نص الشريط
غياب العنصر العلمي في الفقه الإمامي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 12/1/1426 هـ
مرات العرض: 2944
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (5710)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث عن إشكاليةٍ تُطْرَح على الفقه الإسلامي، ومحصّل هذه الإشكالية: أن الفقه الإسلامي - خصوصًا الفقه الإمامي - يتجاهل الموازين والمقاييس العلمية في مجال تحديد الحكم الشرعي، فالموازين التي يقرّرها العلم الحديث على مستوى الطب أو الفلك أو أي حقل آخر لا يعتمد عليها الفقه الإمامي في مجال تحديد الحكم الشرعي، ومن أمثلة ذلك:

المثال الأول: نلاحظ أن الفقه الإمامي يقرر أنه يجب الغسل على من أمنى، سواء كان رجلاً أو امرأة، ويحرم الاستنمناء سواء كان المستمني رجلاً أو امرأة، مع أن هذا الحكم لا ينسجم مع الموازين العلمية؛ لأن الطب يقرّر أن المرأة لا تصدر منها المادة المنوية التي تصدر من الرجل، وبالتالي لا معنى لأن يقال بوجوب الغسل على المرأة إذا أمنت أو بحرمة الاستمناء عليها، فهذا الحكم الفقهي على خلاف الموزاين العلمية.

المثال الثاني: نقرأ في الفقه الإمامي أن الإنسان يُحْكَم عليه بالموت إذا توقف قلبه عن النبض، فالموت هو موت القلب، بينما الموازين والمقاييس العلمية تقرّر أن الموت هو موت الدماغ، وأما القلب فلا مدخلية له في الموت؛ فإنه مجرد مضخة دم، وهذه المضخة يمكن استبدالها بمضخة صناعية، فالذي يتوقف عليه حياة الجسم وجميع الأجهزة الحية داخل الجسم هو الدماغ، فإذا مات الدماغ مات الجسم وماتت أجهزته حتى لو كان القلب يبنض، فالمقياس العلمي يرى أن الموت موت الدماغ، بينما الفقه يقول بأن المهم موت القلب، فلو مات دماغ شخص وبقي جثة هامدة في المستشفى لمدة سنة مثلاً، فإنه - بنظر الفقه - لا يزال حيًا، فلا يجب تجهيزه، ولا تقسّم تركته، ولا تبين زوجته، بل يعتبر حيًا.

المثال الثالث: مسألة دخول الشهر الهلالي.

متى يدخل شهر رمضان؟ بأي شيء نثبت دخول شهر رمضان؟

الفقه الإمامي يقول: إما برؤية الهلال، أو بشهادة رجلين عدلين، أو بالشياع المفيد للاطمئنان، بينما المقياس العلمي يقول بأن مسألة دخول الشهر لم تعد معتمدة على الأساليب التقليدية، بل يمكن حسمها بدون هذه الأساليب التقليدية، وذلك بدراسة وضع القمر، حيث يستطيع علماء الفلك من خلال ذلك تحديد أن القمر في اليوم الفلاني يخرج من تحت المحاق - أي: من تحت شعاع الشمس - ويبقى في الأفق عند الغروب لمدة ساعة مثلاً، وتمكن رؤيته في منطق الخليج أو العراق أو الحجاز مثلاً، فعلماء الفلك الآن يستطيعون أن يعينوا لنا بشكل دقيق دخول الشهر، فلا نحتاج إلى خروج جماعة إلى البر ليستهلوا، بل إن المقياس العلمي يستطيع - بناء على علم الفلك - تحديد دخول الشهر وعدم دخوله بشكل دقيق.

