نص الشريط
معنى القلب ومناشئ مرض قساوته
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 6/1/1418 هـ
مرات العرض: 3781
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (3250)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا عن القلب وابتلاء القلب بمرض القساوة من خلال الآية التي تحدث عنها القرآن الكريم، والحديث في نقطتين:

  • بيان معنى القلب.
  • بيان مناشئ مرض قساوة القلب.
النقطة الأولى: معنى القلب.

الإنسان له قلب، فما هو القلب؟ كثير منا يظن أن الروح، روح الإنسان ونفس الإنسان موجودة في بدنه وأنه إذا مات تخرج هذه الروح من البدن. لا، الروح حسبما يذكر الفلاسفة المسلمون ليست داخل البدن، ومن المستحيل أن تدخل في البدن أو أن تكون داخل البدن. فما معنى ذلك؟ الروح كما يذكر الفلاسفة تكون خارج البدن متصلة به باتصال التدبير والتصرف، فالسؤال هنا ما الدليل على هذا المعنى؟ فيأتي الجواب أن الدليل على أن الروح خارج البدن والنفس خارج البدن هو شيئان:

الدليل الأول: أن الإنسان قد يغفل عن كل شيء ولا يغفل عن نفسه.

الإنسان عندما يصيبه الخوف - مثلا - تراه يغفل عن كل شيء، يغفل عن عياله، وزوجته، وعن كل من حوله. في حال الخوف تجد هذا الإنسان لا يلتفت إلى جسده بل يغفل عنها، لا يلتفت إلى جسده في أي حال هو، وعلى أي شكل وفي أي صورة.

تراه يغفل عن كل شيء حتى عن جسده حتى عن جوارحه، يغفل عن كل شيء إلا شيء واحد هو نفسه. في حالة الخوف وفي حالة الحزن وفي حالة الفزع، الإنسان يغفل عن كل شيء في جسده، لا يدري هل جائع هو أم شبعان، أو على أي حالة كان، لكنه لا يغفل عن شيء هو نفسه وهو ذاته. هذا يكشف على أن النفس غير الجسد، ولذلك يغفل الإنسان عن الجسد ولا يغفل عن النفس، ومعناه أن النفس ليست جزءا من الجسد وإلا لغفل عنها الإنسان إذا غفل عن جسده وذهل عنها ودهش، أي لو كانت جزءا ماديا في الجسد لغفل عنها الإنسان.

الدليل الثاني: أن الإنسان يتغير في تمام شؤونه ولا تتغير نفسه.

فلان - على فرض - قبل عشرين عاما كان صغيرا بحسب سنه ثم هذا جسده تغير بمرور الوقت ويشعر بأنه كبر وبأن جسمه قد تغير وشكله قد تغير وملامحه قد تغيرت إلى أن ينمو بحسب السن إلى سن الكهولة - مثلا - أو سن الشيخوخة، ويرى جسمه يتغير من مرحلة إلى مرحلة ومن مستوى إلى مستوى آخر لكن هناك شيئًا لا يتغير أبدا، ما هو؟ أنت الآن لو فتشت عن نفسك قبل عشر سنوات تجد هناك شيئا اسمه أنا، هذا الأنا بعد عشر سنوات هو نفسه الأنا قبل عشر سنوات أو بعد عشرين سنة، الأنا نفسه قبل عشرين سنة أو بعد ثلاثين سنة هو نفس الأنا قبل ثلاثين سنة.

يشعر الإنسان بأن جسمه يتغير وحالاته تتغير وظروفه تتغير وأوضاعه تتغير لكن الأنا لا يتغير مهما استمرت السنين ومهما تصاعد الإنسان يشعر بأن هناك شيئا لا يتغير وإن تغيرت ملامحه ألا وهو ما يعنيه بكلمة «أنا» وما يعبر عنه بكلمة «أنا» فهذا شيء لا يتغير. إذن تغير الجسد شيء وجداني وعدم تغير الأنا أي عدم تغير النفس هذا شيء بالوجدان أيضا، هذا دليل على أن النفس ليست جزءا من الجسد وإلا لتغيرت بتغير الجسد. فغير المتغير غير المتغير، المتغير هو الجسد وغير المتغير فهو الروح وهو النفس التي لا تتغير بتغير الجسد.

