نص الشريط
نظرية التفكيك بين الدين والحكم الفقهي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 12/1/1425 هـ
مرات العرض: 3577
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (3630)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

صدق العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث حول أطروحةٍ تعرّضت لها بعض الأقلام الإسلامية، وهي أطروحة التفكيك بين الدين وبين الحكم الفقهي.

هناك أطروحةٌ تؤكد على الفصل والتفكيك بين الدين وبين ما يفتي به الفقهاء، فمثلاً: الفقهاء يفتون بأنَّ استماع الغناء حرام، فهل هذا هو الدين أم أن الدين شيءٌ وحكم الفقيه شيءٌ آخر؟ هناك اثنينية بين الدين وبين الحكم الفقهي، وحتى نشرح هذه الأطروحة نقول: الدين مر بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة الوحي والبعث، كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ.

المرحلة الثانية: مرحلة التبليغ، كما قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.

المرحلة الثالثة: مرحلة الاستقبال، أي: استقبال الأمة الإسلامية لهذا الدين، وهذه المرحلة هي عبارة عن أن الأمة الإسلامية تعتمد على فهمها وعلى ذهنيتها في تلقي الدين وفي استقباله، فهل هذه المرحلة الثالثة - وهي مرحلة الاستقبال والفهم - من الدين؟ هل فهمته الأمة من نصوص القرآن والسنة النبوية من الدين؟

أصحاب هذه الأطروحة يقولون: الدين شيء وما يفهمه البشر شيء آخر، فإن الدين هو مضامين أوحيت إلى النبي وبلغها، وأما ما فهمه البشر من النصوص فهذا ليس هو الدين، ويوجد وجهان طرحهما أصحاب هذه الأطروحة في التفكيك بين الدين وبين فهم الفقهاء.

الدليل الأول: بشرية فهم الفقيه.

بما أن الفقيه بشرٌ ففهمه فهم بشريٌ، والفهم البشري لا يستوعب أبعاد النص وآفاقه، فمثلاً: الفقيه عندما يقرأ قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا يفهم منها شيئًا ويفتي على طبق فهمه، فيقول: يحرم الربا مطلقًا، بينما قد يطرح الإنسان سؤالاً: الربا إنما يُتَصَوَّر كمعاملة محرمة بين شخصين، وأما إذا كانت المعاملة بين المواطن وبين الدولة فالأمر مختلف، فلو احتاج المواطن إلى قرض - لكي يتزوج أو حتى يبني بيتًا مثلاً - فإنه يأخذ قرضًا من البنك الحكومي، وقد تقرضه الحكومة مئة ألف بمئة وعشرة آلاف، ولكن هذا ليس ربا محرمًا؛ لأن هذه العشرة تأخذها الدولة وتصرفها على المواطن مرة أخرى، وذلك من خلال صرفها على المرافق والصحة والتعليم والبنية التحتية، فالمواطن يدفع العشرة وتعود إليه، فهي منه وإليه، وهذا ليس ظلمًا، فليس محرمًا.

إذن الفقيه لأنه بشرٌ لا يستطيع بعقله أن يستوعب أبعاد النص وآفاقه، ولذلك يمكن لنا أن نقول أن قوله تعالى: ﴿وحرم الربا لا يعني حرمة الربا مطلقًا، وإنما يدل على حرمة الربا إذا كان بين شخصين؛ لأنه حينئذ ظلم، وأما إذا كان الربا بين المواطن والدولة فليس ظلمًا حتى يدخل ضمن الآية المباركة.

الدليل الثاني: تأثر استنباط الفقيه بمزاجه.

الفقيه له مزاجٌ معينٌ، والمزاج يتشكّل من خلال بيئته وأسرته ومجتمعه، وهذا المزاج يتدخل في الاستنباط، أي أن الفقيه يقرأ النصوص بما ينسجم مع تركيبته ومزاجه وتكوينه الداخلي، وبعبارة أخرى: القرآن والسنة نصوص صامتة لا تنطق، ولكن الفقيه يستنطق النص بما ينسجم مع مزاجه وتكوينه الداخلي.