المثال الرابع: كيف نثبت الدعاوى في باب القضاء؟

الفقه الإمامي يقول: تثبت الدعوى بإقامة البينة، فلو ادعى شخصٌ أن الدار الفلانية داره فعليه أن يأتي ببينة، كأن يأتي بشهادة رجلين عدلين مثلاً، فالقاعدة في باب القضاء بالبينة، بينما توجد مقاييس علمية توصل إليها العلم الحديث في إثبات الدعوى، فلا نحتاج إلى مسألة شهادة رجلين عدلين، فلو وجدنا رجلاً مقتولاً مثلاً، ولم ندر من القاتل، فإننا نستطيع إثبات هوية القاتل من خلال تحليل البصمات الموجودة على جسم القتيل أو على آلة القتل، ومطابقتها ببصمات المشتبه به، وعلى إثر ذلك نحدد القاتل، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية البصمة الوراثية عندما قال: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ «3» بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ، فلم يركز القرآن على اليد أو الإصبع مثلاً، بل ركّز على البنان؛ لأنه يحمل دلائل علمية لا يحملها عضوٌ آخر.

وخلاصة هذه الإشكالية هي: لماذا نجد الفقه الإمامي يتجاهل هذه المقاييس العلمية، ويعتمد في التحديد على طرق وأساليب تقليدية، بدل أن يعتمد تلك الأسس والموازين العلمية؟

من أجل أن نجيب عن هذه الإشكالية ونسلط الضوء على هذه الفكرة نطرح أصولاً ثلاثة:

1/ الأصل الأول: مرجعية العرف.

هنا أمور ثلاثة يتضح من خلالها معنى هذا الأصل:

الأمر الأول: لمن نرجع في تحديد الخطابات الشرعية؟

الخطابات التي تصدر - سواء كانت خطابات قرآنية أم كانت خطابات نبوية - لمن نرجع في تحديدها؟ ففي قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، لمن نرجع في تحديد معنى كلمة الصعيد؟ وفي قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ من يحدد هذه العناوين؟

لا يحددها الفقيه ولا الطبيب ولا المهندس، وإنما يحددها من ألقيت عليه هذه الخطابات، وقد ألقيت هذه الخطابات للعرف العربي، وهو الذي كان مطالبًا بتطبيقها، لأنها تتضمن أحكامًا وتكاليف عامة للعرف كله، ولذلك فالمرجع في تحديد مفهوم هذه الخطابات هو العرف العربي نفسه؛ لأن هذه الخطابات لم تُلقَ لفئة معينة أو لرجل معين، وإنما ألقيت للعرف العربي، ولذلك العرف العربي هو المرجع في تحديد مفهوم الصعيد مثلاً، فإن قال العرب بأن المراد من الصعيد وجه الأرض جاز التيمم بوجه الأرض.

من هذا المنطلق نفسه نأتي إلى مسألة مني المرأة: ورد في رواية معتبرة أن إسماعيل بن سعد الأشعري قال للإمام الصادق : ”قبلتُ الجارية فأمنيتُ أنا وهي أمنت، فأجابه الإمام: إن أنزلت عن شهوة فعليها الغسل“.

المني عنوان ورد في الرواية، فلا نرجع فيه إلى الطبيب حتى يخبرنا بأن للمرأة منيًا أم ليس لها مني، فإن الرواية لا تخاطب الطبيب، بل تخاطب العرف العربي، والعرف العربي يقول بأن المادة المنوية التي تصدر من الرجل لا تصدر من المرأة، ولكن مني المرأة يختلف عن مني الرجل، فإن المرأة إذا أثيرت واشتدت بها الشهوة تشعر برطوبة تسري من الرحم وقد تتعداه إلى الخارج وقد لا تتعداه، وهذه الرطوبة هي مني المرأة، فالعرف العربي هو الذي يحدد المفهوم في الرواية، وحتى لو قال الأطباء بأن المرأة لا مني لها فإن المرجع إلى فهم العرف لا إلى المعنى الموجود عند الأطباء.

الأمر الثاني: هل العرف يُرْجَع إليه في تحديد المصداق كما يُرْجَع إليه في تحديد المفهوم؟

المصداق قد يكون واضحًا، فلا يحتاج إلى الرجوع من العرف، فلو قال الفقه مثلاً بأن تنجيس المسجد حرام، فإننا لا نحتاج إلى تأمل في تحديد مصداق المسجد؛ لأن مصداقه معروف عند جميع المسلمين، إذ أن كل مكان وقف للصلاة فهو مسجد، ولذا لا يُرْجَع إلى العرف هنا.

