نص الشريط
الشباب والنهم العاطفي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 9/1/1426 هـ
مرات العرض: 3419
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1606)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تتحدث عن أن الإنسان يحتاج إلى الجنس الآخر، وذلك ضمن ثلاث حاجات: الحاجة الأولى هي الحاجة الجنسية، والحاجة الثانية هي الحاجة إلى الاستقرار والهدوء العاطفي، وقد عبّرت عن ذلك الآية بقولها: ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، والحاجة الثالثة هي الحاجة إلى الحب، فالإنسان يحتاج إلى الحب كما يحتاج إلى الهدوء العاطفي، وقد يحصل الإنسان على الهدوء ولكنه لا يحصل على الحب. الإنسان إذا شاهد الطبيعة الخلابة فإنها تعطيه الهدوء والسكون، ولكنها لا تعطيه الحب، فهو محتاجٌ إلى الحب كما يحتاج إلى الهدوء. إذن الحاجة إلى الجنس الآخر إما جنسية وإما الحاجة إلى الهدوء وإما الحاجة إلى الحب، وحديثنا هذه الليلة في حاجة الإنسان إلى الحب، والحديث في نقاط ثلاث:

  • بيان الحب الفعلي والحب الانفعالي.
  • بيان أبعاد الحب الانفعالي.
  • بيان وظيفة الأسرة تجاه الحب الانفعالي.
النقطة الأولى: الحب الفعلي والحب الانفعالي.

الحب يقسّمه علماء النفس إلى حب فعلي وحب انفعالي، والحب الفعلي أحادي الجانب، بينما الحب الانفعالي ثنائي وليس أحاديًا، فمثلاً: الأم إذا أنجبت ولدها فإن الولد في الشهور الأولى تحبه أمه، ولكن الحب في الشهور الأولى حب فعلي فقط؛ لأن الولد في هذه الشهور لا يملك وعيًا ولا تمييزًا حتى يتبادل مع أمه المشاعر والعواطف، فالحب من طرف واحد، وهو طرف الأم، فإن الأم تعطي الحب وتبذله، بينما الطفل ليس عنده مشاعر يبادلها مع أمه، وعلى ذلك فالحب في هذه المرحلة فعلي وليس انفعاليًا.

إذا كبر الطفل ووعى بدأ يشعر بأن هذه أمه، وأنها مصدر حبه، فيبدأ يشتاق إليها، ويحن إليها، ويبادلها العواطف، فحينئذ تنتقل الأم من مرحلة الحب الفعلي إلى مرحلة الحب الانفعالي. إذن الحب على قسمين: فعلي وانفعالي. وهناك بحث بين علماء النفس وبين علماء العرفان: هل يمكن أن يستغني الإنسان عن الحب الانفعالي أم لا يمكن؟ هنا اتجاهان:

الاتجاه الأول: اتجاه علماء النفس.

علماء النفس يقولون: لا يستغني الإنسان عن الحب الانفعالي، فإن الإنسان محتاج أن يحب وأن يُحَبَّ؛ لأن أقوى غريزة عند الإنسان هي غريزة حب الذات، فإن كل إنسان يحب ذاته، ولأنه يحب ذاته يحب الآخرين، فحبه للآخرين نابعٌ من حبه لذاته، فحب الآخرين امتدادٌ لحب الذات، فإذا أدرك الإنسان أنه يحب ويُحَب يصبح إنسانًا متوازنًا ذا شخصية ثابتة، وأما إذا أدرك الإنسان أنه يحب ولكن لا يُحَبُّ، بمعنى أن الحب فعلي فقط، وليس انفعاليًا، فحينئذ يصاب بالإحباط والتراجع، فيصبح إنسانًا انطوائيًا على نفسه، أو يصبح إنسانًا عدوانيًا ينتقم من المجتمع، وذلك لأنه يحب ولا يُحَب. إذن علماء النفس يقولون: أنت محتاج إلى الحب الانفعالي، بمعنى أن تحِب وأن تحَب.

