نص الشريط
الأمة الوسط ومقام الشهادة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 9/1/1418 هـ
مرات العرض: 3418
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2318)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا

صدق الله العلي العظيم

حديثنا حول الآية المباركة في نقطتين:

  • في بيان معنى الشهادة.
  • في بيان معنى الأمة الوسط.
النقطة الأولى: بيان معنى الشهادة.

الشهادة هنا لا يراد بها الشهادة الظاهرية، بل يراد بها الشهادة الواقعية، وحتى يتضح الفرق بينهما نضرب مثالاً: لو رأيتُ إنسانًا يصلي، فتارة أقول: رأيتُ فلانًا يصلي، وهذه شهادة ظاهرية؛ لأنه ظاهرًا يصلي، ولكن لو سُئلتُ: هل فلان يصلي صلاة حقيقية، بمعنى أنه يصلي بدافع الإخلاص لله «تبارك وتعالى»، أم لا؟ فإني لا أستطيع حينئذ أن أشهد، وإنما أشهد شهادة ظاهرية. إذن فالشهادة الحقيقية هي أن يشهد الإنسان بحقيقة العمل وواقعه.

الشهادة في الآية المراد بها الشهادة بحقيقة العمل وواقعه، والقرينة على هذا: الآيات القرآنية التي تحدثت عن الشهادة، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فإن شهادة الألسن والأيدي ليست شهادة ظاهرية، وإنما هي شهادة واقعية، أي أن الألسن والأيدي والأرجل تشهد بحقيقة العمل فعلاً. هل كان يصلي فعلاً بإخلاص أم لا؟ هل كان يصوم فعلاً بإخلاص أم لا؟ هل كان يأتي المأتم فعلاً بإخلاص أم لا؟ فهي شهادة واقعية.

ويقول القرآن الكريم: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا، ومن الواضح أن الرسول لا يشهد بأن أمته كانت تصلي فقط! فإن هذه شهادة ظاهرية، والشهادة الظاهرية لا تختص بالرسول، بل كل واحد يستطيع أن يشهد شهادة ظاهرية، فلو كانت المسألة أن الأمة رأيتُها تصلي وتصوم لما كانت لرسول الله خصوصية في الشهادة، بينما القرآن خصّها بالرسول ، فقالت بأن كل أمة هناك شخص يشهد عليها، والنبي هو شهيد هذه الأمة.

إذن فالشهادة الظاهرية يمكن أن تحصل من كل شخص، ولكن الشهادة الخاصة بالنبي هي الشهادة الواقعية، أي أن النبي قادر على أن يشهد أن العمل صحيح أم ليس بصحيح، بينما أنا لا أستطيع أن أشهد، وإنما أستطيع أن أقول: رأيتُ فلانًا يصلي، ولكني لستُ مطلعًا على أنه صلى صلاة واقعية أم لا، بينما النبي قادرٌ على أن يشهد بذلك، ولذلك خصّه القرآن الكريم بالشهادة.

ويقول القرآن الكريم مخبرًا عن عيسى بن مريم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، فشهادة عيسى بن مريم لم تكن أنه يراهم يفعلون أعمالاً حسنة، فإن كل واحد يستطيع أن يرى ذلك، بينما القرآن خصّها بعيسى بن مريم، فإذن الشهادة الخاصة لا معنى لها إلا الشهادة الحقيقية، وهي أن الشهادة بواقع العمل.

وأزيدك على هذا: قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فهل الله يرى الصورة أم الواقع؟! هل الله يرى صورة العمل أم يرى واقعه؟! الله يرى العمل الحقيقي ويرى العمل الفاسد، وممن يرى ذلك أيضًا رسوله، أي أن الرسول يرى حقيقة العمل، والمؤمنون أيضًا، وإلا فإن الرؤية الظاهرية لا تختص بالمؤمنين، بل حتى الفسّاق يرون العمل ظاهرًا.