فهناك شيء يتغير ألا وهو الجسد وهناك شيء يشعر الإنسان بوجدانه أن لا يتغير ألا وهو النفس، وهذا دليل على أن النفس ليست جزءا ماديا من الجسد وإلا لتغيرت، وإلا لغفل عنها الإنسان كما يغفل عن جسده. لذلك يقول الفلاسفة ”مستحيل أن تحل النفس داخل الجسد“ لأنها ليست شيئا ماديا بل هي شيء مجرد عن المادة يستحيل أن ينطبق عليها الجسد، نعم هي في عالم خاص متصلة بهذا الجسد، كاتصال - من باب التشبيه نشبه - الطاقة الكهربائية بالمصباح مثلا، فالطاقة الكهربائية طاقة تتصل بالمصباح فتنير المصباح أو مثلا اتصال الطاقة الحرارية بحركة السيارة وما أشبه ذلك - على أي حال - كيف يتم اتصال النفس بالجسد؟

يقول العلماء بأن الجسد يتهيأ شيئا فشيئا، إذن نسأل كيف يتأهل الجسد لقبول النفس؟ الجسد يمر بمراحل ويمر بدرجات مادية معينة إلى أن يصير مؤهلا لشعاع النفس - وكما هو معلوم - أن الله خلق عالم الأرواح قبل عالم الأجساد ولذلك ورد في الحديث الشريف: ”الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف“. عالم الأرواح سمي بعالم الملكوت، خلقه الله قبل هذا العالم.

إذن في هذا العالم عالم الأجساد، الإنسان أو ما يبدأ بنطفة القرآن هكذا يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ «12» ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ «13» ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «14».

هذا يعبر عنه بالحركة الجوهرية حسب كلمات الفلاسفة، فيقول لك في الحركة الجوهرية أن المادة تتحرك في داخلها حركة نحو التصاعد - نطفة، علقة، مضغة، عظام، لحم، جسد متكامل - النطفة تتحرك في داخلها أي المادة تتحرك في داخلها حركة جوهرية وتتصاعد إلى أن تصل إلى درجة تتصل بها شعاع النفس، تشع عليها النفس فتتصل بها وإذا اتصلت بشعاع الروح وشعاع النفس صار الإنسان عاقلا مميزا يملك مشاعرا ويملك إدراكا ويملك تفكيرا وهذا المقصود في قوله: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ، خلق آخر يعني خلق ذو عقل وذو مشاعر، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.

هذه النفس التي تتصل بالجسد بعد تكامله وبعد تدرجه فيها عدة قوى، فيها قوة تفكر في الأشياء تسمى بقوة العقل، العقل من قوى النفس فهو ليس في البدن، هذا الدماغ مجرد آلة ووسيلة للعقل وإلا فالعقل ليس في البدن، الدماغ آلة يستخدمها العقل للتفكير كما أن الروح تستخدم البصر وتستخدم السمع وتستخدم اليد، تستخدم الرجل، هذه كلها جوارح يستخدمها النفس في سبيل الوصول إلى المعلومات - كاستخدام السائق للسيارة للوصول إلى غرضه، كاستخدام جهاز الكومبيوتر في سبيل الوصول إلى بعض المعلومات - النفس تستخدم هذا الجسد من خلال جوارحه الداخلية والخارجية في سبيل الوصول للمعلومات. إذن هذا الجسد آلة وجهاز تستخدمه النفس في سبيل الوصول إلى المعلومات وبعض الأفكار المعينة.

النفس من جملة قواها قوة العقل ومن جملة قواها القوة التي تصور الأشياء وتركب الأشياء وتسمى بقوة الخيال، النفس من جملة قواها القوة التي تختزل المعلومات وتحتفظ بها وتسمى بقوة الذاكرة، ومن جملة قواها القوة التي تحث الإنسان على العمل وعلى السلوك وتسمى بقوة الضمير والتي يعبر عنها القرآن الكريم بالنفس اللوامة ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ «1» وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، ومن جملة قوى النفس، القوة التي تنفعل بما حولها، فتفرح وتحزن، تحب وتبغض وتحقد، هذه القوة التي تنفعل بما حولها تسمى قوة القلب. القلب قوة من قوى النفس التي يكون هذا البدن وسيلة وآلة لانفعالها.

النقطة الثانية: مسألة مرض قساوة القلب.