وأما إذا كان المصداق غيرَ واضح مجملاً مرددًا بين الأقل والأكثر فحينئذٍ يرجَع إلى العرف في تحديد المصداق، كما في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ، فإن الدم له مصاديق واضحة، كقطرة الدم التي تكون على يد الإنسان عندما يرجح إصبعه مثلاً، وتارة أخرى يكون المصداق غير واضح، كما لو كان هناك كأس ماء صافٍ بحسب النظرة البدوية، ولكنه يحوي إنزيمات دم لا تُرَى بالعين المجردة، ولا يتسنى اكتشافها إلا باستخدام المجهر مثلاً، فحينئذٍ لا يحرم شرب هذا الماء؛ لأن هذا ليس دمًا عند العرف، بل هو ماء عرفًا، فالعرف يُرْجَع إليه في تحديد مقدار المصداق.

ومن أمثلة ذلك أيضًا: الغناء، حيث ورد في الرواية المعتبرة عن الإمام الصادق أن الزور في قوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ هو الغناء، ولكن ما هو الغناء؟

العرف العربي يحدّد معنى الغناء، فيقول بأنه ترجيع الصوت بلحن لهوي، والمقصود من اللحن اللهوي اللحن المناسب لمجالس اللهو والطرب، وهذا المفهوم واضح، ولكن قد نشتبه أحيانًا في المصداق، فلا ندري هل اللحن الفلاني لهوي أم ليس لهويًا، كمن يسمع خطيبًا يرثي بطريقة معينة فيشك في أن لحنه لهوي أم لا، أو يسمع رادودًا يقرأ قصيدة فيشك أن لحنه لهوي أم لا، فحينئذ يكون المصداق مجملاً، فنرجع إلى العرف العربي لنسأله: يا أهل هذا البلد، هل هذا اللحن مستخدم في مجالس اللهو ومناسب لها أم لا؟ إذا قال عرف البلاد بأنه مناسب لمجالس اللهو كان غناء يحرم استماعه، وإلا فلا.

الأمر الثالث: هل العرف يتغير بتغير الزمان؟ وإذا تغير العرف هل يتغير الحكم تبعًا لتغيره؟

هذا سؤال مهم تنبغي الإجابة عليه، وحتى نجيب عنه نذكر نظرية للسيد الإمام «قدس سره»، حيث يقول بأن الزمان والمكان دخيلان في تحديد الحكم الشرعي، وقد يستغرب الإنسان من هذه النظرية، باعتبار أنها تصوّر بأن الأحكام تختلف من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر، مع أنه قد ورد عن النبي : ”حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة“.

الجواب عن ذلك: أن الحكم يرتبط بموضوع، والحكم يتغير بتغير موضوعه، فمثلاً: على الإنسان أن يصلي تمامًا في الحضر وقصرًا في السفر، فهذان حكمان بموضوعين: التمام موضوعه الحاضر والقصر موضوعه المسافر، فيستطيع الإنسان أن يغيّر حكمه بتغيير الموضوع، كأن يقطع مسافة 22 كيلو ليصلي قصرًا ثم يرجع، فالحكم يتغير بتغير الموضوع، وقد يتغير الموضوع بعامل الزمن، كما قد يتغير بعامل المكان، فيتغير الحكم بذلك.

