نص الشريط
الاسرة الصالحة قرة العين
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 8/7/1429 هـ
مرات العرض: 3814
المدة: 00:50:50
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (5911) حجم الملف: 8.73 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً

حديثنا حول هذه الآية المباركة ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً في ثلاثة محاور: في الفقرة الأولى وفي الفقرة الثانية وفي الربط بين الفقرتين.

المحور الأول حول الفقرة الأولى ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً فما معنى قرة العين؟

القرة مفهوم يتضمن عنصرين هما: عنصر الأمن والاستقرار وعنصر البهجة. قرة العين هو الذي يكون وجوده موجبا للاستقرار النفسي وموجباً للبهجة والفرحة. فمثلاً: إذا غاب لك عزيز فأنت قلقت نتيجة مغيبه وسفره فإذا رجع من سفره فزال ذلك القلق وحصل الأمن والاستقرار يقال: قَرّت عينُكَ برجوعه. لأن رجعه أزال القلق من نفسك. وإذا ولد لك مولود يحل صفات معينة وخصائل معينة فابتهجت بمقدمه وفرحت بمجيئه يقال: قرت عينك بهذا الوليد الجديد لأن ولادته أصبحت منشأً للبهجة والفرحة. إذا فقرة العين مفهوم يتضمن عنصرين: الاستقرار النفسي والبهجة النفسية ونحن نركز على كل من هذين العنصرين.

عنصر الاستقرار:

أنتم تعرفون أن الإنسان يحتاج إلى الأمن النفسي والاستقرار النفسي حاجة أساسية. وُلِدَ الإنسان ومعه عقدة الخوف ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وُلِد الإنسان وهو يخاف من الموت والأمراض والكوارث وبطش الأقوياء وفتك الظالمين. وُلِد الإنسان وهو يحمل عقدة الخوف ومن أشد ما يخاف عليه الإنسان وجوده حياته. فالإنسان له وجودان: وجودٌ فردي وهو وجود ذاته، ووجود اجتماعي وهو وجود أسرته. الوجود الفردي قد لا يخاف عليه الإنسان لأنه قد يطول خمسين أو سبعين سنة.

فهذا الوجود الفردي وجود محدود وسوف ينتهي يوماً من الأيام وفي عمر من الأعمار ولكن هناك وجوداً ليس محدودا ووجوداً سيبقى وهو الوجود الاجتماعي ووجودي من خلال أسرتي وأولادي وأحفاد أحفادي. فهذا الوجود هو الذي سيبقى فوجودي الفردي وجود قصير ولكن هناك وجود آخر لي وهو وجودي الاجتماعي ووجودي الذي يمتد في أولادي وأولاد أولادي وذريتي، هذا الوجود الاجتماعي أهم عندي من الوجود الاجتماعي لأن هذا الوجود الاجتماعي هو الذي يخلد ذكري ويبقيني على هذه الأرض وهو الوجود الذي يجب أن أخاف عليه. كيف سيكون وجودي في أولادي؟ وكيف سيكون وجودي بعد موتي وكيف سيكون وجودي في هذا المجتمع؟ ما هي سمعتي بعد موتي؟ ما هو بقائي بعد موتي؟ هل أضمن أن تكون ذريتي ذرية صالحة تذكر الناس بي؟ أم ستكون ذريتي ذريةً فاسدةً تأسف الناس على أنها أصبحت ذريتي؟ هذا أمر يقلق كل إنسان وهو وجوده الاجتماعي ووجوده في ذريته وحفدته، هذا الوجود كيف سيكون؟ هل سيكون وجوداً صالحاً فيقول الناس: الخلف خلف صالح كسلفه أم يقول الناس ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً.

وجودي الاجتماعي وجود يقلقني، فإذا رزقني الله ذرية صالحة تحمل التدين والصلاح وتحمل مشوار الحياة بتخطيط ووعي كانت ذريتي قرة عيني تعطيني الأمن النفسي، وذلك الخوف الذي أخافه من أن يكون وجودي الاجتماعي وجودا مزيفاً مشوهاً فإذا وهبني الله الذرية الصالحة حصل ليَ الاطمئنان على وجودي الاجتماعي والاستقرار النفسي من جهة وجودي الاجتماعي وصار وجود ذريتي قرة عين.

