نص الشريط
دور التربية في العقلية التطويرية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: حسينية السنان
التاريخ: 19/9/1421 هـ
مرات العرض: 2991
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (13373)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تتحدث عن مسألة التربية، حديثنا عن هذه المسألة في نقطتين:

  • في علاقة التربية مع المجتمع.
  • وفي بيان موطن التخلّف في المجتمع.
النقطة الأولى: علاقة التربية مع المجتمع.

الدكتور أحمد اليوسف في مجلة عالم الفكر الكويتية، في العدد 29، يطرح سؤالًا حول علاقة التربية بالمجتمع، هل أن التربية هي التي تشكّل المجتمع، أم أن المجتمع هو الذي يشكّل التربية؟ أيهما المؤثر بالأصالة؟ أيهما السابق في التأثير؟ هل التربية تقود إلى إيجاد المجتمع، أم أن التقدم الاجتماعي هو الذي يقود إلى تحقيق التربية الصالحة؟ يذكر هذا الدكتور أن الغرب يروّج إلى النظرية الأولى، أي أن الإعلام الغربي يروّج إلى النظرية التي تقول أن التربية هي التي تشكّل المجتمع، من أراد أن يخلق مجتمعًا صالحًا فليبدأ بالتربية، التربية هي الطريق لتحقيق المجتمع الصالح السعيد، الإعلام الغربي يروّج لهذه النظرية لأنها تخدم مصالحه، تخدم سيطرته على ثقافة شعوب الدول النامية، شعوب دول العالم الثالث، كيف تخدم سيطرته؟

من الطبيعي أن شعوب العالم الثالث تعيش تخلّفًا حضاريًا واضحًا، نتيجة لأنها تعيش التخلف تبحث عن الوسيلة للخلاص من هذا التخلف، الإعلام الغربي يرشدها إلى الوسيلة، الوسيلة للتخلص من التخلف الحضاري هو التربية، إذا اتبعتم منهجًا تربويًا قادكم هذا المنهج إلى الخلاص من التخلف، هذه الشعوب - شعوب العالم الثالث - لا تملك منهجًا تربويًا جاهزًا، لا تملك منهجًا تربويًا واضح المعالم، بالتالي تضطر هذه الشعوب إلى استيراد المنهج الغربي في المجال التربوي، حتى تسير على خطواته وعلى حذوه، من أجل رفع التخلف وتحقيق المجتمع الصالح، كما يروّج له الإعلام الغربي، وبالتالي تبقى سيطرة الغرب على ثقافة هذه الشعوب، وعلى طرق التفكير فيها، نتيجة أنه يروّج لهذه الفكرة، وهي أن التربية هي التي تشكّل المجتمع، لا أن المجتمع هو الذي يشكّل التربية.

الدكتور أحمد اليوسف يقول: وانجر - خصوصًا المجتمع العربي - مشى على هذه النظرية، وسار على حذو المنهج الغربي في مجال التربية، لكنه لم يحقّق شيئًا، لم يرتفع التخلف من هذه الشعوب العربية والإسلامية مع أنها سارت على المناهج الغربية في حقل التربية لسنين عديدة، ما زال وضع المرأة في المجتمع وضعًا متخلفًا، ما زالت مظاهر التخلف الأخرى واضحةً على المجتمع. إذن فبالنتيجة: يقول الدكتور: الصحيح هو النظرية الثانية، المجتمع يشكّل التربية، لا أن التربية تشكّل المجتمع، كيف؟

يقول: علماء التربية ذكروا لنا أمثلة رائعة على تأثير المجتمع في التربية، لا تأثير التربية في المجتمع، فمثلًا: أثينا بحكم موقعها الجغرافي، وهي أنها مطلة على البحر، انفتحت تجاريًا على الأمم التي حولها، ونتيجة الانفتاح التجاري على الأمم المختلفة تحقق الانفتاح الثقافي، أصبحت أثينا ملتقى الثقافات، ملتقى الحضارات، موطن الانفتاح الفكري والثقافي، نتيجة تقدم المجتمع الأثيني، نتيجة انفتاح المجتمع الأثيني، تطور الفكر التربوي في المجتمع الأثيني، برز أفلاطون، أفلاطون رسم لنا منهجًا تربويًا يؤكّد على إعلاء العقل على الإحساس، يؤكد على تعليم الأجيال على حب الخير والجمال، يؤكد على تربية الأبناء على المواطنة الصالحة. إذن، المجتمع شكّل التربية، لا أن التربية شكّلت المجتمع.

