نص الشريط
من مظاهر سوء الظن بالله تعالى
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 16/1/1418 هـ
مرات العرض: 3583
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1597)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ

هناك عدة مظاهر لسوء الظن بالله تبارك وتعالى وهذه المظاهر منتشرة في مجتمعاتنا حتى في صفوف المؤمنين والمتدينين:

المظهر الأول من مظاهر سوء الظن بالله تعالى:

هناك كثير من الناس وحتى بعض المؤمنين يطرح هذا السؤال، لماذا الله خلقنا؟ لماذا خلقنا وعرضنا للهموم والغموم والمصائب والابتلاءات، فلو أنه لم يخلقنا ولم يوجدنا من الأساس لكان ذلك خيرا وأفضل لنا، الجواب على هذا السؤال يتوقف على بيان أمرين:

الأمر الأول:

الفلاسفة يقولون: الكامل الناقص يستكمل بغايته، والفاعل الكامل غايته ما يناسب ذاته.

مثلا أنا عندما أعطي ولدي بعض الأموال، أو الهدايا، غايتي من هذه الهدايا هو بقاء العلاقة النفسية بيني وبين ولدي، فهذه الغاية تخدم ولدي وتخدمني أيضا، يعني أنني محتاج لهذه الغاية، أنا عندما أعتني بولدي وأغدق عليه من النعم ومن الأموال، هدفي هو بقاء العلاقة بيني وبينه، هذه الغاية أنا أحتاج إليها، وولدي يحتاج إليها، فهذه الغاية تكملنا معا، تكملني وتكمل ولدي، أنا في هذا الفعل أعتبر فاعل ناقص، لأنني محتاج إلى هذا العمل وإلى الهدف من هذا العمل.

وتارة لا، أنا أمشي في الشارع وأرى إنسان غريب ليس عنده أي شخص ليساعده، وأنا لست بحاجة لمساعدته ولأن أعطيه، لو أعطيته شيئا، هذا الإعطاء لن يشكل لي علاقة بيني وبينه، ولست محتاجا لهذه العلاقة إطلاقا، هذا الشخص الغريب عندما أراه في الشارع وأحسن إليه وأتصدق عليه وأعطيه بعض المساعدات، لا لأي غرض ولا لأي حاجة، هذا الفعل إحسان محض فقط ليس إلا ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فأنا في هذا العمل لست محتاجا له لست بحاجة إلى أن أساعد هذا الغريب، قد يكون هذا المحتاج كافر ومساعدته ليس فيها ثواب، ولكن مع ذلك أنا أساعده فقط لأجل المساعدة ليس إلا، هذا العمل عندما أقوم به أسمى فاعل كامل، لأنني لست بحاجة إلى هذا العمل.

الفاعل الناقص: هو الذي يعمل العمل وهو محتاج إليه.

الفاعل الكامل: هو الذي يعمل العمل بدون حاجة إليه.

الفاعل الناقص عندما يقول بالعمل هدفه من العمل تكميل نفسه، أما الفاعل الكامل عندما يقوم بالعمل ليس هدفه من العمل تكميل نفسه لأنه غير محتاج إلى العمل، وإنما يقول بالعمل لأن العمل يتناسب مع ذاته، ذاته ذات كاملة فيتناسب مع ذاته الكاملة أن يعمل أعمالا تتناسب مع الكمال وتنسجم معه.

عندما نطبق ذلك على الباري تبارك وتعالى، الله عندما خلق هذا الكون، وخلق هذا الإنسان، هو ليس بحاجة لهذا الخلق ولهذا الإنسان، خلق هذا الوجود لا لحاجة منه إليه، وجود هذا الكون لا يكمله تبارك وتعالى، ولا يؤدي له أي كمال ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ الله ليس بحاجة إلى هذا الوجود، هو الخالق المطلق، الحي المطلق، والعالم المطلق، سواء وجد هذا الكون أم لم يوجد.