وهنا يتحقق العنصر الأول وهو الاستقرار «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: عمل صالح ينفعه وسنة جارية يهتدى بها وولد صالحٍ يدعو له». فالذرية الصالحة قرة عين تورث الأمن والاطمئنان في النفس.

العنصر الثاني: وهو عنصر البهجة.

كما أن الإنسان يحمل غريز الخوف منذ ولادته ويحتاج للأمن والاستقرار النفسي منذ ولادته فالإنسان يحمل غريزة حب الجمال منذ ولادته، فكل إنسان يحب الجمال المادي أو المعنوي. يحب جمال الصوت وجمال الصورة وجمال الخلق وجمال الصفات وأي جمال وأي مرحلة من مراحل الجمال، فالإنسان بغريزته يحب الجمال ويسعى نحو الجمال ويسعى نحو أن يتلبس ويتقمص ويكتسي بالجمال وكل إنسان بفطرته يسعى نحو الجمال وأي جمال أعظم من أن تكونت أسرة الإنسان أسرة جميلة.

الأسرة مظهر الإنسان، زوجته وذريته هم مظهره وثوبه أمام الناس ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ فزوجتك وذريتك هم ثوبك الذي تمشي وتتزين به أمام الناس، فإذا كانت الزوجة والذرية مظهراً جميلا ومظهراً أنيقا بخلقه وتدينه وبصفاته الحسنة إذا فقد تقمصت الجمال وأشبعت غريزتي الفطرية في حب الجمال والسعي إلى الجمال بقسميه المادي والمعنوي وإذا حصلت على الجمال فقد حصلت على البهجة والبهجة هي قرة العين وإذا حصلت على أُسرةٍ صالحة من زوجةٍ وأولاد فقد حصلت على قرة العين ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ. قال رجل للنبي محمد : «يا رسول الله إني لي زوجة إذا خرجت شيعتني وإذا أقبلت استقبلتني وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمك؟ فقال : بشرها بالجنة» وهذه هي الجمال الحقيقي وهي التي تعكس الجمال الحقيقي. قال : «ما استفاد امرؤٌ بعد الإسلام أفضل من زوجة تسره إذا نظر إليها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله» ليس فقط بجمالها فقد تكون جميلة الشكل ولكنها مبغوضة لدى زوجها لشدة قبح فعالها، فالمقصود أن تكون جميلة بخلقها وبسمتها والتي تفيض حناناً وعاطفةً وشفقة على زوجها.

إذا فالزوجة الجميلة بخلقها وبسمتها وشفقتها على زوجها هي قرة عين، لأن الجمال الذي أسعى إليه قد حصلت عليه وحصلت على البهجة وقرة العين.

والولد الجميل بخلقه وبتدينه وبسيره وثقافته هو جمال للأسرة وجمال للوالدين ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ.

فبالنتيجة قرة العين تعني عنصرين هما عنصر الاستقرار وعنصر البهجة. وعنصر الاستقرار يحصل عندما يضمن الإنسان وجوده الاجتماعي بعد موته وعنصر البهجة يحصل نتيجة سعي الإنسان نحو الجمال فحصل على الجمال الذي يريده ألا وهو جمال أسرته وهي مظهره وثوبه أمام الناس.

المحور الثاني: الفقرة الثانية ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً

نذكر هنا أمرين:

1 - ما معنى قوله ”إماماً“؟

2 - وما معنى قوله ”اجعلنا للمتقين إماما“؟

الإمام له معنيان له معنيان، فالإمام بالمعنى الأخص هو من ينكشف له عالم الملكوت، فكل من انكشف له عالم الملكوت وعالم ما وراء المادة فهو إمام ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا فهؤلاء أئمة بالمعنى الأخص وهم من انكشف لهم عالم الملكوت فيرى وراء هذا العالم المادي فيرى عالم الأرواح وعالم الأشباح وعالم الملائكة وعالم الجن وسائر الوجودات السيارة في هذا الكون وفي هذا الوجود ما يُرَى وما لا يُرَى. فمن أدرك كل هذه العوالم فهو إمام.