تلاحظ الآن المجتمع الغربي، الآن المجتمع الغربي لما امتلك أزمة الحضارة، وتعملق في مجال التقدم التكنولوجي، المجتمع الغربي صاغ التربية صياغة تنسجم مع رؤيته الحضارية، صاغ المنهج التربوي بصياغة يحافظ بها على منجزاته الحضارية، على مكتسباته الحضارية، على تقدمه في شتى الحقول والمجالات. إذن، الارتقاء الاجتماعي هو الذي يشكّل التربية، لا أن التربية هي التي تشكّل المجتمع، الصحيح خلاف ما يروّجه الإعلام الغربي، أن التربية تقود للمجتمع، بل المجتمع يقود إلى التربية الصالحة، هذا ملخص كلام هذا الدكتور.

ملاحظة على كلام الدكتور:

نحن عندنا ملاحظة على كلامه، نحن نقول: ليس بين التربية والمجتمع قبلية أو بعدية، المسألة ليست مسألة أن التربية تسبق المجتمع أو المجتمع يسبق التربية، ليست هذه المسألة، ليست بين التربية والمجتمع سبق أو قبلية، أحدهما يسبق الآخر، أحدهما يخلق الآخر.. لا، التربية والمجتمع متزاوجان في صف واحد وفي خط واحد، لا التربية تسبق المجتمع، ولا المجتمع يسبق التربية.

إذا كان المجتمع لا يملك أيدلوجية فكرية مسبقة، ليس عنده مخزون فكري مسبق، مجتمع فقير، لا يحمل أي فكر مسبق، إذا كان المجتمع فقيرًا فكريًا، لا يحمل مخزونًا فكريًا، من الطبيعي أن هذا المجتمع لن تؤدي تربيته إلى خلق المجتمع، بل هو يحتاج إلى العكس، يحتاج إلى أن يتطور ويتقدم مجتمعه حتى يكون التقدم الاجتماعي مؤديًا إلى اختيار التربية الفاضلة والتربية الصالحة.

أما إذا افترضنا المجتمع هو من الأساس يملك تراثًا حضاريًا، يملك مخزونًا حضاريًا، إذا كان المجتمع أساسًا يملك مخزونًا تراثيًا ضخمًا، من خلال هذا المخزون التراثي وُجِدَت عنده أيدلوجية فكرية في المجال التربوي، إذا كان يمتلك أيدلوجية فكرية في رتبة سابقة فلا يحتاج أن ينتظر أن يتقدم المجتمع حتى يصوغ المنهج التربوي على ضوء تقدم المجتمع، هو أساسًا يملك مخزونًا فكريًا، هو أساسًا يملك مخزونًا تراثيًا، ما دام يملك هذا المخزون فعنده المنهج التربوي، وإذا كان عنده فالمنهج التربوي هنا هو الذي يؤدي إلى تشكيل المجتمع، لا أن المجتمع هو الذي يؤدي إلى تشكيل التربية.

لاحظوا مثلًا تجربة محمّدٍ ، التجربة التي قام بها رسول الله هل هي الانطلاق من التربية إلى المجتمع أم من المجتمع إلى التربية؟ طبعًا الرسول انطلق من التربية للمجتمع لا من المجتمع إلى التربية، لأنه يملك أيدلوجية فكرية، ما دام يملك رصيدًا ويملك مخزونًا فكريًا، فلا معنى لأن ينتظر النهوض الاجتماعي حتى يكتسب منه التربية الصالحة، هو يملك الرصيد التربوي في رتبة سابقة، وفي مرحلة سابقة.

لذلك، المجتمع الجاهلي الذي لا يعرف حضارةً، ولا يعرف نور العلم، ولا يعرف معنى القيم والمثل، الرسول خلق منه مجتمعًا متعلمًا، خلق منه مجتمعًا حضاريًا، خلق منه مجتمعًا غزا المجتمعات الأخرى، وفتح المجتمعات الأخرى. إذن، الرسول في تجربته انطلق من التربية للمجتمع لا من المجتمع إلى التربية، وهذا ما تحدّث عنه علي بن أبي طالب : ”لقد علمتُم موضعي من رسول الله، بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، لقد وضعني في حجره وأنا وليد، كان يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويشمني عرفه، ويمسني جسده، ويمضغ الطعام ويلقمنيه، وكان يرفع لي كل يوم علمًا من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به، وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلةً في فعل“.

