الوجود البشري وهدفية الرحمة

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تفيد أن اختلاف البشر في سلوكهم وفي مناهجهم أمرٌ طبيعيٌ، بدأ مع بداية البشرية، وهو باقٍ مع بقاء المجتمع البشري، فمادامت أسباب الاختلاف موجودة فالاختلاف موجود. اختلاف المستويات الذهنية سبب في الاختلاف، واختلاف الأمزجة النفسية سبب في الاختلاف، واختلاف الأسر من حيث طريقة التربية وطريقة الإعداد سبب في الاختلاف، واختلاف المجتمعات في التقاليد والأعراف سبب في الاختلاف. إذن فأسباب الاختلاف موجودة، ولذلك الاختلاف موجود، وقد بدأ مع بداية المجتمع البشري، وهو باقٍ إلى يوم الساعة، ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، من جللته الرحمة الإلهية هدته إلى طريق الصواب، ﴿وَلِذَلِكَ اسم الإشارة هنا لا يعود على الاختلاف، بل يعود على الرحمة؛ إذ أن اسم الإشارة يعود على أقرب الموارد، أي: على أقرب المشار إليه، ﴿وَلِذَلِكَ أي: ولأجل الرحمة ﴿خَلَقَهُمْ، فالعباد خُلِقُوا من أجل أن يكونوا موضعًا ووعاءً للرحمة. حديثنا هذه الليلة في نقطتين:

  • بيان كون الرحمة غاية لخلق الفرد.
  • بيان كون الرحمة غاية لوجود المجتمع.
النقطة الأولى: الرحمة غاية لخلق الفرد.

هذه الآية تقول: ﴿وَلِذَلِكَ أي: لأجل الرحمة ﴿خَلَقَهُمْ، فهل الرحمة فعلاً غاية لوجود الإنسان؟ هنا تثار شبهتان موجودتان في كثير من الأذهان.

الشبهة الأولى: حول فلسفة خلق الكفار.

إذا كانت الرحمة هي الغاية من خلقنا، فقد كان الأرحم بنا ألا يخلقنا من الأساس، فلماذا خلق الإنسان وهو يعلم أن بعض بني الإنسان سينقاد إلى الجحيم، وسيكون وقودًا لجهنم؟! لماذا خلق الإنسان مع أن كثيرًا من بني الإنسان سيكون وقودًا لجهنم ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؟! هذا الكافر الذي قاده عمله إلى دخول جهنم، ربما لو لم يخلقه لكان أرحم به، ولكنه خُلِق فقاده سوء عمله إلى نار جهنم، فلو لم يُخْلَق من الأساس لكان عدم خلقه أرحم به، فإذن أين الرحمة في الغاية من خلق الإنسان، مع علم الله أن كثيرًا من بني الإنسان سيزلون وسيقطون في هاوية الجحيم وفي هاوية النيران؟! وفي مقام الجواب عن هذه الشبهة يوجد جوابان:

الجواب الأول: الفاعل الكامل لا غاية لفعله.

الفلاسفة يقولون: الفاعل الناقص يستكمل بغاية فعله، والفاعل الكامل لا غاية لفعله، أي: لا يُعَلَّل فعلُه بالغايات، وحتى تتضح هذه القاعدة نضرب مثالاً: أنا الإنسان أقوم بأفعال، لكنني أعد فاعلاً ناقصًا؛ لأن الإنسان وُلِد ومعه قدرة محدودة، فبمرور الوقت صار يتكامل في القدرة، حيث وُلِد وهو لا يعلم شيئًا، ﴿أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وبمرور الوقت اكتسب العلم، فالإنسان ناقص يتكامل بمرور الوقت، والتجربة العملية هي التي تعطيه التكامل.

بما أن الإنسان ناقص، فأي فعل يفعله فإنه يفعله بغاية كمالية، إذ أنه ناقص، والناقص يسعى نحو الكمال، ولذلك أي فعل يصدر من الإنسان يصدر لغاية كمالية، سواء كان الكمال ماديًا أو كان روحيًا، ولذلك الإنسان يصبح موظفًا، وذلك لكي يكتسب الرزق، فهذه غاية كمالية، وإن كانت غاية مادية، والإنسان يتزوج لإشباع غريزته الجنسية، وهذه غاية كمالية لكنها شهوية، والإنسان ينفق على الآخرين لأجل أن يسد حاجة المجتمع، وهذه أيضًا غاية وحاجة كمالية، والإنسان يعبد الله لأجل التقرب منه، وهذه غاية كمالية لكنها غاية روحية.