الإمام بالمعنى الأعم هو بمعنى المُقتَدَى فمن يقتدي به الناس في الصلاة فهو إمام ومن يقتدي به الناس في منهج معين فهو إمام سواً كان إمام هدىً أم إمام ضلال ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ أي من اقتدوا به سواء كان حقاً أو ضلالا. والمقصود هنا في الآية ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً أي قدوة فنحن لا نريد قرة العين فقط فنحن مننت علينا ووهبتنا قرة العين في زوجاتنا وفي ذرياتنا ونحن نطمح لأمر آخر أن تكون أسرنا قدوة للأسر الأخرى وبيوتنا قدوة للبيوت الأخرى. وهناك آية أخرى ﴿وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً فكلمة قبلة لها ثلاثة معاني:

1- قبلة بمعنى متقابلة، أي أن تكون الخارطة الهندسية التي تبنى عليها البيوت ينصح الإسلام بأن تكون هذه الخارطة تفتح البيوت على بعضها البعض لكي يتحسس الإنسان آلام جاره وهمومه وحتى يعيش الناس أسرة واحدة فالإسلام ليس فقط أفكار ومباديء فالحتى القوانين الهندسية جاء الإسلام ليطرحها من أجل أن يضمن مجتمعاً مترابطاً ومتآلفا وكما ورد عن النبي محمد «»: «ما زال أخي جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».

2- أي قبلة للكرم فتكون مأوى للضيوف ففي زمن أمير المؤمنين «»، الحارث بن زياد بنا له داراً واسعة مثل بيوتنا هذه الأيام بيوت واسعة ومرفهة ودعا الإمام علي لزيارة بيته فدخل أمير المؤمنين فقال: «يا حار ما تصنع بهذه الدار الواسعة؟» فسكت، فقال «»: «إنك تستطيع أن تصل بها الآخرة» فقال: كيف هذا؟ فقال «»: «تقري الضيف وتصل الرحم وتخرج الحقوق من مخارجها فإذا أنت فعلت ذلك فقد وصلت بها الآخرة» فأن يكون بيتك قبلة لا يعني أن تعمل كل يوم وليمة، فأن تعمل جلسة أسبوعية في بيتك يتلى فيها ذكر آل محمد «» أو جلسة شهرة أو حتى سنوية يتلى فيها ذكر أهل البيت فهذا معنى «وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً»، قد هذا لا يكون في طرف الرجال فليكن في طرف النساء فالمهم أن يكون قبلة وأن يكون مأوى لآخرين يتلى في هذا المأوى ذكر آل محمد «».

3/ أن تجعل أسرتك قدوة للأسر الأخرى، فأسرتك بما لها من صفات وبما لها من مباديء وبما لها من سيرة ناصعة حسنة تكون قبلة للأسر الأخرى وهذا هو المعنى المقصود في قوله تعالى «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً». نأتي لقوله «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ» ولم يقل: واجعلنا للمؤمنين أو الصالحين، فلماذا؟ هذا يعلمنا أن المؤمن يسعى نحو الكمال.

الإيمان في مجتمعنا، عندما يقال مؤمن أي أنه يصلي صلاة الجماعة، يصوم، ويدفع الخمس فهو مؤمن. فهل هذا هو الإيمان الذي نفخر به أمام الأديان الأخرى. عندما يفتخر ديننا الإسلامي أمام الأديان الأخرى وأمام الملل الأخرى بالمؤمنين فما هو الإيمان الذي نفخر به؟ فنقول لهم: نفخر بمؤمن يصلي جماعة، ويصوم ويخمس. فهل هذا هو الفرق؟ لا، فالإيمان حركة حضارية وليس الإيمان مجرد علاقة محرابية وليس الإيمان دعاءاً وتهجداً وتبتلاً ومناجاة فقط فالإيمان حركة تبني الحياة والإيمان حركة تبني الحضارة وتقيم الإسلام كياناً على الأرض وهو الكمال. من أين نفهم أن الإيمان بهذا المعنى العظيم.

اقرأ الآيات التي افتتحنا بها، فالإيمان يمثل ثلاث خصال:

1/ العنصر الاجتماعي «وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً» أي أن المؤمن خلقٌ أيضاً وليس مجرد محراب وهو مصدر سلام ووئام للمجتمع، والمؤمن ليس مصدر فتنة أو فرقة وليس مصدؤ اختلاف وشقاق بين أبناء المجتمع. المؤمن الحقيقي هو الذي يسعى لتقوية روابط المجتمع وهو الذي يكون وجوده مصدر سلام ووئام ورحمة ويكون وجوده مصدر علاقات اجتماعية وثيقة ومترابطة. ورد عن الإمام زين العابدين «»: «لا تغتروا بكثرة صلاتهم ولا بكثرة صيامهم فإن الرجل ليلهج بالصلاة أو الصوم حتى لو تركهما استوحش ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة».