إذن عندما خلق هذا الوجود ماهي غايته؟ لو كان فاعل ناقص لكان خلقه محتاج إليه، كما أنني أساعد ولدي لأني محتاج إلى مساعدته لكي تبقى العلاقة بيني وبينه، لكن الله تبارك وتعالى هو الغني المطلق، فعندما يخلق الكون والوجود ماهي غايته؟ لابد أن تكون غايته تتناسب مع ذاته تبارك وتعالى، بما أنه فاعل كامل، الفاعل الكامل فعله دائما يتناسب وينسجم مع ذاته، الله تبارك وتعالى عين الكمال، محض الكمال، ذات الكمال، الله تبارك وتعالى لا يوجد نقص في وجوده من أي جهة، من جهة علمه، قدرته، ذاته ووجوده عين الكمال تبارك وتعالى، إذن هو فاعل كامل، هو غني مطلق، لماذا خلق الوجود؟

خلق الوجود لأجل الكمال، لأن ذاته عين الكمال، فخلق الوجود لأجل ما يناسب وينسجم مع ذاته، نظير الإنسان مثلا، كل يجود بما يجد، كل إنسان يعمل العمل الذي يتناسب مع ذاته، الله تبارك وتعالى عين الكمال، وذات الكمال، إذن خلق هذا الوجود بأكمله من أجل الكمال، من أجل وصول هذا الوجود إلى الكمال.

كيف يصل الوجود إلى الكمال؟

أنت تقرأ في القرآن الكريم ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ العبادة طريق إلى الهدف، الإنسان خلق لكي يصل إلى الكمال، وليس المقصود بالكمال هو الكمال المادي، فالكمال المادي ليس له قيمة، أن أعيش في أفضل قصر، وأنام على أفضل فراش، هذا كله كمال مادي يتبخر وينتهي، الكمال الذي خلقت لأجله ليس الكمال المادي، بل الكمال الروحي، أنا خلقت ولي عمر طويل، ليس عمري أربعين أو خمسين سنة، عمر الإنسان ملايين السنين، ما تعيشه في الدنيا ليس العمر، بل هذا مقدمة للعمر، عمر الإنسان هو ببقائه بعد موته، وليس في حياته، هذه الحياة الدنيا ذرة من عمر الإنسان، خمسين أو أربعين أو ستين سنة، أي عمر يعيشه الإنسان، هذا المقدار الذي يعيشه الإنسان في الدنيا ذرة من عمره، ذرة من مسيرته.

إذن الإنسان خلق للكمال مع ما يتناسب مع عمره وخطه الطويل، والكمال الذي يتناسب مع العمر الطويل هو الكمال الروحي، وإلا الكمال المادي ينتهي بانتهاء الدنيا، فالكمال الذي يبقى مصاحب للإنسان مدة عمره وبقاءه في عالم البرزخ، وفي عالم الآخرة، في الجنة، هو الكمال الروحي، ولأجله خلق الإنسان، الله خلقك وهو غير محتاج لخلقك أبدا، غني عن خلقك، وإنما خلقك تفضلا وجودا وكرما منه، خلق الإنسان لكي يصل هذا الإنسان إلى الكمال الروحي، لا إلى الكمال المادي، الإمام أمير المؤمنين : ”ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه“ ويقول : ”لعمر الله إن هذا هو الثوب الذي جئت به إليكم من المدينة“ ”ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه“ الإمام علي لم يكن يرى للكمال المادي قيمة، المدار على الكمال هو المدار الروحي، النفسي، هو الذي يصاحب الإنسان ويبقى معه في القبر، وفي البرزخ، ويوم القيامة، وفي الجنة.