الاتجاه الثاني: اتجاه علماء العرفان.

علماء العرفان يقولون: يمكن للإنسان أن يستغني عن حب المجتمع، ويمكن له أن يستغني عن الحب الانفعالي في مرحلة معينة، وهي مرحلة الحركة الجوهرية التجرّدية، وحتى يتضح المقصود من هذا المصطلح نقول: الحركة يقسّمها الفلاسفة إلى حركة عرضية وحركة جوهرية، فمثلاً: أنا عندما أتحرك من المسجد إلى خارجه فهذه حركة عرضية مكانية، ولكن هناك حركة أخرى تسمى حركة جوهرية، فأنت مثلاً جالس أمامي، وتستمع إلى المعلومات، حيث أذكر لك معلومة وأنقلك إلى معلومة أخرى، من نقطة إلى نقطة، فهل أنت تتحرك أم أنت واقف؟ ربما تظن أنك واقف! ولكنك لست واقفًا، بل إنك تتحرك ولكن حركتك ليست مكانية ولا عرضية، بل هي حركة جوهرية، بمعنى أن الجسم لا يتحرك، وإنما تتحرك النفس عن طريق الفكر والعقل، فتنتقل من معلومة إلى معلومة، وهذه تسمّى حركة جوهرية.

مثال آخر: أنت في مرحلة السلوك عندما تهذّب سلوكك وتغيّره من إنسان غضوب إلى إنسان حليم، ومن إنسان جاهل إلى إنسان عالم، فهذه أيضًا تسمى حركة جوهرية، والحركة الجوهرية لها مرحلتان: مرحلة التعلق بالمادة، ومرحلة التجرد والتحرر من المادة، فمثلاً: إذا وُضِعَت النطفة في رحم المرأة، فإنها تختزن عنصر الحياة، إذ أن بذرة الحياة مختزنة في النطفة، وهذه الحياة ليست واقفة، بل تتحرك حركة تعلقية، وهي حركة تطوير المادة، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا.

إذن فالحياة تطوّر المادة من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى جسم إلى عقل، فالمادة تتطور ببركة حركة الحياة، وهذه تسمى حركة تعلقية، إذ أنها حركة متعلقة بالمادة. إذا ولد الإنسان وأصبح إنسانًا مميزًا، فإنه لا يتوقف، بل تستمر الحياة في الحركة، وهنا تنتهي الحركة التعلقية وتبدأ الحركة التجردية التحررية، فيبدأ الإنسان بالتحرر من البدن ومن الجسم ومن المادة، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا أي أنك تتحرك، ولكن حركتك ليست نحو المادة، بل هي حركة نحو الله، أي أنها حركة تجردية وليست حركة تعلقية.

الحركة التجردية لها مساران: مسار الظلام، ومسار النور. القرآن الكريم هو نفسه يقسّم الحركة إلى قسمين، فيقول: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، فإذن الحركة التجردية قسمان: حركة نورانية، وحركة ظلامية. الحركة الظلامية هي حركة الذنوب، حيث ينتقل الإنسان فيها من معصية إلى معصية، ومن ذنب إلى ذنب، ومن خطأ إلى خطأ، فالنفس تتحرك ولكنها تتحرك في ظلام وفي ذنوب ومعاصٍ، فإلى أين تصل؟

الإمام الصادق يقول: ”إذا أذنب العبد خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن عاد عادت، حتى تغلب على قلبه، فلا يفلح بعدها أبدًا“، أي أنه إذا تحرك في الظلام يتحول إلى إنسان ظلامي، ويتحول قلبه إلى فحمة سوداء، فإذا كان فحمة فإن الفحمة تسقط في النار لا في الجنة! فعندما يتحول الإنسان إلى فحمة سوداء فقد يصل إلى شفير جهنم، ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى.