2/ العنصر الثاني: أن علاقتهم مع الله علاقة مشبعة «وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً» مثلنا نحن، فتحن نسمع الآيات ولكن كأننا لا نعيها ولا نفهمها ولا ندركها. المؤمنون إذا سمعو الآيات «تفيض أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق»، «وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً» بل تفاعلوا معها وتدبروها «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» فالعنصر الثاني للإيمان هو العلاقة العبادية المتفاعلة المتحركة لا العلاقة العبادية الجافة الجمدة والسطحية.

3/ العنصر الثالث «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا» أي عنصر التخطيط، وليس مجرد الدعاء بأن يهبك الله الله الذرية الصالحة والزوجة الصالحة ولكنك لا تخطط لهما. فالمؤمن خلق وعبادة وتخطيط، فهو يخطط لحياته ومستقبله ويخطط للحضارة التي يبنيها والتي لا تقوم إلا على أم صالحة وذرية صالحة فالأنت عندما تخطط للزوجة الصالحة والذرية الصالحة فأنت مهموم ببناء الحضارة من خلال بناء الأسرة «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً».

إذا فالإيمان ليس مجرد علاقة مع الله بل هو خلق وعبادة وتخطيط كما قلنا ومن أجل أن يتحقق التخطيط وُلِدَ الإنسان يحب الكمال فلا يوجد أحد يحب النقص، وبما أن الإنسان فُطِر على حب الكمال فالإنسان الواعي هو الذي استجاب لفطرته وسار نحو الكمال. لاحظوا هذا الحديث عن النبي محمد «»: «منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال» فهو يسعى إلى الكمال. فالتاجر ورجل الأعمال إذا كان إنسانً واعياً فلا يهدأ لأنه دائما يريد تحريك أمواله فلا يدعها مجمدة في البنك لأنه إنسان واعي يقرأة الحياة والمستقبل ويعرف كيف يخطط فتجده دائماً يحرك أمواله في مشاريع استثمارية متنوعة حتى تكون أمواله حركة تغذي اقتصاد المجتمع وتنمي المجتمع. وكذلك طالب العلم وطالب الثقافة فإذا حصل على الماجستير يطمح للدكتوراة وإذا حصل على الدكتوراة يطمح إلى ما هو أعلى منها فهذا هو الإنسان الواعي. وأما الإنسان الجامد على مستواه وشهادته وعلى ما عنده فهذا إنسان لا يعي مستقبله ولا يقرأ الحياة قراءة جيدة ولا يستجيب لفطرته لأن الفطرة تلح على الإنسان بأن يسعى نحو الكمال. ورد عن الإمام الكاظم «»: «من تساوى يوماه فهو مغبون» وقال تعالى: «وَالْعَصْرِ﴿1 إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴿2 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» فهؤلاء هم الذين يريدون ربح شيء جديد كل يوم، عبادة جديدة، صدقة جديدة، عمل صالح جديد، ثقافة جديدة، فكل يوم هو يتكامل، فالمؤمن الواعي هو الذي يسعى نحو الكمال ولأنه يسعى نحو الكمال فلا يقول: واجعلنا للمؤمنين إماماً بل يطلب درجة أعظم «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً».

المحور الثالث وهو الربط بين الآيتين «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً».

