نص الشريط
الدين بين الإلهية والبشرية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 15/2/1425 هـ
مرات العرض: 2646
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1125)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة حول أطروحة التفكيك بين الجانب الإلهي والجانب البشري. هناك كثير من الأقلام طرحت هذه النظرية: أن الدين له جانبان: جانب إلهي وجانب بشري، فالجانب المقدّس من الدين هو الجانب الإلهي، وأما الجانب البشري في الدين فهو ليس جانبًا مقدّسًا. ما هو المقصود بهذه النظرية: نظرية التفكيك بين الجانب المقدس، وهو الجانب الإلهي، والجانب غير المقدس، وهو الجانب البشري؟ هنا أطروحتان لهذه النظرية، أتحدّث عن كل أطروحة منهما، والإجابة والمناقشة في الليالي القادمة، الليلة سأعرض الأطروحات فقط.

الأطروحة الأولى: التفكيك بين الوحي الإلهي وما فهمه النبي منه.

هي الأطروحة التي يطرحها أركون في عدة من كتبه، حيث يقول: الدين هو عبارة عن مجموعة من المعاني والمضامين، أوحاها الله «تبارك وتعالى» إلى نبيه محمد ، هذه المعاني لها مرسِل ولها مستقبِل، المرسل هو الله، المستقبِل هو عقل النبي ، هذه المعاني إذا لاحظتها وهي صادرة من الله، الله أصدرها وأرسلها إلى النبي، هذه المعاني قبل أن تصل إلى النبي - أي: قبل أن يستقبلها النبي - هي الدين، هي واقع الدين، هي حقيقة الدين، لأنها معانٍ مطلقةٌ صادرةٌ من عقلٍ مطلق، وهو الله «عز وجل». الله - بحسب تعبيره - عقل مطلق، والمطلق لا يصدر منه إلا المعاني المطلقة التي لا حدود لها، الله «تبارك وتعالى» عقل مطلق، أصدر وأرسل معاني إلى النبي ، هذه المعاني قبل أن تصل إلى النبي هي دين، هي حقيقة الدين، هي الجانب الإلهي، هي الجانب المقدس من الدين.

لما استقبلها النبي استقبل الوحي بعقله، تولّد الجانب البشري من الدين، خرج الدين من الجانب الإلهي إلى الجانب البشري، خرج من المرحلة الدينية إلى المرحلة البشرية عندما استقبله عقل النبي ، وبما أنه خرج من الجانب الإلهي إلى الجانب البشري، فقد خرج من اللامحدود إلى المحدود، صار الدين الآن محدودًا، الدين قبل أن يصل إلى النبي هو مطلق لامحدود، لكن لما استقبله عقل النبي تحوّل من المطلق إلى المحدود، من الإلهي إلى البشري، من المقدس إلى غير المقدس. لماذا؟ لماذا ما استقبله النبي بعقله يعتبر محدودًا، ويعتبر جانبًا بشريًا من الدين؟ يقول: لعاملين:

العامل الأول: بشرية النبي.

إن النبي بشر، والعقل البشري دائمًا محدود، بالنتيجة نبي بشر، وعقله محدود، والمحدود لا يستوعب المطلق، إذن ما استوعبه عقله، وما استقبله عقله، هو جزء من الدين، هو صورة من الدين، ولم يستقبل الدين بحقيقته المطلقة، وبواقعه المطلق، وإنما استقبل صورة وملامح عن هذا الدين، أما الدين بحقيقته المطلقة هو لم يستقبله، لأن عقله محدود، والمحدود لا يستوعب اللامحدود.

العامل الثاني: اللغة.