مثال: قبل مئتي سنة لم يكن المجتمع يبيع الدم؛ لأنه لا يجوز بيع ما ليس بمال، وإنما يجوز بيع وشراء المال، فلا يصح للإنسان أن يبيع حفنة من التراب مثلاً؛ لأن التراب ليس مالاً حتى يباع ويشترى، وكذلك كان الدم قبل مئتي سنة، حيث لم يكن مالاً؛ لأن الناس لم يكونوا ملتفتين لخصائصه وأهميته، فلم يكن بيعه وشراؤه جائزًا، ولكن بعد مئتي سنة اكتشف العرف إلى أن الدم عنصرٌ ضروريٌ لحياة الإنسان، حيث قد يتوقف عليه إنقاذ إنسان آخر، وهكذا حكم العرف بأن الدم مال، فصار شراؤه وبيعه جائزًا، أي أن الحكم تغير بتغير الموضوع، وقد تغير الموضوع ببركة العامل الزمني، فصار العامل الزمني دخيلاً في تغير الحكم، ودخيلاً في تغير نظرة العرف إلى الأشياء، حيث صار الدم مالاً بعد أن لم يكن كذلك.

مثال آخر: شركة كرافت شركة معروفة لها أجبان وألبان، فلو افترضنا أن هناك شركة مبتدئة أرادت أن تسوّق مبيعاتها اللبنية، فإنها تستطيع ذلك من خلال شراء عنوان كرافت من شركة كرافت، ولكن قبل خمسين سنة لم يكن شراء العنوان التجاري أمرًا عقلائيًا، وأما الآن فقد اكتشف العرف أن العنوان مال من الأموال، ولأنه مال يصح بيعه وشراؤه، فتغير الحكم لتغير الموضوع، وقد تغير الموضوع لتغير نظرة العرف بسبب عامل الزمان.

مثال ثالث: الفقه يقول بحرمة اللعب بآلات القمار، فهل الدوملة آلة قمار أم لا؟ وبعبارة أخرى: هل غالب المجتمع يلعب بها بالقمار أم لا؟ قد يقال بأن الدوملة آلة قمار في فرنسا، ولكن في منطقة الخليج لا يُلعَب بها في القمار، فيختلف الحكم باختلاف المكان، وذلك بسبب تغير الموضوع بتغير المكان.

والخلاصة: أن الحكم يتغير بتغير الموضوع، والموضوع إذا تغير تغيرت النظرة العرفية، فتغير النظرة العرفية دخيلٌ في تغير الحكم، وعلى ذلك، فنحن لسنا ضد المقاييس العلمية، وإنما نقول بأن المرجع في تحديد العناوين والمفاهيم في الخطابات الشرعية هو العرف، فإذا تغير العرف بتغير الموازين العلمية يتغير الحكم، وهكذا هو الحال في مسألة الموت، حيث ورد عن الإمام الصادق : ”صل على من مات من أهل القبلة وحسابه على الله“، فمن هو الميت؟ وما هو معنى الموت؟

الموت في العرف العربي هو فقدان الحياة، ولكن بأي شيء يتحقق فقدان الحياة؟ هل يتحقق بموت القلب أم يتحقق بموت الدماغ؟

من الواضح أن العرف العربي منذ زمان النبي إلى بداية القرن الخامس عشر من الهجرة مثلاً يقول بأن الموت هو فقدان الحياة، وفقدان الحياة بموت القلب، فالموت هو موت القلب، وعلى هذا الأساس يقول الفقيه: المهم أن يموت قلبه، فإن مات قلبه يجب تجهيزه، وتقسّم تركته، وتبين زوجته، وإذا أوصى ببيع بعض أعضائه فإنها تباع، وأما إذا لم يتوقف قلبه - حتى لو مات دماغه - فلا تترتب عليه آثار الموت.

لكن لو فرضنا أن العرب العربي التفت إلى الخصائص العلمية الطبية فتغير، وقال بأن الموت هو فقدان الحياة، وفقدان الحياة يتحقق بموت الدماغ، فحينئذٍ إذا تغير العرف - وقرّر بأن المحقق لمصداق الموت هو موت الدماغ - فإن الحكم يتغير، فلا مشكلة عندنا مع المقاييس العلمية، بل إننا نقول بأن المرجع هو العرف، فإذا تغير نظره من حيث المصداق قد يتغير الحكم تبعًا لتغير تحديد العرف للمصداق.

2/ الأصل الثاني: مرجعية أهل الخبرة.