خلق الإنسان من أجل الكمال الروحي، وبما أن العبادة طريق إلى الكمال الروحي، لذلك قال الآية: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ يعني ما خلقتهم إلا ليبلغوا طريق الكمال، وطريق الكمال هو العبادة، ﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ لم يخلق الله البشر ليختلفوا، بل «لذلك» إشارة إلى الرحمة، يعني أنه خلقهم للرحمة، وليس للخلاف خلقهم، الإنسان خلق لكي يصل إلى الرحمة الإلهية، ولكي يكون مشمولا للرحمة الإلهية، والرحمة الإلهية هي أن ينعم الإنسان بالكمال الروحي، أن ينعم الإنسان بلذة القرب من الله تبارك وتعالى، بلذة الحوار، والمناجاة، والإقبال على الله تبارك وتعالى، الإنسان الذي يشعر في قلبه بلذة العبادة، بلذة الصلاة، القرآن، المسجد، المأتم، بلذة الطاعة والقربى، هو الذي يشعر بلذة الكمال الروحي، وهذا من أعظم أنواع الرحمة الإلهية.

ولذلك الله تبارك وتعالى خلق الكون والإنسان لكي يصل إلى الكمال - الكمال الروحي - والعبادة هي طريق الكمال الروحي، لكن الإنسان في مسيرته نحو الكمال يحتاج إلى قدوة، العبادة من أين نأخذها؟ نأخذها من أبرز نماذج الكمال، ومن أوضح مصاديق الكمال، ولذلك الحديث القدسي يقول: ”ما خلقت سماء مبنية، ولا أرضا مدحية، ولا قمرا منيرا، ولا شمسا مضيئة، ولا فلكا يسري، ولا بحرا يجري، إلا لأجل هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء، قيل: ومن تحت الكساء؟ قال: هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها“

من بعض معاني هذا الحديث أن الله تعالى ما خلق الكون إلا لأجل الكمال، هذا الكون كله يتحرك نحو الكمال ﴿رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى هداه للكمال، كل شيء في هذا الكون يتحرك نحو الكمال، والإنسان من جملة الكون، هذا الإنسان أيضا يتحرك نحو الكمال الروحي.

بما أن الكون يسير نحو الكمال، فأكمل موجود في هذا الكون، وأعظم شخص يمثل ويجسد الكمال، هم هؤلاء الخمسة، بما أن أعظم مصاديق الكمال وأبرز نماذج الكمال هم هؤلاء الخمسة، لذلك ما خلقت الكون إلا لأجلهم، لأني ما خلقت الكون إلا لأجل الكمال، وهؤلاء هم الكمال الحقيقي، ولذلك يقول: ”ما خلقت الكون إلا لأجل هؤلاء الخمسة“.

فالإنسان خلق لأجل الكمال، وطريق الكمال هو العبادة، والعبادة الموصلة إلى الكمال، هي العبادة والطاعة المأخوذة عن هؤلاء، أعرف الناس بطرق الكمال، هم أهل الكمال، أعرف الناس بالوصول للكمال، هم من بلغوا الكمال، ألا وهم بيت أهل الرحمة، فالإنسان خلق لكي يصل إلى الكمال الروحي، والكمال الروحي يحتاج إلى العبادة، والعبادة هي عبادة هؤلاء، عبادة علي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة المعصومين من ذرية الحسين صلوات الله عليهم أجمعين.

إذا الإنسان يقول: لماذا أنا خلقت، ما الهدف من وجودي؟ خلقني الله وابتليت بالهموم والغموم، فلو لم يخلقني لكان أفضل، لأستريح من هذه الهموم والمشاكل، نقول لك: خلقك الله لكي تصل إلى الكمال، وأنت باستطاعتك أن تصل إلى الكمال، إذا سلكت طرق الكمال، واتبعت أهل الكمال.