نحن عندما نرجع إلى علماء النفس، يقولون: أنت كيف تحتفظ؟ أنت الآن تسمع معلومة، وتريد أن تحفظها، كيف تحفظها؟ إنسان يريد أن يخزن معلومة معينة في ذاكرته، كما يخزن المعلومة في الكمبيوتر أو الجهاز الذي بيدهن كيف يخزن المعلومة في عقله؟ إذا جاءتك معلومة كيف تخزنها؟ علماء النفس يقولون: تخزنها بالتلقين، والتلقين يعتمد على اللغة، أنت لا تستطيع أن تختزن معلومة بدون لغة، مستحيل أن تختزن معلومة لا لغة لها، المعلومة عندما تستقبلها تحولها إلى لغة، تحولها إلى ألفاظ، وإذا حولتها إلى ألفاظ صرت تختزن هذه الألفاظ لفظًا بعد لفظ، إلى أن تجعلها في الذاكرة عندك لوقت الحاجة، لا يمكن للبشر أن يختزن معلومة إلا عبر لغة، إلا عبر رموز معينة يستخدمها عقله، ويختصر المعلومة بهذه الرموز، وبهذه اللغة، ثم يختزنها في عقله.

إذن، النبي محمد عندما استقبل الوحي، استقبله بلغة، يعني: عقله كان يشتغل ليعبر عن هذا الوحي بلغة معينة، وبرموز معينة، استقبله بلغة، وبلّغه للآخرين بنفس اللغة، اللغة دائمًا تحدّد المعاني، المعنى يأتيك مطلقًا، لكن بمجرد أن تحوله إلى قالب لغوي يصبح محدودًا، اللغة دائمًا تفرض حدودًا على المعنى، المعنى قبل أن يخرج من عقلك هو معنى مطلق، لكن بمجرد أن تحوّله إلى ألفاظ يتأطر المعنى ويتحدّد بهذه الألفاظ.

مثلًا: القرآن الكريم يقول: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، هذا معنى كبير، معنى مطلق، معنى ضخم لا حدود له، تعبير عن الإحاطة القيومية لله «عز وجل»، الله «تبارك وتعالى» عندما أراد أن يحيط بهذا الوجود، الإحاطة بالوجود تتحقق بالإحاطة بمركز الوجود. مثلًا: أنت إذا أردت أن أسيطر على هذا المسجد، فإنني أبحث عن مركزه، ما هو المركز الذي يدبّر هذا المسجد؟ إذا سيطرت على المركز، سيطرت على المسجد بأكمله، دائمًا السيطرة على الشيء بالسيطرة على مركزه. الله «تبارك وتعالى» يريد أن يعبّر عن أنه سيطر على الوجود لأنه سيطر على مركز الوجود، ومركز الوجود هو العرش، لأنه سيطر على المركز، سيطر على الوجود بجميع تفاصيله.

هذا المعنى معنى مطلق، إحاطة الله بالوجود إحاطة قيومية عن طريق الإحاطة بمركز الوجود ألا وهو العرش، هذا المعنى كيف صيغ لنا باللغة العربية؟ قال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، هذا المعنى لما صيغ باللفظ، صار عندنا معنى صغيرًا، هو معنى ضخم، لكن إذا قرأناه في هذه العبارة نقول: هناك عرش، وذاك العرش أتى الرحمن وجلس عليه! هو معنى ضخم، لكن اللغة حدّدته، اللغة أطرته، اللغة حولته من معنى مطلق إلى معنى محدود، اللغة حولتها من مضمون عظيم إلى مضمون عادي وصغير، إذن اللغة تحدّد المعاني.

ولأجل ذلك، أركون يقول: تحوّل الدين من المطلق الذي كان قبل أن يصل إلى النبي، إلى المحدود بعد أن وصل إلى النبي، يعني: تحول من الجانب الإلهي إلى الجانب البشري، وبعد أن تحول من الجانب الإلهي إلى الجانب البشري لم يبق مقدسًا، المقدس في الدين هو الجانب الإلهي منه لا الجانب البشري منه، فنحن لا نسحب القداسة من الجانب الإلهي إلى الجانب البشري. هذه أطروحة سأناقشها في الليالي القادمة بدقة وتفصيل، الآن أنا أعرض الأطروحة فقط.

الأطروحة الثانية: التفكيك بين الدين الواقعي وفتاوى الفقهاء.