تربية علي خلقت المجتمع الفاضل، تربية علي خلقت المجتمع الصالح، نفس المسار سار عليه علي بن أبي طالب، علي بن أبي طالب وجد أن المجتمع الإسلامي تحول إلى مجتمع أموي، المجتمع الأموي مجتمع مترف، مجتمع شجع، مجتمع لا يفكر إلا في جيبه وبطنه، مجتمع لا يعرف للمبادئ قيمة ولا ثمنًا، المجتمع الأموي طغى على الحجاز، طغى على العراق، طغى على الشام، الخط الأموي طغى على الساحة، فما وجد علي طريقة إلا أن ينطلق من التربية إلى إصلاح المجتمع، فربّى كميل بن زياد، ورشيد الهجري، وميثم التمار، وعمار بن ياسر، وحبيب بن مظاهر، وحجر بن عدي.

هؤلاء قادوا حركة المعارضة، قادوا حركة التمرد على المجتمع الأموي، هؤلاء ضحوا بدمائهم في سبيل أن ينشئوا جيلًا لا يعرف الترف، ولا يعرف البطن والجيب، وإنما يعرف قيمة المبادئ. لذلك، ببركة هذه البذرة - بذرة كميل وحجر - تأسّس المذهب الشيعي، المذهب الشيعي انطلق من هذه البذرة، المذهب الشيعي انطلق من هذه النواة الخيّرة التي زرعها علي بن أبي طالب. إذن فبالنتيجة: عليٌ يقول: الصحيح أننا انطلقنا من التربية للمجتمع، ولم ننطلق من المجتمع للتربية؛ لأننا نملك أساسًا مخزونًا فكريًا ورصيدًا فكريًا.

ثانيًا: نحن لا نلغي دور تأثير المجتمع في التربية، المربّي الحكيم هو الذي يستفيد من التقدم في مجال التربية، المربي الذكي، المربي الحكيم، المقنّن الحكيم، هو الذي يستغل التقدم في مجال التربية، ليس من الصحيح أبدًا أن تسير التربية في خط وحدها، والتقدم يسير في خط وحده، ليس من الصحيح ولا من الحكمة أن تنفصل التربية عن مسيرة المجتمع، نحن نربي أجيالنا وأبناءنا بخطة منعزلة عن التقدم الاجتماعي، هذا خلاف الحكمة، التربية الصالحة أن تستفيد من التقدم الحضاري، تستفيد من التقدم الاجتماعي في أخذ بعض اللمسات وأخذ بعض الملامح في الخطوات التربوية، وفي بنود المنهج التربوي الذي تسير عليه، المربي الحكيم هو الذي يمزج التربية بالتقدم الاجتماعي، لا أن يعزل التربية عن مجال التقدم الاجتماعي.

ورد عن علي أنه قال: ”لا تقصروا أولادكم على آدابكم؛ فإنهم خُلِقُوا لزمانٍ غير زمانكم“. ليس من الصحيح أبدًا أن تفصل التربية عن التطور، أنت أين تعيش؟! تعيش في السرداب أم في المغارة أم في القرون الوسطى؟! أنت تعيش في عصر الحضارة، من المستحيل أن تفصل التربية عن التقدم الحضاري، لا بد أن تستغل التقدم الحضاري في مجال تربيتك، تربية الأب، تربية المسجد، تربية المنبر، تربية أي مكان، الجميع مسؤولون عن التربية.

ليس من الصحيح أن ينعزل المنبر أو ينعزل المسجد أو ينعزل الأب أو تنعزل المدرسة أو تنعزل العلاقة الاجتماعية عن التقدم الحضاري، لا بد أن تستفيد هذه المصادر كلها من منبر، من مسجد، من مدرسة، من أسرة، من أب، من صديق، هذه المصادر كلها لا بد أن تستفيد من التقدم الحضاري، لا بد أن تأخذ منه لمسات وملامح تضعها في سبيل التربية، وتضعها ضمن المنهج التربوي، حتى تتمازج التربية مع التقدم الاجتماعي، ويكونا صفًا إلى صف، بلا قبلية ولا بعدية. إذن، ما أردنا بيانه في هذه النقطة هو أنّه لا قبلية ولا بعدية، التربية والمجتمع توأم، لا أحد يسبق الآخر، كما طرح المسألة الدكتور أحمد اليوسف في بحثه.

النقطة الثانية: موطن التخلف في المجتمع.