والآخر يتحرك حركة نورانية، فهو من عبادة إلى عبادة، ومن طاعة إلى طاعة، ومن مثل إلى قيم، وهذه الحركة النورانية تضيء قلبه ونفسه وذاته، إلى أن يتصاعد؛ لأن النور يصعد ويملأ الأفق، فهو يصعد وهو لا يشعر، كما قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، فالعمل الصالح نور يتصاعد يرفعك إلى الأعلى، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، أي أنه يأتي يوم القيامة وهو هالة من النور والأضواء.

إذن الحركة إما نورانية وإما ظلامية، وكلاهما حركة جوهرية، وكلاهما حركة تجردية، ولكن الحركة النورانية إذا استمر فيها الإنسان يصل إلى درجة اليقين، كما قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، وإذا وصل إلى درجة اليقين فماذا يحصل؟ الحديث القدسي يقول: ”مازال العبد يتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها“، أي أنني أتغلغل في عواطفه وفي حواسه وفي مشاعره، فلا يراني إلا أنا، ولا يرى شيئًا غيري، ولهذا قال أمير المؤمنين: ”ما رأيتُ شيئًا إلا ورأيتُ الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه“، أي أنه وصل إلى درجة اليقين.

إذا وصل درجة اليقين انشغل بالله وبأنواره عن حب المجتمع، فلا يحتاج أن يحبه المجتمع، وهكذا لا يحتاج إلى الحب الانفعالي؛ لأنه مشغول باليقين، ومشغول بنور الله، ومشغول بعشق الله، فلا يفكر بحب المجتمع، ولا يكترث أحبه المجتمع أم لم يحبه. إذا وصل إلى هذه الدرجة استغنى عن الحب الانفعالي، ولذلك قال أمير المؤمنين : ”إني لا يزيدني اجتماع الناس حولي ألفة، ولا تفرقهم عني وحشة“، ”ما ترك لي الحق من صديق“. إذن عرفنا أن الإنسان يمكن أن يستغني عن الحب الانفعالي في مرحلة معينة.

النقطة الثانية: أسباب الحب الانفعالي وأقسامه وحدوده.

هنا ثلاث جهات:

الجهة الأولى: أسباب الحب الانفعالي.

لماذا أنا أحبك؟ ولماذا أنت تحبني؟ ما هو السبب؟ الحب يرجع إلى سببين: الأول هو التجانس، والثاني هو الجاذبية. عندما ألتقي بإنسان فأجده مشابهًا لي في الفكر متجانسًا معي في الذوق والسلوك، فإنني لأجل التجانس أحبه، إذ أن شبه الشيء منجذبٌ إليه. ولكن قد لا يكون متجانسًا معي، ومع ذلك أحبه، وذلك لأجل عنصر الجاذبية. هناك إنسان عنده جاذبية، لأن فكره جذّاب، أو أسلوبه جذّاب، أو شكله جذّاب، أو سلوكه جذّاب، ولأجل عنصر الجذب الموجود لديه أن أحبه، فالحب إما للتجانس وإما للجاذبية.

الجهة الثانية: أقسام الحب الانفعالي.

الحب يقسّمه علماء النفس إلى ثلاثة أقسام: حب الاحترام، وحب الصداقة، والحب العاطفي.

القسم الأول: حب الاحترام.

أنا طالب في المدرسة مثلاً، وعندي أستاذ يدرسني، في البداية يعجبني أسلوبه وتعجبني أفكاره، فأنا الآن في مرحلة إعجاب فقط، ولكن إذا التفت الأستاذ أن تلميذه معجبٌ به، فلا بد من استغلال الفرصة، وذلك بأن يقرّب تلميذه منه، فيستدعي التلميذ في مكتبه ويسأله عن أوضاعه وأحواله وعن همومه ومشاكله، ويبادره بالسؤال والحديث، فهنا يتحول التلميذ من معجب إلى محب، وهذا الحب حب الاحترام، بمعنى أنه يثق بأستاذه ويشاوره، فحب الاحترام حبٌ مبنيٌ على الثقة.

القسم الثاني: حب الصداقة.

