نص الشريط
التشيع حركة بناء لا مقاطعة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 6/1/1427 هـ
مرات العرض: 5384
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1568)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

صدق الله العلي العظيم

من أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا الإمام الباقر سلام الله عليه، نقل عنه ابنه الإمام الصادق: قال لي أبي الباقر : ”إنّي لقيتُ جابر بن عبد الله الأنصاري بعدما كفّ بصره، فسلمتُ عليه، فردّ عليّ السلام وقال: من أنت؟ قلتُ: أنا محمد بن علي الباقر، قال: ادنُ مني، فدنوتُ منه، فقبّل يديّ، وأراد أن يقبّل رجليّ فتنحيتُ عنه، فقال لي: يا بني إن رسول الله يقرئك السلام، قلتُ: وعلى رسول الله السلام، وما ذاك؟ قال: لقد كنتُ مع رسول الله يومًا من الأيام فقال لي: يا جابر إنك تبقى وتعمّر إلى أن تلقى رجلاً من ذريتي وهو محمد بن علي يبقر العلمَ بقرًا، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام“.

الإمام الباقر أسّس جامعة علمية في المدينة المنورة وتتلمذ على يديه كثيرٌ من علماء المذاهب الإسلامية الأخرى، كالزهري، وربيعة، وأبي إسحاق، وعمرو بن دينار، وغيرهم، وروى عنه البخاريُ في صحيحه، وروى عنه مسلمُ في صحيحه، وقال عنه ابنُ العماد الحنبلي، وقال عنه محيي الدين النووي، وقال عنه ابنُ عطاء المكّي، وهم من علماء المذهب الحنبلي والمالكي: «محمد بن علي إمامٌ بارعٌ مُجْمَعٌ على جلالته ووفور علمه، روى عنه الكثيرُ، ولقب بالباقر لأنه بقر العلمَ بقرًا»، الإمام الباقر عندما نريد أن نقرأ شخصيته المباركة فلنتاولها من خلال محاور ثلاثة: المحور الروحي، والمحور الاقتصادي، والمحور الاجتماعي.

المحور الروحي:

الإمام الباقر كسائر آبائه كان غارقًا في ملكوت الله متعلقًا بالسماء، ولكن هناك رواية وردت عنه في مجال العبادة تستحقّ أن نقف عندها وأن نتأمل فيها، يقول الإمام الصادق: ”اجتهدتُ في العبادة وأنا شابٌ - يعني: صرتُ أصلي كثيرًا - فنظر إليّ أبي الإمام الباقر وقال: هوّن عليك، إنّ الله إذا أحبّ عبدًا رضي منه باليسير“، هذه الرواية ربّما يتساءل الإنسان: كيف يحثّ الباقر على اليسير من العبادة مع أن النصوص الكثيرة تؤكد على استحباب الكثرة من الصلاة والكثرة من النافلة؟ فقد ورد في الحديث: ”الصلاة خير موضوع، من شاء استقل، ومن شاء استكثر“، هذا الحديث ينقلنا إلى مفهوم من المفاهيم الإسلامية، وهو أن المناط في العبادة على الكيف وليس على الكم، العبادة الحقيقية بمضمونها لا بحجمها ومقدارها، لماذا؟

نحن إذا تأملنا في العبادة نجد أن العبادة صيغة ثابتة لجميع العصور، منذ زمن النبي محمّدٍ إلى زماننا هذا العبادة لها شكلٌ واحدٌ، صلاة الفجر، صلاة العصر، صلاة المغرب، العبادة لها شكلٌ واحدٌ لجميع الأزمنة، لجميع العصور، للإنسان في جميع المجتمعات، هذا يدل على ماذا؟ هذا يدل على أن الإنسان يحتاج إلى العبادة حاجة ثابتة وليست حاجة متغيرة، لأن العبادة لها شكلٌ ثابتٌ، بما أن لها شكلاً ثابتًا إذن معناه أن العبادة تعالج حاجة ثابتة، هذه الحاجة ثبتت للإنسان وهو في عصر الطاحونة اليدوية وثبتت للإنسان وهو في عصر المركبة الفضائية، هناك حاجة ثابتة للعبادة لذلك للعبادة صيغة ثابتة، ما هي هذه الحاجة؟

الإنسان يحتاج إلى العبادة من منطلقين:

1. منطلق الأمن.

2. ومنطلق التحرر من الشهوة.

1. منطلق الأمن:

كل إنسان سواء كان يعيش في الأعشاش أو كان يعيش في القصر الضخم، كل إنسان يحتاج إلى الأمن حاجة أساسية، الحاجات الأساسية: الحاجة إلى الغذاء، الحاجة إلى الحب «الإنسان يحتاج أن يُحِبَّ وأن يُحَبَّ»، الحاجة إلى الأمن، الإنسان بطبعه يخاف مهما كان شجاعًا، مهما كان جريئًا، الإنسان بطبعه قلق، يخاف، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا الإنسان يخاف، خصوصًا إنسان هذا العصر يخاف من الكوارث الطبيعية، يخاف من تسونامي، يخاف من الأوبئة المنتشرة، يخاف من أسلحة الدمار الشامل، الإنسان يعيش قلقًا، يعيش خوفًا، ولا مؤمّن لهذا الإنسان إلا العبادة، العبادة هي التي تزيل عنك الخوف والقلق وتعطيك الأمن النفسي والاستقرار النفسي، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ولا هم يقلقون، ولا هم يجزعون، العبادة تعطينا أمانًا نفسيًا، الإنسان إذا دخل الصلاة وتفاعل مع الصلاة يشعر بأجواء من الهدوء والسكينة تصبغ على نفسه جوًا من الاطمئنان والهدوء، فالعبادة تعالج في الإنسان حاجة ثابتة وهي الحاجة إلى الأمن، لذلك بقيت العبادة ثابتة منذ إنسان عصر النبي إلى إنسان هذا اليوم.