مثلاً: الفقيه إذا عاش في بيئة محافظة من أعرافها وعاداتها ستر وجه المرأة، فإن مزاجه يتشكل على طبق بيئته، ولذلك هذا الفقيه عندما يقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا فإنه يقول: يحرم على المرأة أن تبدي أي شيء من بدنها؛ لأن كل بدنها زينة، وأما ما ظهر فهو ما ظهر قهرًا عليها، أي أن المرأة مسؤولة ألا تبدي زينتها، ولكن لو ظهر شيءٌ قهرًا عليها، كما لو خرجت في طقس ذي هواء شديد، فأطار الهواء شيئًا من عباءتها وبدا شيءٌ من زينتها، فحينئذٍ لا تكون المرأة مسؤولة عن ذلك، فمعنى الآية: لا يبدين أي شيء من البدن حتى الوجه والكفين، إلا إذا ظهر شيءٌ منه قهرًا عليها، فحينئذٍ هي غير مسؤولة عن ذلك.

ولكن لو ذهبنا إلى فقيه آخر يعيش في بيئة منفتحة، وهذه البيئة لا ترى أي حزازة في أن تبرز المرأة وهي تكشف وجهها وكفيها، فحينئذٍ هذا الفقيه عندما يقرأ الآية يفهم منها أن المقصود من ”ما ظهر“ الوجه والكفان؛ لأن من طبيعة المرأة - لكي تستقبل الأشياء وتراها وتمسك بها - أن تظهر وجهها وكفيها، فالآية تدل على جواز إظهار الوجه والكفين.

والخلاصة: أنَّ اختلاف فهم الفقيه للآية نشأ عن اختلاف المزاج والتكوين والتركيبة الداخلية لهذا الفقيه.

إذا عرفنا أن فهم الفقيه فهمٌ بشريٌ، وعرفنا أن فهم الفقيه قد يكون فهمًا مزاجيًا، إذن هناك فرقٌ بين الدين وبين فهم الفقيه، فالدين شيء وفهم الفقيه شيء آخر، ولأجل ذلك الفقهاء يختلفون، فهل الدين يختلف؟! الدين شيء واحد لا يختلف، وأما الفقهاء فإنهم يختلفون، بل ربما الفقيه الواحد يختلف نظره من فترة إلى أخرى، ومن زمن لزمن آخر.

إذن هذه الأطروحة تؤكد على أن هناك فصلاً وتفكيكًا بين الدين وبين فهم الفقيه، فالدين شيء وفهم الفقهاء شيء آخر، ويترتب على هذه الأطروحة أثران:

الأثر الأول: لا يجوز لنا أن نحكم على شخص بالارتداد أو بالفسق إذا خالف رأي الفقيه؛ لأن الدين شيء ورأي الفقيه شيء آخر، فلو قال جميع الفقهاء بأن معنى قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أن المرأة ترث نصف سهم الرجل، وقال شخصٌ بأنه لا يؤمن بهذا الحكم؛ لأن هذه الآية ناظرة لذاك الزمان، حيث كانت المرأة إنسانًا مستهلكًا لا منتِجًا، بينما كان الرجل منتجًا، ولذلك الإسلام أعطى للرجل سهمًا كاملاً، وأما في هذا الزمان فالمرأة تعمل وتتعب وتنتج كالرجل، فلا بد من تعويضها عن إنتاجها بسهم كامل كما عوّضنا الرجل.

لو أن إنسانًا قال بأن الآية ليست ناظرة لزماننا فهل يعتبر مرتدًا؟! نقول: بما أن الدين شيء ورأي الفقهاء شيء آخر فإن هذا لم يرتد عن الدين، وإنما خالف أقوال الفقهاء، فلا تشمله أحكام الارتداد، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

كذلك لو خالف شخص حكم الفقيه، فإنه لا يعتبر شخصًا فاسقًا؛ لأن حكم الفقيه شيء والدين شيء آخر، ففي زمن سيدنا الخوئي «قدس سره» مثلاً كان السيد يقول: إذا أحرم الشخص - من خلال التلبية - لا يجوز له بعد الإحرام أن يدخل تحت السقف السيّار، كسقف السيارة وسقف الطائرة، سواء كان ذلك في النهار أم كان ذلك في الليل، وبعد أن توفي سيدنا «قدس سره» وجدنا فقهاء آخرين يخالفونه، كالسيد الكلبيكاني «قدس سره» والسيد السيستاني «دام ظله»، حيث يقولون بأن المحرم يحرم عليه الدخول تحت السقف السيار في أثناء النهار، وأما في الليل فلا مانع من ذلك، فلو أن إنسانًا في زمان سيدنا الخوئي سمع هذا الحكم وقال: لا أبالي بما قاله! سأصعد سيارة مسقوفة ليلاً سواء رضي أم لم يرض! ثم توفي السيد الخوئي، ورجع هذا الشخص إلى السيد الكلبيكاني الذي يرى جواز الدخول في السقف السيار ليلاً.

