية مع قطع النظر عن المجتمع البشري؟ هل الميزان في الأخلاق والقيم ميزان فطري أم هو ميزان اجتماعي؟ هنا نظريتان:

النظرية الأولى: النظرية العلمانية.

النظرية التي يطرحها العلمانيون تقول: هذا شيء اجتماعي، فإن المجتمع هو الذي اتفق وتبانى على أن الصدق جميل، وعلى أن الكذب قبيح، والمجتمع اتفق على ميثاق جمال الأمانة وقبح الخيانة، ولو عكس المجتمع ذلك لكان كذلك، فهو شيء اجتماعي، وليس شيئًا نابعًا من الفطرة والوجدان، وإنما هو ميزان اجتماعي.

النظرية الثانية: النظرية الإسلامية.

نحن مع الآية المباركة التي قرأناها: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا أي أن المسألة فطرية وجدانية، فهي مسألة من الداخل لا من الخارج، فالقيمة قيمتها بالفطرة، والخلق قيمته بالفطرة لا بتباني المجتمع ولا باتفاقه، فالمسألة مسألة فطرية وليست مسألة اجتماعية. نحن عندما نتبنى هذه النظرية ونقول بأن الخلق أمر فطري والقيمة أمر فطري وليس أمرًا اجتماعيًا، فلماذا نبتنى ذلك؟

نحن نسأل أي إنسان علماني على وجه الأرض، أي إنسان لا يؤمن بدين ولا بمبدأ نطرح عليه هذا السؤال: منظمات حقوق الإنسان تملأ وسائل الإعلام، البلد الفلاني انتهك حقوق الإنسان، والبلد الفلاني ينتهك حقوق الإنسان، فما معنى حقوق الإنسان؟ المنظمات عندما تقول: لا تنتهك حقوق الإنسان، فمعنى ذلك أن البلد الفلاني الذي ينتهك حقوق الإنسان أن يعمل بالعدالة؛ لأن العدالة هي حفظ حقوق الإنسان، فهل العدالة شيء جميل؟ لماذا المنظمات والعالم كله يقوم ويقعد إذا انتهكت حقوق الإنسان؟! من الواضح أن العدالة شيء جميل، إذ لولا العدالة لما حصل شيء، وجميع العلمانيين يقولون هكذا.

ومن هنا نأتي ونسألهم: لماذا العدالة شيء جميل؟ أنتم تقولون بأن الجمال أمر اجتماعي نسبي قابل للتغير، والمجتمع البشري في هذه المرحلة يقول بأن الصدق جميل، ويمكن أن يقول المجتمع البشري بعد مئتي سنة أن الكذب هو الجميل! مادام أمرًا اجتماعيًا فهو قابل للتغير حسب تغير المراحل والحضارات والمجتمعات، فإذا كان الميزان في القيم ميزانًا اجتماعيًا فالقيم قابلة للتبدل والتغير، وقابلة للتغير حسب تغير الحضارات والمجتمعات، وأنتم تنادون بحقوق الإنسان، أي: تنادون بالعدالة، فهل العدالة شيء جميل حتى تنادون به؟ يقولون: نعم، العدالة شيء جميل وجيد. لماذا جميل؟ هل لأن فطرتكم الإنسانية تقول أنه جميل، فيرجع الأمر إلى الفطرة، أم أن المجتمع البشري اتفق على أن العدالة شيء جميل، فيسري ما اتفقوا عليه ويطبّق؟! يقولون: العدالة شيء جميل لأنها تحفظ استقرار المجتمع، إذ لولا العدل لأكل القوي الضعيف، ولعاش المجتمع فوضى وضوضاء، فلحفظ نظام المجتمع قال المجتمع بأن العدالة شيء جميل، لكي يحفظ نظامه واستقراره ويضمن سلامته.