المهم أن الإنسان لأنه ناقص يستكمل بأفعاله، فيفعل كل عمل لأجل غاية تعود عليه بتكميل النقص الذي عنده، سواء كان نقصًا ماديًا أو نفسيًا أو روحيًا.. المهم أنه يستكمل بهذه الأفعال التي يفعلها، فكل فعل لغاية كمالية. أما الله «تبارك وتعالى» فليس فاعلاً ناقصًا، بل هو عين الكمال ومصدر الكمال، فجميع الكمالات موجودة عنده من أول الأمر، فإذا كانت عنده جميع الكمالات فلماذا يفعل؟ الله يخلق الناس ويرزقهم ويبعث أنبياء، فلماذا يقوم بهذه الأفعال؟ هل يقوم بها ليكمل نفسه؟! المفروض أنه كامل، فلا كمال آخر يرجوه، بل جميع الكمالات عنده، إذن فكل أفعاله لا تصدر بغاية، إذ أن الغاية هي الكمال، والكمال موجود عنده منذ البداية، فكيف تكون غايته الكمال؟! هذا معنى أن أفعال الله لا غاية لها.

لا يصح لك أن تقول: ما هي الغاية من الخلق؟ هذا السؤال غلط؛ إذ أن الغاية إنما توجّه لمن كان ناقصًا، فيفعل فعلاً تكمّله غاية الفعل، وأما من كان كاملاً فلا يفعل الفعل لغاية؛ لأن كل الغايات متحققة عنده من أول الأمر. بما أنه كامل فكل الغايات الكمالية متحققة عنده من أول الأمر، فإذن هو لا يفعل فعلاً لغاية، ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. بعض الناس يتصور أن معنى هذه الآية: «لا يسأل عما يفعل» هو: اسكتوا ولا تسألوا! لا، «لا يسأل عما يفعل» معناه أن سؤالك عما يفعل سؤال غلط، لا أن معناه أن السؤال لا يجوز، فليس معنى الآية أن البشر لا يجوز لهم السؤال، بل معناها أن السؤال عن غاية فعله غلط في غير محله؛ لأنه ليس فاعلاً ناقصًا حتى تكون له غاية في فعله، وإنما هو فاعل كامل، والكامل كل الغايات عنده، فلا يفعل فعلاً بغاية.

إذن كل أفعاله تعالى ليست لغاية، فكيف صدرت؟ كل أفعاله رحمةٌ وتفضلٌ فقط، أي أنه يفعل الفعل رحمةً منه وتفضلاً لا لغاية تعود إليه، فكل أفعاله محض التفضل والرحمة. مثلاً: عندما يكون هناك شخص كريم بطبعه، لأن أباه ربّاه على الكرم، أو لأنه ورث الكرم من آبائه، أو لأنه اقتدى بأبيه، ومن شابه أبه فما ظلم.. هذا الإنسان الكريم عندما يكرم الضيف ويكرم ذاك الفقير ويكرم الثالث فهل يصح أن يقال له: ما هي غايتك من الكرم؟! السؤال غلط، إذ أن هذا الكريم ليست عنده غاية، بل إن طبعه هو الكرم، حيث طُبِع وفُطِر على الكرم، فهو يمارس الكرم كطبيعة ولا يمارسه كغاية، فالكرم يصدر منه لأن طبع ذاته هو الكرم، ولا يصدر منه الكرم لأجل هدف أو لأجل غاية، بل هو كريم بالطبع، فكرمه يصدر منه بمقتضى طبعه.