قد ألتقي معك فجأة في مكان ولا توجد بيني وبينك قرابة ولا نسب ولا معرفة، فيكون اللقاء حياديًا، بحيث لا أحمل مشاعر تجاهك ولا تحمل مشاعر تجاهي، ولكن إذا تكرر اللقاء ربما يتحول من لقاء حيادي إلى لقاء اتصالي، أي: إلى حب الصداقة، فما أساس حب الصداقة؟ إذا أردتُ أن أبحث عن صديق فما هو محور الصديق؟ محور الصديق هو الإخلاص، إذ لا تقوم صداقة إلا بإخلاص، فإذا أحسست أنك تفرح لفرحي، وتحزن لحزني، وتتألم لألمي، وتساعدني في الأزمات والشدائد، فأنت صديقي، فحب الصداقة حب متبادل بين شخصين ولكن على أساس الإخلاص.

يعرّفك  الإخوان  كل  بنفسه   وخير أخ من عرّفتك الشدائدُ

القسم الثالث: الحب العاطفي.

الحب الذي يغلي عاطفةً وهيجانًا هو حب الفتى للفتاة، وحب الشاب للشابة، وهذا هو الحب العاطفي الذي ينبغي التركيز عليه. قد يحصل للإنسان علاقة حب من خلال العمل، أو من خلال الدراسة، كما لو كان طبيبًا ومعه طبيبات أو ممرضات، فيعجب بطبيبة أو بممرضة فيحبها مثلاً، أو يدرس في البحرين - مثلاً - أو في أي مكان فيه جامعات مختلطة، فيعجب بزميلته في الدراسة فيحبها، وأحيانًا يأتي الحب فجأة، كما لو رفع التلفون فيسمع الصوت الجميل، فينقاد قلبه لصاحبة الصوت الجميل فيحبها.

الجهة الثالثة: ما هي حدود هذه العلاقة العاطفية؟

هذه العلاقة كعلاقة عاطفية موجودة في داخل النفس ليست أمرًا محرمًا، وإنما المهم كيفية التعبير عن العلاقة، وكيفية التعبير عن العاطفة، فالمشكلة ليست في العلاقة، وإنما المشكلة في التعبير عنها، وهنا يضع الإسلام حدودًا للتعبير عن العاطفة، وللتعبير عن العلاقة، فيخاطب المرأة ويخاطب الرجل.

يخاطب المرأة: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا، أي أنها إذا أرادت أن تتحدث مع زميلها في الدراسة أو العمل فعليها أن تتكلم معه بطريقة لبقة متعارفة، من دون تغيير في الصوت، ومن دون الدخول في زوايا جانبية.

كذلك الخطاب إلى الرجل: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا. أنت عندما تتحدث مع زميلتك أو مع من تكون معك في العمل فتحدث بالكلام المعروف، كأمور العمل، وأمور الدراسة، وإن زاد الأمر فاسأل عن الأحوال والأوضاع الأسرية مثلاً، من دون أن تدخل في أحاديث غزلية أو عاطفية أو جانبية، بل لا بد من أن تلتزم القول المعروف، وهذه هي حدود التعبير عن الحب العاطفي.

النقطة الثالثة: وظيفة الأسرة تجاه السيطرة على الحب العاطفي.

هنا أمران:

الأمر الأول: هل يمكن السيطرة على الحب العاطفي أم لا؟

ربما يقول قائل: لا يمكننا السيطرة على العاطفة؛ فإن العاطفة إذا توجهت ووصلت إلى حد الحرارة والغليان فنحن عبيدٌ لها، تأسرنا وتقهرنا وتسيطر علينا. أنا لا يمكنني إلا أن أسترسل مع الحب، وأنا أنساق معه، ولا يمكنني أن أسيطر على عاطفتي وعلى مشاعري. ولكن الصحيح ليس كذلك، بل يمكنك أن تسيطر على العاطفة وأن تحولها من عاطفة ملتهبة إلى عاطفة هادفة.