نحن ننقل السؤال مرة أخرى: من قال بأن استقرار المجتمع أمر جميل؟ لماذا يجب أن يستقر المجتمع؟! العدالة شيء جميل لأنها تحفظ استقرار المجتمع، فلماذا الحفاظ على استقرار المجتمع؟ لأن حفظ الاستقرار شيء جميل، فمن أين أتى جمال حفظ الاستقرار؟! بالنتيجة لا بد أن يعترف، ينتهي إلى نقطة: فطرتي وعقلي يقول لي هذا، أنا لو خليت وحدي قال لي عقلي: استقرار المجتمع شيء جميل، ولأن العدالة تحفظ الاستقرار إذن العدالة شيء جميل، ولأن الصدق يحفظ الاستقرار إذن الصدق شيء جميل، ولأن العدالة تحفظ الاستقرار إذن الصدق شيء جميل، فإذن جمال العدالة والصدق والأمانة رجع إلى شيء واحد: استقرار نظام المجتمع. استقرار نظام المجتمع جميل، ولذلك ما يحفظ هذا الاستقرار فهو جميل أيضًا، فمن يحكم بجمال استقرار المجتمع؟ هذا العلماني مضطر بالنتيجة إلى أن يرجع إلى الفطرة.

إذن فبالنتيجة: نظريتنا - نحن المسلمين - أن الميزان في الخلق ميزان فطري وليس اجتماعيًا، ودليلنا على ذلك أن جمال سائر الأشياء وسائر القيم عندما نحلله يرجع بالنتيجة إلى جمال واحد، ألا وهو جمال استقرار المجتمع، وجمال استقرار المجتمع مما يحكم به العقل، ومما تحكم به فطرة الإنسان مع قطع النظر عن أي دين ومبدأ.

النقطة الثانية: الميزان في الأخلاق.

نحن نسمع أن هذا خلق وذاك ليس خلقًا، فما هو المعيار والميزان في كون الفعل خلقًا؟ متى نعد الفعل خلقًا ومتى نعده ليس بخلق؟

الفيلسوف الألماني كانت عنده نظرية تتفق مع النظرية الإسلامية، وهي تقرر أن الخلق هو الفعل الصادر بدافع المسؤولية، فكل فعل يصدر بدافع المسؤولية فهو خلق، وإلا فليس بخلق. مثلاً: لو كان هناك امرأة ممرضة، وسئلت: لماذا تمارسين التمريض؟ إذا قالت: حتى أكتسب أجرة وأعيش، فالتمريض ليس بخلق، بل وظيفة تمارسها وتحصل على أجر. كذلك عندما يمارس المدرس التعليم حتى يحصل على أجر، فيكون التعليم وظيفة وليس خلقًا. وأما إذا قالت بأنها تمارس التمريض لا لأجل الوظيفة، وإنما لأجل أنها تحب التمريض نفسيًا، فالتمريض هواية وليس خلقًا، إذ أن الهواية هو ما يفعله الإنسان بدافع الميل النفسي والحب النفسي.

متى يعد التمريض خلقًا؟ إذا قالت: أنا أمارس التمريض بوحي المسؤولية، فلأنني أشعر بأنني مسؤولة عن هذا التمريض، أمارس التمريض لأنه مسؤولية اجتماعية، فهنا يكون التمريض خلقًا من الأخلاق. كذلك عندما يمارس المعلّم التعليم لا لأجل الأجرة ولا لأجل الوظيفة ولا لأجل الميل النفسي ولا لأجل التعليم ينسجم مع غرائزه ومشاعره، وإنما يمارس التعليم لأنه مسؤولية إنسانية، فحيئذ يكون التعليم خلقًا.

مثال آخر من واقعنا: أنت لماذا لا تقطع الإشارة إذا كانت حمراء؟ إذا قلت: خوفًا من النظام أن يعاقبني أو يغرمني، فهذا العمل ليس خلقًا، وإذا قلت: أنا لا أقطع الإشارة لأنني إنسان أحب النظام نفسيًا، فهذا أيضًل ليس بخلق، وأما إذا قلت: أنا لا أقطع الإشارة ولا أخالف أنظمة المرور حتى في نصف الليل حيث لا يوجد أحد في الإشارة؛ لأنني أشعر أن مخالفة الأنظمة خلاف المسؤولية. أنا مسؤول عن هذا المجتمع، وأنا كفرد من المجتمع مسؤول عن حفظ نفوس المجتمع وممتلكاته وأمواله، ولذلك ألتزم بأنظمة المرور بوحي المسؤولية.. إذن بالنتيجة: تطبيق النظام المرور صار خلقًا، فالخلق هو العمل الصادر بدافع المسؤولية وبوحيها لا بدافع الوظيفة ولا بدافع الميل النفسي.