المنطلق الآخر: التحرر من الشهوات.

الإنسان مجموعة من الغرائز: غريزة الجنس، غريزة الطعام والشراب... أي غرائز أخرى، لا يمكن للإنسان أن يصبح إنسانًا بمعنى الكلمة إلا إذا تحرر من الشهوة، إلا إذا تحرر من الغريزة، الإنسان الذي ينقاد إلى غريزته وشهوته لا فرق بينه وبين الحيوان، إذن أي فرق بين الإنسان والحيوان؟! ليس هناك مائزٌ بين الإنسان والحيوان إلا التحرر من الشهوة، الإنسان هو القادر على أن يتحرر من الغريزة ومن الشهوة وأن ينتصر عليها كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”خلق الله الملائكة عقلاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في الإنسان عقلاً وشهوة، فمن غلبت شهوته عقلَه فهو أدنى من البهائم، ومن غلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة“ التحرر من الشهوة، أن يتحرر الإنسان من أسر الشهوة، هذا إنسان حقيقي، وهذا إنما يتحقق بالعبادة، الصلاة تتحرر فيها من الشهوات لبضع دقائق، الصوم تتحرر فيه من الشهوات عشر ساعات، الحج تتحرر فيه من الشهوات لمدة أيام، العبادة الصور للتحرر من الشهوة، والتحرر من الشهوة حاجة ثابتة للإنسان.

بما أن العبادة تعالج حاجة ثابتة - وهي الحاجة إلى الأمن والحاجة إلى التحرر من الشهوة - إذن العبادة الحقيقية هي التي تحقق لنا هذه الحاجات وليست العبادة الفارغة، العبادة الحقيقية هي التي تعطينا أمنًا وتعطينا تحررًا من الشهوات، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ولا يمكن للعبادة أن تعطينا تحررًا من الشهوات إلا إذا كانت عبادة خضوع وخشوع ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ فلذلك عرفنا أن العبادة الحقيقية بمضمونها وليس بمقدارها وكمها، لو أن الإنسان قرأ «إنا أنزلناه في ليلة القدر» ألف مرة في ليلة القدر لأنه يستحب قراءتها ألف مرة لكنه كان إنسانًا عاصيًا، إنسانًا عازمًا على أن يعود للمعصية، فلو قرأها مليون مليار مرة يحصل على الثواب لكنه لم يحصل على عبادة حقيقية، لأنه ركز على الكم ولم يركز على الكيف، ولم يركز على المضمون.

لذلك قال الإمام الباقر للصادق: ”بني، إنّ الله إذا أحب عبدًا - يعني: كان العبد خاضعًا خاشعًا يحقق مضمون العبادة - رضي منه باليسير“، اليسير الذي يحقق العبادة خيرٌ من الكثير اللغو، ولذلك ورد عن النبي محمد : ”ركعتان يصليهما عالمٌ - لأن العالم يفترض فيه أن يكون خاشعًا ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ - ركعتان يصليهما عالمٌ خيرٌ من سبعين ركعة يصليها جاهلٌ“، هذا هو معنى الرواية.

المحور الثاني: المحور الاقتصادي.

محمد بن المنكدر أحد مشائخ الصوفية، يقول: ما رأيتُ مثل محمد بن علي، أردتُ أن أعظه فوعظني، خرجتُ يومًا إلى ناحية من نواحي المدينة في حر الظهيرة وإذا أجد الإمام الباقر يتكئ على غلامين، الإمام الباقر كان بدينًا، يعني: كان جسمه ممتلئًا، يتكئ على غلامين وبيده المسحاة وهو يحرث الأرض في حر الظهيرة، قلتُ: لأذهبن إليه وأعظه، جئتُ إليه، وقفتُ على رأسه، قلتُ: شيخٌ من أشياخ بني هاشم في حر الظهيرة في طلب الأموال وطلب الدنيا؟! يقول: فرفع يديه عن الغلامين وأمسك بالمسحاة وقال: ”نعم، لو جاءني الموتُ وأنا على هذه الحالة جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله، أكفّ نفسي عن مسألتك ومسألة المخلوقين، إنما أخاف أن يجيئني الموت وأنا في معصية من المعاصي“ يقول ابن المنكدر: فأردتُ أن أعظه فوعظني.

