نص الشريط
العدالة في سيرة أهل البيت بين الفكر والتطبيق
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 8/2/1425 هـ
مرات العرض: 3437
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (869)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة من الآيات التي حثّت وأكّدت على ضرورة إشاعة العدل وإقامته، وحديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في ثلاث نقاط:

  • في أنَّ ضرورة العدل قرار فطري أم قرار اجتماعي.
  • وفي الميزان والمعيار الذي على أساسه يحكم العقل بضرورة العدل.
  • وفي خط العدالة المتجسّد في سيرة أهل البيت فكرًا وتطبيقًا.
النقطة الأولى: هل ضرورة العدل قرار فطري أم اجتماعي؟

هناك بحث تناوله علماء الكلام، وتناوله علماء الأصول أيضًا، وهو أن ضرورة العدل.. يعني العقل عندما يحكم بأن العدل ضروري، لا بد من العدل بين أبناء المجتمع، العقل عندما يحكم بأن العدل أمر ضروري بين أبناء المجتمع، هذا الحكم من أين أتى؟ هل العقل يحكم به بفطرته؟ أم العقل يحكم به نتيجة المواثيق الاجتماعية، ونتيجة كون الإنسان اجتماعيًا يعيش بين ظهراني المجتمع، فيتأثر بالقرارات الاجتماعية؟ نحن أمامنا نظريتان:

النظرية الأولى: نظرية القرار الفطري.

هذه النظرية هي التي تبناها الكثير من علمائها، منهم سيدنا الخوئي، والسيد الصدر، وغيرهم «قدس الله أسرارهم»، وهي أن حكم العقل بضرورة العدل نابعٌ من فطرة العقل، العقل الفطري، العقل الذي لم يتأثر بالرواسب، العقل الذي لم يتأثر بالمخزونات البيئية ولا الموروثات الأسرية، العقل المجرّد عن جميع الشوائب، وعن جميع الرواسب، هذا العقل وحده يحكم بأن العدل شيء ضروري، لا بد منه، من دون حاجة أن يعلمه أحد، أو أن يربيه أحد على هذه المقولة.

وبعبارة صريحة: لو أن آدم عاش وحده، ولم يكن عنده أي مجتمع، افترض أن الله خلق آدم ولم يخلق معه حواء ولا مجتمعًا، لو أن آدم عاش في الأدغال أو في الغابات أو في المنارات، لرأى أن فطرته ووجدانه يحكمان بأن العدل أمر ضروري، إذن، ضرورة العدل وُلِدَت مع ولادة الفطرة، ومع ولادة الإنسان، وُلِد الإنسان وهو ينادي: لا بد من العدل، العدل أمر ضروري، العدل يعني إعطاء كل ذي حق حقه. إذن، هذه الآيات: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، هذه كلها مؤيدة لنداء وجداني فطري في داخل الإنسان، وهو أن العدل أمر ضروري.

النظرية الثانية: نظرية القرار الاجتماعي.

هذه النظرية يراها أيضًا بعض علمائنا، كالمحقق الأصفهاني أستاذ السيد الخوئي، هذا أيضًا يرى أن المسألة قرار اجتماعي وليست قرارًا فطريًا، أي أن العقل عندما يقول: العدل ضروري، فهذه الرؤية وهذه النظرة استقاها العقل واكتسبها من القرار الاجتماعي، ومن الميثاق الاجتماعي، ومن خلال التباني الاجتماعي، وحتى أشرح لك هذه النظرية بشكل واضح أقول: العقل أدرك أمرين:

الأمر الأول: أدرك أن هناك مجتمعًا، والمجتمع هو عبارة عن علاقتين: علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، لأن كلا الطرفين يعيشان تحت ظل الطبيعة، يعيشان تحت إطار الطبيعة، فلكل إنسان علاقتان: علاقته بالإنسان الآخر، وعلاقته بالبيئة وبالطبيعة التي تحتضنه، وهاتان العلاقتان تشكّلان شيئًا اسمه المجتمع، فالمجتمع يتشكّل من هاتين العلاقتين: علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة وبالبيئة.