علماء العرفان يذكرون مبدأ، وهو مبدأ المقايسة بين جذب اللذة ودفع الألم، فمثلاً: لو أحْضِر لك كأس من عصير البرتقال، وأنت تعبان وعطشان، ولكن بمجرد أن قرّبت الكأس من فمك سقطت فيه حشرة، فإنك ترفض الكأس، وذلك لأن عقلك يقايس بين جذب اللذة ودفع الألم. إذا شربت العصير حصلت على لذة، ولكنك تأخذ معك الألم، فإذا دار الأمر بين لذة مؤقتة وبين ألم مزمن، فإن العقل يقول: ارفض اللذة من أجل منع الألم، فهناك مقايسة بين تحصيل اللذة ومنع الألم.

مثال آخر: لو تسممت رجل شخص فقرّر الطبيب أن الرجل لا بد من بترها، وإلا سيسري الوباء إلى بقية البدن فيموت المريض، فهنا يدور الأمر بين جذب اللذة ومنع الألم، فإذا أراد أن يحافظ على اللذة فإنه سيبقى رجله، ولكن إذا أراد أن يمنع الألم فإنه سيقدم على هذه العملية الخطيرة. إذن العقل إذا قايس بين جذب اللذة ومنع الألم فإنه يقدّم منع الألم على جذب اللذة.

نفس القضية بالنسبة لي: أنا تورطت بعلاقة عاطفية مع زميلتي في العمل أو في الكلية مثلاً، أو بعلاقة من خلال التلفون مثلاً، فماذا أصنع؟ هل أصعّد من هذه العلاقة، أم أحدّد هذه العلاقة؟ هل أستطيع أن أحوّل العلاقة من علاقة عاطفية إلى علاقة أخوية هادفة؟ يمكن، وذلك إذا مشيت على مبدأ المقايسة بين جذب اللذة ومنع الألم. أنا إذا مشيت في هذه العلاقة فسوف أجلب لنفسي اللذة والبهجة والراحة، ولكن سوف أفتح على نفسي باب الألم، وهو ألم العقوبة الأخروية، وألم سوء السمعة بين أبناء المجتمع، وسوء السمعة بين أبناء الأسرة، فأنا أدور بين أمرين: بين جلب اللذة ومنع الألم، فأضحي باللذة في سبيل منع الألم، وهنا تكمن الرجولة والبطولة وقوة الإرادة، حيث الإنسان يتحدى عاطفته ويحولها من عاطفة ملتهبة إلى عاطفة أخوية هادفة، فتصبح هذه البنت أخته في الله، فيتحدث معها، ولكن بالحديث المتعارف وفي ضمن الحدود المتعارفة، فيحوّل العلاقة من علاقة عاطفية إلى علاقة هادفة.

هنا رواية جميلة جدًا: معتبرة إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق : ”يا إسحاق، لا تمل من زيارة إخوانك، إن المؤمن إذا زار أخاه فطرق الباب فقال: مرحبًا، كُتِب له مرحبًا إلى يوم القيامة - أي أن الملائكة ترحب به - فإذا التقيا وتصافحا كتب الله بين إبهاميهما مئة رحمة، تسعة وتسعون لأشدهما حبًا لصاحبه، فإذا اعتنقا غمرتهما الرحمة، فإذا التزما ألا يريدا بذلك إلا الله - أي أن علاقتهما أخوية صافية - ناداهما الله: مغفور ذنبكما فاستأنفا“. إذن الرواية تريد أن تجعلك تسيطر على عاطفتك وانفعالاتك، بحيث تحوّل الحب من حب عاطفي إلى حب هادف أخوي لله «عز وجل».

ويقول القرآن الكريم عن النبي إبراهيم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى، هذا أب وعنده عاطفة الأبوة، ولكن سيطر على عاطفته، ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. تصوّر كيف سيطر إبراهيم على عاطفته. لا توجد عاطفة أعظم من الأبوة، ومع ذلك إبراهيم سيطر عليها في سبيل رضا الله، فيمكنك أن تسيطر على علاقاتك العاطفية، وأن تعيدها إلى الحظيرة الشرعية، وأن تحوّلها إلى علاقة هادفة.