رؤية صورة الصلاة، ورؤية صورة الصيام، ورؤية صورة الخمس، ورؤية صورة الحج، ورؤية صورة الصدقة، لا تختص بالمؤمن، بل إن المؤمن وغيره يمكن أن يرى الصورة، بينما الآية خصّتها بالمؤمنين، وهذا دليلٌ على أن الرؤية ليست هي الرؤية الصورية الظاهرية، بل المراد بالرؤية الرؤية الواقعية، أي: رؤية العمل ورؤية دوافعه وحوافزه.

إذن عندما يقول القرآن الكريم: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فإن المراد بشهادة الرسول أن الرسول يشهد بواقع الأعمال، ويطلع على دوافع الأعمال، فيشهد بها أمام الله «تبارك وتعالى»، وأما الشهادة الظاهرية فكل إنسان يستطيع القيام بها، فلو كانت الشهادة الظاهرية هي المقصودة لما كان للرسول خصوصية ولا ممدحة ولا منقبة في ذلك.

ولذلك نحن نعتقد بأن الرسول الأعظم لعظمته عند الله يرى بواطن الأعمال وحقائقها ودوافعها، فيشهد بذلك عند الله، ولا غرابة، فقد ورد عن الرسول الأعظم في كتب الفريقين شيعة وسنة: ”المؤمن ينظر بعين الله“، فإذا كان المؤمن العادي يمكن أن يتعرف على الدوافع والنيات فكيف بالرسول الأعظم ؟! هذا ما نعتقده نحن في الرسول، وأما بعض المسلمين فيعتقد غير ذلك في الرسول الأعظم ! وهنا نذكر بعض النصوص لنبيّن كيف يعتقد بعض المسلمين في شخص الرسول الأعظم .

يروي البخاري في الجزء الأول عن أنس بن مالك أن رسول الله ذهب إلى سباطة قوم فرأيناه يبول واقفًا، ثم أتيناه بماء فتوضّأ. حتى الآداب الشرعية التي ينصّ عليها الرسول - كأن يبول الإنسان ويتخلى جالسًا - هو نفسه لا يراعيها!

وفي نص آخر يرويه البخاري في الجزء الثاني: «دخل الخليفة الأول على ابنته عائشة في منى، فرأى جاريتين تغنيان أمامها، والرسول متغشٍ بثوبه يسمع، وهما يضربان الدفوف، فقلتُ لها: يا عائشة، هذه أيام منى أيام عبادة، فقال الرسول: دعها! هذه أيام عيد!». أهذا الرسول الأعظم المتعلق بالله؟! في أيام منى - أيام العبادة - يستمع إلى جاريتين تغنيان وتدقان الدفوف؟!

وروى البخاري في الجزء الخامس في مسألة بناء الكعبة أن «الرسول كان يرفع الأحجار مع القوم لبناء الكعبة، فقال له عمه العباس بن عبد المطلب: حلَّ إزارك حتى لا يعيقك عن حمل الحجارة، فحلَّ الإزار فانكشفت عورته وسقط مغشيًا عليه!». أي أن الرسول لا يملك درجة من التمييز تمكّنه من معرفة أنه إذا حل الإزار تنكشف عورته!!

ويروي البخاري في الجزء الثامن عن عائشة أنها قالت: دخل رجلان على رسول الله، فكلماه كلامًا أساءه، فغضب عليهما ولعنهما وسبّهما، فلما خرجا قال: ”اللهم أي مسلم سببتُه أو لعنتُه فاجعل ذلك زكاةً له وأجرًا“! فهو في الوقت الذي يقول - كما ورد في كتب الفريقين - فيه: ”سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وحرمة ماله كحرمة دمه“ يقوم بالسب، فهل هو يرتكب الفسوق؟!