فهذا الذيل يريد أن يقول قرة العين مربوطة بالتقوى لا ينفصلان، فقرة العين في الأسرة بالتقوى فالتقوى هي الأساس وإلا فلا شيء آخر فقرة العين منوطة بملاك التقوى فالمهم عنصر التقوى «قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ» فبعضهم يظن أن علاقته بزوجته وأولاده علاقة أمر بمعروف ونهي عن المنكر فإذا استجابوا فأهلا وسهلاً. المسألة ليست هكذا مجرد أمر بمعروف ونهي عن المنكر فكل إنسان يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أسرته أو غير أسره ولكن هناك واجب عليك في حق أسرتك بالذات وهو غير واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل أنت مسؤول يوم القيامة عن نفسك وأسرتك وهي مسؤولية أخرى وواجب آخر. فأنت مسؤول عن حجاب زوجتك وحجاب ابنتك وعن تقصير أولادك فأنت مسؤول مسؤولية شرعية أمام الله يوم القيامة عن أي تقصير في أسرتك. انفتاح الأسرة على الأفلام الخليعة والأفلام المباحة، تقصير الزوجة أو البنات في الحجاب أنت المسؤول عنه مسؤول عنه مسؤولية شرعية في قبرك وفي حشرك وفي نشك يوم القيامة وهو واجب غير واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إذا فمناط قرة العين بالتقوى والأسرة التقية. ولكن المجتمع الإسلامي والعربي والخليجي في هذه الآونة الأخيرة صار المقياس عنده لقرة العين مقياساً آخر وليس المقياس الذي يطرحه القرآن الكريم. كيف يبني الإنسان البيت المؤلف من زوجة وأولاد؟ القرآن ذكر بيتين، بيت عبر عنه «إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ» وبيت آخر عبر عنه بقرة العين «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً» نحن أغلب بيوتنا بيوت العنكبوت، أغلب بيوتنا التي نبنيها نبنيها على شكل بيت العنكبوت ونبنيها على الوهن والضعف وعلى التحلل والنظرة المادية الدنيوية للأمور، فهي ضعيفة وهنة، ضعيفة بإيمانها وهنة بتدينها وتوجهها إلى الله بينما المطلوب بيت هو قرة العين وقرة العين أساسها التقوى والتقوى بعيدة عن هذه المظاهر.

نذكر هنا مظاهر ثلاثة أصبح المجتمع الخليجي يعنى بها ويعتبرها مظاهر أساسية للبيت.

المظهر الأول: الترف والبذخ المادي.

فالزواج يُبدَأ بحفلة الزواج وحفلة الزواج هي الخطوة الأولى لبناء البيت. فكم يصرف في حفلة الزواج؟ وكم تصرف النساء في حفلة الزواج من كوافير ومصورة والهدايا التي تهدى للناس والجلوات وماأشبه ذلك؟ بعضهم يصرف ستين ألف كما قال لي وبعضهم مئة ألف. وهذا المقدار الذي يصرفه هل سيمر هكذا أم سيحاسب عليه أمام الله؟ «لا تخطو قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأَل عن أربع: عمره في ما أفناه، شبابه فيما أبلاه، عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه» فيسأل عن أمواله مالاً مالاً، ودرهماً درهماً يوم يحمى عليها في نار جهنم. فهذه حفلة الزواج أصبحت نارا وجمرا ووقودا للنار عليك لأنك لم تراعِ فيها الضوابط الشرعية «كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» فهذه الستين ألف أو المئة ألف تغذي عشر عوائل فقيرة في أفغانستان، في العراق، في لبنان لمدة سنة كاملة.

أنت تعيش في بحبوحة الترف والبذخ وهذا المال بدل أن يتحول إلى جنة مثمرة لأنك أشبعت بها عوائل تتوق إلى لقمة الخبز، أنت صرفتها فيما لا يرضي الله «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً».

أن يصرف ويوسع على زوجته فهذا كرم أما أن يصرف على حفلة الزواج وما أشبه ذلك فلا علاقة لذلك بالكرم ورد عن النبي «»: «من نبل المرء توسعته على عياله» «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله». هذا الحفلات التي يرتكب فيها المحرم وهو الإسراف وهو من الكبائر المحرمة فهو يجر إلى الطبقية بين أبناء المجتمع ويجر المجتمع الإسلامي إلى طبقتين طبقة فقيرة منهارة وطبقة متعالية في البذخ والسرف. الإسراف يعطل أهداف الإسلام ويعطل أهداف المشروع الإسلامي. هذا الحفل المشتمل على الكبيرة هل تنتظر أن يكون حفلا مباركاً يباركه الله ويسبغ عليه رحمته ورأفته؟ أبدا، فحفل يشتمل على المحرمات لن يكون حفلاً مباركاً.

المظهر الثاني: الطرب.