للأسف نحن مبتلون بهذا المرض، مرض قساوة القلب، ومن أعراض وصور هذا المرض: الازدواجية الموجودة عندنا - وكيف ذلك؟ نذكر بعض الصور والمظاهر: مثلا: أنا أصلي جماعة، أحضر المآتم الحسينية، أستمع وأشارك في مآتم الإمام الحسين . مع أني أصلي ومع أني أصوم ومع أنني أشارك في المآتم الحسينية لكن لا أجد مانعا في النظر إلى المرأة الأجنبية نظر تفحص وتأمل، لا أرى مانعا من ذلك، أو أنني مع الصلاة ومع التدين ومع الالتزام لا أجد مانعا في الحديث مع فتاة في التلفون وأكلمها كلاما غير شرعي، لا أجد مانعا من أني أغتاب شخصا أوأكذب على شخص أو أفتري على شخص - فكيف يجتمعان؟

أنا المتدين الملتزم الذي يشارك في المآتم ويشارك في صلاة الجماعة كيف لا أتورع عن نظرة مريبة للفتاة الجميلة؟ وكيف لا أتورع عن سماع الأغنية؟ وكيف لا أتورع عن مشاهدة الفيلم الخليع؟ وكيف لا أتورع عن غيبة الآخرين؟ هذا يسمى ب «مرض الازدواجية»، مرض الازدواجية مرض ناشئ عن قساوة القلب ومن هنا لا بد أن نتحدث عن قساوة القلب، وحديثنا عنه في جهتين:

الجهة الأولى: أسباب ومناشئ هذا المرض.

كيف ينشأ مرض قساوة القلب عندنا؟ وكيف تكون قلوبنا قاسية؟ القرآن الكريم يقول: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ، ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. هناك عدة أسباب ومناشئ:

السبب الأول: الاستهانة بالذنوب.

نحن نستهين بالذنوب، كلما فعلنا ذنبا قلنا هذا ذنب صغير ونتوب - إن شاء الله -، لا داعي لأن نعكر مزاجنا ولا داعي لأن نصر على أننا لماذا نذنب، فلنغفل عن هذا الذنب، كلما أذنبت سوفت وكلما أذنبت أجلت وكلما أذنبت أخرت. قلت هذا ذنب صغير وماذا في ذلك؟ لست أنا الوحيد الذي أذنب ولست أنا الوحيد الذي أنظرإلى المرأة الأجنبية، ولست الوحيد الذي أكلم المرأة الأجنبية على التلفون، ولست الوحيد الذي أشاهد الفيلم الخليع بل كثير من الناس يفعل ذلك، إذن هذا ذنب شائع لا يختص بي وحدي وهكذا أبدأ أخفف من الذنب وأستهين بالذنب وأحتقر الذنب، وقد ورد عن الرسول الأعظم : ”أشد الذنوب ما استهان به صاحبه“. الذنب الذي يحتقره الإنسان ويستصغره هو الذي يطغى عليه ويسبب له مرض قساوة القلب.

ورد عن الرسول الأعظم : ”من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن“، المؤمن الذي إذا فعل الذنب شعر بأنه وقع في غم وحزن، المؤمن الذي إذا صنع الذنب رأى نفسه لا يستطيع القرار لأنه فعل الذنب، المؤمن الذي إذا فعل الذنب انشغل عن الآخرين وتأثر مزاجه وجهه، ”من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن“. ورد في الحديث الشريف: ”المؤمن إذا أذنب كان ذنبه كصخرة ثقيلة على صدره، متى يرميها ويستريح، والمنافق إذا أذنب كان الذنب كذبابة مرت على أنفه فأبعدها“، يعني أن الذنب ليس شيئا مهما بالنسبة إليه.

إذن يا أخي، تسويف الذنوب وتسويف التوبة بأننا إذا أذنبنا نؤجل التوبة وإذا أذنبا نؤجل الإنابة ونؤجل الاستغفار، وقولي إنني في ريعان الشباب وها أنا أعيش والعمر أمامي طويل بإمكاني اللحاق على باب التوبة وباب الإنابة ولا داعي لأن أعكر مزاجي ولا داعي لأن أعكر صفو حياتي، دعني أبقى هكذا، وهكذا يتمادى في الذنب إلى أن يبتلى بمرض قساوة القلوب. ورد عن الإمام الصادق : ”إذا أذنب العبد خرج في قلبه نكتة سوداء - القلب قطعة بيضاء طاهرى لكن إذا أذنب خرج في قلبه نكتة سوداء - فإن تاب انمحى - استراح - وإن عاد عادت حتى تغلب على قلبه لا يفلح بعدها أبدا“، فتصير قطعة سوداء يعني القلب - متفحمة سوداء، لا نور فيها، لا شعاع فيها، ولا تأنيب فيها.