هذه القصة ترمز إلى ماذا؟

هذه القصة ترمز إلى الروح الإنتاجية، الإمام يريد أن يعلمنا من خلال هذه القصة الروح الإنتاجية، الإمام ما كان فقيرًا أبدًا، الأئمة بعد الإمام علي ما كانوا فقراء، كانوا أغنياء، كانوا يعولون مئات العوائل، ما كانوا فقراء، لكن الإمام الباقر مع أن لديه ثروة يخرج بنفسه يحرث الأرض، يزرعها، لكي يعلّم الأمة الروح الإنتاجية، ما معنى الروح الإنتاجية؟

نحن نريد أن نبحث عن الروح الإنتاجية فنطرح عدة أسئلة: ما هو الإنتاج؟ وهل مجتمعنا مجتمعٌ منتجٌ أم مجتمعٌ مستهلكٌ؟ وما هي المشكلة إذا كان مجتمعًا غير منتج؟ وما هو العلاج للمشكلة إذا فرضنا أنها مشكلة واقعية؟

السؤال الأول: ما هو الإنتاج؟

الدكتور أحمد زكي بدوي في كتابه «معجم المصطلحات الاقتصادية» يفرّق بين الإنتاج والاستهلاك، الإنتاج هو تطوير المادة بشكلٍ أفضل بحيث تلبي حاجة المستهلك، هذا يسمى إنتاجًا، إنسان يصطنع جهاز فيديو، يصطنع جهازًا كهربائيًا، هذا إنتاج، الاستهلاك هو النشاط الذي يقوم به الإنسان لإشباع حاجته، إما باستخدام سلعة، يشتري قارورة لبن ويشربها، استهلاك، أو باستخدام خدمات معينة، كاستخدام خدمات التلفون، خدمات الغاز، خدمات الكهرباء، استهلاك، الاستهلاك نشاط لإشباع حاجة باستخدام سلعة أو باستعمال خدمات معينة.

السؤال الثاني: مجتمعنا الذي نعيش فيه مجتمعٌ مستهلكٌ أم مجتمعٌ منتجٌ؟

أقصد المجتمع العريض، المجتمع العربي، مجتمع الدول النامية، مجتمع دول العالم الثالث، هل هو مجتمعٌ منتجٌ أو هو مجتمعٌ مستهلكٌ؟

الدكتور خضير عباس المهر في كتابه «المجتمع الاستهلاكي» يقول: المجتمع العربي مجتمعٌ مستهلكٌ وإن كانت فيه بعض الظواهر الإنتاجية، ينتج لك مثلاً كلنكس! أو ينتج لك مثلاً قارورة لبن مثلاً! وهكذا، وإن كانت فيه بعض الظواهر الإنتاجية لكنه مجتمعٌ مستهلكٌ، لماذا؟ لأن هناك عدة ظواهر للاستهلاك:

الظاهرة الأولى: أن الدول النامية قبل الحرب العالمية الثانية كانت هي الدول التي تصدّر المواد الغذائية للغرب، بعد الحرب العالمية الثانية صارت تستورد نفس المواد من القمح والحنطة، تحوّلت إلى مستورِد بعد أن كانت منتجًا.

2/ من الظواهر: هجرة العقول، الكفاءات العربية أنت إذا استقرأت الكفاءات المهاجرة لأمريكا 70% من الكفاءات والعقول المهاجرة لأمريكا هي من الدول العربية، فإذا هاجرت الكفاءات بقي المجتمع مجتمعًا في عالم الاستهلاك لا في عالم الإنتاج.

3/ من الظواهر: ظاهرة الشراء النزوي كما يعبّرون، ما معنى الشراء النزوي؟

نحن إذا دخلنا السوبرماركت قبل أن ندخل كان في ذهننا أن نشتري خمسة أشياء وبعد أن خرجنا خرجنا وقد اشترينا ستين شيئًا، قرارات الشراء ما كانت موجودة قبل الدخول لكنها حدثت بعد الدخول، أي أن قرارات الشراء هي قرارات ارتجالية، قرارات نزوية، قرارات شهوية، تحوّل الشراء في مجتمعنا إلى ماذا؟ إلى شهوة، تحوّل الشراء إلى إدمان، نحن مدمنون على الشراء، مدمنون على الاستهلاك، حتى أن روبرت - من علماء الاقتصاد - يقول: الإدمان على الشراء لا يقل خطرًا على المجتمع من الإدمان على المخدرات، لأن الإدمان على الشراء يقتل الروح الإنتاجية والإبداعية في المجتمع ويحوّل المجتمع إلى مجتمع مستهلك.

ربما يقول شخصٌ: لا، هذا الأول، أما الآن فالمجتمع مجتمعٌ منتجٌ، لاحظ آلاف الناس ينمّون ثرواتهم في سوق الأسهم، لاحظ آلاف الناس ينمّون ثرواتهم من خلال صناديق الاستثمار، وهذا إنتاجٌ، الإنتاج هو عبارة عن تنمية الثروة، كل تنمية للثروة فهي إنتاجٌ، وعندما أضع ثروتي في سوق الأسهم أو في صناديق الاستثمار فقد قمت بعملية إنتاج، فنحن منتجون ولسنا مستهلكين!

الجواب عن ذلك واضح: نحن لا نتحدث عن الإنتاج بمعنى تنمية الثروة، نحن نتحدث عن الروح الإنتاجية، والمقصود بالروح الإنتاجية أن يمتلك المجتمع روحًا تدفعه إلى إنشاء مشاريع تغطي حاجة المجتمع، المشروع الإنتاجي، أنا عندما أنشئ مصنعًا مثلاً هل أنا أنمّي الثروة فقط؟ أنا أنمّي ثروة، وأقلل البطالة، وأحرّك عقولاً للتخطيط، وأحرّك عقولاً للإشراف والمراقبة، وأغطي حاجة اجتماعية من الداخل، المشروع الإنتاجي، الروح الإنتاجية هي التي يتفاعل معها جميعُ أبناء المجتمع، وأما تنمية الثروة فهي حالة فردية وليست مشروعًا يتفاعل معه جميعُ أبناء المجتمع.