الآن هناك تفنن في مسألة الطرب. استئجار الفرقة، والمغنية وبتلك الأجور الباهظة ويُنقل الزواج إلى صالة أو فندق لأن يكون هناك مجالٌ متاح للعزف والغناء ويقال: هي ليلة واحدة وغداً نتوب. وأنا لا أفعل شيئاً بل هم النساء من يفعل ذلك! وهو أعظم سبب لهذه المحرمات. «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» ورد عن الإمام الصادق «»: «قول الزور هو الغناء» ولاحظوا مثلا ما ورد عن الإمام الصادق «»: «بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة» والمقصود بالفجيعة لا أن يحدث في البيت حريق أو كارثة بل الفجيعة هي الفجيعة في الدين «اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا» وهذه هي المصيبة الحقيقية، وإلا فاحتراق المكان أو سرقته هو أمر يسهل تعويضه.

فالبيت الذي يعيش على اللهو ويعيش على الموسيقى بحجة الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الهادئة والبيت الذي يعيش على هذه الأصوات هو بيت يميل للهو والفساد والانحراف وهو بيت لا تؤمن فيه الفجيعة. وورد عنه «»: «إن البيت الذي يُقرأ فيه القرآن تحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيء لأهل السماء كمل يضيء لأهل الأرض وإن البيت الذي يعزف فيه الغناء تحضره الشياطين وتهجره الملائكة» وهذه أيام رجب وأيام الدعاء، دع بيتك، ودع أطفالك يستمعوا إلى الدعاء والصلاة في البيت، دعهم يستمعوا لذكر الله داخل البيت بدل هذه الأصوات الأخرى. وأما البيت الذ يستمع فيه إلى الغناء فهو فحمة سوداء وقطعة من النار لأنه يؤدي إلى النار ويربي الأطفال والذرية على العلاقة مع النار والاستهانة والاستصغار بالذنوب.

وبعض الفقهاء مثل السيد الخوئي قال بجواز الغناء للنساء في خصوص ليلة الزفاف بما لا يشتمل على محرم آخر، وأما دخول العريس في وسط النساء وجلوسه إلى جانب زوجته، وقيام المصورة بالتصوير فكل هذا محرم من المحرمات الكبيرة. أو هذه الموسيقى ومكبرات الصوت التي تملأ المكان بالموسيقى هو أمر محرم، واستخدام أدوات اللهو أمر محرم. السيد الخوئي «» عنده استخدام حتى غير أدوات اللهو ومنها الأواني والقدور واستخدامها بنفس كيفية اللحن اللهوي هو أمر محرم. إذا فهذا التسامح من أجل ليلة واحدة ومن أجل أن تفرح البنات والأولاد والأسرة ونحن نرتكب أكبر المحرمات، ثق بأن هذا الحفل لا تحضره الملائكة ولا يحضره أهل البيت ولا يحضره أحد من الصالحين وهذه الأنشودة التي يقولها الناس من قديم الزمان «لا إله إلا الله حضر محمد وعلي» لا، لا يحضر لا محمد «» ولا علي «» يحضرون هذه الأماكن المملوأة بالطرب وبالمعصية. إذا لتكون حفلاتنا حفلات مباركة لا بد أن تكون خالية مما يبعد أهل البيت «» والصالحين عنها.

المظهر الثالث: البعد عن ذكر أهل البيت «».

اسمع الأغاني التي تقال، كلها أغاني مهيجة للشهوات ومهيجة للغرائز والعلاقات الغير المشروعة وكل ذلك محرم. المفترض أن يكون الغناء بالكلام الحق، بأهل البيت «» بفضائلهم بمناقبهم فإن هذا هو الذي يوجب حضورهم «شيعتنا منّا خُلقوا من فاضل طينتنا، يفرحوا لفرحنا» ما الذي يفرح به أهل البيت؟ هل يفرحون بالغناء والطرب والكلام اللهوي؟ أم يفرحون بذكر الله وبذكر فضائلهم؟ فإذا أردت بأن يكون حفلك موقعاً لفرح أهل البيت «» وحضور أهل البيت ومباركة الإمام الحجة «» لهذا الحفل فعليك أن تهيأ الأجواء لأهل البيت «».

إذاً فهذه المظاهر الثلاثة هي مظاهر بيت العنكبوت، الذي ينهار وينتهي ويندثر. وأما قرة العين فمناطه التقوى والعمل الصالح «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ»

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آباءه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلا وعينا حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلا وهب لنا رأفته ورحمته ودعائه وخيره وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

فاطمة (ع) مرآة لذات الله
الغرور بالقوة