عندما نلقي نظرة على المجتمع العقلائي، نجد أنه يرى أن أهل الخبرة يُرْجَع إليهم، فإذا مرض الإنسان رجع إلى الطبيب لا إلى الخباز، وإن أراد بناء دار رجع إلى المهندس المعياري لا إلى الطبيب، وهكذا يرجع المجتمع العقلائي إلى أهل الخبرة في مجال خبرتهم واختصاصهم.

من هنا يقول الفقهاء: الخبرة نوعان: خبرة حسية، وخبرة حدسية، والفرق بينهما: أن الخبرة الحسية هي التي تعتمد على الحواس الخمس، وأما الحدسية فهي التي تعتمد على حركة التفكير، ومن هنا نجد فرقًا بين من يعمل في المختبر وبين خبرة الطبيب، فلو جيء لمن يعمل في المختبر بشخص ليرى هل هو عقيم أم لا، واحتاج إلى تحليل المادة المنوية، ووضعها تحت المجهر، حتى يرى هل الحيوانات المنوية التي فيها تتحرك أم لا، فحينئذٍ يعبّر عن خبرة هذا العامل في المختبر بأنها خبرة حسية؛ إذ لا علاقة لها بالفكر، وإنما ترتبط بالنظر، وهو من الحواس الخمس.

وأما الطبيب فخبرته حدسية، فإنه من خلال دراسة الأعراض - كالسخونة وآلام الرأس مثلاً - يكتشف نوع المرض، وهذا الانتقال من العرض إلى المرض خبرة حدسية تعتمد على حركة الفكر.

الفقهاء يقولون: الخبير بالخبرة الحدسية كلامه حجة، وأما الخبير بالخبرة الحسية فكلامه ليس حجة؛ لأن الخبرة الحدسية تتفاوت بتفاوت العقول، إذ ليس كل شخص يستطيع أن يكون طبيبًا مثلاً، ولأجل ذلك الخبير يُرَجَع إليه، وأما الخبرة الحسية فلا تتفاوت بتفاوت العقول، بل كل من كان عنده حس يستطيع تشخيص الموضوع، ولأجل ذلك الخبير الحسي ليس حجة في كلامه، بل على الإنسان أن يشخّص بنفسه لا أن يعتمد على كلامه.

من هذا المنطلق نأتي إلى مسألة الهلال: كيف نثبت دخول الشهر؟

تارة يحصل للإنسان علم بأن الشهر دخل، كما لو قال الفلكيون: الهلال يتولد الليلة ويبقى في الأفك بمقدار يمكن رؤيته، ونتيجة كلام هؤلاء الفلكيين يحصل للإنسان علمٌ ويقينٌ بدخول الشهر، فيجوز له أن يصوم ويفطر اعتمادًا على هذا العلم، لكن لا لأن كلام الفلكيين حجة، بل لأن العلم الذي تولد منه حجة؛ إذ أن العلم حجة بذاته عند جميع الفقهاء.

وأما إذا افترضنا بأن العلم لم يتولد عند الإنسان، بل بقي في شك في دخول الشهر، فهنا بحث عند الفقهاء فيما ورد عن النبي : ”صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته“، وهذا البحث هو: هل الرؤية في هذا الحديث لها موضوعية، بحيث يلزم على الإنسان أن يرى بنفسه، أو يأخذ بشهادة عدلين، أو بالشياع مثلاً، أم أن الرؤية لا موضوعية لها؟

إذا قال الفقيه بأن الرؤية لها موضوعية لم يكن كلام الفلكيين مجديًا، وأما إذا قال الفقيه بأن الرؤية لا موضوعية لها، وإنما هي مجرد طريق من الطرق ومثال من الأمثلة، فهي مأخوذة على نحو الطريقية لا على نحو الموضوعية، وحينئذ نقول: هل قول الفلكيين طريقٌ لتحديد دخول الشهر؟

هنا تأتي مسألة الخبرة، فهل الحسابات الفلكية حسية أم حدسية؟ إذا كانت من الخبرة الحسية فليست حجة، وأما إذا كانت من الخبرة الحدسية فهي حجة، ونتيجة التردد عند بعض الفقهاء في حسية خبرة الفلكيين وحدسيتها يقولون بأن قول الفلكيين لا يُعتْمَد عليه، وعلى ذلك، فنحن لا نصطدم مع المقاييس العلمية، بل إننا نقول بأن ما قامت عليه الأدلة هو حجية الأدلة الحدسية، فإن كان قول الفلكيين خبرة حدسية قبلناه، وأما إذا كانت خبرتهم حسية فلا قيمة لها.