وفي الجزء التاسع ينقل عن السيدة عائشة أيضًا أنها قالت: انقطع الوحي عن الرسول فترة طويلة، فحزن حزنًا شديدًا، وذهب ليرمي نفسه من فوق الجبل، فلما وقف على الجبل يريد أن يرمي بنفسه تمثّل له جبرئيل وقال: يا محمد، إنك رسول الله. فهم يصوّرون أن عقلية النبي عقلية خفيفة جدًا، بحيث يرمي نفسه من فوق الجبل مع أنه يعلم بأنه نبي! وقد ذكر الرازي في تفسيره عنه : ”كنتُ نبيًا وآدم بين الماء والطين“، فهل الذي يعرف بنبوته السابقة يرمي نفسه من فوق الجبل لأن الوحي انقطع بضعة أيام؟!

ويروي صحيح مسلم في الجزء الأول عن السيدة عائشة أنها قالت: ”كنتُ أفرك المني من ثوب رسول الله ثم يصلي“! أي أنه لم تكن عنده نظافة، بحيث أن المني كان في ثيابه ولا يلتفت إليه، ويكاد أن يصلي بثوب فيه مني لولا أنها فركت له المني بيدها!

هل هذه هي شخصية الرسول؟! هل هذه هي شخصية نبي الأمة محمد ؟! إذن فالذي نعتقد أن الرسول أجلُّ من ذلك وأسمى، وأن الرسول الأعظم له مقام الشهادة ورتبة الشهادة، والشهادة هي - كما ذكرنا - الشهادة الحقيقية، أي الشهادة بواقع الأعمال وحقيقتها، فهذا هو المناسب للآيات التي تعرضت لذكر الشهادة في القرآن الكريم.

وقد ثبتت هذه الرتبة من الشهادة للأئمة من بعده، فلهم أيضًا مقام الشهادة، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، ونحن نسأل سؤالاً واضحًا صريحًا: هل الأمة الإسلامية كلها تشهد؟! هل الأمة الإسلامية كلها لها مقام الشهادة، حتى الفاسقين والمنحرفين والذين لا يتدينون؟! هذا لا يمكن أن يقول به أحدٌ؛ لأن القرآن الكريم نفسه ينص: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ. هل الأمة الإسلامية بكاملها لها مرتبة الشهادة؟! هل الأمة الإسلامية بكاملها تشهد واقع الأعمال وحقائقها؟! هذا يكذّبه الوجدان، ولا يمكن أن يقول به أحد.

ولذلك ورد عن الإمام الصادق : ”كيف يشهد أهل القِبْلة؟! فالذي لا تُقْبَل شهادتُه على صاع من التمر كيف تُقْبَل شهادتُه على أعمال المسلمين؟!“، أي أن الفاسق لا تُقْبَل شهادته في صاع من التمر، فلا يُعْقَل أن تُقْبَل شهادته على جميع أعمال المسلمين، فقول القرآن الكريم: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ليس المقصود به كل الأمة، فإن في الأمة الفاسق والمنحرف والذي لا يتدين بالدين، فمن هم الشهداء؟ من هم الذين لهم درجة الشهادة؟ من الذين يشهدون واقع الأعمال وحقائقها؟

هم الذين قالت عنهم الآية الأولى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فالمؤمنون هم الذين لهم رتبة الشهادة، والقرآن نفسه يعيّن لنا هوية هؤلاء المؤمنين الذين يرون حقائق الأعمال، والذين يشهدون يوم القيامة بحقائق الأعمال، وأوضح آية في القرآن تدل عليهم هي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، فالذين أذهب الله عنهم الرجس وطهركم تطهيرًا هم أولى الناس بهذا اللقب، وهم أولى الناس برؤية الأعمال، وهم أولى الناس بالشهادة على واقع الأعمال، وهم الذين قال فيهم القرآن الكريم: ﴿سَلَامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ، ويذكر الرازي في تفسيره والزمخشري في كشّافه أن آل ياسين هم آل محمد .