هنا هل هذا الإنسان كان فاسقًا ثم صار عادلاً؟! لأنه في ذلك الزمان خالف حكم الفقيه، والآن في هذا الزمان وافق حكم الفقيه، فهل تغير الحكم من الفسق إلى العدالة؟! ومن هنا يتضح أن هناك فرقًا بين الدين الواقعي وبين حكم الفقيه.

الأثر الثاني: إذا عرفنا أن فهم الفقيه فهمٌ بشريٌ مزاجيٌ فأي ميزة له على فهمنا نحن؟! لا يبقى لفهم الفقيه أي ميزة؛ لأنه فهم بشري مزاجي، وكما أن الفقيه بشر له عقل وذوق وفهم، كذلك نحن بشر لنا عقول وأذواق وأفهام، فلا يبقى ثمة فرق بين فهمنا وفهمه، فكما يحق للفقيه أن يفتي على طبق ما يفهم، كذلك نحن يحق لنا أن نرجع إلى نصوص القرآن وإلى روايات النبي وأهل بيته الطاهرين «صلوات الله عليهم أجمعين» ونستنبط منها كما استنبط الفقيه، والقرآن قد حثنا على استعمال العقل وتحريك الذهن، حيث قال: ﴿فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب، فعلى الإنسان أن يقرأ النص كما قرأه الفقيه ويختار ما يراه الأحسن بحسب فهمه.

مناقشة هذه الأطروحة:

نحن في مقام المناقشة والتأمل في هذه الأطروحة نطرح ثلاثة أسئلة:

السؤال الأول: هل يمكن للعقل البشري أن يصل إلى الدين؟

بعبارة أخرى: هل الدين يعيش في أفق خاص لا يرقى إليه أحد ولا يصل إليه أحد، أم أن الدين يمكن للبشر أن يصل إليه؟

نقول: ليس هناك فرق بين الدين وبين غيره من الأفكار، فكما يمكن للبشر أن يصل للأفكار الأخرى، كذلك يمكن أن يصل إلى الفكر الديني، وذلك عبر طريقين: الطريق العقلي من ناحية، والطريق اللغوي من ناحية أخرى.

1/ الطريق العقلي: دليل حساب الاحتمالات.

هذا الدليل يوصل الإنسان إلى اليقين بمختلف المعلومات، ونفس هذا الدليل يمكن استخدامه للوصول إلى اليقين بقسم كبير من الدين، فمثلاً: لو سمع الإنسان من الراديو أن هناك انفجارات تهز كربلاء، فإنه لا يتيقن بهذا الخبر بمجرد سماعه، بل يحتمل بنسبة 20% مثلاً أنه صادق، ثم إذا فتح التلفزيون حتى يتأكد، ووجد في إحدى القنوات نفس الخبر، فإن نسبة صحة الاحتمال تصبح حينئذٍ 50% مثلاً، ثم إذا عرضت القناة صور القتلى والجرحى والنار المشتعلة فإن الاحتمال يصبح 80% مثلاً، ثم إذا فتح الإنسان قنوات أخرى ووجدها جميعًا تؤكد الخبر فيحنئذ يتيقن بصحة الخبر 100%، وهذا ما يعبّر عنه بتراكم الاحتمالات حول محور معين، وهذا التراكم يفيد اليقين بذلك المحور.

هنا لا يمكن للإنسان أن يقول بأن خبر الانفجارات لم يصله، وإنما وصله شيءٌ والخبر الواقعي شيءٌ آخر! فإن دليل حساب الاحتمالات يوصل الواقع كما هو، فلا اثنينية بين ما فهم الإنسان ووصل إليه وبين ما حصل فعلاً في كربلاء، بل إن ما فهمه هو نفسه ما حدث.

ونفس الكلام ينطبق على القضايا الدينية، وحتى يتضح ذلك نأخذ مسألة تحريف القرآن كنموذج، فإن هذه المسألة كثيرًا ما تثار، وفي الواقع - ومن دون تغاضٍ ولفٍ ودوران - يوجد في الشيعة وفي السنة من يقول بالتحريف، ففي كتاب الإتيقان للسيوطي - وهم من علماء السنة - توجد روايات تقول بالتحريف، فمثلاً: في مصحف عائشة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56] «وعلى الذين يصلون في الصفوف الأولى»، هذه الزيادة موجودة في مصحف عائشة ولا توجد في المصحف الذي بين أيدينا، وهذا قول بالنقص، وكذلك في كتب الشيعة توجد بعض روايات التحريف، ففي كتاب الشيخ النوري مثلاً: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «1» وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ «وجعلنا عليًا صهرك» ونحو ذلك.