3/ ما هي المشكلة؟

لماذا نحن نندفع إلى تنمية الثروة ولا نندفع إلى الروح الإنتاجية «يعني: إلى المشاريع الصناعية والزراعية التي تحرّك سائر عناصر المجتمع»؟ لماذا؟

لعاملين: عامل داخلي، وعامل خارجي.

1. أما العامل الداخلي: فهو غريزة حب الذات التي تمنع التوافق بين الدوافع الذاتية والمصالح الاجتماعية، علماء الاقتصاد يقولون: المصالح على قسمين:

1 - مصالح فردية.

2 - مصالح اجتماعية.

المصالح الفردية يبادر إليها الإنسان بنفسه بلا حاجة إلى أن يحرّكه أحدٌ، البشر بأنفسهم يبادرون إلى اختراع الدواء لأن الدواء يعالج مصالح فردية، لأن الدواء يضمن لهم الصحة والسلامة، ولكن هل البشر يندفعون إلى حقوق العامل من دون قانون من الدولة؟! لا، لولا قانون صارم من الدولة لما ضمنت الشركة أو المؤسسة حقوق العامل، حقوق العمل، حقوق التقاعد، حقوق المرض، حقوق التلف، هذه الحقوق لأنها مصالح اجتماعية وليست مصالح فردية، لولا القانون الصارم لما انطلق الإنسان وبادر الإنسان إلى ضمان هذه المصالح الاجتماعية، إذن الإنسان لأنه يعيش غريزة حب الذات فهو يحب الربح، يحب توفير المال، ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ولأجل ذلك فهو يركز على أرباحه ولا يركز على حقوق العمّال، ولا يركّز على الضمان الاجتماعي، ولا يركّز على إنشاء مراكز للمعاقين، ولا يركّز على إنشاء لجان لكفالة الأيتام، لأنه يعيش غريزة حب الذات فيركّز على توفير المال بأي صورة متاحة وبأي شكل ممكن، فكيف نربّي هذا الإنسان على أن تكون عنده دوافع نحو المصالح الاجتماعية التي لا يبادر إليها بذاته لو خلي وذاته؟! هذا عاملٌ داخليٌ.

2. وهناك عامل خارجي: وهي الثقافة الرأسمالية، نحن نعيش الثقافة الرأسمالية، ننحن نكتسب ثقافتنا من وسائل الإعلام، وسائل الإعلام تزرع في أذهاننا الثقافة الرأسمالية شئنا أم أبينا، المجلة، الجريدة، القناة، الإنترنت، أي وسيلة إعلامية نفتحها نرى إعلانات عن أسهم الشركات، عن أسهم المؤسسات، عن أسهم البنوك، الثقافة الرأسمالية هي الثقافة المسيطرة على مجتمعاتنا، والثقافة الرأسمالية ماذا تقول؟

الثقافة الرأسمالية تقرر أن الثروة هدفٌ من الأهداف، من الأهداف أن تكون عندك ثروة، من الأهداف أن تكون عندك ملكية وحيازة للثروة، الثقافة الرأسمالية تعلمنا على أن الهدف بل السعادة.. لاحظ أنت البرامج التلفزيونية تتكلم لك عن السعادة، أنت تظن أنّ السعادة يعني مثلاً ستحصل على شيء؟! يقول لك: السعادة أن تبادر إلى شراء أسهم الشركة الفلانية! هيا حتى تصير سعيدًا! السعادة الهدف هو أن تمتلك ثروة! أن تحرّك أموالك من خلال سوق الأسهم وصناديق الاستثمار!

هذا ما تركّز عليه الثقافة الرأسمالية، وبالتالي فهي ترسّخ عندنا روح الأنانية، وروح الجشع، وأن الإنسان لا يفكّر إلا في ملء جيبه، وفي إشباع بطنه، وفي أن ينام على الوسادة الناعمة، لسنا نقول ذلك، أقطاب الثقافة الرأسمالية هم يقولون ذلك، اقرأ كتاب «هل الرأسمالية أخلاقية؟»، سبونفيل - هذا عالمٌ من علماء الاقتصاد - هو كتب عن الرأسمالية، هل الرأسمالية أخلاقية؟ قال: إن المنشأة - أي منشأة إنتاجية، مصنع، مشغل... - إن المنشأة في البلد الرأسمالي يراد منها الربح ولا يراد منها تقليل البطالة - ليس لهم شغل بالبطالة، المهم تحصيل الأرباح - يراد منها الربح ولا يراد منها تقليل البطالة، ولذلك فإن المنشآت تتعامل وتحدّد أجور العمّال بما ينسجم مع أرباحها ولا يثقلها بالخسائر وبالأمور الأخرى، ثم يقول: إن المجتمع الرأسمالي ليس بأحسن من المجتمع الإقطاعي، يعني: أنت الآن عندما ترجع قرنين من الزمن كانت المجتمعات ماذا؟ إقطاعية، المجتمعات الإقطاعية أيضًا كان فيها ثروة، ليس فقط المجتمع الرأسمالي، كما أن المجتمع الرأسمالي يدعو إلى خلق الثروة المجتمعات الإقطاعية أيضًا كانت تدعو إلى خلق الثروة لكن كان عبر نظام الإقطاع وعبر نظام الرق، نظام الإقطاع «نظام الرّق» يخلق ثروة للمجتمع لكنه يخلق طبقية، لكنه يخلق فئتين متباينتين: فئة رأسمالية وفئة كادحة عاملة، إذن المجتمع الرأسمالي حينما يركّز على الثروة كهدف من الأهداف فهو تمامًا كالمجتمع الإقطاعي الذي لا ينظر إلا إلى الثروة وإن كانت عبر نظام الإقطاع أو عبر نظام الرّق.