الأمر الثاني: ما هي وظيفة الأسرة تجاه العلاقة العاطفية؟

إذا اكتشفت الأسرة أن الولد يحب فتاة أجنبية، فما هي وظيفتها؟ بعض الناس يقولون: «ولدنا يحب فتاة، فما هذه البلية التي وقعنا فيها! كيف نتصرف؟!». كيف تتصرف الأسرة تجاه العلاقة العاطفية؟

لا يمكن إصلاح العلاقة إلا عن طريق التوافق الأسري، فإن الولد إذا وصل إلى مرحلة المراهقة.. مرحلة المراهقة يقسّمها علماء النفس إلى مرحلة أولية ومرحلة ثانوية. المرحلة الأولية من 14 سنة إلى 18 سنة، والولد في هذه المرحلة تكون عنده صفات جديدة: الصفة الأولى: أنه يرفض وصاية الأسرة، فلا يريد أن تكون الأسرة متحكمة فيه، فيفرض وصاية الأب والأم. الصفة الثانية: أنه يشكّك في معلومات الأسرة ويبحث عما يوفّقها. الصفة الثالثة: أنه يهتم بشكله، وقد ذكرنا ليلة البارحة كلامًا سبّب مشكلة!

قلنا بأن الأب لا يتدخل في قصة شعره، ومقصودنا أنه إذا رتّب شعره بحيث يصبح شعرًا لطيفًا فلا بأس بذلك، وأما إذا جعل شعره كشعر النساء، أو بعض القصات التي تخلع الإنسان كالكابوريا! في زماننا كانت هناك تواليت وقصة الغزال وقصة الأسد، ولكن الأمر تغير الآن. وعلى كل حال، مقصودنا أن تكون القصة عرفية مناسبة، وإلا فقد ذكرت في الليلة السابقة أن الأب له ولاية بالعنوان الأولي وولاية بالعنوان الثانوي، والأولى هي الولاية على الأموال فقط، والثانية هي ولاية توجيه الابن نحو السلوك الحسن، فإذا رأى الأب أن قصة ولده قصة مثيرة، وتوجب التردد والتأمل فمن حقه أن يأمر ولده وأن ينهاه عن مثل هذه الأعمال، وعن مثل هذه السلوكيات، وهذه ولاية بالعنوان الثانوي كما ذكرنا.

وكيفما كان، فإن الولد في مرحلة المراهقة يتصف بصفات، منها: صفة الرفض لوصاية الأسرة، ومنها: صفة التشكيك في المعلومات، ومنها: صفة التجمّل وحب التزيّن، ثم يتجاوز مرحلة المراهقة الأولية إلى مرحلة المراهقة الثانوية، وهي تبدأ من 18 إلى 25 وقد تستمر إلى 30، وهذه المرحلة لها صفات أيضًا، فمن صفاتها: أن الولد في هذه المرحلة يحاول أن يعاشر الكبار؛ ليكتسب منهم الثقة والمهارة، ومنها: أن الولد في هذه المرحلة يحاول أن يستقر على غيره، فيبحث عن وظيفة حتى يكتسب المال ويستقل عن أسرته وعن أبيه وعن أمه، ومنها: أنه يعمل بالتحليل، ولذلك الإنسان الذي عمره 22 أو 23 سنة دائمًا يحلّل الشخصيات والسلوكيات والتجارب، حتى يبحث عن الشخص الذي يناسبه، وعن الشخصية التي تناسبه.

إذن هذه المرحلة - مرحلة المراهقة - مرحلة حسّاسة، فكيف تتعامل مع هذه المرحلة أيها الأب؟ لا بد أن تتعامل معها بمرحلة التوافق. المركز القومي للبحوث والدراسات في المملكة وفي الكويت كتب دراسة قاموا بها مع عينة من الشباب تترواح أعمارهم بين 15 و22 سنة، فوجدوا أن 73% منهم موفّقون في دراستهم، وقيمهم قيم متوازنة لأنهم متوافقون مع أسرتهم، أي أن التوافق الأسري سببٌ للتفوق في الدراسة، وسببٌ لتوازن الشخصية، والتوافق الأسري يأتي من العلاقة.