الله «تبارك وتعالى» عين الكمال، وذات الكمال، فكل فعل يصدر منه هو مقتضى ذاته، ومقتضى رحمته، ومقتضى كماله، ومقتضى تفضله. ذاته تقتضي الجود والكرم والعطاء وأن يتفضل بالرحمة، إذ أن الكمال عين ذاته، فذاته مصدر للعطاء والكرم بلا غاية، فأفعاله «تبارك وتعالى» رحمة وتفضل منه؛ فإن مقتضى ذاته الجود والكرم والعطاء. إذن خلق الإنسان رحمة وتفضل، وبعث الأنبياء رحمة وتفضل، ورزق العباد رحمة وتفضل، ولذلك نقرأ في الأدعية: ”يا قديم الإحسان“، فهو الجواد الفيّاض قديم الإحسان الذي لا حد لجوده ولا لعطائه ولا لكرمه. لذلك الآية المباركة قالت: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ أي: وللرحمة ﴿خَلَقَهُمْ أي أن خلقهم رحمة منهم، وخلقهم تفضل منه، وخلقهم عطاء منه «تبارك وتعالى».

الجواب الثاني: الكافر أساء استخدام وسائل الرحمة.

لم يخلُ الكافر ولا المسلم من رحمة الله «تبارك وتعالى»، بل إن الجميع هيّأ له وسائل الرحمة، ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ألم نعطه عقلاً؟! ألم نعطه إرادة؟! ألم نعطه جوارح؟! ألم نعطه جوانح؟! ألم نعطه سائر الوسائل والآليات التي من خلالها يستمطر الرحمة ويعيش تحت ظلال الرحمة؟! كل البشر سواية في هذا الباب، إذ أن الرحمة خلقتهم والرحمة تغدق عليهم بلا استثناء كافرًا كان أم مسلمًا، وإنما الكافر أساء استخدام وسائل الرحمة، وصار سوء استخدامه طريقًا لوقوعه في جهنم، فالله لم يوقعه في جهنم، وإنما هو الذي أساء الاستخدام بإرادته واختياره.

أنت مثلاً عندك طفل، وبما أنه ابنك لا تستطيع ألا تنفق عليه، بل تضطر إلى شراء ثياب له، وتضطر له أن تهيئ له الفراش، وتضطر أن تشتري له حاسوبًا، مع أنك تعلم أن ابنك شقي، ولكنك تشتري له اللباس والسرير والكمبيوتر، ولكنه يسيء استخدام هذه الوسائل بمحض إرادته واختياره، فهل أنت عندما تعطيه الفراش أو المال أو الثوب أو الحاسوب تعد سببًا لانحرافه؟! هل يصح أن يقال: أبوه هو سبب انحرافه؛ لأنه اشترى له ثوبًا وسريرًا وحاسوبًا وأعطاه أموالاً؟! هذه نفقة الأبناء.. بما أني أب فإنني أنفق على أبنائي، ولكن الأب مع توجيهي ونصيحتي ورقابتي أساء استخدام هذه الوسائل، فقاده سوء الاستخدام إلى الرذيلة، فلا يعد إعطاء الوسائل من قِبَل الأب ظلمًا ولا نقمةً للابن، ولا يعدّ إعطاء الوسائل خلاف الرحمة، بل بالعكس: يعد إعطاء الوسائل رحمة به وتفضلاً عليه.

إذن أنا الأب أعلم بأن ابني شقي، ومع ذلك وفّرت له وسائل النفقة؛ لأنه ابني ولا بد لي من توفير وسائل النفقة له، وتوفير وسائل النفقة لا يعد ظلمًا ولا نقمة، بل هو رحمة به وإن هو أساء الاستخدام بمحض إرادته. كذلك هو حال الكافر، فقد خلقه الله تفضلاً منه عليه، وهيأ له وسائل الرزق تفضلاً منه عليه، وأعطاه العقل والإرادة تفضلاً منه عليه، وبعث إليه الأنبياء والموجّهين والتشريعات السماوية تفضلاً منه عليه، إلا أنه بمحض إرادته وبمحض اختياره أساء استخدام هذه الوسائل، فأوقع نفسه في هاوية جهنم، وهذا لا يعد ظلمًا من الله ولا يعد خلاف الرحمة أبدًا.

الشبهة الثانية: حول فلسفة خلق إبليس.