3/ الأصل الثالث: الخلاف في الاستظهار.

ذكرنا أن الدعوى في باب القضاء تثبت بالبينة، حيث ورد عن النبي : ”إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، فمن اقتطعتُ له قطعة من أخيه فقد اقتطعتُ له قطعةً من النار“، أي أن الرسول لا يقضي بعلمه، وإن كان يعلم الصادق من الكاذب من خلال العلم الغيبي، إلا أنه يقضي بالطرق المعروفة بين الناس، فلو ادعى شخصٌ أن الدار الفلانية له، وأتى بشاهدين عدلين، فأعطاه النبي تلك الدار، ولم تكن له واقعًا، فقد أعطاه قطعة من النار، أي أن الوزر عليه لا على النبي ، ولكن ما هو معنى البينة في هذه الرواية النبوية؟

هنا يختلف الفقهاء، فالسيد الخوئي «قدس سره» يقول: البينة هي البينة الاصطلاحية، وهي شهادة رجلين عدلين، فإن لم تكن هناك شهادة لرجلين عدلين لم تثبت الدعوى، ولكن بعض الفقهاء - كالسيد محمد باقر الصدر «قدس سره» يقولون بأن البينة هي البينة بالمعنى اللغوي، والبينة بالمعنى اللغوي هي كل أمر يتضح به الأمر ويحصل به البيانُ، وعلى ذلك فالبصمة الوراثية الموجودة على عنق المقتول مثلاً إذا تطابقت مع بصمة المشتبه به فهي بينة، فنستطيع من خلالها إثبات أنه القاتل، ونقيم عليه القصاص، فالبصمة الوراثية وإن لم تكن بينة بالمعنى الاصطلاحي، إلا أنها بينة بالمعنى اللغوي، فتدخل تحت قول النبي: ”إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان“.

إذن نحن لسنا ضد المقاييس العلمية، وإنما خلافنا في معنى البينة، فإذا تبينا هذا المفهوم حكمنا بكذا، وإذا تبينا ذاك المفهوم حكمنا بكذا، فالمسألة سهلة، وليس الفقه الإمامي ضد المقاييس والعناصر العلمية، وإنما المهم أن المرجع هو العرف بالأدوات التي ذكرناها، وإلا فإن أهل البيت استخدموا المقاييس العلمية.

مثال: جيء بامرأتين إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب تتنازعان، حيث أنجبت إحداهما غلامًا، وأنجبت الأخرى فتاة، فادعت كل واحدة منهما أنها والدة الغلام، ولم يكن عندهما بينة اصطلاحية، فلجأ الخليفة إلى أمير المؤمنين ، فقال الإمام علي : خذوا لبنًا من ثدي كل واحدة، وضعوهما في الميزان، فإن صاحبة اللبن الأثقل هي أم الغلام، وقد عقبت بعض الروايات على هذه القضية فقالت بأن الآية المباركة: ﴿للذكر مثل حظ الأنثيين تشمل حتى بعض الخصائص الطبيعية.

إذن فالإمام استخدم مقياسًا علميًا، فليس هناك مصادمة مع المقاييس العلمية إذا دخلت تحت الدليل وتحت ما هو حجة، ولو أن المذاهب الإسلامية رجعت إلى تراث أهل البيت لوجدت ثروة تغنيها عن الظنون والاستحسانات والتخمينات، ولرجعت إلى مصدر غني ثري متصل بالنبي.

تأثير الفلسفة الفارسية على التشيع
الفقه الإمامي في تعامله مع النص