الأمر الثاني: أدرك العقل أن هذه التشكيلة المسماة بالمجتمع لا يمكن أن تبقى، ولا يمكن أن تستمر، إلا إذا كان هناك نظام حقوق، بدون نظام حقوق هذه التشكيلة لا تستمر، أنا إما أن أطغى عليك وإما أن تطغى عليَّ، إما أن أقضي على الطبيعة وإما أن تقضي عليَّ، لا يمكن أن تبقى هذه التشكيلة، بحيث أبقى على علاقة معك، وتبقى على علاقة معي، ونحن كلانا نبقى على علاقة مع الأرض والطبيعة، لا يمكن لهذه العلاقات أن تبقى وأن تستمر إلا بنظام، إذا لم يوجد نظام يسمى نظامًا حقوقيًا فهذه العلاقات لا تبقى، مصير هذه التشكيلة المسماة بالمجتمع إلى الزوال، إما أن أقضي على الإنسان الآخر أو أقضي على الطبيعة، فلا بد من نظام حقوقي.

أنا لي حقوق عليك، وأنت لك حقوق عليَّ، وأنا لي حقوق على الطبيعة أن تعطيني من خيرها ونتاجها، وهي أيضًا لها حقوق عليَّ، إذا خلقنا نظامًا حقوقيًا بيني وبين الإنسان الآخر، بيني وبين الطبيعة، نتيجة هذا النظام الحقوقي سوف يبقى المجتمع، فالمجتمع يبقى إذا وُجِد نظامٌ حقوقيٌ، وإذا لم يوجَد نظامٌ المجتمع يزول، وهذا ما يعبّر عنه الفقهاء بضرورة حفظ النظام، الفقهاء يقولون: يجب حفظ النظام، هل المقصود نظام البلدية أو نظام المدرسة؟! لا، المقصود بوجوب حفظ النظام نظام المجتمع، يجب على كل إنسان وجوبًا عقليًا ووجوبًا شرعيًا أن يراعي الحقوق التي من خلالها يبقى المجتمع حيًا، يبقى المجتمع متجدّدًا، يبقى المجتمع مستمرًا، بقاء الحياة الاجتماعية على الأرض تحتاج إلى نظام حقوقي، فالعقل يقول: أوجدوا النظام الحقوقي، وتبنوا هذا النظام الحقوقي، وسيروا على هذا النظام الحقوقي، سوف يبقى المجتمع حيًا ومتجدّدًا.

إذن، العقل يدرك أمرين: الأمر الأول: أن العقل يدرك أن هناك مجتمعًا، والأمر الثاني: أن هذا المجتمع لا يبقى إلا بنظام، فلو أن العقل ما أدرك وجود مجتمع، لأنه خُلِق وحده، آدم خلقه الله في غابة وحده، وعاش إلى أن انقرض لوحده مثلًا، هل كان سيحكم بضرورة وجود نظام حقوقي؟ لا؛ لأنه ما أدرك أن هناك مجتمعًا، ولما لم يدرك أن هناك مجتمعًا، لم يدرك ضرورة وجود نظام حقوقي لبقاء المجتمع، لكن لأن آدم وُلِد ووُلِد معه المجتمع - حواء وأبناءهما والنسل البشري على الأرض - أدرك آدم أن هناك مجتمعًا، فكيف يبقى هذا المجتمع ستة ملايين سنة مثلًا؟ لا يمكن أن يبقى إلا بنظام حقوقي، لي حقوق وعليَّ حقوق، لك حقوق وعليك حقوق.

كذلك أيضًا الأرض والطبيعة التي تزودنا بخيراتها وبركاتها، لها حقوق وعليها حقوق، ونتيجة النظام الحقوق يقول العقل: الآن أقول: العدل ضروري، أي أن تطبيق النظام الحقوقي كما أسّس، كما قُرِّر، العقل يقول: لا بد من العدل، يعني: لا بد من تطبيق النظام الحقوقي، وإلا لانقرض المجتمع، وزالت وتلاشت الحياة الاجتماعية على الأرض. إذن، المسألة مسألة قرار استوحاه العقل من وجود المجتمع، وليس قرارًا سابقًا على وجود المجتمع، حتى يكون قرارًا فطريًا.

نحن الآن لسنا في مقام المناقشة والموازنة بين النظريتين؛ لأن هذا يحتاج لمحاضرة لوحدها، نحن لسنا في مقام الموازنة بين النظرية الأولى التي تقول: ضرورة العقل قرار عقلي فطري، وبين النظرية الثانية القائلة: ضرورة العدل قرار اجتماعي، يعني اكتسبه العقل من المواثيق الاجتماعية، الموازنة بين النظريتين نتركها إلى ليلة أخرى، إلى محاضرة أخرى. على كل حال، النصوص أكّدت على هذا الأمر، ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.