الله خلقنا، فلماذا خلق إبليس؟! لو لم يخلق لنا إبليس لاسترحنا من وسيلة الشر والانحراف، فإذا كان قد خلقنا للرحمة، وكان وجودنا ومسيرتنا رحمة، فلماذا خلق لنا إبليس؟! إبليس يصدنا عن الرحمة وعن الاستفادة من الرحمة، ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، فلماذا خلق لنا إبليس؟!

الجواب عن هذه الشبهة: كل إنسان خُلِق لكي يصل إلى الكمال، كما ورد في الحديث القدسي: ”عبدي، خلقتُك لأجلي“ أي: إلى أن تصل إلي، ”وخلقتُ الأشياء لأجلك“، فأنا خلقتك للكمال، لكن لا للكمال المادي المتمثلة في الثروة والمنزل الفخم والسيارة الفاخرة.. بل للكمال الروحي.

إن  الغني  هو الغني iiبنفسه
ما  كل  فوق البسيطة iiكافيًا
  ولو إنه عاري المناكب حافي
فإذا  قنعت  فكل شيء كافي

خُلِق الإنسان لأجل الكمال الروحي، فتكامل الروح هو الهدف من خلق الإنسان، والكمال الروحي لا يحصل دفعة واحدة للإنسان، وإنما الكمال الروحي فرع الحركة، والحركة فرع الصراع، والصراع فرع وجود طرفي الصراع، إذن فوجود إبليس ضروري لمسيرتك إلى الكمال، حتى تصل إلى الكمال وجود إبليس ضروري لكي تصل إلى الكمال. الكمال ليس كمالاً ماديًا حتى لا يتوقف، بل هو كمال روحي، أي: وصول الإنسان إلى درجة التوازن بين القوى.

الإنسان يملك ثلاث قوى: قوة شهوية، وقوة غضبية، وقوة عقلية، وهذه القوى لا بد من أن يحصل بينها توازن، فإذا توازنت القوى صار الإنسان كاملاً بالكمال الروحي، وتوازن القوى لا يمكن أن يحصل للإنسان دفعة واحدة، بل يحتاج الإنسان أن يقوم بحركة، وبدون الحركة لا يحصل توازن بين القوى، بل تطغى عليه القوى، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي. الإنسان يحتاج أن يقوم بحركة كي يوقع التوازن ويحدث التوازن بين القوى، فقد ورد عن علي : ”وإنما هي نفسي أروّضها بالتقوى“ أنا عندي حركة دائبة، وهي حركة التقوى.

إذن الوصول إلى الكمال الروحي يحتاج إلى حركة توازن بين القوى، وحركة التوازن لا يمكن أن تتم بدون صراع بين العقل والنفس، فلا تستطيع أن تصل إلى التوازن إلا عند الصراع بين العقل والنفس، فمثلاً: ابنك عمره عشر سنين مثلاً وتشتري له شهادة دكتوراه من باكستان أو من مكان آخر! وهكذا يصبح طبيبًا متخصصًا، فهل هذا كمال؟! لا، ليس كمالاً؛ لأن هذا الكمال لم تسبقه الحركة، وهي حركة التعلم. الكمال هو الخروج من النقص إلى الكمال، والخروج من النقص يحتاج إلى حركة، فلا بد من أن يتعلم، وأن يمر بالمراحل التعليمية الكاملة، حتى يصل بكفاءته وبجدارته إلى التخصص المطلوب منه أو الذي يطمح إليه.