الأمر الثاني:

البعض يقول، فليعطنا الكمال دفعة واحدة فنرتاح من هذه المسيرة الطويلة، التهجد والعبادة والأخذ والرد، بما أنه خلقنا للكمال، الكمال لا يكون إلا بالحركة كما يذكر الفلاسفة، الكمال هو الخروج من القوة إلى الفعل، الكمال يتوقف على الحركة، مثلا: أنا آتي إلى إنسان يدرس في المرحلة الثانوية وأعطيه شهادة في علم الطب، هل يستفيد من هذه الشهادة شيء؟ لن يستفيد شيء، لأن هذه الشهادة نوع من الكمال يستحيل أن يصل إليه الإنسان إلا بالتدريج، لا يمكن أن يصل إليه دفعة واحدة، هذه الشهادة درجة من الكمال يستحيل على الإنسان العادي أن يصل إليها إلا بالتدريج وبالحركة، كذلك الكمال الروحي، أنت تريد أن تصل إلى الكمال، وهذا الكمال لا يصل إليك إلا على نحو التدريج، بالعبادة، التهجد، الدعاء، القرب من الله، مجاهدة النفس، إلى أن تحصل على الكمال ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا

فلو أعطيت درجة الكمال دفعة واحدة فلن تستفيد منها لأنك لابد أن تمر بالمراحل التي تؤهلك للوصول إلى هذا الكمال، وتقربك من درجة الكمال، إذن الكمال يحتاج إلى نوع من الحركة التصاعدية والتكاملية، وإلا لا يستفيد الإنسان شيئا من الكمال ما لم يمر بهذه الحركة، ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”إن الله خلق في البهائم شهوة بلا عقل، وخلق في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب في الإنسان عقلا وشهوة، فمن غلب عقله شهوته، فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله، فهو أدنى من البهائم“

أنت لابد أن تسلك طريق الصراع بين النفس وبين العقل، بين الخير وبين الشر، بين الرذيلة وبين الفضيلة، إلى أن تصل إلى الكمال الروحي بجدارة وباستحقاق، وحينئذ تكون قد بلغت هدفك، فليس الهدف من وجودنا في هذه الحياة هو مجرد أننا نصلي ونصوم فقط ويسقط العقاب عننا وندخل الجنة وتنتهي.

يقول الإمام علي : ”ركعة لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها“ يعني أن الإمام لا يطلب الجنة، بل يطلب الكمال الروحي، والكمال الروحي بالمناجاة مع الله، بالقرب من الله، دخلت الجنة أم لم أدخلها، فليس غرضي الجنة، ليس الهدف هو النعم التي جعلها الله في الجنان لعباده الصالحين، حور وولدان وقصور وجنان وحدائق وأنهار وحياة ولذة، ليس هذا هو الغرض، وليس هذا هو الهدف، علي يقول هدفي هو حب الله، القرب من الله، الكمال الروحي، أن تكون نفسي نفسا كاملة، بأخلاقها، بفضائلها، بقيمها، بمثلها، هذا هو هدفي، وهذا هو الهدف الذي خلقت من أجله، وأما النعم المادية فهذا تفضل من الله تبارك وتعالى، يتفضل به على من أطاعه في الآخرة، الهدف هو الكمال الروحي، وبما أن الصلاة من أوضح مظاهر الكمال الروحي، لأنها قرب من الله، ومناجاة مع الله، تربي النفس على حب الله والتعلق به، لذلك علي يقول: ”ركعة لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها“ الإمام يركز على الهدف الحقيقي من وجود الإنسان، ألا وهو الكمال الروحي.

المظهر الثاني من مظاهر سوء الظن بالله تعالى:

كثير من الناس حتى بعض المتدينين يطرح هذا السؤال، لماذا خلق الله الشرور؟ يخلقنا ويخلق معنا زلازل وبراكين وأمراض وحشرات وما أشبه ذلك، لماذا لا يخلقنا في حياة خالية من الشرور والآفات والمشاكل، حتى نعيش حياة مرفهة، هنيئة، لماذا يخلقنا ويخلق معنا هذه الشرور، ما الهدف منها؟