نحن نطلب التربية الصالحة، والتربية الصالحة معناها هي التربية التي تقضي على التخلف الاجتماعي، أين التخلف؟ لا يمكنك أن تحدّد المنهج التربوي حتى تحدّد نقطة التخلف، أين نقطة التخلف؟ إذا لم نحدد موطن الداء، إذا لم نحدد نقطة التخلف أين، كيف نصوغ منهجًا تربويًا يعالج هذه النقطة، أو يربي عندنا الوقاية من هذه النقطة؟ إذن، لا بد في رتبة سابقة أن نحدّد أين بيت الداء، أين موطن التخلف، وعلى أساسه نصوغ المنهج التربوي، فأين نقطة التخلف؟

الباحثون الاقتصاديون طرحوا مشاكل كثيرة، مشكلة انخفاض مستوى الإنتاج، انخفاض مستوى الدخل، هذه مشاكل اقتصادية، الباحثون الاجتماعيون أيضًا طرحوا مشاكل كثيرة، من جملتها مثلًا تخلف وضع المرأة، تخلف المستوى الثقافي عند أبناء مجتمعنا، هذه مشاكل مختلفة. نحن نقول: هذه كلها مظاهر، تخلف وضع المرأة، تخلف المستوى الثقافي، تخلف المستوى الفكري والحواري عند أبناء مجتمعنا.

الآن أشير لك إلى نقطة مهمة جدًا لعلي أتحدث عنها في بعض الليالي: مجتمعنا إلى الآن لا يقبل الحوار، مجتمعنا إلى الآن لا يقبل أن ينفتح على أحد، أنا إذا اختلفت معك فكريًا لا أجلس معك ولا تجلس معي، ولست على استعداد أن أحاورك وأن أعرف ما عندك أو تعرف ما عندي! مجتمعنا المسلم مع الأسف، ومجتمعنا العربي مع الأسف إلى الآن لم ينفتح على خلق الحوار، لم ينفتح على خلق استيعاب الطرف الآخر، لم ينفتح على خلق الجلوس مع الطرف الآخر، لم ينفتح على الحوار أبدًا، لم ينفتح إلا على «إما أنا أو أنت» لا «أنا وأنت»، لم ينفتح على أفق الحوار وعلى أجواء الحوار.

هذه المظاهر - انخفاض المستوى الثقافي، عدم الانفتاح على أجواء الحوار، تخلف الموقع الريادي للمرأة في مجتمعنا - كل ذلك مظاهر للتخلف وليست هي المشكلة، المشكلة وراء هذه المظاهر، المشكلة نقطة مركزية ونقطة محورية وراء هذه المظاهر كلها، ما هي النقطة المركزية في التخلف؟ أينها؟ ما هو المحور في التخلف وراء هذه المظاهر كلها؟

العالم النفسي بيرفت يقول: نقطة التخلف في العقلية التقليدية، العقلية اللاتطورية، العقلية التقليدية هي منشأ هذه المظاهر كلها، منشأ المظاهر كلها نقطة واحدة، وهي العقلية التقليدية، العقلية.. كما يعرّفها كتاب معجم علم الاجتماع، يقول: العقلية اللاتطورية هي مجموعة من العادات ومجموعة من الرواسب ومجموعة من النزعات والاتجاهات تصوغ الفكر على أن يستحسن أوضاعه، نحن نعيش أوضاعًا جيدة، ونحن مرتاحون، وهذه أوضاعنا الفكرية والثقافية جيدة، ونحن كما نحن! استحسان هذه الأوضاع وهذا المستوى طابع العقلية التقليدية وليس طابعًا وسمةً للعقلية التطورية، بيت الداء هو العقلية، عقلية المجتمع ما هي؟ هل هي عقلية تغييرية، أم هي عقلية صامتة، عقلية ساكنة، عقلية واقفة؟ ما هي عقلية المجتمع؟ هذا هو بيت الداء، وهذا هو مركز المشكلة.

لا تقل للخطيب: أيها الخطيب، ابحث لنا مشكلة لماذا المجتمع ليست عنده مشاريع استثمارية، اشرح لنا على المنبر مشكلة لماذا المجتمع ليس عنده علماء على مستوى الفلسفة، على مستوى الطب، يا خطيب اشرح لنا لماذا هذا المجتمع ليس بين أطرافه حوار، وليس بين أطرافه اشتراك في أجواء واحدة... إلخ، لا حاجة إلى أن تفصل مشكلة عن مشكلة، ولا أن تجزّئ مشكلة عن مشكلة أخرى، هذه كلها مظاهر، والمرض واحد، كل هذه المشاكل مظاهر، المرض - بيت الداء - هنا في العقلية، العقلية التقليدية، العقلية التي ترفض التغيير، ترفض التقدم، ترفض الإصلاح، إذا كانت العقلية عقلية صامتة جامدة سوف تكثر هذه المظاهر يومًا بعد يوم وجيلًا بعد جيل.