هذه الأطروحة هي التي تطرحها بعض الأقلام الشيعية، بعض الأقلام المحسوبة على التشيع، كالسيد عبد الكريم سروش، وغيره ممن يطرح هذه الأطروحة في التفكيك بين الجانب الإلهي والجانب البشري. هذه الأطروحة تقول: الدين مرَّ بمرحلتين: المرحلة الأولى هي مرحلة التبليغ، نزل الوحي من الله على النبي محمد فبلّغه إلى الأمة، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بلغ الرسول الدين، هذه المرحلة لا نقاش فيها، وأما المرحلة الثانية: الأمة الإسلامية استقبلت الدين، نحن كمسلمين استقبلنا الدين، عندما استقبلنا الدين هل ما استقبلناه هو الدين أم لا؟ وبعبارة صريحة: الآن مثلًا الفقيه المجتهد يقرأ القرآن ويستنبط من القرآن حكمًا معينًا، أو يقرأ سنة النبي وأهل بيته، ويستنبط منها حكمًا معينًا، هل ما استنبطه الفقيه هو الدين، أم أن الدين شيء آخر؟ هل هناك تفكيك بين الدين وبين ما يفهمه الفقيه؟ هل هناك ثنائية: الدين شيء، وما يفهمه الفقيه شيء آخر، أم لا؟

يقول: نعم، الدين شيء، وما فهمه الفقهاء شيء آخر. الدين مضامين ومعان بلّغها النبي المصطفى إلى الأمة الإسلامية، هذا هو الدين، لكن هذا لم يصلنا، نحن لم نكن في زمان النبي حتى نسمع منه، فالدين لم يصلنا، الذي وصلنا هو ما فهمه المسلمون من الدين، المسلمون قرؤوا القرآن وقالوا: معناه كذا، وقرؤوا السنة النبوية وقالوا: معناها كذا، فالذي وصلنا هو ما فهمه المسلمون، وأما نفس الدين الذي بلغه النبي فلم يصلنا، إذن هناك تفكيك بين الدين الواقعي، وبين فتاوى الفقهاء، وما فهمه الفقهاء، ما هو وجه التفكيك؟ هناك ثلاثة أدلة على التفكيك:

الدليل الأول: محدودية عقل الفقيه.

الفقيه ما هو؟! هل هو أذكى أهل زمانه؟! هل الفقيه دائمًا كآينشتاين؟! لا، قد يكون الفقيه ذكاؤه بدرجة ستين، قد يكون ذكاؤه بدرجة ثمانين، قد يكون ذكاؤه بدرجة تسعين، قد يكون ذكاؤه بدرجة خمسين، الفقيه بالنتيجة عقل محدود، وقدرة محدودة على الاستيعاب وعلى التعقل، لذلك فلا يمكن لهذا العقل المحدود أن يستوعب جميع أبعاد النص، العقل المحدود لا يستطيع أن يستوعب جميع الأبعاد للنص القرآني، أو جميع الأبعاد للنص الوارد عن النبي .

أضرب لك مثالًا مطروحًا في إيران بكثرة: القرآن الكريم قال: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وعلّل حرمة الربا بأنها ظلم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، أي أن العلة والسبب في تحريم الربا أن الربا ظلم. الأطروحة الموجودة الآن في إيران: هذا الربا إنما يكون ظلمًا إذا كان بين شخص وشخص، أما إذا كان بين المواطن والدولة، هذا ليس ظلمًا، يعني: أنا الآن مثلك، آتي أنا الآن وأقرضك مئة ألف بمئة وعشرة، هذا ظلم، حيث أخذت عليك عشرة زائدة.