نحن إذا أردنا أن نقول بأن القرآن الذي بين أيدينا هو القرآن الذي كان في زمن النبي ، فيمكننا أن نثبت ذلك بدليل حساب الاحتمالات، فنقول:

أولاً: إن القرآن الذي بين أيدينا يتطابق مع المصاحف الموجودة قبل خمس مئة سنة وقبل ثمان مئة سنة، وهي موجودة في المتاحف، وهذا يجعل عندنا احتمال بنسبة 40% أو 50% أن هذا القرآن هو الذي كان موجودًا في زمن النبي .

ثانيًا: ما اهتم المسلمون بشيء كما اهتموا بالقرآن الكريم حفظًا وكتابةً وتعليمًا وتفسيرًا، والاهتمام بالشيء يوجب حفظه، فاهتمام المسلمين منذ زمن النبي إلى يومنا هذا عاملٌ مساعدٌ على حفظ القرآن وبقائه، وهكذا يكون الاحتمال 60% مثلاً.

ثالثًا: في مكتبات ومتاحف العثمانيين في استنبول يوجد مصحفٌ كاملٌ بخط الإمام علي ، ومصحف كامل آخر بخط عثمان بن عفان، وأثبت علماء الخط أن هذه الخطوط ترجع إلى ما قبل 1400 سنة، ونجد أن المصاحف المخطوطة هناك مطابقة تمامًا للمصحف الذي بين أيدينا الآن من دون زيادة ولا نقصان.

عندما نجمع هذه الاحتمالات كلها نصل إلى اليقين بأن هذا المصحف هو المصحف الذي سلَّمه الرسول للأمة.

وكذلك هو الأمر في الدين، فإننا نصل إلى القضايا الدينية عبر جمع الاحتمالات، قوجوب الصلاة والصوم والحج والأمر بالمعروف وثلاثية صلاة المغرب ورباعية العشاء والظهر والعصر وثنائية الفجر ورباعية صلاة الحضر وثنائية صلاة السفر... وغيرها من الأحكام لم تصل إلينا عن طريق الفقهاء حتى يقال بأن الدين شيء والفقيه شيء آخر، بل وصلت إلينا عبر الطريق العقلي المتمثل في طريق حساب الاحتمالات، حيث وجدنا جميع المسلمين يتناقلون هذه الأحكام ويطبقونها وجميع النصوص متظافرة عليها، ونتيجة جمع هذه الاحتمالات حصل لنا اليقين بأن هذه الأحكام هي الدين وليست شيئًا آخر، والمحصلة من كل ذلك أن قسمًا كبيرًا من الدين وصل إلينا عن طريق حساب الاحتمالات.

2/ الطريق الثاني: الطريق اللغوي.

هناك مقالة لغوية أدبية تقول: كل فكر يصل إلى الإنسان عبر لغته، إذ أن لكل فكر لغةً، فلا يستطيع الإنسان الوصول إليه إلا عن طريق لغته.

مثلاً: لو لقي شخصٌ وثيقةً بخط شاعر العرب أبي الطيب المتنبي وقرأ فيها:

وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ   فهي الشهادة لي بأني iiكاملُ

الإنسان عندما يقرأ هذا البيت يقول: من فكر المتنبي أن مذمة الناقص شهادةٌ بالكمال، فلو قال قائل: هذا فهمك أنت وليس هو فكر المتنبي، فإن فكر المتنبي شيء وفهمك شيء آخر! لقيل له: إذا كان ما يُفْهَم شيئًا وفكر المتنبي شيئًا آخر بحيث أن فكره هو عبارة عن خواطر في عقله بينما ما فهمته عبارة عن خواطر في عقلي، فكيف أصل إلى فكره؟! ما هو الطريق للوصول إلى فكره؟!

فكر المتنبي يصل إليه الإنسان عبر لغته، فإن فكره كلام عربي، والكلام العربي يُفْهَم من خلال عرضه على المجتمع العربي، فما يفهمه المجتمع العربي من الكلام العربي فهو الفكر نفسه، فالفكر لا ينزل من السماء ولا ينبع من الأرض، بل لا مجال للوصول إليه إلا عن طريق اللغة، فالطريق الوحيد للوصول إلى الفكر هو الطريق اللغوي، أي أن الإنسان إذا أراد أن يحيط بفكر معين فعليه أن يقرأ لغته، فإذا فهم لغته وصل إلى فكره، واستطاع أن يقول: هذا هو فكر المتنبي وليس شيئًا آخر؛ لأن فكره وصل إليَّ عبر لغته.