الفرق بين الطريقة التلقينية والطريقة الاستثارية:

لذلك، لا بد من معالجة هذه العقلية، فكيف نعالجها؟ هنا يصر علماء التربية على تربية مفهوم النقدية، على تربية الطريقة النقدية عند الإنسان. الآن أنت معلم، وعندك مادة معينة، مادة فيزياء، أو مادة مثلًا اجتماعيات، أمامك كتاب فيه مادة معينة، أنت أمامك طريقتان للتعليم: إما الطريقة التلقينية، وإما الطريقة الاستثارية. الطريقة التلقينية هي أن تشرح المادة شرحًا كاملًا، وتطلب من التلميذ أن يستوعب المعلومات، وأن يضبطها، ثم تختبر قدرته على الاستيعاب من خلال الامتحانات الشهرية أو السنوية، هذه تسمى طريقة تلقينية.

هذه الطريقة خطر، لا على التلميذ فقط، بل هي خطر على المجتمع أيضًا؛ لأن الطريقة التلقينية تعوّد ذهن الطالب منذ طفولته على أن يركّز على الذاكرة أكثر مما يركّز على الفكر والتحليل، يتعوّد الطالب منذ صغره على أن يخزن، على أن يحمل، على أن يسمع، على أن يتلقى، لا على أن يحاور، لا على أن ينقد، لا على أن يفكر، لا على أن يقول، لا على أن ينتج، لا على أن يبدع، الطريقة التلقينية تمسح الفكر كله، تقول للطلاب والتلاميذ: أنتم مئات أو عشرات، ابقوا على مجرد أشرطة كاسيت، تتحملون المعلومات، تحفظونها، تلقونها في أوقات الامتحانات، وانتهت القضية!

إذا تربت الذهنية الاجتماعية على الذهنية التلقينية، على الطريقة التلقينية، على أن تسمع، على أن تعتمد على الذاكرة، على أن تخزن المعلومات، سيبقى المجتمع عند هذه النقطة، ولن يتقدم شبرًا واحدًا، ولن يتقدم خطوة واحدة، مجتمع يسمع، لا يتكلم، مجتمع يسمع، لا يحاور، مجتمع يسمع، لا يناقش، مجتمع يسمع، ليست عنده رؤية ولا تحليل ولا نقد.

بينما الطريقة الاستثارية: أنت تضع الكتاب على جنب، أنت بمهارتك، وإذا لم تكن عندك مهّارة فطوّر هذه المهارة، أنت بمهارتك - أيها الأستاذ - انتزع من هذه المادة عدة استفهامات وعدة أسئلة وعدة جمل، واطرحها على الطلاب بشكل أسئلة، واطرح أمامهم عدة فرضيات وعدة احتمالات للحل، واطرح الذهن الصغير يتحرك بين هذه المعلومات، ذهن الطالب يجول بين الفرضيات، بين الاحتمالات، يقارن بين المخزون الذي عنده وبين هذه الفرضيات، يقارن بين الفرضيات وبين السؤال المطروح، حتى يصل إلى الحل أو لا يصل، ليس المهم أن يصل إلى الحل، المهم أن يتعود على التفكير، المهم أن يتعود على النقد والتحليل، المهم أن تربي عنده الذهنية المحاورة، الذهنية الناقدة، لا الذهنية الملقّنة، لا ذهنية العبودية.

حاول أن تستثيره، حاول أن تحرّك فكره، حاول أن تحرّك طاقته، فإذا تحركت طاقته أولًا ستنتج لك مجتمعًا مفكرًا، مجتمعًا مبدعًا، مجتمعًا ناقدًا، هذا أولًا، وثانيًا: المادة، المنهج سوف يكون مساعدًا لا أساسًا، الأساس هو طريقة الحوار، في نقل المعلومات وفي استيعابها، والمنهج مجرد عامل مساعد، وليس هو الأساس في مقام التعليم، وفي مقام التربية. ثالثًا: ستتغير عندك طريقة التقويم، تقويم المستويات.