القرآن الكريم ما مدح غيرهم بالطهارة، وإنما مدحهم هم فقط، وما سلّم على غيرهم، وإنما سلّم عليهم فقط، فهم الأولى برتبة الشهادة من أي مخلوق آخر، ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“.

النقطة الثانية: بيان معنى الأمة الوسط.

الوسط هو المعتدل، ولذلك يقال: خير الأمور أوسطها، أي: المعتدل بلا إفراط ولا تفريط، فالأمة الوسط هي الأمة المعتدلة في الجانب الاقتصادي وفي الجانب الاجتماعي، وأنا أركز على هذين الجانبين.

الجانب الأول: الجانب الاقتصادي.

الاعتدال الاقتصادي هو الذي عبّر عنه القرآن بالشكر: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وقوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ. الشكر يتحقق بالاعتدال في صرف النعمة واستخدامها وبذلها، فهل هذا ينطبق على مجتمعاتنا؟! هل نحن مجتمع وسط؟! هل نحن أمة وسط تتعامل مع النعمة تعاملاً معتدلاً؟! لنسأل أنفسنا، ولنفتّش عن أحوالنا لنرى ماذا نصنع.

انظر إلى ظاهرة الاستهلاك، هذه الظاهرة المرضية المتفشية في مجتمعاتنا. هذا الإنسان يمشي وراء أحدث الموديلات والموضات، فيشتري أحدث موديل في الأثاث، ثم يبدله بأحدث موديل، ويشتري أحدث موديل سيارة ثم يبدلها بموديل أحدث، وكذلك يمشي وراء الموضة والموديل في الملابس وسائر المنتجات. نحن مجتمعاتنا - مع الأسف - مجتمعات استهلاكية محضة، فإن الغرب دوره دور المنتج، ونحن دورنا دور المستهلك، فنمشي وراء وسائل الإعلام، ونمشي وراء أحدث المنتجات والسلع وأحدث الموديلات والموضات، وخصوصًا بالنسبة إلى النساء.

ظاهرة الاستهلاك ظاهرة واضحة جدًا بالنسبة للنساء، ولذلك فإن المحرك الأساسي للأسواق يتمثل في النساء، ففي كل مناسبة يلبسن أحسن الأزياء والملابس، وفي كل مناسبة يلبسن أصنافًا وأنواعًا من الذهب. علام؟! الله خلق النعمة وأعطاها لكِ ولزوجكِ لأجل هذه الأمور فقط؟! هل النعمة لأجل اللباس والذهب والأثاث والسيارة فقط؟! كلما حصل الإنسان على أموال وفيرة صرفها في هذه المظاهر الدنيوية، من لباس وأثاث وذهب.. وهذه هي الحياة! هل هذه هي النعمة؟! هل هذا هو مصرف النعمة؟! أين شكر النعمة؟! هذا من أوضح صور الترف ومن أجلى مظاهره.

الترف يؤدي إلى الفسوق، والفسوق يؤدي إلى زوال النعمة، فالتلاعب بالنعم نتيجته زوال النعمة، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، وقال: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. حاذروا يا إخوان ويا أخوات على هذه النعم والثروات! إذا لم نعتدل في الصرف ولم نشكر الله على نعمه فإن مصير النعم إلى الزوال. ليس المهم أن نحاكي الآخرين. فلان كيف هو أثاثه؟ إذن نحن مثله! فلانة كيف تلبس؟ إذن أنا مثلها! فلان ماذا يصنع؟ إذن نحن مثله! صرف أموال في السفر إلى أوروبا وفي شراء أحسن الملابس والسلع! لماذا؟! حتى ولو كنت غنيًا ثريًا، فإنك مسؤول عن هذه الثروة والأموال. ”يُسْأل العبد يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه“. ولذلك لا بد من الالتفات إلى عدة أمور:

الأمر الأول: توعية البنت والزوجة لكيفية التعامل بالنعمة.