الفلاسفة يقولون: الوجود كله خير، لا يوجد شيء في الوجود شر، معنى هذا أن الشرع أمر مثلي وليس أمر حقيقي، مثلا: أنت تعتبر الذبابة شر، ولكن لو تأملت الذبابة، فهي طاقة من الطاقات الموجودة في هذا الكون، هذه الذبابة طاقة من طاقات الوجود، وهذه الطاقة نوع من الخير، لأنها نوع من الوجود، الذبابة خير لنفسها، وخير لمثلها، وخير لبعض النباتات، وخير لبعض الموجودات، بما أن الذبابة طاقة من الوجود، ففيها خير ومنفعة، إنما الذبابة لا تنسجم مع بعض خلايا جسدك، يحصل الشر، الشر لم يحصل من وجود الذبابة، وإنما حصل نتيجة عدم الانسجام بين بعض خلايا الجسد وبين الذبابة، الشر أمر نسبي يحصل نتيجة عدم الانسجام بين هذا الموجود وبين جسدك.

مثلا: عصير البرتقال، يقال عنه أنه عصير عذب ولذيذ، وهو خير، وفي بعض الأحيان يكون هذا العصير شرا عليك، لأنه في بعض الظروف، وفي بعض الأحيان، وفي بعض الملابسات، لا ينسجم هذا العصير مع خلايا بدنك، ولأنه لا ينسجم ينتج الشر، فالشر أمر نسبي يحصل نتيجة عدم الانسجام بين موجود وبين موجود آخر، وإلا فكل موجود في حد ذاته خير.

الشر ليس أمر خلقة الله تبارك وتعالى، إنما الشر يحصل نتيجة عدم الانسجام بين خلايا جسم وبين خلايا جسم آخر، بين موجود وموجود آخر، لا أن الشر أمر حقيقي خلقه الله، وإلا الذبابة في حد ذاتها خير، الإنسان في حد ذاته خير، لكن عدم الانسجام في بعض الأحيان يولد الشر.

حتى الصديق أحيانا يكون خير وأحيان يكون شر، نتيجة عدم الانسجام، ولذلك يقول الشاعر:

عدوك  من صديقك iiمستفاد
فإن   الداء  أكثر  ما  iiتراه
  فلا  تستكثرن من iiالصحاب
يحول من الطعام أو الشراب

إذن المقصود أن الكون ليس فيه شر، كل الكون طاقات، خيرات، خلقه الله لأجل الإنسان ولأجل كماله، في بعض الآيات القرآنية تركز على هذا المعنى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا خلقت السماوات والأرض من أجل الإنسان بما فيها من خيرات، ومعادن، وكنوز ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْض زِينَة لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴿لَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً كل الكون خلق لأجل الإنسان، لأجل أن يستثمره استثمارا صالحا، ولأجل أن يستعمله عملا صالحا، ولأجل أن يبلغ به الكمال الذي هيأه الله له، فالكون كله خير، ما خلق فيه الشر، وإنما ينتج الشر نتيجة عدم الانسجام بين موجودين من هذا الكون.

وأما الشيطان خلقه الله لكي يحرك الإنسان نحو الفضيلة، وجود الشيطان الذي يبث الإغراءات والوساوس والسموم في نفس الإنسان، هذا النوع من الحركة التي يقوم بها الشيطان تحتاج إلى حركة مقابلة، ألا وهي حركة العقل والتفكير، الله تبارك وتعالى عندما أبقى الشيطان إلى يوم القيامة، ما أبقاه ظلما للإتسان، وإنما أبقاه لكي يعيش الإنسان حركة الصراع بين الفضيلة والرذيلة، بين الفسق وبين الإيمان، لكي يصل الإنسان إلى الكمال الروحي والنفسي بجدارة وبكفاءة لأنه جاهد نفسه الأمارة بالسوء.

انتهى المسلمون من بعض الغزوات، وجاؤوا إلى الرسول الأعظم قالوا: يا رسول الله، انتهينا من الجهاد، قال: ”انتهيتم من الجهاد الأصغر، وبقي عليكم الجهاد الأكبر“ قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: ”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه، وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي“.