النقطة الثانية: ما هو الميزان الذي على أساسه يُوضَع النظام الحقوقي؟

على أي أساس ننشئ النظام الحقوقي؟ نحن نحتاج إلى نظام حقوقي، لا يمكن أن أبقى أنا وأنت على الأرض إلا إذا كان بيننا نظام، وإذا لم يكن بيننا نظام فإما أن أقضي عليك أو تقضي عليَّ، طبيعة الإنسان هكذا، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، إذا امتلك الإنسان وسائل الإبادة أباد الآخر، إذا امتلك الإنسان وسائل القوة سحق الآخر، هذا طبيعي في الإنسان، حتى أبقى أنا وأنت كلانا يتزود من الطبيعة، ويستثمرها، ويستفيد منها، لا بد من وجود نظام بيننا، يحفظ لي حقي، ويحفظ لك حقك، لكن على أي أساس نخلق هذا النظام؟ على أي أساس نصنع هذا النظام الذي يحفظ للأطراف الثلاثة - الإنسان والإنسان الآخر والطبيعة - حقوقها؟ على أي أساس نوجد هذا النظام؟

في علم فلسفة الحقوق، هذا علم تابع لعلم القانون، يركّز على هذا البحث: أساس النظام الحقوقي يبتني على التزاوج بين العطاء والهدف، بين علاقة الإنسان بالعطاء، وعلاقة الإنسان بالهدف. مثلًا: نحن نأتي لهذه الأرض، وهذه الأرض أرض جرداء، أرض إذا نظرنا إليه نظرة أولية رأيناها أرضًا ميتة، هذه الأرض ما هو الهدف من وجودها؟ لا بد من أن نحدّد الهدف، نقول: الهدف من وجودها: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، الهدف هو استعمار الأرض، يعني استثمارها، استخراج كنوزها، استخراج طاقاتها، استخراج بركاتها، الهدف من الأرض استثمارها. ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ يعني تحركوا واستثمروا الأرض، حقّقوا الهدف من وجود الطبيعة.

هذا الهدف يجعل للأرض حقًا علينا، ما هو الحق؟ حق الاستثمار، من حقها علينا أن نستثمرها، ربما يقول إنسان: من أين أتى هذا الحق؟ هذا الإنسان منبع الحقوق علي بن أبي طالب يقول: ”إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم“ يعني هذا الحيوان له حقوق عليكم، وهذه البقعة أيضًا لها حقوق عليكم، الإمام أمير المؤمنين يكتب لمالك الأشتر واليه على مصر: ”هذا ما عهد به عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى واليه مالك الأشتر حين ولاه مصر: جباية خراجها، جهاد عدوها، استصلاح أرضها، عمارة بلادها“، يعني أنت مسؤول عن العمارة، لا تجلس في أرض مصر وتأخذ كنوزها من دون أن تعمرها، بل من حق مصر عليك أن تعمرها، وأن تستخرج كنوزها. إذن، الهدف هنا حدّد الحق، لولا أن الهدف من وجود الأرض هو استثمارها، ما كان للأرض أي حق.

إذن، من حق الأرض استعمارها واستثمارها. فهمنا هذا، عندما آتي أنا وأحقّق هذا الحق للأرض، أقول: الأرض لها حق عليَّ، وهو أن أستثمرها، فاستثمرتها، أحييت الأرض كلها، عندي أرض جرداء في الصحراء، جئت أنا وأحييتها وزرعتها، ماذا يحدث؟ صار لي حق في الأرض. نتيجة تلبية حق الأرض، صار لي حق فيها، ولذلك ورد في الأحاديث عن النبي محمد : ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“، أنا أحييتها، صار لي. إذن، لاحظنا أن هناك حقًا للأرض، فإذا أعطي هذا الحق للأرض صار لمن أعطى حقٌ في تلك الأرض، هذا معنى التزاوج بين العطاء والهدف. كان الهدف من الأرض استثمارها، هذا الهدف أعطى للأرض حقًا، بمجرد أن أعطي هذا الحق يتولد لي حق نتيجة هذا العطاء. إذن، مقتضى المزاوجة والاندماج بين الهدف والعطاء والجهد تولّد الحقوق، فالحقوق تتولد ببركة هذين الأمرين: الهدف والعطاء.