الإمام الحسن الزكي رآه رجل شامي معبّأ بإعلام معاوية وبأفكار الأمويين، فبمجرد أن عرف أن الذي أمامه هو الإمام الحسن انصب عليه شتمًا وسبًا وكال له السباب والشتم. أهل البيت وشيعتهم ليسوا سبّابين، ”وإني أكره لكم أن تكونوا سبّابين“، دائمًا نحن نمشي على مبدأ الحكمة، وعلى مبدأ الخلق، لا مبادئ أخرى. الإمام الحسن التفت إليه، قال له: ”يا هذا، أظنك غريبًا، ولعلك اشتبهت فينا، فلو استرشدتنا أرشدناك، فإن كنت غريبًا آويناك، وإن كنت جائعًا أشبعناك، ولو استعتبتنا عتبناك، فهلا حولت رحلك إلينا، ونزلت ضيفًا علينا؛ فإن لنا منزلاً رحبًا، وجاهًا عريضًا، ومالاً وفيرًا“ فما تمالك الرجل لما سمع هذه الكلمات، فقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته فيكم أهل بيت النبوة.

الإمام الحسن لا يرجو منه أجرًا ولا مكافأة، ولم يعامله هذه المعاملة لأنه يميل إليها، بل عملها بدافع المسؤولية: أنا مسؤول عن العلاقات الاجتماعية، فحتى تبقى العلاقات الاجتماعية بين المسلمين علاقات أخوية ودية أقوم بهذا العمل بدافع المسؤولية والإنسانية، فهذا العمل خلق.

النقطة الثالثة: خلق الحرية.

أنت تسمع في وسائل الإعلام، بمجرد أن تفتح الإنترنت، وبمجرد أن تشاهد القنوات الفضائية، تسمع: حرية، حرية المرأة، حرية الطفل، حرية كذا وكذا.. فلفظ الحرية يتكرر في كل شيء. الحرية تنادي بها وسائل الإعلام كقيمة بشرية، وكخلق من الأخلاق، فما معنى خلق الحرية؟ لا بد من فهم معنى خلق الحرية حتى ننادي به أو لا ننادي به.

النظرية العلمانية - أو الرأسمالية بصفة خاصة - تقول: مادام الإنسان خلق حرًا فليبقى حرًا في تصرفاته، وتؤكد النظرية الرأسمالية على المجال الاقتصادي. مثلاً: افتحوا للإنسان حرية العمل، واجعلوه يقوم بأي مشروع اقتصادي يريد أن يقوم به في السوق، فللإنسان حرية إنشاء المشاريع الاستثمارية والاقتصادية من دون قيود ولا حدود، فلا تضع أمامه عوائق ولا قيودًا، بل اجعله يفتح المشاريع في السوق، ليستثمر أمواله كيفما شاء وبأي طريقة شاء؛ لأننا إذا فتحنا باب الحرية الاقتصادية حصل التنافس، فهذا يؤسس مشروعًا وذاك يؤسس مشروعًا في المقابل، ونتيجة التنافس بين أصحاب المشاريع ورؤوس الأموال يحصل تطور في الإنتاج؛ لأن كل واحد بدافع التناقس والسبق يتطور في إنتاجه حتى يتفوق على الآخر في مجال السوق، وبالنتيجة: الحرية فتحت باب التنافس، وصار باب التنافس سببًا ووسيلةً لتطوير الإنتاج الاقتصادي، وتطوير الإنتاج الاقتصادي سبب للنهوض بالعجلة الاقتصادية للمجتمع، فصار فتح باب الحرية شيئًا مهمًا وجميلاً.

أصحاب النظرية الإسلامية - نحن المسلمين - ماذا نقول عن خلق الحرية؟

هنا أذكر لك ثلاثة أمور بشكل مختصر، التفت إليها لتعرف معنى خلق الحرية في الإسلام:

الأمر الأول: الفرق بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية.

الحرية الطبيعية معناها أن قلبك منطقة حرة، فلا يستطيع أحد أن يجبرك على قلبك، بل تحب من تشاء، وتبغض من تشاء، وتفرح كيف تشاء، وتحزن كيف تشاء، وتتألم كيف تشاء، وتسعد كيف تشاء، فيستحيل لأي قوة في العالم أن تسيطر على قلبك، بل هو منطقة حرة لا يصل إليه أي حاجز، ولذلك يستحيل لأي إنسان في العالم أن يضغط على قلب إنسان آخر. لذلك الآية القرآنية قالت: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ لأن في قلب الإنسان، وليس الدين في الجوارح، وإنما الجوارح مظهر للقلب، وإلا فالدين موطنه وموضعه القلب، وبما أن القلب هو موطن الدين، وهو منطقة حرة، إذن لا إكراه في الدين. وهذه هي الحرية الطبيعية التي لا يستطيع أحد أن يغيّرها.