أنت أب ولست رئيسًا ولا سلطانًا، فلا بد من أن يتعامل الأب مع ولده المراهق معاملة الصداقة، فإن ولدك المراهق صديقٌ وليس عبدًا ذليلاً. تعامل مع ولدك المراهق.. ونحن عندما نقول الولد فنقصد الولد والبنت أيضًا، فهذا الخطاب موجه للأمهات أيضًا. الأم مع البنت المراهقة التي عمرها 12 سنة أو 14 سنة أو 17 سنة أو 20 سنة، كيف تتعامل الأم معها؟ الأب والأم يتعاملان مع المراهق ولدًا كان أو بنتًا معاملة الصداقة. اجلس مع ابنك، واجلسي مع ابنتك.

تحدّث معه، لترى مشاكله وهمومه، حتى تدخل إلى قلبه ونفسه، وإذا كان عندك وقت فلا مانع من أن تخرج معه في رحلة أو في مباراة كرة أو اجلس معه في البيت وامزح معه بمصارعة أو ملاكمة مثلاً. حسّس ابنك بأنك صديق محب. ادخل إلى قلبه ومشاعره وعواطفه، حتى تتعرف على همومه وأفكاره، وتتعرف على ميوله. عامله معاملة الصديق؛ فقد ورد عن الرسول محمد : ”لاعب ابنك سبعًا، وأدّبه سبعًا، وصاحبه سبعًا“، أي: كن معه صاحبًا لا رئيسًا ولا سلطانًا.

أنا قلت البارحة بأنني سأتحدث عن الشباب، فأتتني اتصالات كثيرة. كل أب يرفع التلفون يقول: ألا ترى هذه المشاكل؟! ماذا يفعل هؤلاء الشباب من مشاكل؟! تحدث وتكلم.. لكن المشكلة كلها مشكلة الأسرة. هناك مجموعة من الشباب عندنا في البلد - أصلحهم الله وهداهم - يمرون بدراجاتهم النارية على فتاة، فيسلبونها حقيبتها أو جوالها، وقد يعتدون أحيانًا على جسدها، وصار هذا حتى في الأماكن العامة، بل صار حتى بالنسبة للأجنبيات، فقد كان هناك إنسان سوري يمشي مع زوجته، فاعتدوا على زوجته وهي معه! هذا يأخذ سمعة سيئة عن المجتمع، ويقول: ما هذا المجتمع الذي يعتدى فيه على زوجة المرء وهو معها بلا مبالاة ولا حدود! تسلب حقيقة المرأة أو تُجَرُّ عباءتها وهي مع زوجها!

هذه المشاكل ما هو حلها؟ الحل يرجع إلى الأسرة. أين أسرهم؟ أين آباؤهم؟ أين أمهاتهم؟ أين إخوانهم؟ الأسرة لا بد أن تتعامل معه معاملة المريض. هذا إنسان مريض، والمريض لا يُضْرَب. أنت لو رأيتَ إنسانًا مريضًا يشعر بوجه في الرأس مثلاً هل تقول له: أنت ليس لك دواء إلا راشدي! إذا أعطيتك راشدي فسيعتدل رأسك!! المريض يحتاج إلى عناية وإلى علاج وإلى رفق، وهؤلاء مرضى، فلا بد من علاجهم، وربما لهم أسباب اجتماعية أو اقتصادية، فلا بد من بحث هذه الظاهرة.

وعلى كل حال، التوافق الأسري بين الأب والولد، وبين الأم والبنت، بأن تكون العلاقة علاقة صداقة ومحبة، وحينئذ يمكنك التأثير على ولدك. ولدك ارتبط بعلاقة عاطفية، وصار يحب فتاة، فكيف تتحدث معه؟ لا يصح أن تعامله بالعنف، وتقول له: أفا! ربيناك وأدبناك ثم أصبحت إنسانًا طائشًا منحرفًا!! لا تعامله بالقسوة؛ فإنه يزداد إصرارًا وعنادًا على علاقته وعلى خطه.