أما عندما تقرضك الدولة، أنت تذهب إلى البنك الحكومي، وتقترض منه، أنت تقترض من الدولة، الدولة تقرضك مئة ألف بمئة وعشرة، أنت عندما تعطي العشرة للدولة فأين ستصرفها الدولة؟ سوف تصرفها عليك، فالعشرة صدرت منك ورجعت إليك، لأن الدولة تصرف الفائدة الربوية على مرافق الحياة، على الصحة، على التعليم، على الاقتصاد، على البنية التحتية، إذن الدولة سوف تصرف الفوائد الربوية على المواطن، فالمواطن دفع للدولة الفائدة ورجعت إليه مرة أخرى، فأين الظلم؟! إذن، الربا إنما يكون محرمًا، ويكون ظلمًا، إذا كان بين فردين، بين شخصين، وأما إذا كان بين المواطن والدولة فهذا لا يعد ظلمًا، لأن الفائدة تعود للمواطن بالنتيجة، تعود إليه مرة أخرى.

إذن، الفقيه لأن عقله محدود لا يدرك الأبعاد كلها، لا يدرك هذه الآفاق كلها، هو يدرك ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، الربا حرام مطلقًا! لا يلتفت إلى هذه الآفاق الأخرى، ففي بعض صور الربا، وفي بعض معاملات الربا، لا يكون هناك ظلم؛ لأن الفائدة تعود إلى المقترض مرة أخرى لا إلى المقرض، فعقل الفقيه محدودٌ.

العامل الثاني: تأثر الفقيه بالمزاج.

الفقيه بشر، والبشر له مزاج، والمزاج يتأثر بالبيئة، يتأثر بالمجتمع، كل إنسان فهو ابن بيئته، فهو ابن مجتمعه، تتأثر ثقافته بثقافة بيئته، يتأثر مزاجه بثقافة بيئته، فمثلًا: لنفترض أن فقيهًا يعيش في بيئة محافظة، نحن فلنقرأ هذه الآية لنعرف كيف يفهمها هذا الفقيه وكيف يفهمها ذلك الفقيه، الآية المباركة تقول: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا، المرأة لا يجوز لها أن تبدي الزينة إلا الزينة الظاهرة، إلا ما ظهر، كيف يفهمها الفقيه وكيف يفهمها الفقيه الآخر؟ إذا كان هناك فقيه يعيش في بيئة محافظة، بيئة تعتبر المرأة كلها عورة، الفقيه يتأثر مزاجه بالبيئة التي يعيش فيها، ونتيجة هذا التأثر يفهم الآية بالشكل الذي ينسجم مع مزاجه، كيف؟

يقول لك: والله أنا أفهم من الآية أن المرأة يحرم عليها أن تبدي أي شيء من بدنها، سواء كان وجهها أو كفيها، الجميع لا يجوز، وأما ما ظهر فهو ما يظهر قهرًا على المرأة، افترض أن المرأة تمشي في الشارع، وجاء الهواء وأبعد عباءتها قهرًا عليها، وهكذا ظهر بعض من ثوبها، أو جاء الهواء وأظهر شيئًا من قدمها، هذا معنى ما ظهر، يعني: إلا الشيء الذي يظهر قهرًا على المرأة، لم تستطع تفاديه أثناء مشيها، ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أي: إلا ما ظهر قهرًا على المرأة وبدون اختيارها.

يأتيك فقيه آخر يعيش في بيئة منفتحة، يعيش في بلاد منفتحة، الرجل والمرأة يتعاملان سويًا في السوق، في المدرسة، في الجامعة، هو يعيش في بيئة منفتحة، كيف يفهم الآية؟ يتأثر مزاجه ببيئته التي يعيش فيها، فيفهم الآية بمزاجه، يقول: الآية واضحة، ولا يبدين زينتها إلا الزينة التي تعارف بين النساء إظهارها، وهي الوجه والكفان، أي أن المرأة بطبيعتها إذا كانت ستظهر فإنها تظهر الوجه، لأنها به تستقبل الناس وبه ترى الأشياء، وتظهر الكفين لأن بها تمسك الأشياء، إذن ما ظهر يعني الوجه والكفان، لأنهما زينة تعارف بين النساء من زمن الجاهلية إلى زماننا هذا، تعارف بين النساء إظهار الوجه والكفين. إذن، يختلف الفقيه الأول عن الفقيه الثاني نتيجة اختلاف المزاج الذي تأثر بالبيئة التي يعيش فيها.