مثال آخر: هذا الجنين، الجنين في الشهور الأخيرة عندما يقترب من الولادة، من الخروج من بطن أمه، ماذا يحدث؟ ثدي الأم يبدأ بالكبر، يكبر لأنه يختزن مادة غذائية، هو لم يأتِ بعد، ولكن من الآن يبدأ الاستعداد، يبدأ صدر الأم بالاستعداد قبل أن يولد الجنين، يتزود هذا الثدي بالمادة الغذائية لهذا الجنين. وُلِد الجنين، وبدأ الثدي في إفراز هذه المادة الغذائية، إلى أن يقترب الجنين منها. الهدف من وجود هذه المادة الغذائية هو هذا الجنين، وبمقتضى هذا الهدف صار للجنين حقٌ في لبن أمه، صار للجنين حق في ثدي أمه، إذن الحق من أين أتى؟ من الهدف، لولا أن الغذاء خُلِق له، لما كان له حقٌ فيه.

الآن هذه الأم قالت: أنا أعطي هذا الجنين حقه، فغذت هذا الجنين، سقته، أرضعته، بمجرد أن ترضعه يصبح لهذه الأم حق في الإرضاع، ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، يعني الزوجة من حقها أن تطلب من الزوج أجرة على الإرضاع، تقول: أنا لا أرضع إلا بأجر، من حقها ذلك. إذن بالنتيجة: عندنا هدف وعندنا عطاء، الهدف من وجود الغذاء في ثدي الأم هو حياة الجنين، نتيجة هذا الهدف صار للجنين حق في اللبن، فإذا قامت الأم وأعطت هذا الحق للجنين، صار لها حق فيما أعطته. إذن، الحقوق تتولد دائمًا نتيجة المزاوجة بين الهدف والعطاء، الهدف يحدّد حقًا، فمن أعطى ذلك الحق صار له حقٌ في عطائه، تولد له حقٌ في عطائه.

لذلك، نحن ليس أمامنا مشكلة، تقول: والله أنا كيف أوجد نظام الحقوق؟! نظام الحقوق يمكن من خلال مراعاة المزاوجة بين الهدف والعطاء يتوصل العقل إلى اختراع نظام الحقوق، وإذا اخترع نظام الحقوق استطاع من خلاله أن يضمن استمرار المجتمع البشري، وبقاء المجتمع البشري على الأرض.

النقطة الثالثة: العدالة في سيرة أهل البيت .

العقل وحده يدرك أن هناك مجتمعًا، وأن المجتمع يحتاج إلى نظام حقوق، وأن مراعاة هذا النظام أمرٌ ضروريٌ، وإلا انقرض المجتمع، وتلاشى من على سطح الكرة الأرضية، ولكن العقل يحتاج إلى من ينير له الدرب، ومن ينير له الطريق، في الوصول إلى تفاصيل هذه الحقوق وجزئياتها، ومن هنا احتاج العقل إلى الشارع المقدس. الله «تبارك وتعالى» جعل للعقل حججًا تؤيد إدراكه، وتؤيد حكمه، وهذه الحجج على قسمين: هناك وحي صامت، وهناك وحي ناطق، الوحي الصامت هذه التشريعات السماوية التي نزلت من خلال التوراة والإنجيل والزبور والقرآن الكريم، وهناك وحي ناطق، وهم الأنبياء والرسل والأئمة من آل محمد .

إذن، من هنا تكمن الحاجة إلى الإمام. الإمام بفكره ينير لنا الدرب أمام الوصول إلى نظام الحقوق، وبعمله وبسيرته ينير لنا الدرب في تطبيق هذا النظام، نظام الحقوق، تطبيقًا دقيقًا. إذن، العدالة التي ينادي بها العقل، ويراها أمرًا ضروريًا، من أين يستقيها؟ يستقي العقل العدالة فكرًا وتشريعًا من أهل البيت .

لأجل ذلك، الكثير من الأقلام تعرضت لهذه النقطة: أهل البيت ماذا أعطوا للأمة الإسلامية؟! الخلافة الأموية فتحت العالم، ونشرت الإسلام شرقًا وغربًا، وبنت القصور والجسور، وخلقت لنا تراثًا لا زال موجودًا وناصعًا، الخلافة الأموية بنت لنا حضارة، ما زلنا نرى هذه الحضارة وآثارها. الخلافة العباسية أيضًا بنت لنا حضارة من خلال توسيع رقعة الدولة الإسلامية، من خلال بناء القصور والمدارس والجسور التي ما زالت أطلالها تحكيها إلى يومنا هذا، أهل البيت في المقابل ماذا صنعوا؟! ماذا أعطوا؟! ماذا قدّموا في في مقابل هذه المشاريع والإنجازات التي الضخمة التي قامت بها الخلافتان: الأموية والعباسية؟!