إذن الكمال فرع الحركة، ولكن كيف يعيش هذا الابن حركة التعلم؟ يستحيل أن يعيش الابن حركة التعلم من دون صراع بين النفس والعقل، حيث تقول له النفس: لماذا تؤذي نفسك؟! استرح وشاهد التلفزيون واجلس مع الأصدقاء واستمتع بالطبيعة واخرج إلى الخارج ولا تشغل نفسك بهذه المذاكرة! فتدعوه النفس إلى الراحة، بينما عقله يقول له: لا بد من أن تواصل دراستك حتى تصبح طبيبًا أو مهندسًا أو فيزيائيًا ونحو ذلك.. ونتيجة هذا الصراع الطبيعي بين العقل والنفس تقوى إرادة الإنسان، فتتحكم في الصراع، فتضبط النفس، وتقدم نداء العقل، فيبدأ في مسيرة التعلم، وهذا يسير مسيرة التعلم بذاته ومن دون حاجة إلى توجيه والده؛ لأنه عاش صراعًا، فاستقوت إرادته في حركة الصراع، وصار يتعلم بذاته من دون موجّه ولا رقيب، فهو نتيجة الصراع دخل في حركة التعلم، ونتيجة حركة التعلم وصل إلى الكمال. هل يمكن أن يمر بهذا الصراع لولا وجود طرفي صراع: عقل ونفس؟! لا يمكن.

الإنسان كذلك، فيستحيل أن يتكامل روحيًا إلا بعد حركة، ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وهذه الحركة تتوقف على الصراع بين العقل والنفس، ”فمن غلب عقلُه شهوتَه كان خيرًا من الملائكة، ومن غلبت شهوتُه عقلَه كان أدنى من البهائم“ كما يقول علي . الصراع بين الشهوة والعقل مستحيل أن يتم بدون إبليس، إذ أن إبليس يحفز الشهوة إلى أن تطلب إشباعها، والعقل يحفز الإنسان نحو ضبط الشهوة ووضعها في موضعها الطبيعي من دون إفراط ولا تفريط، فوجود إبليس ضروري للصراع، والصراع ضروري للحركة التكاملية، فلا يمكن أن يصل الإنسان إلى الكمال إلا بهذه الحركة الصراعية المتوقفة على وجود إبليس.

النقطة الثانية: الرحمة هدف لوجود المجتمع.

المجتمع وُجِد لكي يكون محلاً للرحمة، وهذا هو الذي عبّرت عنه الآية القرآنية بقولها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إذ أن التعارف هو الرحمة، وليس المقصود بالتعارف التعارف المعاملي بأن تقول لي أهلاً فأقول لك أهلاً! بل المقصود بالتعارف تلاقي العقول والخبرات والطاقات، بمعنى أن تتعرف على طاقتي وأتعرف على طاقتك، ونتيجة تلاقي الطاقات العقلية والعملية والجسدية يقوم بناء الحضارة ويقوم بناء المجتمع، فالتعارف هو الرحمة؛ لأنه عبارة عن تلاقح الأفكار والطاقات، وهو طريق الحضارة وطريق بناء المجتمع، إذن فالتعارف هو الرحمة. من هنا نقول بأن الإسلام لاحظ في تشريعاته المصالح العامة للمجتمع التي من خلالها يكون المجتمع محلاً للرحمة، وحتى يتضح ذلك نذكر أمرين.

الأمر الأول: التزاوج بين المصالح الفردية والاجتماعية في التشريعات الإسلامية.

الكثير من الباحثين والأقلام تقول بأن الإسلام لاحظ في تشريعاته المصالح الفردية ولاحظ المصالح الاجتماعية، أي أن بعض التشريعات لمصالح فردية، وبعض التشريعات لمصالح اجتماعية، فمثلاً: الصلاة شُرِّعت لمصلحة فردية، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فالصلاة تربية للروح، وتربية للسلوك، بينما الزكاة شرّعها لمصلحة اجتماعية، ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فهناك مصلحة فردية وهناك مصلحة اجتماعية.

نحن نقول: هذه الفكرة فكرة خاطئة؛ فإن جميع التشريعات بلا استثناء فيها مزاوجة بين المصلحة الفردية والمصلحة الاجتماعية، فلا يوجد تشريع لمصلحة فردية فقط ولا تشريع لمصلحة اجتماعية فقط، بل كل التشريعات في آن واحد تحقق مصلحتين: مصلحة فردية ومصلحة اجتماعية، فمثلاً: المصلحة في الصلاة هي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وهذه ليست مصلحة فردية فقط، بل هي مصلحة اجتماعية أيضًا، إذ أن من ينتهي عن الفحشاء لا يعتدي على أعراض الآخرين ولا على أموالهم، والذي ينتهي عن المنكر لا يسب الآخرين ولا يشتمهم، فالانتهاء عن الفحشاء والمنكر تربيةٌ للروح وحمايةٌ للمجتمع، فهي مصلحة فردية وفي نفس الوقت مصلحة اجتماعية.