المشكلة في أننا نحتاج.. نحن طبعًا لا نخاطب كل إنسان، كل إنسان يقول: ماذا بيدي أنا؟! كلها كم ريال! ضعها في الأسهم لعلها قليلاً تزيد مئة ريال! ماذا عندي أيضًا أنا؟! نحن لا نخاطب الإنسان صاحب الدخل المحدود، حديثنا مع أصحاب رؤوس الأموال، مع أصحاب الثروات، نقول لهم بأن المجتمع يحتاج إلى روح إنتاجية، لا يحتاج إلى تنمية الثروة فقط، يحتاج إلى مشاريع إنتاجية تقلل البطالة، تحرّك العقول، تعالج حاجات اقتصادية مهمة، وفي نفس الوقت أيضًا تنمّي الثروة وتخلق الثروة، هذا هو محل حاجتنا وهذه هي مشكلتنا، فمشكلتنا ناشئة عن عامل داخلي، وهو غريزة حب الذات، وعامل خارجي وهو الثقافة الرأسمالية.

4/ فما هو العلاج؟

العلاج الرشد الاقتصادي، والرشد الاقتصادي هو عبارة عن شيوع الثقافة الإسلامية، نحن نحتاج إلى وسائل إعلام تركز على الثقافة الإسلامية، المنبر، المسجد، ليس المنبر فقط وظيفته أن يبيّن ماذا حصل للحسين ويبيّن المسائل الفقهية، المنبر أيضًا يبث الثقافة الاقتصادية السليمة في نفوس الناس، ويبث الثقافة الاجتماعية السليمة في نفوس الناس، المنبر، المسجد، القناة، المجلة، الجريدة، نحن نحتاج إلى الوسائل الإعلامية التي تركّز الرشد الاقتصادي، الثقافة الإسلامية، الثقافة الإسلامية التي تقرّر أن الثروة وسيلة وليست هدفًا.

اطلب الثروة، ادخل في الأسهم، ادخل في سوق الاستثمار، لكن الثروة ليست هدفًا، انظر إلى النصوص الواردة عن الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين:

الإمام الصادق يقول: ”نِعْمَ العون على تقوى الله الغنى“ الثروة زينة لأنها عاملٌ على تقوى الله.

الإمام الصادق يقول: ”لا خير في عبد لا يحب جمع المال من حلال فيقضي دينَه ويصون وجهَه ويصل رحمَه“.

جاء رجلٌ إلى الإمام الصادق وقال: سيدي إنا نطلب الدنيا، قال: كيف تطلب الدنيا؟ قال: نجمع الأموال ونكدّس الثروات، قال: وماذا تصنع بها؟ قال: أصون بها وجهي وأنفق بها على عيالي وأتصدّق على الفقراء وأحجّ وأعتمر، هذا الذي أصنع بها، قال: هذا ليس طلبًا للدنيا بل هو طلبٌ للآخرة"، أنت الآن قاعد تستخدم الثروة وسيلة وليست غاية، هذه هي الثقافة الإسلامية، هذا هو الرشد الاقتصادي، الثروة وسيلة، وسيلة لماذا؟

وسيلة لإقامة الخلافة على الأرض، الهدف من وجود الإنسان إقامة الخلافة على الأرض، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وهناك آية أخرى تشير إلى هذا الهدف وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ الأمانة هي الخلافة، الخلافة ما معناها؟ الخلافة إقامة مجتمع متواصل، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا المجتمع المتواصل لا يتحقق إلا بتوزيع الثروة توزيعًا عادلاً، وتوزيع الثروة توزيعًا عادلاً لا يتم إلا بالمشاريع الإنتاجية، فإن تنمية الثروة لا يحقق توزيعًا عادلاً للثروة، الذي يحقق توزيعًا عادلاً للثروة هي المشاريع الإنتاجية، لأنها يستفيد منها المفكّرُ، يستفيد منها العاملُ، يستفيد منها المجتمعُ، يستفيد منها صاحبُ المال، المشاريع الإنتاجية هي التي تحقق الخلافة على الأرض، تحقيق المجتمع المتواصل المترابط نتيجة توزيع الثروة توزيعًا عادلاً، إذن العلاج الوحيد لبث الروح الإنتاجية هو بث الرشد الاقتصادي من خلال وسائل الإعلام.