مسألة الفتوحات الإسلامية التي يقال بأنها نشرت الإسلام شرقًا وغربًا، الفتوحات الإسلامية حتى نضع النقاط على الحروف، لا بد أن نفرّق بين أمور ثلاثة: الأمر الأول: المرابطة، والأمر الثاني: الدعوة للإسلام، والأمر الثالث: الفتح العسكري.

الأمر الأول: المرابطة.

المرابطة هي أن يبقى المسلمون مرابطين على حدود الإسلام، يحفظون ثغور بلاد المسلمين عن أن ينفذ إليها الكافر المغتصِب، هذا أمر لا يختلف فيه اثنان، حتى أهل البيت نصوا عليه وأكدوا عليه، لا بد من المرابطة، لا بد من أن يبقى المسلمون على وعي، وعلى إدراك، وعلى دراية بحدود بلاد الإسلام، أن يبقوا دائمًا في حالة تأهب، وحالة استعداد للدفاع عن ثغور بلاد الإسلام، وللدفاع عن حدود بلاد المسلمين. ولذلك، ترى في روايات أهل البيت الكثير من الروايات التي تؤكد على ضرورة المرابطة ومدح المرابطين، ونقرأ في الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين دعاءً يدعو فيه للمرابطين، الذين يتعهدون بحفظ ثغور المسلمين، وبلاد المسلمين.

الأمر الثاني: الفتح الإعلامي.

بمعنى الدعوة إلى الإسلام عن طريق الإعلام لا عن طريق السيف، ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، الدعوة إلى الإسلام بالعقل وبالمنطق وبالخلق الرفيع، الدعوة إلى الإسلام أمرٌ مارسه أهل البيت أنفسهم، أهل البيت بأنفسهم مارسوا الدعوة إلى الإسلام من خلال هذه القنوات الثلاث: الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وهذا أيضًا لا خلاف فيه.

الأمر الثالث: الفتح العسكري.

هذا محل الخلاف. فتح بلاد الآخرين بالسيف، هل هذا أمرٌ أيّده أهل البيت، ووقف معه أهل البيت ، أم لا؟ نقول: لا، ولا يوجد دليل واحد، ولا رواية معتبرة وقفوا مع الفتوحات العسكرية، لماذا؟ المسألة ترتبط بعاملين:

أولًا: نزاهة القيادة.

القيادة إذا كانت نزيهة، انعكست نزاهتها على هذه الفتوحات. كلما كانت القيادة نزيهة، عادلة، منصهرة بمبادئ الإسلام، منصهرة بآداب الإسلام، منصهرة بأخلاقيات الإسلام، انعكست أخلاقها وآدابها وانصهارها بالإسلام على جنودها، وعلى جيوشها، وعلى فتوحاتها، وعلى انتشاراتها العسكرية في شرق الأرض وغربها. لذلك، ما دام الإشكال باقيًا على نزاهة القيادة، إذن تبقى التجاوزات الكثيرة، والأخطاء الفادحة، التي من خلالها أريقت دماء، وهُتِكَت حقوقٌ، وضُيِّعَت كثيرٌ من الحقوق والجهود، نتيجة عدم نزاهة الفيادة، وبالتالي هذه تبقى نقطة تأمل، ونقطة سؤال حول الفتوحات الإسلامية.

ثانيًا: الأولوية للإصلاح الداخلي.

أهل البيت يؤمنون أن الفتح العسكري فرع الإصلاح الداخلي، أنت أولًا أصلح البيت من الداخل، ثم انطلق إلى الخارج، المجتمع الإسلامي كان يحتاج إلى إصلاح، المجتمع الإسلامي كان مجتمعًا يعيش حالة من الضياع، وحالة من تبعثر الجهود. كان المجتمع الإسلامي منذ زمن الإمام علي وحتى الأزمنة المتأخرة، كانت الفتوحات على حساب إصلاح المجتمع الإسلامي، كان توسيع الرقعة الإسلامية على حساب إصلاح المجتمع الإسلامي. أهل البيت اهتموا ببناء القاعدة، اهتموا بإصلاح الداخل، اهتموا بترميم البيت الإسلامي، قبل الانطلاق إلى الخارج. إذن، هناك مرحلة سابقة على مرحلة الفتوحات، وهي مرحلة البناء، بناء الأرضية، بناء الرصيد، بناء القاعدة، وهذا ما اهتم به أهل البيت .