وفي المقابل، توجد حرية اجتماعية، وهي استخدام الآخرين. أنا إنسان أريد أن أفتح مشروعًا في السوق، فأحتاج إلى عمال وإلى مهندس وإلى مهارات تجارية وإلى عمارة وإلى مكان، فأنا مضطر إلى أن أستخدم عاملاً ومهندسًا وصاحب العمارة وغيرهم، وهذه - أي: الحرية في استخدام الآخرين - هي التي تشير إليها الآية القرآنية: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، صاحب رأس المال الذي عنده أموال كثيرة يستطيع تسخير الآخرين. هل لك الحرية في استخدام الآخرين كيف شئت بداعي التنافس؟ والله أنا لي الحرية في أن أفتح أي مشروع، وأنت لك الحرية في أن تفتح أي مشروع، فيحصل بيننا التنافس، والتنافس يؤدي إلى القوة الاقتصادية!

الإسلام يقول: ليست لك الحرية المطلقة في استخدام الآخرين، بل لا بد من وضع قيود عليك، فالربا حرام، والاحتكار حرام، والغش حرام، ولا بد أن تضمن سلامة العامل، ولا بد أن تضمن أجرة العامل، ولا بد أن تضمن المستقبل المعيشي للعامل، ولا بد أن تضمن ألا تضر بالبيئة، وغيرها من القيود الكثيرة التي يضعها الإسلام، ولو فتحنا باب الحرية لم يؤد إلى تطوير الإنتاج الاقتصادي، بل سيؤدي إلى الطبقية، حيث سيستأثر الأغنياء بالسوق، فيصبح أصحاب رؤوس الأموال القوية هم المسيطرون على السوق العالمية، وأما الضعفاء فيتحولون إلى عمال وأجراء.

لا يمكن أن يحصل التنافس إلا بين متكافئين، إذ كيف لشخص لا يملك شيئًا أن يكافئ شخصًا عنده رأس مال؟! إنسان عنده ذهنية اقتصادية كيف يكافئه إنسان لا يملك ذلك؟! إنسان عنده خبرية تجارية يكافئه إنسان لا يملك تلك الخبرة؟! التنافس يحتاج إلى التكافؤ، وبما أن التكافؤ مفقود، إذن نتيجة قهرية للحرية الاجتماعية حصول الطبقية في المجتمع، وليست النتيجة تطور الإنتاج الاقتصادي، وإنما تسيطر الطبقة الرأسمالية والبرجوازية على المجتمع؛ لأنها هي التي تملك الكفاءة.

الأمر الثاني: فتح باب الحرية الاقتصادية على مصراعيه يؤدي إلى باب الجشع والأنانية.

الإنسان إذا انفتح له المال على مصراعيه ذهب به الشجع والأنانية إلى أقصى المستويات، ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى. إذا رأى أن بيده الأموال بحيث يشتري بها من يشاء ويكتسب بها ما يشاء يحصل له طغيان وجشع وأنانية. هذا الإنسان الذي لا يفكر إلا بكسب الأموال لا يهدأ ولا يستقر، بل هو دائمًا في حالة جشع وأنانية، وكلما اكتسب ثروة انفتح على مجال آخر.

ورد عن الرسول محمد : ”مثل الدنيا كدودة القز، كلما ازدادت على نفسها لفًا كان أبعد لها من الخروج“، وورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”حب الدنيا كماء البحر، كلما شربت منه ازددت عطشًا“. هذا الإنسان المنفتح بلا قيد الذي لا يلتزم بحرمة الربا ولا بحرمة الاحتكار ولا بحرمة تضييع حقوق الآخرين بدافع الحرية الاجتماعية إذا فتحنا له الباب فقد فتحنا بابًا خطيرًا، ألا وهو باب الجشع والأنانية، فلا يفكر إلا بجيبه وبطنه وبأرقامه البنكية والتجارية، فهذا الإنسان طوال وقته لا يفكر إلا في نفسه، ولا يفكر في غيره أبدًا.