المحور الثالث:

هناك بعض الأقلام الإسلامية كتبت أن التشيع حركة سلبية وليست حركة إيجابية، منهم فرج فودا - كاتبٌ مصريٌ - في كتابه «الحركات الإسلامية» يذكر: التشيع عبئٌ على الأمّة الإسلاميّة، التّشيّع حركة سلبيّة لأنها هذه الحركة تركّز على مبدئين:

المبدأ الأول: العنف في المعارضة، منذ يوم الحسين بن علي وإلى يوم زيد بن علي وإلى يوم الحسين صاحب فخ وإلى ثورة الحسنيّين التّشيّع جرحٌ ينزف، التشيع دمٌ ينزف، التّشيّع يشجّع أبناءه على العنف ويبرّر العنف، هذا المبدأ الأول.

المبدأ الثاني: أن التشيع حركة عزلة لا حركة اتصال، حركة مقاطعة لا حركة بناء، التّشيّع يغذي أبناءه على أن السلطات القائمة سلطات غير شرعية وبالتالي لا يجوز التعامل معها، لا يجوز الاستفادة منها، فيبقى الإنسانُ الشيعي إنسانًا سلبيًا لا يساهم في بناء الحضارة، لا يساهم في بناء كيان الدولة الإسلامية، ليست له إسهامات ولا إشراقات في مجال الحضارة.

يقول فرج فودا: إذا قرأنا الحضارة الإسلامية في الأندلس، في دمشق، في بغداد، لا نجد للتشيع أي أثر عليها، وهذا معناه أن التشيع يشجع أبناءه على المقاطعة لا على المواصلة، ولذلك لا نرى لهم بصمات ولا لمسات على الحضارة الإسلامية أبدًا.

نحن عندما نجيب عن هذه المقولة... طبعًا أنا في الليلة القادمة إن شاء الله سوف أتحدث عن المشروع الثقافي الذي طرحه الإمام الصادق للأمة الإسلامية، وسأبين من خلاله إسهامات التشيع في الثقافة الإسلامية، لكنني أتعرض لهذه الفكرة في هذه الليلة بشكل آخر، بنحو آخر، الجواب عن هذه الفكرة يعتمد على ثلاثة وجوه:

الوجه الأول:

ما هي الحضارة؟! أنت تقول بأننا ما أسهمنا في بناء الحضارة، فما هي الحضارة؟! كثير من الناس يظن أن الحضارة هي البناء، الجسور، والعمارات، والقصور، هذه هي الحضارة، إذا لا توجد جسور ولا توجد عمارات يعني لا توجد حضارة، صح؟! كثيرٌ يتصور أن الحضارة هي الحضارة المادية من الجسور والقصور والعمارات وأشباه ذلك، ولهذا ليس للشيعة أثر في الحضارة الأندلسية والحضارة الشامية والحضارة البغدادية لأن هذه حضارة مادية، والصحيح في نظر علماء الاجتماع أن هذا تصورٌ خاطئٌ، الحضارة المادية هي نتاج للحضارة الفكرية، أساس الحضارة هو الفكر والثقافة، المظاهر المادية من الجسور، من القصور، من العمارات، هذه مجرد مظاهر، وإلا الحضارة الحقيقية هي في الفكر والثقافة وليس في البناء.

لأجل ذلك عندما تقول بأن التشيع لم يسهم في بناء الحضارة تقصد أي حضارة؟! الحضارة المادية؟! هذه ليست هي الحضارة الحقيقية، الحضارة المادية مجرد أثر، مجرد نتاج لفكر، وإن كنت تقصد بأن التشيع لم يسهم في بناء الحضارة الفكرية والثقافية فهذه مصادمة للتاريخ، سأذكر لك في الليلة القادمة أن روّاد التشيع هم روّاد الثقافة الذين بنوا الحضارة الإسلامية، جابر بن حيان في مجال الكيمياء، وابن سينا في مجال الطب، ونصير الدين الطوسي في مجال الفلك، وغيرهم وغيرهم، وهشام بن الحكم في مجال الطب، والنوبختي في مجال علم الاجتماع، واليعقوبي في مجال الجغرافيا، والمسعودي في مجال التاريخ، سأذكر لك الليلة القادمة أن رواد التشيع هم رواد الثقافة التي انطلاقًا منها بنيت الحضارة المادية، فالحضارة المادية ليست هي المقياس، الحضارة المادية مظهرٌ للحضارة الفكرية والثقافية، والحضارة الفكرية والثقافية تشهد بإشراقات وبإنجازات روّاد التشيع الذين تتلمذوا على أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، هذا الوجه الأول.

الوجه الثاني:

عندما يقال بأن التشيع حركة معارضة، نعم هذا صحيح، التشيع حركة معارضة، نحن لا ننكر ذلك، ولكن هل الأمة الإسلامية ما كانت محتاجة إلى هذه المعارضة؟! طبعًا كانت محتاجة لهذه المعارضة، لا يمكن أن تقوم حضارة إلا مع وجود حركة معارضة لأن حركة المعارضة تساعد على التصحيح والتطوير، لا يمكن أن تنبني حضارة ولا كيان إلا مع وجود حركة معارضة لأنها تساهم في التصحيح، تساهم في التنبيه، تساهم في التطوير، الإمام أمير المؤمنين كان حركة معارضة، الإمام الحسن كان حركة معارضة، الحسين، أبناء الحسين كانوا حركة معارضة، لكن كانوا حركة معارضة سلمية.