لأجل ذلك نقول: ميزان العدالة، ميزان الإصلاح الداخلي، قبل أن ننتقل إلى المرحلة الأخرى، وهي مرحلة الفتوحات، لا بد من أن نرجع إلى الإصلاح الداخلي، وذلك بتطبيق نظام الحقوق. الإصلاح الداخلي، إصلاح البيت الإسلامي، بناء الأرضية الإسلامية، يعتمد على ما ذكرناه في النقطة الثانية، يعتمد على تأسيس نظام الحقوق، وتطبيق هذا النظام، وهذا ما تكفّل به أهل البيت .

أنت عندما تقارن بين هارون الرشيد وموسى بن جعفر الإمام الكاظم ، كيف تكون هذه المقارنة؟! صحيح أن هارون الرشيد ملك الشرق والغرب، ووسّع الرقعة الإسلامية، وقال للغمامة: أينما تسيري يأتيني خراجكِ. وسّع الرقعة الإسلامية شرقًا وغربًا، بنى القصور، بنى حضارة في بغداد، بنى جسورًا، بنى حضارةً ماديةً ضخمةً، بقيت لها بعض الأطلال، وبعض السمات إلى يومنا هذا.

موسى بن جعفر بنى حضارة روحية، موسى بن جعفر ترجم العدالة فكرًا وتطبيقًا، موسى بن جعفر كان وحيًا ناطقًا متحركًا على الأرض، موسى بن جعفر كان هو المنار للإصلاح الداخلي، كان هو المنار لبناء الأرضية التي على هارون الرشيد أن يعنى بها قبل أن يعنى بالانطلاق إلى الخارج. موسى بن جعفر هو الذي سار على درب آبائه، بناء الأرضية، بناء المجتمع الصالح.

وهكذا كان علي، وهكذا كان معاوية. الإنسان عندما يقارن بين معاوية وعلي.. نعم، معاوية أقام فتوحاتٍ، وعلي لم يقم فتوحاتٍ، ولكن عليًا أعطانا نهج البلاغة، ولكن عليًا أعطانا سيرةً مشرقةً بالعدالة والخلق الرفيع والفضيلة والمناقب، ولم يعطنا ذرة منها. دخل عدي بن حاتم على معاوية بن أبي سفيان بعد أن قُتِل الإمام علي، عدي بن حاتم كان له ثلاثة أولاد قُتِلُوا يوم صفين شهداء بين يدي الإمام علي: طارف وطريف وطرفة، وكانوا يسمّون بالطرفات.

لما دخل على معاوية، أراد معاوية أن يهزأ به، فقال: يا عدي، أين الطرفات؟! هو يعلم بأنهم قُتِلُوا يوم صفين، ومع ذلك سأله، فقال له: قُتِلُوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب، قال: ما أنصفك علي! قدّم بنيك وأخّر بنيه. قال: بل أنا ما أنصفت عليًا، إذ قُتِل وأنا بقيتُ حيًا. يعني كان عليَّ أن أفديه بنفسي، ولكنني لم أنصفه، فقُتِل وبقيت حيًا، فرأى معاوية أنه قد خُنِقَ بهذا الكلام، فقال له: حدّثنا عن علي، ماذا كان؟! هل كان عنده فتوحات إسلامية أم لا؟! هل بنى قصورًا وجسورًا أم لا؟! قال: اعفني من ذلك، قال: أبدًا، لا بد من أن تحدثنا عن علي.

قال: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول عدلًا، ويحكم فصلًا، تتفجر الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه، كان يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته. وكان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلّب كفيه على ما مضى، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويدنينا إذا أتيناه، وكنا مع تقريبه لنا، وقربه منا، لا نكلّمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإذا تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدين، ويتحبّب إلى المساكين، لا يطمع القوي في ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأقسم بالله أني رأيته ذات ليلة، وقد مثل في محرابه، وأرخى الليل سدوله وسرباله، ودموعه تتحادر على لحيته، وهو يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه يقول: يا دنيا، إليكِ عني، غري غيري، لقد بنتكِ ثلاثًا لا رجعة لي بعدها. لما سمع معاوية السيرة الناصعة، سيرة العدالة فكرًا وتطبيقًا، بكى وقال: نعم، كان كذلك أبو تراب.

هذا عليٌ يمثل في محرابه، ويكاد يغشى عليه من خشية الله، وهذا شبله الإمام موسى بن جعفر - الذي يناسب ذكرى مولده هذا اليوم - بين صلاة الفجر وبين طلوع الفجر، يسجد سجدة واحدة لا يرفع رأسه منه، ”السلام على صاحب السجدة الطويلة“.

الوحي بين الإلهية والبشرية
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