إذن ادخل إلى قلبه ومشاعره. اجلس معه وقل له: بني، الحب طبيعي، وكل واحد من حقه أن يكوّن علاقة حب؛ فإن الحب عاطفة سامية عظيمة، ولكن مثلك رجل عاقل فاهم، والمأمول منك نوع معين من الحب وليس أي حب، وهو الحب الذي يقود إلى النجاح لا إلى الفشل، والحب الذي يقود إلى التفوق الدراسي لا إلى التخلف الدراسي، والحب الذي يقود إلى أن تكون إنسانًا يثبت ذاته، لا إنسانًا سرحانَ يضيع وقته. بُثَّ فيه صفاتِ الرجولة والبطولة، وبُثَّ فيه صفات الثقة، حتى يتنبه لعاطفته ويتنبه لطريقه، فيقول: أنا إنسان مطلوب مني أن أتفوق في الدراسة، ومطلوب مني مستقبل جيد، وأخاف أن هذه العلاقة تؤثر على دراستي وعلى تفوقي وعلى مستقبلي.

بالنصيحة وببيان التجربة.. ربما أبوه مر بتجربة حب قبله، فليبيّن له التجربة وأخطاءها وسلبياتِها، أو يجعل أصدقاءه المؤثرين عليه يتحدثون معه، إلى أن يهدأ، ويحوّل عاطفته وعلاقته من علاقة عاطفية إلى علاقة أخوية. أما إذا أصر ولم ينفع معه الرشد والنصح والكلام أبدًا مهما حاول أبوه، فليس الحل أن يطرده من المنزل، وإنما الحل أن تتحول العلاقة إلى علاقة شرعية، وذلك بأن يقوده الأب إلى إجراء العقد الشرعي بينه وبين الفتاة. ربما يقول الأب: هذا إنسان صغير عمره 17 أو 18، فليس مؤهلاً لإنشاء أسرة، ولتربية أبناء، وللقيام بالوظائف الزوجية.

نعم صحيح، ولكن خطر الانحراف أشد من أي سلبية أخرى، ومن أي خطر آخر، فإذا وصل الشاب إلى خطر الانحراف فالزواج المبكّر هو خير علاج، وأنا أدعو إلى الزواج المبكر إذا وصل الشاب إلى خطر الانحراف والانجرار إلى العلاقة غير المشروعة. فليعقد عقدًا شرعيًا، وأخّر الزواج والزفاف إلى سنتين أو ثلاث، حتى ينمو وينضج، فهو خلال فترة العقد تكون علاقته علاقة شرعية، ومن جهة أخرى لا يتحمل أعباء الأسرة وأعباء بيت الزوجية. نعم، قد تكون هناك سلبيات إذا كانت فترة العقد طويلة، لكن هذه السلبيات ليست أشد خطرًا من خطر الانحراف والانجراف نحو العلاقة غير المشروعة.

إذن فلتنظر الأسرة نظرًا ثاقبًا في هذه العلاقة. انظر إلى علاقة الأئمة بأبنائهم كيف كانت، كانت علاقة المحبة، وعلاقة الصداقة، وعلاقة الرفق، وعلاقة الرحمة، وعلاقة العطف. كانوا يحترمون أبناءهم ويمجّدونهم، وكانوا يحسّسونهم بالثقة بأنفسهم. الإمام الحسين وعلي الأكبر.. الإمام كان يمشي فهوّمت عيناه، فسمع هاتفًا يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير من ورائهم، فجلس وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له ولده علي: لم استرجعت يا أبه؟ قال: سمعتُ هاتفًا يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير من ورائهم، فقال الشباب الواثق من نفسه والواثق من شخصيته: أبه، أولسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: إذن لا نبالي وقعنا على الموت أم وقع علينا.

الحسين ثورة أم مشروع
الطفولة وحقوقها