كذلك هي الزكاة، فإنها ليست من أجل سد حاجة الفقراء فقط، فلو دفع شخصٌ الزكاة لأنه مجبور قانونيًا بدفعها، فإن هذه الزكاة باتفاق الفقهاء لا تجزي شرعًا، بل لا بد من دفعها مرة أخرى؛ لأن الزكاة عبادة، فلا بد من دفعها بروح عبادية، وإذا لم تُدْفَع بروح عبادية فإنها لا تُعْتَبر زكاةً، فيجب تكرارها مرة أخرى. كذلك الخمس مثلاً، إذ لو دفع شخصٌ الخمس خوفًا وخجلاً من كلام الناس مثلاً، فإن دفعه لا يجزي، بل لا بد من دفع الخمس بطوعه واختياره وبروح عبادية. إذن دفع الزكاة تحقق مصلحتين: مصلحة اجتماعية، وهي سد حاجة الفقراء، ومصلحة فردية، وهي تربية الروح على العبادة والعطاء والقرب من الله «تبارك وتعالى».

إذن سائر تشريعات الإسلام فيها مزاوجة بين المصلحة الفردية والمصلحة الاجتماعية، وهذه هي الرحمة. عندما نقول بأن الرحمة هدف للمجتمع، فلأن الأحكام الشرعية التي روعيت فيها المصالح الفردية لم تنفصل عن مراعاة المصالح الاجتماعية أيضًا.

الأمر الثاني: حرمة مخالفة النظام.

هنا مسألة فقهية أحببتُ أن أنبه عليها: فقهاؤنا - ومنهم السيد الخوئي «قدس سره» - يقولون بأن مخالفة النظام حرام شرعًا، فلماذا يحرم مخالفة النظام؟ لسببين:

السبب الأول: توقف حفظ المصالح العامة على الالتزام بالنظام.

النظام نقصد به النظام الذي جُعِل لمصلحة اجتماعية عامة، لأجل حفظ الأعراض والأنفس والأموال. مثلاً: أنظمة المرور هل جُعِلَت اعتباطًا؟! لا، بل لحفظ الأنفس والأموال عن التلف، فأنت عندما تلتزم بأنظمة المرور فقد حافظت على أنفس المجتمع وعلى أموال المجتمع وعلى كيان المجتمع، بينما إذا تحايلت على الأنظمة فإن هذا الفعل تعريض بالمجتمع للتلف والضياع والخطر. إذن يجب عليك الالتزام بالنظام وجوبًا شرعيًا لا وجوبًا قانونيًا فحسب، فكما تحرم الغيبة والكذب وعقوق الوالدين، كذلك تحرم مخالفة النظام، أي أن مخالفة النظام توجب الإثم والعقوبة؛ لأن هذه المخالفة تعريضٌ بالمصالح العامة للتلف وللضياع وللخطر.

السبب الثاني: أهمية حفظ النظام في الحفاظ على كرامة المؤمن.

نحن لماذا ليست عندنا روح الانتظام؟! مع الأسف الكثير منا ليس عنده روح الانتظام تحت النظام، بل دائمًا يلف ويدور، فيتحايل على أنظمة المرور وعلى أنظمة العمل والدراسة مثلاً، فلماذا لا تكون إنسانًا منتظمًا؟! لماذا لا تكون عندك روح نظامية؟! لماذا لا تكون عندك روح الانتظام تحت النظام؟! في الغرب، ترى الغربيين عندما يقرّر نظام معين، فإنه غالبًا يكونون منتظمين، ومؤطرين تحت إطار النظام، لماذا؟! روح الانتظام روح حضارية، روح سلوكية مميزة.