فيعتبر أن هذا الأمر عادي ويعتبر نفسه ذا شخصيتين، وماذا في ذلك؟ أن أكون ذا شخصيتين، شخصية ظاهرية أصلي جماعة وأشارك في المآتم، وشخصية داخلية وهو أن أكلم الفتاة مكالمة غير مشروعة، أنظر إلى المرأة الأجنبية، أستمع الموسيقى المطربة. أنا أعيش شخصيتين إلى آخر عمري ويقول هذا شيء عادي وشيء طبيعي، هذا نتيجة مرض قسوة القلب.

المنشأ الثاني: هو الترف.

ونحن مبتلون بمرض الترف أيضا، فما هو مرض الترف؟ طبعا كل واحد منا يقول أن هذا الكلام بعيد كل البعد عنا، وأن هذا الكلام موجه لغيرنا، أنا ما شاء الله رجل ملتزم. لا، بل حاول أن تشعر نفسك بأنك المبتلى بهذا المرض وأنت المبتلى بهذه الأسباب والأمور، وأنت المبتلى بهذه المشاكل.

لماذا كل واحد يعزل نفسه؟ فيقول هذا الخطيب والمتكلم لا يعنيني بل يقصد غيري، لا بد أن تحاول أن تنفتح على الموعظة وأن تنفتح على العبرة وأن تنفتح على أن تغير من نفسك وأن تغير من وضعك. نعم، مرض الترف يقول عنه القرآن الكريم ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.

الإنسان كيف يتعامل مع الحياة تعامل مترف؟ الإنسان يصب اهتمامه على المظاهر المادية، اهتمامه وجهده وتركيزه على المظاهر المادية، فيقول أنا المهم عندي والشيء الذي يهمني ويشغلني أن أركب سيارة فخمة حتى يقال فلان يركب السيارة الفخمة، أنا المهم عندي جدا أن ألبس أحسن الملابس، أنا المهم عندي جدا أن أعيش على أحسن الأثاث، أنا المهم عندي جدا أن أعيش في أحسن منزل وأحسن قصر، أنا المهم عندي جدا أن أنام على الوسادة الناعمة مرتاحا وبطني شبعان وبالي مرتاح وهذه هي الحياة.

هل هذه هي الحياة؟! سيارتي فخمة ومنظري جميل؟! معاشي وراتبي وفير؟! وأنام على وسادة ناعمة وأثاث فخم وأنا مرتاح، هل هذه هي الحياة؟! يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا الترف يقود إلى الفسق والفسق يقود إلى زوال النعمة ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ - من جميع الأماكن يأتيها الرزق ويأتيها الخير - فكفرت بأنعم الله، حينها لا يحتاج الأمر إلى زلزال ولا يحتاح إلى بركان ولا حاجة إلى حجارة من سجيل، بل شيء واضح، الخوف هو الذي يقتل المجتمع.

أنا المهم عندي في كل سنة أن أسافر إلى أوروبا لكي أريح نفسي، بلدنا حارة فنتضطر إلى تغيير الأجواء والسفر إلى أوروبا كل سنة، ونريح أنفسنا وعيالنا وأطفالنا. هل تزور الإمام الرضا ؟ لا، هناك الحر والزحام ولا أطيق ذلك. هل تذهب إلى العمرة؟! أنا أذهب العمرة! العمرة زحام وجو حار، ما الذي يأخذني إلى العمرة، أنا أذهب إلى أوروبا مع عيالي وأطفالي، هذه هي الحياة حياة الترف.