مثال أوضح: لو وجد الإنسان وثيقة تقول بأن جده العشرين اشترى الأرض الفلانية، فإنه يستطيع قانونيًا أن يرفع دعوى على من يسكن تلك الأرض، ولا يصح أن يقال له: أنت مشتبه؛ فإن ما يقصده جدك شيء، وما فهمته أنت من الوثيقة شيء آخر! ولو قيل له ذلك لقال: إذا كان ما فهمتُه شيئًا وما قصده جدي شيئًا آخر فكيف أستطيع إثبات دعواي؟! من الواضح لدى العقلاء أن كل فكرة تصل عن طريق لغتها، وبما أن كلام هذا الجد مكتوب بالعربي، لا بد من عرضه على المجتمع العربي حتى يُفْهَم المقصودُ منه، ومن خلال ذلك تثبت ملكية الجد لتلك الأرض، وتصل إلى هذا الإنسان بالميراث، ويصح رفع الدعوى قانونيًا.

إذن فالفكر يصل عبر لغته، ولذلك إذا رجع الفقهاء إلى نص معين، وقالوا بأنه نص عربي، وما يفهمه العرب هو المعنى الفلاني، فحينئذ يكون هؤلاء الفقهاء قد وصلوا إلى معنى النص بطريق عقلائي، ففي آية الربا مثلاً: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا يفهم المجتمع العربي إطلاق الحرمة، ولا يفهم وجود تفصيل بين الربا الذي بين شخصين والربا الذي يكون بين الدولة والمواطن، فإن الإطلاق صورة من صور الظهور اللغوي، فعندما يعتمد الفقيه على الإطلاق ويقول بأن الربا محرم مطلقًا فقد وصل إلى الدين عبر لغته؛ لأن الدين وصل إلينا عن طريق اللغة العربية.

وكذلك الحال في قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فإنها آية مطلقة، ولم تقيَّد بزمن النص، فتشمل جميع الأزمنة، فهي كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، ولا يصح لقائل أن يقول: إنما التكريم لبني آدم في ذلك الزمن وأما الآن فالله لا يكرّم أحدًا! ولو قيل ذلك لرُدَّ عليه بأن الآية مطلقة، وكما أن هذه الآية مطلقة لكل زمان كذلك قوله: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا مطلق لكل زمان، وكذلك أيضًا قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فلا معنى للأخذ بالإطلاق في آية والضرب بالإطلاق في آية أخرى.

إذن الدين وصل بنفسه ولكن عبر لغته، فإذا فهمنا لغته وصلنا إليه، ولا معنى بعد الوصول للدين - من خلال الطريق العقلي أو من خلال الطريق اللغوي - أن يقال بأن الدين شيءٌ وما فهمه الفقهاء شيءٌ آخر بحيث لا تسري أحكام الدين لما فهمه الفقهاء.

السؤال الثاني: هل يستطيع غير الفقيه إثبات حجية فهمه؟

من الطبيعي أن الفقهاء يختلفون، واختلاف الفقهاء دليل على أن الدين شيء وفهمهم شيء آخر؛ لأن الدين لا يختلف، فهل هذا يُنْتِج أن فهم الإنسان العادي وفهم بقية الفقهاء على حد سواء، بحيث يجوز لكل إنسان أن يعتمد على فهمه؛ باعتبار أن فهم الفقيه فهم بشري مزاجي، فلا ميزة له لغيره، وقد أمر القرآن بالاعتماد على التفكير واتباع أحسن القول؟!

نحن نقول: نحن لسنا إرهابيين ولسنا أصحاب لغة الإرهاب على الفكر، ولكن نحن نسأل هذا الإنسان سؤالاً: هل فهمك للدين حجة؟ وبعبارة أخرى: هل تستطيع أن تحتج بفهمك أمام البشر وأمام الله تعالى؟ لو سألك الله: لماذا اتبعت الرأي الفلاني؟ وقلتَ: لأنني فهمته، ثم سألك: ما هو دليك على أن فهمه كان حجة يصح عليه الاعتماد عليه؟ بماذا تجيب؟! فإن قال قائل: لماذا فهم الفقيه حجة وفهمي ليس حجة؟! كما أنه بشر كذلك أنا بشر، فلماذا باؤه تجر وبائي لا تجر؟! أي فرق بين الفهمين حتى يكون فهمه حجة وفهمي ليس حجة؟!