لا تكن ضعيفًا أمام ابنتكِ أو زوجتكِ. أرشدها وفهّمها كيفية التعامل مع النعمة، فقد ورد عن الرسول الأعظم : ”ما استفاد امرؤٌ بعد الإسلام فائدةً أفضل من زوجةٍ تطيعه إذا أمرها، وتسرّه إذا نظر إليها، وتحفظه إذا غاب عنها في ماله وفي نفسها“. الزوجة التي استفادها الإنسان بعد الإسلام هي التي تحفظ له أمواله، وتعتدل في صرفها، وتراعي النعمة وتداريها.

الأمر الثاني: صرف الأموال فيما يرضي الله.

أنت تريد أن تصرف على نفسك وعلى عيالك وعلى أثاثك وعلى سيارك... إلخ، ولا بأس بذلك، ولكن بالإمكان توظيف بعض هذه الأموال في صالح المجتمع، فقد ورد في الحديث الشريف: ”خير الناس من نفع الناس“. اصرف هذه الأموال في بناء المستشفيات والمستوصفات، وفي بناء دور الخير، وفي بناء الدور الثقافية، وفي بناء دور الثقافية، وفي بناء دور التعليم، وفي أي مجال ينفع الناس، كمجال الطب ومجال الهندسة ومجال التعليم ومجال الأمور الخيرية... في أي مجال ينفع الناس اصرف بعض أموالك ولو على نحو الاستثمار.

لا تكن الثروة فقط وفقط على ما يشتهي الإنسان، فقد ورد عن الرسول الأعظم : ”من أكل ما يشتهي، ولبس ما يشتهي، وركب ما يشتهي، كان عبء ذلك عليه يوم القيامة“. كل ذلك محاسب عليه. لا تكن إنسانًا شهوانيًا، كالبهائم همّها علفها! كما تبحث البهيمة عما يشبع بطنها فقط، يبحث بعض الناس فقط عن لباسهم وأثاثهم وسياراتهم وغيرها من المظاهر! وقد ورد عنه : ”إياكم والسرف في النفقة والأموال! فإنه ما افتقر قومٌ قط اقتصدوا“، أي أن المقتصد لا يفتقر. إذن فالتلاعب بالثروات والولائم والمآدب، والتلاعب بالأطعمة ورمي الكثير منها في القمامة والبحر، وغير ذلك.. هذه مصيبة تستتبع مصائب دنيوية، ونتيجة ذلك زوال النعمة.

الجانب الثاني: الجانب الاجتماعي.

من الملاحَظ الآن أن مجتمعاتنا تخلت عن أعظمة مسؤولية شرعية، ألا وهي مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولسان حال كل واحد منا: موسى بدينه وعيسى بدينه! لا شغل لي بالآخرين ولا شغل للآخرين بي! أين قول الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ولم يقل: خير أمة بلباسكم وبسياراتكم وببيوتكم وبكشخاتكم! القرآن الكريم يقول: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. لماذا لا تأمر بالأمر ولا تنهى عن المنكر؟ هنا عدة أسباب يذكرها البعض:

السبب الأول: أنا لا أريد أن أزعل زوجتي! إذا زعلت فأنى لها أن ترضى بعد ذلك؟! هذه مشكلة المشاكل! فأنا لا آمر زوجتي بالحجاب، بل أراها تلبس حجابًا مزكرشًا مزينًا مزخرفًا، ولا أنهاها، وأراها تبعث بالحجاب، فتظهر شعرها مثلاً، ولا أنهاها، وأراها تتحدث مع الرجال بقلة حياء وبقلة أدب، ولا أنهاها؛ خوفًا على نفسيتها! أرى أولادي يسمعون الموسيقى اللهوية والمطربة، ويسمعون الغناء، ومع ذلك أقول: لا بأس بذلك؛ فإنهم لا زالوا صغارًا! لا زال الوقت مبكرًا!

يقول القرآن الكريم: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. أنا لا أكلّم أختي ولا زوجتي ولا فلانة خوفًا من زعلهن! هذا لا يفيد؛ فإن هذا ليس عذرًا أمام الله، بل يجب عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما عدم الرضا فلا أثر له في رفع هذه المسؤولية.