الأمر الثالث: حقيقة الحرية في المنظور الإسلامي.

الحرية في الإسلام - وهذا هو المهم الذي يجب أن نفهمه - ليست هي أن تتحرر من الخارج، بل الحرية في الإسلام أن تتحرر من الداخل، أي: تتحرر من النفس، فليست الحرية ألا تقيد بقيد، وليست الحرية ألا تطبق الأنظمة. الكثير من الناس يخطئ في مفهوم الحرية، فيتصور أنها هي ألا تطبق النظام! الحرية هي ألا يكون عليك قيود خارجية! لا، ليست الحرية أن تتحرر من الخارج، بل الحرية هي أن تتحرر من الداخل، فهل تحررت من نفسك الأمارة بالسوء؟ من كان أسير نفسه وأسير شهواته وأسير غرائزه فليس حرًا وإن لم يطبق أي نظام من الأنظمة، وأما من كان مسيطرًا على نفسه، ومن كان مسيطرًا على ميوله وغرائزه فهو الحر وإن خضع للأنظمة الخارجية، فالحرية هي أن تمسك بزمام النفس وبحبلها، لا أن تمسك بك النفس وتسيطر عليك.

لذلك هناك تعبير دقيق جدًا في القرآن الكريم، حيث يقول: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، ولم يقل: النفس راغبة، ولم يقل بأن النفس تشتاق إلى المعصية وترغب فيها، بل قال أنها أمارة، أي أن النفس عندها قوة الطغيان، فهي تأمرك بالمعصية وتقودك نحوها وتجرك إليها، فالنفس لا تشتاق أو تميل أو تحب أو ترغب فحسب، بل تأمر وتفرض عليك أن تنقاد إلى المعصية والرذيلة، فهل تستطيع أن تتحرر من سيطرة النفس؟! هل تستطيع أن تخرج من قيود النفس؟! إذا استطعت فقد أمسكت بزمام الحرية وأصبحت متمتعًا بخلق الحرية، وإلا فلا.

انتهى المسلمون من بعض الغزوات وجاؤوا إلى الرسول محمد فقالوا: يا رسول الله، فرغنا من الجهاد، فماذا علينا؟ قال: ”انتهيتم من الجهاد الأصغر، وبقي عليكم الجهاد الأكبر“. قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: ”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه“. إذا كنتَ تدعي الحرية فهذا هو موطن الحرية: أن تسيطر على نفسك، وليس هناك طريق للسيطرة على النفس إلا قوة الإرادة؛ فإن النفس تعشق المعصية.

الإنسان بمجرد أن يسمع صوتًا جميلاً لامرأة في التلفون ينقاد له ويحب أن يسمع صوتها أكثر، وبمجرد أن يرى في الشارع أو في السوق أو في العمل وجه المرأة الجميل فإنه يحب أن ينظر إليها أكثر. الإنسان بمجرد أن تنفتح له نوافذ المعصية، وتنفتح له أبواب المعصية، تراه يسرع إلى المعصية، وينخرط في طريق المعصية بكل سرعة. النفس عنده قوة الطغيان والاسترسال في طريق المعصية بمجرد أن ينفتح الطريق. بمجرد أن تبتسم لك المرأة الجميلة سيطرت عليك وعلى مشاعرك وعواطفك، فبدأت تميل إلى نوع من العلاقة معها، وذلك النوع يجر إلى نوع آخر، وهكذا بالتدريج تنقاد النفس إلى المعصية.

أنت بمجرد أن تسمع الموسيقى المطربة، أو موسيقى لحنها جذاب عذب تسترسل معها، وحتى لو كنت تعرف أن ذلك حرام تحاول أن تتغافل وتبتعد، لكن تجد نفسك مسترسلة مع الصوت العذب ومع اللحن الجميل ومع الموسيقى المطربة ومع الوجه الفاتن، فكيف نقف أمام جماح النفس؟ وكيف نقف أمام طغيان النفس؟