نقول: الميزان في الحجية طرحته الآية المباركة: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا، فالفهم الحجة هو الفهم المعتمد على العلم، والفهم الذي ليس حجة هو الفهم الذي لا يعتمد على العلم، والفرق بين الفقيه وغيره أن فهم الفقيه فهم مستند إلى العلم بخلاف غيره.

بيان ذلك: أن هناك عدة مراحل يمر بها الفقيه:

1/ المرحلة الأولى: الرجوع إلى الروايات.

قد يقول قائل: أنا قرأتُ الكتاب فما وجدتُ فيه آية تحرّم الغناء، فمن أين أتى الفقهاء بحرمة الغناء؟! والحال أن الاعتماد على القرآن وحده ليس صحيحًا؛ لقول النبي الأعظم : ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي“، ويقول القرآن الكريم: ﴿فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، فلا يجوز للإنسان أن يعتمد على القرآن دون أن يرجع في تفسيره إلى روايات أهل البيت.

القرآن قال: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، وقد لا يفهم الإنسان من هذه الآية حرمة الغناء، لكن الإمام الصادق يقول: ”قول الزور هو الغناء، إن الغناء ينبت في القلب النفاقَ كما ينبت الماءُ الزرعَ“.

2/ المرحلة الثانية: ما هو الدليل على صدور هذه الرواية عن الإمام؟

قد يقول قائلٌ: أنا لستُ إنسانًا عاديًا، بل أنا إنسان مثقف! وأنا كمثقف أستطيع أن أفتح كتاب مكارم الأخلاق أو كتاب البحار أو كتاب الكافي، وأقرأ الرواية، وأعمل بما أفهم منها.. ولكن ما هو دليله على أن هذه الرواية قد صدرت عن الإمام؟! لعل هذه الرواية لم تصدر، وهناك روايات كثيرة غير صحيحة في الكافي والبحار، فما هو دليل هذا المثقف على توثيق النص؟! الفقيه يقول: أنا أعتمد على علم الرجال، وهو علم درستُه وتمعنتُ فيه، وصرتُ مجتهدًا فيه، ووضعتُ لنفسي قواعد أستطيع من خلالها توثيق النص، ولكن أنت أيها المثقف علام تعتمد؟!

3/ المرحلة الثالثة: تحديد مفهوم الرواية.

لو تجاوز المثقف المرحلة الثانية بدعوى أنه رجع إلى كتب الفقهاء ووجد أنهم قالوا بأن الرواية صحيحة، فأخذ بها وعمل بما فهمه منها، فحينئذٍ كيف يحدد مفهوم الرواية؟! لا بد من علم الدلالة، فهل قرأ هذا المثقف علم الدلالة، وتمعن فيه، واجتهد فيه، ووصل إلى قواعد هذا العلم حتى يصل إلى كيفية تحديد ظهور النص؟!

مثلاً: بعض الكتّاب الإسلاميين يقولون بأن المراد من قطع اليد ليس هو قطع الأصابع، وإنما المراد قطع الطريق، بمعنى منع السارق من السرقة، فالله لا يأمرنا بقطع أصابع الناس، وإنما يأمرنا بقطع الطريق أمام السارق من خلال سجنه أو بإدخاله في مصحة عقلية أو نفسية أو أخلاقية... وهذا القائل يحتاج فعلاً إلى مصحة لغوية حتى يستطيع فهم الآيات! وإلا فإننا لم نجد إنسانًا عربيًا يفهم من قوله تعالى: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا قطع الطريق، فلا بد من دخول علم الدلالة، حتى يكون الإنسان ملمًا بطريقة تحديد مفهوم النص.

4/ المرحلة الرابعة: ملاحظة النصوص المعارِضة.

لا يكتفي الفقهاء بجعل هذا المثقف المسكين يدرس علم الدلالة، بل يقولون له: لعل هذا النص معارَض بنصوص أخرى، فهل استقرأت كتب الحديث حتى تجد أن هذا النص ليس معارَضًا؟! ظاهرة التعارض بين النصوص ظاهرة شائعة جدًا في الكتب الحديثية.

مثلاً: مسألة صيام يوم عاشوراء فيه روايات متعارضة واردة عن أهل البيت ، فقسم من الروايات يقول: ”صوموا عاشوراء؛ فإنه كفارة سنة“، وفي المقابل يوجد قسم من الروايات يقول: سألتُه - يعني الإمامَ الصادق - عن صوم عاشوراء فقال: ”أما إنه صوم يوم ما نزل به كتابٌ ولا جرت به سنةٌ، إلا سنة آل زياد بعد مقتل الحسين“، ومع أن هذين النصين واردان عن الإمام الصادق، إلا أنهما متعارضان، وفي نص ثالث عن الإمام الصادق نفسه: سئل عن يوم عاشوراء فقال: ”صمه من غير تبييت وأفطره من غير تشميت، ولا تصمه كملاً“، أي: لا تصم اليوم كاملاً، وإنما أمسك من أول الصباح إلى ما بعد الظهر؛ مواساة لأطفال الحسين ، وبعد ذلك أفطر بعد الظهر.