الفقهاء عندما يقولون: لا بد من الالتزام بالنظام، فإن مقصودهم هو أن عدم الانتظام يوجب تشويه صورة المؤمن. الإنسان الذي لا يلتزم بنظام العمل ألا تتشوه سمعته؟! الإنسان الذي لا يلتزم بنظام المرور ألا تتشوه سمعته؟! مخالفة النظام توجب تشويه سمعة المؤمن، فيؤخذ على المؤمنين عامة سمعة سيئة، أن هؤلاء مع أنهم مؤمنون ومتدينون لا يلتزمون بالأنظمة، فمن أجل حفظ كرامة المؤمن ومن أجل حفظ سمعة المؤمن عن الذهاب والسوء، لذلك يقول الفقهاء: يحرم مخالفة النظام؛ محافظةً على سمعتك وعلى كرامتك.

أهمية إعطاء صورة حسنة عن المذهب في تعاليم أهل البيت:

وهذا ما يؤكده أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم»، حيث يحثون كثيرًا على ما يحبّب الناس إليك لا بما ينفرهم منك، فمثلاً: الإمام العسكري ورد عنه: ”إن الرجل منكم ليكون في القبيلة فيكون زينها“ أي أنه بارز من بين أفراد القبيلة، ولكنه ليس بارزًا بالتلاعب! بل هو ”أدّاهم للأمانة، أقضاهم للحقوق، أصدقهم في الحديث“. إذا كان صادقًا في حديثه، يؤدي الأمانة، يقضي الحقوق، سلوكه سلوك حسن، يكون بارزًا من بين القبيلة.

وورد عن الصادق : ”كونوا زينًا لنا ولا تكونوا شينًا علينا، إن الرجل منكم إذا صدق في حديثه، وورع في دينه، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، وقيل: هذا أدب جعفر، فيسرني ذلك“ عكس الصورة المشرقة لأهل البيت ولمذهبهم، ”وإن الرجل منكم إذا كان على خلاف هذا، قيل: هذا جعفري، وقيل: هذا أدب جعفر، فيدخل عليه بلاؤه وعاره، كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم“.

اللسان والخطب والمنابر لا تؤدي الدور كما يؤدي حسن السلوك، كالصدق في الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الخلق مع الناس، فإنك إذا قمتَ بذلك صار سلوكك داعية لأهل البيت ولمبادئهم. أهل البيت ما دعوا إلى أمور دنيوية، ولا دعوا إلى ثراء أو مناصب، بل دعوا لهذه المبادئ، ودعوا لكمال الروحي، فحتى تصبح داعية لأهل البيت فليكن سلوكك سلوكًا حسنًا.

انظر للأئمة ، انظر لعلي بن أبي طالب. علي بن أبي طالب لما صارت معركة صفين سيطر معاوية على نهر الفرات، فمنع الماء عن جيش الإمام علي ، فأقبل الجيش إلى الإمام، وقالوا له: هؤلاء منعوا عنا الماء ونحن لا نستطيع القتال بدون ماء. يقول عمرو بن العاص واصفًا منظر الإمام علي لما خرج: برز شيخٌ ناهز الستين، ربط الحزام على بطنه، وأجلى سيفه، فأجلى الجيش بأكمله عن الفرات «شجاعة أمير المؤمنين معروفة ولا نحتاج للحديث عنها»، فلما سيطر على الفرات أباح الماء لجيش معاوية ولجيشه معًا.

وقد برزت مروءة علي في الحسين بن علي. علي بن طعان المحاربي - الذي كان من المقاتلين ضد الحسين - يقول: وصلنا للحسين مع الحر بن يزيد الرياحي، وكنا ألف شخص، وقد وصلنا في وقت الظهر، وقد أكلنا العطش والظمأ، ومع أن هؤلاء أتوا لقتال الحسين، إلا أنه لما رآهم عطاشى قام وقال لأصحابه: قوموا واسقوهم واسقوا أفراسهم ورشّفوهم ترشيفًا. يقول علي بن المحاربي: كنت آخر من وصل إلى الجيش، وقد وصلت والظمأ يأكل كبدي، فقام الحسين إليَّ بنفسه، وقال: يا بن المحاربي أنخ الراوية، فلم أفهم كلامه، قال: أخنف السقاء، فلم أفهم كلامه، فقام وفتح فم القربة بنفسه، وسقاني وأنا على فرسي، وسقى فرسي، ورشّفني ترشيفًا.