العامل الثالث: اختلاف الفقهاء.

الفقهاء مختلفون، فهل الدين يختلف؟! لو كان فتوى الدين هو الدين لكان الدين مختلفًا، والدين واحد غير مختلف. مثلًا: صلاة الجمعة في عصر الغيبة، السيد محسن الحكيم «قدس سره» يقول: في أصل مشروعيتها إشكال، أصلًا غير مشروعة، بينما فقيه آخر، كالسيد الخوئي «قدس سره» مثلًا، يقول: صلاة الجمعة واجبة تخييرًا، أي أن الإنسان يوم الجمعة مخير بين الظهر والجمعة، لقد إذا أقيمت الجمعة، أذِّن للجمعة، يجب على من بين الفرسخين الحضور إلى صلاة الجمعة، وتجزي عن الظهر، بينما فقيه ثالث، كصاحب الحدائق «قدس سره»، الشيخ يوسف البحراني يقول: صلاة الجمعة واجبة عينًا لا تخييرًا، لا يجوز للإنسان أن يصلي الظهر يوم الجمعة، بل لا بد من أن يصلي الجمعة، فكيف نجمع بين الأقوال الثلاثة؟! فقيه يقول ليست مشروعة، وآخر يقول واجبة تخييرًا، وثالث يقول واجبة تعيينًا، والآية واحدة: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، ومع ذلك الفقهاء مختلفون. اختلاف الفقهاء يكشف عن أن الدين شيء، وفتوى الفقيه شيء آخر، فهناك تفكيك بين الدين، وبين فتوى الفقيه.

الآثار المترتبة على هذه الأطروحة:

إذن، عندنا وجوه ثلاثة أقمناها لإثبات الفصل بين الدين وفتوى الفقيه، فماذا يترتب على هذه المسألة؟ ماذا يترتب على هذا البحث؟ يترتب على التفكيك بين الدين وفتوى الفقيه أثران:

الأثر الأول: لا علاقة بين مخالفة الفتوى وبين الارتداد والفسق.

إذا كان هناك تفكيك بين الدين وفتوى الفقيه، فكيف نحكم على الناس بالارتداد؟! لماذا نحكم على الناس بالارتداد؟! هم لم يخالفوا الدين، وإنما خالفوا فتوى الفقيه، فلماذا نحكم على من خالف فتاوى الفقهاء بأنه مرتد، أو بأنه فاسق مثلًا؟! هو لم يخالف الدين، الدين شيء، وفتوى الفقيه شيء آخر، فكيف نحكم على من خالف الفتوى بالارتداد، مع أنه لم يخالف الدين؟!

مثلًا: الآية المباركة: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، يقول الفقهاء: سهم الرجل ضعف سهم المرأة، المرأة تأخذ نصف سهم من الميراث، والرجل يأخذ سهمًا كاملًا. يأتيك شخص ويقول لك: هذا كان في ذلك الزمان الذي كانت فيه المرأة مستهلكًا وليست منتجًا، في ذلك الزمن كان المنتِج هو الرجل فقط، الرجل هو الذي يخرج، هو الذي يزرع، هو الذي ينجر، هو الذي يخبز، هو الذي يقيم الاقتصاد على يديه، كانت العجلة الاقتصادية دائرة على جهد الرجل، فالرجل في تلك الأزمنة كان هو المنتِج، هو المحرِّك للاقتصاد، لذلك الإسلام أعطاه سهمًا كاملًا، بينما المرأة كانت مستهلِكًا، هي في البيت تغسل وتبطخ، ليست عاملًا محرِّكًا للاقتصاد، لذلك الإسلام قال: لا حاجة لإعطائها سهمًا كاملًا، بل تعطى نصف سهم؛ لأنه ليست عاملًا منتِجًا. أما الآن فقد اختلف الزمان، وأصبحت المرأة كالرجل، الرجل منتج، والمرأة أيضًا منتج، كلاهما عاملان محركان لعجلة الاقتصاد، فلماذا تُحْرَم المرأة من السهم الكامل؟! إذن، هذه الآية: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ناظرة لذلك الزمان، وليس ناظرة لهذا الزمان، هذه هي قناعتي.