هنا عندنا ثلاثة نصوص، فكيف نوفق بينها؟! هل قرأتَ - أيها المثقف - علم تعارض الروايات وعرفتَ كيفية الجمع الدلالي والترجيح بين المتعارضين وتقديم أحد المتعارضين على الآخر؟! لا بد من دراسة هذا العلم والاجتهاد فيه للوصول إلى الرأي المختار فيه.

5/ المرحلة الأخيرة: الوظيفة الشرعية عند غياب النص.

لو بحثنا عن حكم فلم نجد فيه نصًا قرآنيًا ولا روائيًا، فماذا نصنع؟

هنا توجد نصوص مختلفة، فالمدرسة الأخبارية تقول بأن المرجع في الشبهات التحريمية إلى أصالة الاحتياط، فإذا شكننا في شيء بأنه محرم أم لا ولم نجد نصًا فإننا نقول بالاحتياط، وأما المدرسة الأصولية فهي على أقسام: قسم يقول بالاحتياط العقلي والبراءة الشرعية، كالسيد الصدر «قدس سره»، وقسم آخر - كما هو رأي سيدنا الخوئي «قدس سره» وتلامذته - يقول بأن المرجع إلى أصالة البراءة والحلية، وهذا أيضًا أمرٌ لا بد من الاجتهاد فيه.

وهنا يوجد مثال ابتلائي يثار كثيرًا، وهو مسألة حلق اللحية، حيث يقول بعض الناس: سمعنا أنه لا يوجد هناك نص على حرمة حلق اللحية، وإذا لم يوجد نص على حرمة حلق اللحية فإن المرجع في الشبهات التحريمية هو أصالة البراءة، فيحل حلق اللحية وإزالتها.

وهذه الدعوى - دعوى عدم وجود نص على حرمة حلق اللحية - خاطئة، ومن يطرحها مشتبه، ففي رواية معتبرة سئل الإمام: هل يصلح أن يأخذ من لحيته؟ قال: لا، وهنا يختلف الفقهاء في أن ”لا يصلح“ في الرواية هل تفيد الحرمة أم تفيد الكراهة، فالنص موجود، وإنما الخلاف في تحديد مدلوله ومعناه.

والمحصّلة: أننا لا نمنع أن يعتمد الإنسان على فهمه؛ إذ أن له عقلاً يستطيع الاعتماد عليه، ولكن القرآن جعل الميزان في الحجية للفهم الذي يستند إلى العلم، فلا بد من أن يمر بهذه المراحل العلمية حتى يصل إلى الرأي المنتخب الصحيح بنظره، وحينئذ يكون فهمه مستندًا إلى العلم فيكون حجة، وهذا معناه أنه وصل إلى درجة الفقهاء والاجتهاد.

السؤال الثالث: ما هي وظيفة من لا يستطيع إثبات حجية فهمه؟

أنتم لماذا تضيقون علينا؟! تريدون أن تحتكروا الأمور لكم! لا تريدون منا أن نفهم آية ولا رواية ولا أن نبني على حكم، فلماذا أيها الفقهاء تحتكرون الدين لكم؟! الدين لم ينزل عليكم أنتم فقط، بل نزل على البشرية كلها، فلماذا تحتركون فهم الدين والنصوص وتجعلون أمامنا العقبات والحواجز الحديدية التي لا يمكن لنا عبورها لتبقوا أنتم المسيطرين على فهم الدين وأحكامه دون أن تفتحوا هذا الباب وتتيحوا هذه الساحة لغيركم؟!

نحن نقول: نحن لا نقرّر لك شيئًا، وإنما ارجع إلى عقلك الفطري، لترى أن هناك دينًا نزل على النبي قال عنه تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، ويجب على الإنسان أن يصل إلى هذا الدين وأن يقوم بتطبيقه، والطرق للوصول إلى هذا الدين ثلاثة:

إما الاحتياط، والاحتياط يستلزم الوقوع في العسر والحرج وتعطيل الحياة ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مضافًا إلى بعض الإشكالات الفقهية.