هو لا مانع من أن تزور أوروبا وأي مكان وأي مصيف جميل، ولكن زر الإمام الرضا ، زر بيت الله واعتمر، ضم إلى زياراتك الزيارات التي تقربك إلى الله وتقربك إلى عالم الروحانية والعرفان. لا مانع من وجود الأموال لديك ولكن أنت مسؤول، في الحديث الشريف: ”لا تخطو قدما عبد يوم القيامة حتى يسؤل عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه“، هل أموالي أنفقتها في زيارة أهل البيت في مآتم أهل البيت أو أنفقتها في راحة النفس والعيال والأطفال فقط؟

حياة الترف تقسي القلب، ولذلك أنت ترى ذلك بالتجربة والوجدان، الشخص الذي ينشغل بالدنيا ينشغل بأثاثها فتراه في كل يوم يغير أثاثه، وفي كل يوم يغير شكله، وفي كل يوم يغير سيارته إلى أحسن سيارة، كل يوم قال أنا سأسافر أوروبا لأتصيف. هذا الشخص لا يلتذ بالعبادة أبدا وهذا الأمر تراه بالتجربة والبرهان. لا يقبل على الصلاة لا يقبل على قراءة القرآن لا يقبل على المسجد، هو يصلي ولكنه يصلي صلاة ثقيلة، ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ، لا يقبل على القرآن لا يرغب أن يقرأ القرآن لا يرغب أن يصلي لا يرغب أن يتنفل لا يرغب أن يدخل مسجد، لماذا؟ لأن الانشغال بالدنيا أبعده عن لذة الآخرة وأبعده عن التفكير في الآخرة. ليس هنالك مانع من أن يكون الإنسان لديه ثروة وأموال ويظهر الثروة على بدنه وعلى عياله وأطفاله ”وأما بنعمة ربك فحدث“، ولكن لا تجعل كل ذلك على حساب أشياء آخر. كما أنني أخصص وقتا للراحة والاستجمام والمصائف، أخصص وقتا لقراءة القرآن أخصص وقتا للدعاء أخصص وقتا للنافلة أخصص وقتا للتقرب إلى الله.

دخل الإمام أمير المؤمنين دار عاصم بن زياد - وقد بنى له دارا واسعة - فدخل الإمام علي وقال له: ”يا عاصم ما تصنع بهذه الدار؟ فسكت، قال: ما تصنع بهذه الدار؟ قال: سيدي بنيتها لي ولعيالي. قال: إنك تستطيع أن تبلغ بها الآخرة. قلت: كيف سيدي؟ قال: تقري الضيف وتصل الرحم وتخرج الحقوق من مخارجها فإذا أنت فعلت ذلك فقد بلغت بها الآخرة. أخرج الحقوق وأخرج الخمس من أموالك أم أن الخمس ثقيل؟ يعني لو كان لدي مليون فكم خمس المليون؟ مئتا ألف، أكثيرة هي؟ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. أبو بصير ينقل عن الإمام الباقر يقول: يا أبا بصير ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال: لا أدري سيدي قال: من أكل من مال اليتيم درهما، ونحن اليتيم يا أبا بصير“.

كل إنسان لديه أموال تزيد على مؤونته يجب فيها الخمس، خمسها لأهل البيت ملك للإمام ، أنت لم تملكها في الأصل ولست أنت المتفضل بها، فإذا أخرجت الخمس لم تكن متفضلا لأنها ليست ملكا لك بل الخمس ملك للإمام وللسادة الفقراء.

المنشأ الثالث: الغفلة.

”اللهم نبهنا من نومة الغافلين“ كثير منا مصاب بمرض الغفلة، والغفلة تقود إلى قساوة القلب، فماذا نعني بالغفلة؟ نبين لك صور الغفلة في مجتمعاتنا: هذا الإنسان منذ الصباح إلى ما بعد الظهر هو في عمله، فيرجع بعد ذلك ويتساءل أين اللقمة؟ أين الراحة؟ فيأكل اللقمة ويستريح ثم يخرج من بيته ويذهب إلى حيث يذهب، وهناك إنسان يزداد على الآخر لديه رزق يكفيه، لديه راتب وفير يكفيه ويكفي عياله ويكفيه رزقا حسنا فلا يقبل بهذا الرزق. فيقول فلان عنده كذا من الأموال وكذا من العقارات لكنني «متخلف» ولا أملك ما يملك، فينتهي من عمله الأول إلى عمل آخر، فيشغله هذا العمل الآخر إلى نصف الليل، لماذا وما هو السر؟ السر في ذلك هو الغفلة.