نحن ماذا نقول للإنسان الذي يقول بذلك؟ نقول عنه: مرتد؛ لأنه ضرورة من ضروريات الدين، هو يقول: لماذا تحكمون عليَّ بالارتداد؟! أنا ما خالفت الدين، وإنما خالفت فتاوى الفقهاء، والدين شيء، وفتاوى الفقهاء شيء آخر، الدين أمر، وما فهمه الفقهاء أمر آخر، فلماذا تحكمون عليَّ بالارتداد؟! قضية نصر حامد أبو زيد في مصر، أقيمت الدنيا وأقعدت في المحاكم على أنه مرتد وغير مرتد وكذا، هذه كلها ترجع إلى هذه القصة.

مثال آخر: إذا أحرم الإنسان، ذهب إلى الميقات، مسجد الشجرة مثلًا، وأحرم للعمرة أو للحج، بعد أن يُحْرِم ماذا يحرم عليه؟ يحرم عليه التظليل، هل يحرم عليه التظليل في الليل والنهار أم في النهار فقط؟ كان سيدنا الخوئي «قدس سره» يقول: يحرم على المحرِم بمجرد أن يحرم، بمجرد أن يلبي، يحرم عليه التظليل، تظليل رأسه، سواء كان في النهار أو في الليل، الرواية قالت: ”لا يركب المحرم القبة“، بلا فرق بين الليل والنهار. لو فرضنا أن إنسانًا كان في زمان السيد الخوئي، وكان مقلِّدًا للسيد الخوئي، ومع ذلك خالف، قال: والله أنا سأظلل في الليل ولا علاقة لي به! أحرم وظلّل رأسه ليلًا.

الآن توفي السيد الخوئي «قدس سره»، ورجع الناس للسيد الكلبيكاني «قدس سره»، ورجع الناس للسيد السيستاني «دام ظله»، ماذا قالا؟ قالا: المحرم لا يحرم عليه التظليل في الليل، وإنما يحرم عليه التظليل في النهار، الواجب عن المحرِم هو الإضحاء، والتظليل في الليل لا يتنافى مع الإضحاء. هذا المسكين الذي في زمان السيد الخوئي خالف الفتوى، قلنا: هذا فاسق! وجاء السيد السيستاني وصار عادلًا! كان في زمان فاسقًا لأنه خالف فتوى السيد الخوئي، وبعد أن رجع إلى مرجع يجيز ذلك تحول من الفسق إلى العدالة! صار الآن عادلًا لأنه طابق عمله فتوى الفقيه الذي يجوّز ذلك، فهل يتغيّر الإنسان من الفسق إلى العدالة بمجرّد أنه خالف فتوى أو وافق فتوى أخرى؟! إذن، الأثر الأول الذي يترتب على التفكيك بين الدين وفهم الفقيه، أنه لا يجوز الحكم بالارتداد ولا بالسفق لمخالفة الشخص لرأي الفقيه.

الأثر الثاني: لا حجية لفتوى الفقيه.

هذا الأثر هو الذي يريد أن يتوصّل له أصحاب هذه الأطروحة، مثل السيد سروش وأمثاله، يريدون أن يقولوا: إذا كان فهم الفقيه فهمًا بشريًا مزاجيًا، إذن فلا حجية فيه علينا، ما الذي يلزمنا نحن باتباع الفقيه؟! الفقيه مثلنا بشر، وكما نحن عندنا مزاج هو عنده مزاج، إذا كان فهم الفقيه فهمًا بشريًا مزاجيًا، إذن لا ميزة لفهمه على فهمنا، ولا ميزة لرأيه على رأينا، وبالتالي فما الذي يلزمنا بأن نستمع لفتواه، أو نستمع لرأيه؟! فلنعتمد على أفهامنا نحن، نحن بأنفسنا نقرأ القرآن، وما نفهم من القرآن نطبقه، ونحن بأنفسنا نقرأ أحاديث النبي محمد وأهل بيته، وما نفهم من هذه الأحاديث نطبّقه، لماذا نعتمد على فهم الفقيه؟! فلنعتمد على أفهامنا.