المظهر الثالث من مظاهر سوء الظن بالله تعالى:

بعض المتدينين يقولون: نحن ندعو الله ولكن لا يستجيب لنا، كلما دعونا لم يستجب دعاؤنا، ندعو ونتوسل ونصلي ونتضرع ونلح ولا يستجاب دعاؤنا لماذا؟ أليس الله تبارك وتعالى يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ وقال تعالى في كتابه الكريم فيما يختص بالدعاء: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ هناك كثير من الأسباب لعدم استجابة الدعاء:

السبب الأول: الاستهانة بالذنوب.

يدعو الله ويلح عليه بالدعاء وبالاستجابة له، يذهب إلى المسجد ويستمع إلى الدعاء يبكي ويتضرع، لكنه بمجرد أن يخرج من هذه الأجواء الروحانية والعرفانية، يستمع إلى موسيقى مطربة، ينظر إلى فتاة أجنبية، أو يرى أبناءه يستمعون إلى الغناء ولا ينهاهم، أو يرى زوجته لا تلتزم بالحجاب لا ينهاها، ولا يأمرها بمعروف ولا ينهاها عن منكر، تدعو وتتضرع ثم تعود للمعصية،

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا   ولم      يسمر     بمكة     iiسامر

ولذلك تقرأ في دعاء كميل: «اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء» اصرارنا للمعاصي واستحقارنا للذنوب ”أشد الذنوب ما استهان به صاحبه“ فالإصرار على الذنوب مانع من استجابة الدعاء.

السبب الثاني: التلاعب بالنعم.

التلاعب بالنعم، بالأموال، بالثروات، صرف الأموال على شراء أشرطة الغناء، صرف الأموال والنعم في المعاصي، فالتلاعب في الأموال يؤدي إلى زوالها ويمنع استجابة الدعاء ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ قوم من أهل إسرائيل كانوا يسمون أهل الثرثار، لأنه كان عندهم نهر فياض، يفيض على وديانهم فتمتلئ بالخضرة والبركات والفاكهة، وكان هؤلاء يأخذون لباب الحنطة والباقي ينجون به أولادهم، فليس هناك فرق بيننا وبينهم، فنحن نرمي النعمة في القمامة مع الأوساخ والجيف، فمر عليهم أحد الأنبياء وعظهم ونصحهم، قال: يا قوم اتقوا الله، قالوا: بالجوع تخوفنا؟ مادام هذا النهر الثرثار عندنا فإننا لا نخاف الجوع، وعندما أراد الله أن يضربهم تراجع النهر شيئا فشيئا، وبدا ينضب ماؤه شيئا فشيئا، إلى أن أجدب وليس فيه قطرة من الماء، فصاروا يقتسمون الأطعمة بينهم بالسوية، فنفذت الأطعمة، فماذا يصنعون؟ لجأوا إلى قماماتهم وأوساخهم، صاروا يأخذون ما ينجون به أطفالهم ويقتسمونه ليأكلوه، التلاعب بالنعم يؤدي إلى زوالها، ويؤدي إلى منع الدعاء ومنع استجابته.

السبب الثالث: عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ورد عن الرسول الأعظم : ”لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو يسلط عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم“ حتى لو كان الذي يدعو مؤمنا لا يستجاب له، لأن المجتمع قصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التقاعس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى منع الدعاء ومنع استجابته ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وقد لا يستجاب دعاء الإنسان في نفس الوقت، لكن الله يمهل ولا يهمل، أحيانا الله تبارك وتعالى لا يستجيب لك دعاءك في نفس الوقت، وإنما يستجيبه بعد زمن طويل، لامتحانك وابتلائك ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ أحيانا الله لا يستجيب دعاء الإنسان لمصلحة، المصلحة تقتضي أن تؤخر استجابة الدعاء، أن يصبر، أن يمتحن ويبتلى هذا الإنسان، فلا يستجاب الدعاء إلا بعد فترة طويلة.

الوصول إلى اليقين بين العقل ورؤية الملكوت
القرآن الكريم بين الإحكام والتشابه