وإما الاجتهاد، والباب أمامك مفتوح، فيمكنك الوصول إلى الاجتهاد كما وصل الآخرون، وليس الاجتهاد أمرًا مستحيلاً ولا ممتنعًا، بل الاجتهاد مثل غيره، فكما يمكن للإنسان في الطب أن يصل إلى درجة البروفيسور، كذلك يمكن له أن يصل في الفقه إلى درجة الاجتهاد، فليس الباب مستحيلاً ولا ممتنعًا على أحد.

وإما التقليد، بأن يعتمد الإنسان على الخبير وصاحب الاختصاص، وهذا من قبيل أن يصاب الإنسان بمرض فيقول بأنه لا يريد أن يرجع إلى الطبيب المختص، بل يريد تشخيص مرضه وتحديد كيفية علاجه والقيام بعملية العلاج بنفسه!

من الواضح أن مثل هذا الإنسان يكون ملامًا بين العقلاء، فإن العقلاء يقولون: اختصر الطريق واذهب إلى صاحب الاختصاص، ولا يصح للإنسان أن يذهب إلى الطبيب ويسمع تشخيصه للمرض وعلاجه ثم يقول له: العلاج شيء وفهمك شيء آخر، ولعل مزاجك تدخل في تحديد المرض أو الدواء، فكيف أعتبر فهمك هو العلاج؟!

من الواضح لدى العقلاء أن الطبيب أمينٌ على الأبدان أيًا كان دينه ومذهبه، فإنه يتجرد من عوامله الشخصية ومن مزاجه وتركيبته الذاتية، ويشخّص المرض والدواء بتحرر كامل، وإذا افترضنا هذا في الطبيب فلماذا لا نفترضه في الفقيه؟! هل الطبيب فقط له حق اختصاص بينما الفقيه ليس له حق اختصاص؟!

نحن مستعدون أن نحترم علم الطب، ونقول: لا يحق لأحد الولوج فيه إذا لم يكن صاحب اختصاص، والطبيب أمين على الأبدان، وأما علم الفقه فهو احتكار وليس اختصاصًا، والفقهاء يحتركون الفهم على أنفسهم! إذا كان الأطباء أصحاب اختصاص فالفقهاء أيضًا أصحاب اختصاص، وإذا كان الأطباء أمناء على الأبدان فالفقهاء أيضًا أمناء على الأديان، وكما يتحرر الطبيب من رواسبه الشخصية ومن تركيبته الذاتية عند تشخيص المرض وعند تحديد الدواء، كذلك الفقيه - بمقتضى عدالته ونزاهته وأمانته - يتحرر من عوامله الشخصية ومن تركيبته الذاتية، ويشخّص الحكم الفقهي كما أمر الله «تبارك وتعالى»، كما في الرواية الشريفة: ”ألا فمن كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه، مخالفًا على هواه، مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه“.

مسألة التبعيض في التقليد:

الكثير من الشباب يسأل: هل يجوز للإنسان التبعيض في التقليد، بحيث يبحث عن الرأي الأسهل المناسب لذوقه ومزاجه ويأخذ به، فيترك الفقيه الذي يقول بحرمة كشف الوجه مثلاً ويأخذ بمن يجيز كشفه، ويترك من يقول بحرمة حلق اللحية ويأخذ بمن يجيز حلقها، ويترك من يحرّم شراء الأسهم من البنوك ويأخذ برأي من يجيز ذلك؟

نقول: إذا حكم عقلك بوجوب تقليد الأعلم فيجب حينئذٍ تقليد الأعلم، ولا يجوز حينئذ التبعيض بين الأعلم وغيره، إلا إذا وُجِد عندنا فقيهان لا نحرز أعلمية أحدهما على الآخر، وليس احتمال الأعلمية قائمًا في أحدهما بعينه دون الآخر، فحينئذٍ يجوز التبعيض، فإن فقهاءنا - كالسيد السيستاني والشيخ التبريزي - يقولون بجواز التبعيض حينئذ، وأما إذا قطع عقلك - وأنى له ذلك - بعدم وجوب تقليد الأعلم، فحينئذٍ يجوز لك التبعيض بين الفقهاء ما لم يستلزم المخالفة القطعية في عمل واحد، وشرح هذه العبارة يُرْجَع فيه إلى الرسالة العملية.

فنحن لم نحتكر لأنفسنا شيئًا، وإنما مشينا على طريق العقل وعلى منطق العقل، كان الإنسان في زمان النص يرجع إلى المعصوم، وبعد غيبة المعصوم أرجعنا المعصوم إلى الفقهاء فقال: ”فأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم“.

حدود الحرية في الاسلام
علاقة المسلم بأهل البيت