متى تجلس مع أطفالك؟ متى تجلس مع زوجتك؟ متى تربي أطفالك؟ متى تربي عيالك؟ أليس لأطفالك حق؟ أليس لزوجتك حق؟ أليس لعيالك حق؟ أم كل الوقت لجمع الأموال وجمع الثراء؟ أليست هذه الغفلة؟ إذا كان المعاش كافيا لي ورزقي كافيا لي فما هو الداعي أن أزاحم نفسي بأشغال كثيرة في سبيل أن أحصل على أموال أكثر، لماذا؟ وأضيع حقوق الزوجة وحقوق الأطفال وحقوق العيال بل وحقوق النفس، ليس لدي وقت لقراءة القرآن ليس لدي وقت لأن أتنفل، ليس لدي وقت لقراءة الدعاء وفي كل ذلك مشغول، وإلى متى وأنت مشغول؟ إلى أن يأتي اليوم الذي تقف فيه العجلة وتحصل فيه النهاية وهناك يقبض الروح ملك الموت ويقول له أيها المشغول وصلت مكانك الأخير.

الإمام أمير المؤمنين يدخل إلى سوق البصرة ويرى الناس هذا يقول كذا وذاك يقول كذا، فوقف - بأبي هو أمي - وبكى بكاء طويلا ثم قال: ”أيها الناس، يا عبيد الدنيا وعمال أهلها، إذا كنتم بالنهار تحلفون وبالليل تنامون وفي خلال ذلك أنتم غافلون فمتى تهيؤون الزاد وتفكرون في المعاد؟“. إذا كنت طوال وقتي مشغول بالسوق والتجارة والأموال فمتى أهيئ الزاد وأفكر في المعاد؟!

الإمام الصادق يقول: ”ما يمنع التاجر المشغول منكم بسوقه إذا رجع إلى البيت أن لا ينام حتى يقرأ شيئا من القرآن فكلما قرأ آية رقى درجة، من قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين ومن قرأ عشرين آية كتب من القانتين ومن قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين“. هذه هي الغفلة، أو أكون أنا طوال الوقت مشغول بالتلفزيون والانترنت والدش، ومشغول بمشاهدة الأفلام وهذه هي حياتي ولا أفكر في غير ذلك إلى أن يفاجئني الموت وأنا مبتلى بالغفلة. الإمام زين العابدين يقول: ”اللهم واجعلني ممن يديم ذكرك ولا ينقض عهدك ولا يغفل عن شكرك“.

الجهة الثانية: طرق العلاج من مرض الغفلة.

الطريق الأول: التفكير.

فكر في أمرك وفكر في حياتك، علي أن أفكر في طريقي وفي نهايتي، فقد ورد في الحديث الشريف: ”تفكر ساعة خير من عبادة سنة“. وورد عن الإمام زين العابدين : ”ليست العبادة بكثرة الصلاة ولا بكثرة الصيام وإنما العبادة بكثرة التفكر“. أفكر في ماذا؟ ما الذي أفكر فيه حتى يحدد ويحجم مرض قساوة القلب؟ التفكير في النهاية التي لا بد منها.

هذه المسيرة القصيرة التي أنا أعيشها ستنتهي وهذا الخط القصير سينتهي يوما من الأيام وأنا سينتظرني الخط الطويل، وأنا مخير بين أن أذهب إلى ذلك العالم، وتلك لحظة واحدة تنتقل فيها من عالم إلى عالم آخر وتفاجئ بعالم ثان، وهذه اللحظة لحظة الانتقال إلى ذلك العالم الآخر أنا مخير بين أن أذهب إلى العالم الآخر فأرى أنوارا تتساطع، تفرش لي الطريق وتعبد لي الدرب وأسير في درب مضيئ واضح، وبين أن أذهب إلى العالم الآخر فأرى ظلمات بعضها فوق بعض وأهوال بعضها فوق بعض.

الإمام الحسن الزكي في حين وفاته يبكي يقال ما يبكيك يا أبا محمد وأنت سيد شباب أهل الجنة قال: أبكي لأمرين: فراق الأحبة وهول المطلع" أهوال تستقبل الإنسان، أنا مطالب أن أهيئ وأن أفكر في ذلك العالم كما أفكر في كيفية تأثيث منزلي.

كما أفكر في أثاث بيتي لا بد أن أفكر في ذلك البيت الآخر البيت الدائم الذي ينتظرني. الإمام زين العابدين يقول: ”ومالي لا أبكي - كيف لا أبكي ومصيريى حتمي - أبكي لخروج نفسي أبكي لظلمة قبري أبكي لضيق لحدي أبكي لسؤال منكر ونكير إياي أبكي لخروجي من قبري عريانا ذليلا حاملا ثقلي على ظهري إذ الخلائق في شأن غير شأني لكل امرء يومئذ شأن يغنيه“.