السبب الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس واجبًا عينيًا، بل هو واجب كفائي، فهو ليس واجبًا على كل الناس، وإنما هو واجب على بعض الناس، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. نقول: صحيح أنه واجب كفائي، ولكن الواجب الكفائي إنما يسقط إذا قام به البعض الكافي، وأما إذا البعض الذي قام ليس كافيًا، بل لا زال الفراغ موجودًا، وما زالت المنكرات شائعة، فحينئذٍ لا يسقط الوجوب، بل يبقى الوجوب على جميع الناس، وجميعهم مأثومون بترك هذا الواجب.

لا تقل: لا علاقة لي بالناس ولا شغل لي بهم! هذه لا تفيد مع الله في الآخرة؛ فإن الواجب الشرعي لا يمكن التهاون فيه، وهذا ليس مقتصرًا على الخطباء، بحيث يكون من واجبهم النهي عن المنكرات، بينما بقية الناس ليس من واجبهم ذلك! بل يجب على الخطباء والآباء والإخوة والأخوات والأمهات، وليس خاصًا بالخطباء وبالعلماء.

الآن نحن عندنا هذه الظاهرة بالنسبة للمدرسين. أنا مدرس في المدرسة، وأرى هذا الطالب عندي غير ملتزم وغير متدين وغير متخلق بالأخلاق الحسنة. يجب عليَّ أن آمره بالمعروف وأن أنهاه عن المنكر، ولا يصح لي أن أقول: اختصاصي أن أدرس رياضيات أو اجتماعيات، ولا شغل لي بغير ذلك! حتى لو كنتَ مدرّس رياضيات أو مدرّس كيمياء أو مدرّس غير ذلك فإن ذلك لا ينفعك، وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط عنك.

يجب أن تبحث عن هذا الشخص. نحن لا نقول ك: اضربه! لا، بل ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. ادعهم إلى المعروف وانههم عن المنكر بالأسلوب الحسن المحبّب المؤدّب. الرسول الأعظم يقول: ”كيف بكم إذا فسق شبابكم، وفسدت نساؤكم، وتركتم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قيل: أيحصل ذلك يا رسول الله؟ قال: بلى، وترون المنكر معروفًا والمعروف منكرًا“. تتبدّل الصورة وتتغيّر بحيث يقال للمتدين مثلاً: ما بك؟! لماذا أنت متخلّف؟! لماذا تربّي لحيتك وكأن شكلك كذا؟! احلقها لتصبح لطيفًا نظيفًا!.. وكأنما النظافة إنما تتحقق بحلق اللحية.

أو يقال له مثلاً: لماذا تذهب كل يوم إلى المأتم والمسجد؟! أليس عندك شغل سوى المأتم والمسجد؟! يا أخي تفتّح وانطلق في الحياة! اذهب يومًا إلى الديوانية، وآخر إلى البحر، وفي يوم ثالث اذهب في رحلة مع الشباب... وهكذا، بدلاً من الذهاب إلى المسجد والمأتم كل يوم! لماذا تضيّع أوقاتك وشبابك؟! إذا ذهب شبابك فأنى له أن يرجع؟! إذا ذهب الشباب فإنه لا يرجع. ”وترون المنكر معروفًا والمعروف منكرًا“.

وورد أيضًا في الرواية: ”مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، أو يسلّطن عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم“. إذا تسلّط الأشرار فدعاء الأخيار لا يستجاب؛ لأن المجتمع قصّر في مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لنستفد من تاريخ أهل البيت ومن حركتهم، وهي حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الحسين - الرجل العظيم الذي طبّق مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأجلى صورها - قال: ”إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر“.

أهمية هدوء العلاقة الزوجية في تربية الأبناء
علاقة أهل البيت بالكتاب المكنون