القرآن الكريم حثّنا على اعتماد العقل في عدة آيات: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، القرآن يحثنا على أن نعتمد على عقولنا، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ، إذا كان القرآن يحثنا على اعتماد العقل، فلماذا لا نستجيب لنداء القرآن ونعتمد على عقولنا في فهم الكتاب والسنة؟! لماذا نعتمد على أفهام الفقهاء؟! فلنعتمد على عقولنا.

إذا كنا نعتمد على عقولنا في الأصول، فكيف لا نعتمد عليها في الفروع؟! نحن كيف نصل إلى توحيد الله؟ أليس بالعقل؟! كيف نصل إلى نبوة النبي؟ أليس بالعقل؟! ألا نعتمد على عقولنا في أصول الدين: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد؟! إذا كان القرآن يحثنا على اعتماد العقل في أصول الدين، فكيف لا يجيز لنا الاعتماد عليه في فروع الدين، مع أن أصول الدين أهم من فروعه؟! إذا كان القرآن يحثنا على أن نعتمد عقولنا في أخطر الأشياء وأهمها، وهي العقائد، فلماذا يمنعنا من الاعتماد على عقولنا في أبسط الأشياء، وهي معرفة الحلال من الحرام؟! إذن، فلنعتمد على عقولنا.

وأهل البيت ركّزوا على الاعتماد على العقل، والركون إلى العقل، كما كان يركّز عليه الإمام أمير المؤمنين ، عندما عُرِضَت عليه البيعة، بعد مقتل الخليفة الثاني، قالوا له: نبايعك على كتاب الله، وسنة رسوله، وسيرة الشيخين. قال: لا، تبايعونني على كتاب الله، وسنة رسوله، واجتهاد رأيي. أنا لا أقلد أحدًا، أنا لا أتبع أحدًا، أنا لي عقل ورأي مقابل الآراء والعقول الأخرى. الإمام يصر على اعتماد العقل، وكذلك في خطابه لمعاوية، في خطابه لأهل العراق، دائمًا يطلب منهم الاعتماد على عقولهم، يقول لهم: ”اعرفوا الحق تعرفوا أهله“، هم في زمن الإمام علي صدر موجة من التشكيك، قالوا: ما الذي يدرينا من المحق: علي أم معاوية؟! الإمام قال: استخدموا عقولهم، اعرفوا أين هو الحق، لتميزوا من المحق ومن المبطل، أولًا ادرسوا ما هو الحق، وبعد ذلك سوف تطبقونه وتعرفون من هو المحق ومن هو المبطل، فإذن الإمام أصرَّ على استخدام العقل.

وكذلك شبل علي ، في ذلك اليوم المهول، وهو يوم المواجهة، ويوم المقاومة، طلب من القوم أن يعتمدوا على عقولهم، أن يحركوا عقولهم: ”أيها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا، حتى أعظكم بما هو حقٌ لكم عليَّ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن صدّقتم قولي، وقبلتم عذري، وأعطيتموني النصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، وإن لم تقبلوا عذري، ولم تصدقوا قولي، ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ، ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ويحكم! أهؤلاء تعبدون وعنا تتخاذلون؟!“ نحن أهل بيت النبوة تخذلوننا، وهؤلاء تعبدونم؟! ”أجل والله، غدرٌ فيه قديم، وشجت عليه أصولكم، وتآزرت عليه فروعكم، فكنتم بذلك أخبث ثمر شجًا للناظر وأكلةً للغاصب“.

أطروحة التفكيك بين الدين الواقعي وفتاوى الفقهاء
أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