الإمام أمير المؤمنين يقول: ”لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جورٌ إلا عليّ خاصة“، الإمام ما قاتل أحدًا، راجع التاريخ، حرب الجمل، حرب صفين، حرب النهروان، كل الحروب الثلاثة فُرِضَت على الإمام علي ، ما بدأ الإمام علي أي حرب من هذه الحروب وما بدأ قتالاً في أي حرب من هذه الحروب، الطرف الآخر هو الذي بدأ الحرب والقتال فقام الإمام علي بالدفاع عن دولته وعن المسلمين، ما كانت معارضته معارضة عنفية، وإنما فُرِضَت عليه الحروبُ من أجل تخريب دولته ومن أجل أن ينشغل بالحروب، حتى لا يتمكن من تحقيق منهجه الاقتصادي والحضاري في ذلك الوقت.

والإمام الحسن الزكي علمنا أن الثقافة الأولى هي ثقافة اللاعنف، ولو أن معاوية قبل بالشروط من أول الأمر لما قاتله الإمام الحسن، ولو أن معاوية قبل بشروط الإمام الحسن من الأول ما واجهه الإمام الحسن، الثقافة الأولى هي اللاعنف، إنما اضطر أهل البيت للقتال في بعض الموارد لدفع الظلم ليس إلا، ولأن الطرف الآخر مصر على القتال، حتى الحسين لو أن يزيد بن معاوية لم يحصر الحسين في هذين الخيارين: السلة أو الذلة، لو أنه لم يحصر الحسين في هذين الخيارين لما كان هناك قتال، بل الحسين لم يبدأ بقتال وإنما الحسين أبيد هو وعترته بعد أن حاور ونصح وحاول أن يتفادى موقف القتال بكل الوسائل الممكنة فلم يعطوه مجالاً لذلك، فإذن حركة أهل البيت كانت معارضة لكن كانت معارضة سلمية، وإنما لجؤوا إلى المواجهة لأن الآخر فرض عليهم المواجهة، أهل البيت علمونا المعارضة السلمية من أجل التصحيح ومن أجل التنبيه ومن أجل التطوير ليس إلا.

الوجه الثالث:

بل إن أهل البيت ساهموا مساهماتٍ مادية واضحة في بناء الحضارة، منهج أهل البيت كان منهجًا مزيجًا بين رفض الظلم ومواصلة البناء، أهل البيت ما ساهموا في بناء الحضارة على حساب السكوت عن الظلم، لا، ولا رفضوا الظلم على حساب بناء الحضارة، بل جمعوا بين الأمرين، كان منهجهم مزيجًا من أمرين: من رفض الظلم من جهة وبناء الحضارة من جهة أخرى.

لاحظوا مثلاً: الإمام علي ما فتحت العراق في معركة القادسية ولا فتحت فلسطين في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إلا بمشورة الإمام أمير المؤمنين ، وقد اعتمد الخليفة الثاني على مشورته وقال: لولا علي لهلك عمر، وقال: لا أبقاني الله لمعضلة لم يكن فيها أبو الحسن، فالإمام علي كان مواصلاً ولم يكن مقاطعًا، كان يرى أن الحق له، وكان يرى أن المنصب له، لأن الرسول نص عليه، ولكن هذا لم يمنعه من المواصلة، لم يمنعه من البناء، لم يمنعه من العطاء، لم يتخذ موقفًا سلبيًا من الدولة الإسلامية وإنما ساهم فيها.

الإمام زين العابدين إذا قرأتم الصحيفة السجادية تجدون من أدعية الإمام زين العابدين الدعاء للمرابطين في الثغور، الدعاء للمجاهدين، صحيح أن الأئمة كانت لديهم علامة استفهام على الفتوحات الإسلامية في عصر الأمويين والعباسيين لكن ما كانت لهم علامة استفهام على المرابطين في ثغور الإسلام الذين بذلوا وقتهم ودماءهم للدفاع عن دولة الإسلام وعن حضارة الإسلام، فزين العابدين كان في محرابه وهو يساهم في بناء الحضارة من خلال دعائه وتعليمه للأمة الدعاء للمرابطين في ثغور الإسلام.

وتعال إلى الإمام الباقر سلام الله عليه فهو الصفحة المشرقة، الإمام الباقر له إشراقات في بناء الحضارة الإسلامية، أذكر لك منها موقفين:

الموقف الأول: صاحب كتاب «شذرات العقود» المقريزي وصاحب كتاب «الحيوان» الدميري يرويان عن الكسائي يقول: دخلتُ على هارون الرشيد فرأيتُ عنده درهمًا فضيًا وهو يقلبه، ثم قال لي هارونُ الرشيد: أتدري من كتب على هذا؟ الدرهم مكتوب عليه على الصفحة الأولى: لا إله إلا الله، وعلى الصفحة الثانية: محمد رسول الله، قال: أتدري من كتب هذا «أول من كتب هذا»؟ قلتُ: لا، قال: عبد الملك بن مروان، قلتُ: عبد الملك بن مروان يكتب هذا؟! قال: ذاك برأي محمد بن علي الباقر، قلتُ: وكيف ذاك؟ قال: كان النقد الرائج آنذاك النقد الروماني من روما، كان هو النقد المتداول بين المسلمين وفي سائر البلدان، ثم التفت أحدُ المسلمين وقرأ، ترجم المكتوب باللغة الرومانية، ترجمه وإذا فيه: أبٌ، ابنٌ، روح القدس، يعني: العقيدة المسيحية كانت منقوشة على النقد، على العملة.