الآن نحن مع الأسف طريقة تقويم المستويات عندنا بالعلامات، كم درجاته؟ يكون هو الطالب المتفوق، بمستوى درجاته يُكْتَب تفوقه، بمستوى درجاته يُقْبَل في التخصص الجامعي، بمستوى درجاته يدخل هذا التخصص أو لا يدخل هذا التخصص، هذا تقويم غير صحيح، التقويم الصحيح: اختبار مهاراته، اختبار قدرته التقنية، قدرته الفنية على بلورة المعلومات، وعلى الاستفادة منها، وعلى استغلالها وتطبيقها، هذا هو الطريق الصحيح لمعرفة مستواه ولتقويمه، واختبار المهارات واستغلالها ومعرفتها لا بد أن تسبقه مراحل من التربية على المهارة، إذا لم يُرَبَّ هذا الطالب على المهارة وعلى أن يبذل جهده في التفكير والنقد فكيف ينتظر أن تُخْتَبر مهاراته أو تقنيته يومًا من الأيام حتى يدخل هذا التخصص أو ذاك التخصص؟!

إذن بالنتيجة: أنا لا أتكلم مع المعلم، لا يقل قائل: هذا السيد دائمًا يحمل على المدرسين! لا، سأدافع عنكم في المجلس الثاني! أنا لست ضد المعلم أو ضد المدرس، أريد أن أقول: لا فرق بين المعلم وبين خطيب المنبر وبين إمام المسجد وبين كل من عنده مسؤولية التربية ومسؤولية التعليم في أن يركّز على نقد العقلية التقليدية، نقد العقلية الصامتة، يركز على بعث الفكر، بعث النشاط الثقافي، بعث الجذوة الفكرية، يركز على إثراء النقد وإثراء التحليل، وبناء العقول التطورية، لا العقول التقليدية.

علي بن أبي طالب يقول: ”علّمني رسول الله ألف باب من العلم“ لكن ترك لي في الأمور الأخرى ”يُفْتَح لي من كل باب ألف باب“، كان بإمكانه أن يعلمني كل شيء، لكنه علّمني القواعد والخطوط العامة، وأنا بقدرتي الإبداعية الذهنية الصائبة التي لا تخطئ الواقع استنتجتُ التفاصيل والجزئيات وتوصلت إليها. علي بن أبي طالب بعد وفاة الخليفة الثالثة جاءه عبد الرحمن بن عوف، وقال: نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، قال: لا، تبايعونني على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي. أنا أملك طاقة كما يملك الآخرون، أملك قدرات كما يملك الآخرون، فلماذا أقلّد الآخرين؟! ولماذا أسير على نهج الآخرين؟! ولم لا يكون لي المنهج الخاص بي، والأيدلوجية الخاصة بي، ما دمت أملك طاقة، وأملك منهجًا، وأملك مخزونًا فكريًا؟! أنا لا أقلّد الآخرين، ”تبايعوني على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي“، وما كان رأيه إلا الصواب، ”علي مع الحق والحق مع علي، يسير معه حيثما سار“.

أليس من واجب المسلمين جميعًا الاحتفال بذكرى علي؟! هل من الصحيح أن يقتصر الاحتفال بذكرى علي على خصوص الشيعة من المسلمين؟! أليس عليٌ إمامًا لجميع المسلمين؟! هل وجدت الأمة الإسلامية بعد رسول الله عظيمًا كعلي؟! وهل وجدت مصدرًا للفكر وللثقافة وللعطاء كعلي؟! هذا الإمام محمد عبده، وهذا جورج جرداق، وهذا غيرهما من المفكرين ومن العلماء، وإن لم يكونوا من الشيعة، بل لم يكونوا من المسلمين، يقولون: ما وُجِد كتابٌ في الفكر بعد القرآن الكريم كنهج البلاغة.

ما بعد فكر القرآن وفكر محمد بن عبد الله إلا فكر علي بن أبي طالب، ما وجدنا عند أحد من الصحابة ولا عند أحد من التابعين فكرًا في المجال الاجتماعي أو في المجال السياسي أو في المجال الاقتصادي أو حتى في المجال الطبيعي، كما وجدنا عند علي بن أبي طالب، ”أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها“. إذن، حق على المسلمين جميعًا الاحتفال بذكراه، وكيف لا وقد قام الإسلام على سيفه؟! ”قام الإسلام على دعامتين: سيف علي، ومال خديجة“، وكان جبرئيل دائمًا ينادي: ”لا سيف إلا ذو الفقار“.

صلاة الظهر يوم الجمعة
وفاة الإمام الحسن العسكري (ع)