لا مجال لذلك إلا قوة الإرادة. كثير من الإخوان يعوّل على الخطباء والمنابر، فيقولون: إذا منابرنا لم تعلمنا لن نصبح مهتدين! إذا منابرنا لم تبين لنا فلن نصبح على طريق الهدى! صحيح أن المنابر والمساجد وظيفتها النصح والإرشاد والتوعية والموعظة، لكن العلة بيدك أنت، والمحور بيدك أنت، لا بيد المنبر ولا بيد المسجد ولا بيد شخص آخر. نقطة الانزلاق بيدك أنت، إذ أن هناك خيطًا رقيقًا جدًا بين المعصية والطاعة، وهذا الخيط بيدك أنت، فأنت الذي تقرر نعم أو لا، وأنت الذي تقرر تعصي أم تطيع، فهذه كلها معدات، ولكن السبب الأخير والمحور المؤثر بيدك أنت ليس إلا، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. ننتظر أن تغير المنابر والمساجد والقنوات الفضائية أوضاعنا! لا يغير أوضاعك إلا أنت بإرادتك وببطولتك ورجولتك، فإنك عندما تكون حرًا تقف أمام نفسك وغرائزك ومشاعرك، وهنا محور التغيير.

ليس  من  يطوي  طريقًا  iiبطلاً
فاتق الله، فتقوى الله ما جاورت
  إنما     يتقي     الله     البطل
قلبَ     امرئ     إلا     iiوصل

البطولة ليست بأن تكون بطلاً رياضيًا، ولا بأن يكون جسمك مفتول العضلات، ولا بأن تكون إنسانًا معروفًا في السوق ولا في المجتمع. ليست البطولة بهذه الألوان ولا بهذه الصور، وإنما البطولة في النفس، والرجولة في النفس، فإذا كنتُ أنا بطلاً حقيقيًا ورجلاً حقيقيًا فبطولتي ورجولتي تظهر في علاقتي مع نفسي، وتظهر في تحرري من نفسي، وتظهر في سيطرتي على نفسي.

البطل العظيم علي بن أبي طالب يقول: ”وإنما هي نفسي أروّضها بالتقوى“. علي يروّض نفسه، فكيف بنا نحن؟! كيف لا نروض أنفسنا وننتظر أن يغيرنا الآخرون؟! التغيير بيدك وبقوة إرادتك، فإذا استطعت أن تقول «لا».. نفسك الأمارة بالسوء تقول لك: افعل المعصية، افعل الرذيلة، ولو مرة واحدة، ولو مرتين أو ثلاثًا، وبعد ذلك تب، ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا. النفس تدفعك وتحثك وتقودك، فإن استطعت أن تقول: «لا، لا، لا، أنا مع عقلي ولست مع شهوتي ولا مع غريزتي» فأنت فعلاً حر، وأنت فعلاً بطل، وأنت فعلاً رجل، بأن تقول «لا» أمام غرائزك وشهواتك ونفسك.

يوسف الصدّيق «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام» فتحت له أبواب المعصية، وتزينت له زليخة بأجمل زينتها، ومنعت عنه الرقيب، وعندما تهيأت له بجمال زينتها وبجمال صورتها ما الذي وقف أمام المعصية والرذيلة؟ وقف أمامها إرادته، ووقف أمامها رجولته، ووقف أمامها بطولته، ووقف أمامها أنه إنسان يعتمد على عقله، فنفسه أسيرة له وليس أسيرًا لنفسه، فلم يمنعه عن المعصية إلا إرادته الحديدية وصموده وقوة رجولته.

إذا أردنا أن نأخذ الدرس التربوي في قوة الرجولة، وفي قوة البطولة، وفي الإرادة الحديدية، وفي الصمود الثابت الذي لا يزل ولا يتغير، فعلينا أن نقرأ صفحات أبطال كربلاء: حبيب بن المظاهر، زهير بن القين، سعيد الحنفي، فلان وفلان.. هؤلاء الذين أعرضوا عن الدنيا وزخارفها وزبرجها وأصروا على نصرة الحسين، هؤلاء الذي ملكوا إرادة حديدية. الحسين بن علي هو سيدهم، سيد الإرادة، سيد الموقف، سيد الأبطال، الذي حوصر من قبل الأمويين من كل جهة ومكان، وهو مصر على موقفه: ”يا أمير، يزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله“. قال الكلمة من أول يوم وأصر عليه رغم كل ما حدث وحصل وجرى. أخرج من المدينة من بين أحبته وأعزائه قسرًا عليه، ولكنه لم يتنازل عن موقفه، ولم يتردد لحظة واحدة.