فرفع ذلك إلى الفقهاء، فرفع الفقهاءُ الأمر إلى عبد الملك بن مروان، عبد الملك بن مروان قال: ماذا أصنع؟ قالوا: أحضر محمد بن علي الباقر وسله، أحضر الإمام الباقر، الإمام ما قال: لا، ما قال: هذا خليفة غير شرعي وأنا لا دخل لي به ودعه ينجاز بوحده! لا، لا، الإمام الباقر مع أنه يرى أن الخليفة ذلك الوقت غير شرعي لكنه كان في مقام البناء، في مقام المواصلة، في مقام العطاء، خرج من المدينة إلى دمشق، دخل على عبد الملك بن مروان، لما دخل على عبد الملك بن مروان عرض عليه عبد الملك بن مروان القضية، القضية سهلة، انقش نقدًا جديدًا من الفضة أو الذهب، وحدد له الإمام، إذا ترجع لهذين الكتابين ترى تحديدًا هندسيًا موجودًا، حدد له الإمام نسبة الذهب ونسبة الفضة بحيث لا يكون محلاً للتزوير أو التلاعب، ثم قال: اكتب على الصفحة الأولى لا إله إلا الله، واكتب على الثانية محمد رسول الله، واكتب تاريخ النقش، واكتب مكان النقش وهو دمشق، ثم مر جميع الولاة في جميع البلدان بنشر هذه العملة وعاقب من خالف أمرك، فإذا تم ذلك استغنيت عن العملة الرومانية، ففعل ذلك عبد الملك بن مروان فكانت أول عملة إسلامية رائجة إلى أن صار عهد هارون الرشيد، طيب هذه مساهمة في بناء الحضارة، ما كان الإمام إنسانًا سلبيًا، كان مواصلاً، كان مساهمًا.

الموقف الآخر: لما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة جاء إلى المدينة وقال: أيها الناس من له مظلمة أو حاجة فليدخل عليّ، أنا ليس لديّ حجّاب، ادخلوا عليّ واذكروا ظلاماتكم، من دخل عليه؟ الإمام الباقر، كان بإمكان الإمام الباقر أن يمتنع، أن يقول: هذا خلافة غير شرعية، أنا لا أواصلها لأنها غير شرعية، الإمام اغتنم الفرصة، الأئمة يغتنمون الفرص، يغتنمون الظروف لأجل أن يساهموا في بناء الحضارة، في تصحيح أوضاع المجتمع الإسلامي.

دخل الإمام الباقر على عمر بن عبد العزيز، قام عمر بن عبد العزيز، أجلسه، قال: انصحني يا ابن رسول الله، قال: ”يا ابن عبد العزيز إنّ الدنيا سوقٌ من الأسواق خرج منها قومٌ بما ينفعهم وخرج منها قومٌ بما يضرهم فانظر أي الطريقين تسلك، يا ابن عبد العزيز لا يكون العبد مؤمنًا حتى يكون مستكملاً لثلاث خصال“، يقول هشام بن معاذ: كان جالسًا، بمجرد الإمام الباقر قال هكذا جلس عمر بن عبد العزيز على الأرض والإمام جالس على الكرسي وهو جالسٌ بين يدي الإمام ويبكي، ويقول: قل لي يا ابن رسول الله، فقال: ”من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له، يا ابن عبد العزيز الله الله في المظلومين، في الفقراء، في البؤساء“، فخرج الإمام الباقر، أصدر عمر بن عبد العزيز أمرًا برفع سب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من المآذن والمنابر التي كان يسب فيها، وأصدر أمرًا بإرجاع فدك أرض الزهراء إلى الحسن بن الحسن، إلى بني الزهراء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالإمام قاد حركة تصحيحية من خلال دخوله على عمر بن عبد العزيز، وهذا مؤشر إلى أن سياقهم وطريقهم كان طريق البناء والمواصلة لا طريق المقاطعة، لا طريق السلبية.

الإمام الباقر الذي أسهم في بناء الحضارة الإسلامية أسهم أيضًا في الحفظ على ثورة الحسين وعلى صوت الحسين لأن الأئمة كما قلنا منهجهم مزيجٌ من رفض الظلم ومن البناء والمواصلة، في الوقت الذي أسهم الباقر في البناء والمواصلة قال لابنه الصادق، أوصاه: إذا أنا مت استأجر عشر جواري يندبنني بمنى أيام منى، وفعلاً بعض موته استأجر الإمام الصادق عشر جواري يجلسن على قارعة الطريق في منى بين الحجّاج ويندبن الحسين وآل الحسين ومنهم الإمام الباقر، يعني كان يحافظ على صوت الحسين، وهو الذي قال لابن شبيب: ”يا ابن شبيب إن كنت باكيًا فابكِ الحسين، فلقد قتل وذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه ثمانية عشر من رجاله وأنصاره ما لهم على وجه الأرض شبيهٌ“، حركة الحسين أخلص لها رجالٌ وتفانى فيها رجالٌ، منهم حبيب بن مظاهر الأسدي...

والحمد لله رب العالمين

المشروع الثقافي في سيرة الإمام الصادق
المعاني الروحية والتربوية في دعاء الإمام زين العابدين