اقرؤوا أدعية الإمام زين العابدين اقرؤوا أدعية الصحيفة السجادية، دعاء أبي حمزة الثمالي ودعاء التوبة، اقرؤوا دعاء التوابين ودعاء الخاشعين، اقرؤوا في هذه الأدعية لتقلل منا مرض قساوة القلب ومرض الغفله ومرض الإعراض عن ذكر الله. والتفكير في يوم الآخرة كما في هذه الرواية المحزنة، أبو بصير يقول للإمام الصادق : سيدي قست قلوبنا فذكرنا بأهوال جهنم، الإمام الصادق يقول: ”يا أبا بصير، ذكرتني بأمر غمني وهمني ثم يتغير وجه الإمام ويقطب، يقول له: يا أبا بصير، جاء جبرئيل إلى الرسول وهو مقطب مكفهر فقال له الرسول: يا جبرئيل كل يوم تأتيني ضاحكا متبسما واليوم أتيتني مقطب الوجه متغير اللون ماذا حدث، قال: اليوم انتهت تمهيد أنفاس جهنم، قلت: كيف؟ قال: إن الله أمر الملائكة بأن ينفخوا في نار جهنم ألف سنة حتى صارت بيضاء ثم أمرهم بالنفخ فيها ألف سنة حتى صارت حمراء ثم أمرهم بالنفخ فيها ألف سنة حتى صارت سوداء مظلمة، ولو سقطت قطرة من ضريعها - ماهو الضريع؟ هو عرق أهل جهنم، هذا الشخص عندما يجعل في النار كما يقول القرآن الكريم: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ تذوب الجلود يخرج الصديد يخرج العرق هذا يسمى الضريع - لو سقطت قطرة من ضريعها في مياه أهل الدنيا لماتوا بأجمعهم من نتن رائحتها ولو سقطت حلقة من السلسلة التي ذرعها سبعون ذراعا على أهل الدنيا لماتت الدنيا بكاملها من شدة حرارتها، فبكى الرسول بكاء عظيما وبكى الإمام الصادق وهو يقرأ هذا الخبر“. ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.

الطريق الثاني: طريق البذل والعطاء.

أنا إذا أردت أن أخفف من مرض قساوة القلب علي أن أرقق قلبي بالبذل والعطاء. الفقراء والمحتاجون والأيتام ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، الصدقة جعلها الله ليس لمدلول اجتماعي فقط وهو احياء فقراء المجتمع، بل جعلها لمدلول تربوي ومدلول نفسي وهو ترقيق القلب وتعطيف القلب على الفقراء وعلى المساكين، ”ما من قرية يبيت فيها جائع ينظر الله إليها يوم القيامة وليس منا من بات شبعان وجاره جائع“.

الإمام أمير المؤمنين كانت بيده الدنيا لأنه كان خليفة المسلمين، الثروات بيده وهو يقول: ”لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل باليمامة أو الحجاز من لا عهد بالشبع ولا طمع له بالقرص، أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى، أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟“.

وحسبك داءا أن تبيت ببطنة   وحولك  أكباد تحن إلى iiالقد

بذل الأموال وبذل الطاقة فأبذل نفسي خادما لأهل البيت هذا يساعد على التخفيف من قساوة القلب. أخدم في مآتم أهل البيت وأخدم في المساجد أشارك في الأعمال الخيرية وأشارك في الأعمال الإسلامية. عندما أبذل طاقتي وقدرتي وأبذل جهدي البدني والعقلي في سبيل خدمة المبادئ طالبا رضا الله لا طلبا للسمعة أو الرياء أو الشهرة. بل أطلب رضا الله تبارك وتعالى، سوف تكون هذه الخدمة وهذا البذل عاملا مساعدا على تخفيف مرض قساوة القلب. وهنيئا لأولئك الذين بذلوا نفوسهم ليس فقط طاقاتاهم بل بذلوا نفوسهم في سبيل المبدأ وفي سبيل العقيدة. هؤلاء الذين تخلصوا من مرض قساوة القلب وهؤلاء الذين عاشوا المبدأ والعقيدة في تمام حياتهم وفي تمام حركاتهم إلى أن سلموا أنفسهم قربانا لله دون المبدأ ودون العقيدة.

واجبنا تجاه الحملة الخفية ضد أهل البيت
تزييف نظرية عصمة صحيح البخاري