نص الشريط
التشيع فخرٌ واعتزاز
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 10/7/1430 هـ
مرات العرض: 3343
المدة: 00:56:52
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2008) حجم الملف: 13 MB
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا حول الآية المباركة في عدة محاور:

المحور الأول: في بيان ما هو المقصود بالإمامة المجعولة في الآية المباركة.

إن مفاد الآية المباركة أن منصب الإمامة مجعول من قبل الله تبارك وتعالى، ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ هنا ربما يطرح سؤالان:

السؤال الأول: أن المراد بالإمام هنا ليس هو المنصب الإلهي الذي تراه الشيعة الإمامية لأئمتهم، بل المراد بالإمام هنا المقتدى، أي الشخص الذي يقتدى به، كما نقول إمام الجماعة أي الشخص الذي يقتدى به في صلاة الجماعة، فالمراد بالإمام القدوة والمقتدى، ﴿قال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا أي إني جاعلك للناس قدوة، جاعلك للناس مقتدى، ولا ربط لذلك بمسألة المنصب الإلهي الذي تراه الشيعة الإمامية، والقرينة على هذا المعنى أن القرآن في آية أخرى قال: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ما معنى الإمامة في هذه الآية؟ ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا يعني واجعلنا قدوة للمتقين، فالمراد بالإمام في هذه الآية القدوة، فهذا المعنى هو المراد بالآية التي تخاطب إبراهيم: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يعني جاعلك للناس قدوة، على نحو المراد في قوله: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أي واجعلنا قدوة للمتقين، فهاتان الآيتان من واد واحد، والمراد بالإمام فيهما القدوة، ولا ربط لذلك بالمنصب الإلهي الذي تطرحه الشيعة الإمامية في كتبهم العقائدية.

الجواب عن هذا السؤال:

أولا بالنسبة للآية الثانية: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا «72» وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا «73» وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا المراد في هذه الآية هو المنصب الإلهي، من الذي قال أن المراد هو القدوة؟ ورد عندنا في الرواية المعتبرة عن الإمام الصادق سلام الله عليه عندما قرأ هذه الآية ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا قال: إيانا عنا - يعني الآية تقصد إمامتنا - فالمراد بالإمام في هذه الآية الشخص المنصوب والمجعول من قبل الله تبارك وتعالى، وهذه الآية على لسان الأئمة الطاهرين، يعني هم الذين يقولون: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا وهم الموصوفون في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا «72» وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ولذلك توجد قراءة للإمام الباقر : «واجعل لنا من المتقين إمامًا» وليس «واجعلنا للمتقين إمامًا».

ثانيًا لنفترض أن الإمام في هذه الآية بمعنى القدوة، ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا يعني واجعلنا قدوة للمتقين، نسلم بذلك، الإمام متى ما أطلق في القرآن أريد منه القدوة والمقتدى، ولكن في آية الإمامة التي تخاطب إبراهيم الإمام هنا ليس بمعنى المقتدى لقرينة داخلية سياقية ضمن الآية أثبتت لنا أن المراد بالإمام ليس هو المقتدى وإن كان لفظ الإمام إذا أطلق يراد به المقتدى، لكن في هذه الآية لا يراد به المقتدى لقرينة سياقية وهي قوله: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ - يعني لما أتم الكلمات - قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا لو كان المراد بالإمام المقتدى لكان إبراهيم مقتدى من قبل، لأنه أعطي النبوة منذ أيام شبابه، والنبي مقتدى، فلو كان المراد بالإمام هنا الشخص الذي يقتدى به لم يصح أن يقال: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا هو مقتدى منذ زمن، منذ أيام شبابه، إذًا ما هذا الذي جعل بعد الابتلاء وبعد الامتحان وبعد كبره في السن ومروره بامتحانات عسيرة؟ هذا منصب آخر غير منصب القدوة الذي جعل منذ أيام شبابه، هذا المنصب لم يجعل له إلا بعد نجاحه في امتحانات وابتلاءات صعبة وعسيرة، أمر بذبح ابنه وترك زوجته وابنه في أرض قاحلة، وغير ذلك، بعد ذلك استحق منصبًا آخر غير منصب القدوة، وهو منصب الإمامة الذي تراه الشيعة الإمامية، يعني شخص مجعول من قبل الله تبارك وتعالى.

وفي هذا رواية عن الإمام الصادق : ”إن الله اتخذ إبراهيم عبدًا قبل أن يتخذه نبيا، وإن الله اتخذه نبيًا قبل أن يتخذه رسولا، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إمامًا، فابتلاه بكلمات فأتمهن فجعله إمامًا على الخلق“.

السؤال الآخر: ربما يقال أن الجعل في الآية ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا الجعل في الآية قد يتخلف، هو جعله إمامًا لكن هذا لا يعني أنه يجب أن يصبح إمامُا، الإمامة عند الشيعة الإمامية منصب لا يتخلف بينما الجعل في الآية لا يفيد ذلك، مثلا: قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً الله جعل بين الزوجين مودة ورحمة لكنها غير ثابتة، فقد تتخلف، قد يصبح الزواج جحيمًا، قد يتحول الزوجان إلى أعداء، إذًا جعل المودة والرحمة جعل قابل للتخلف، جعل قابل للتراجع، ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً الجعل قابل للتخلف والتراجع، في آية الإمامة أيضًا الأمر كذلك، ﴿قال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا لنفترض أن الإمامة جعل من قبل الله تبارك وتعالى، لكنه جعل قابل للتخلف كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً فإن جعل المودة والرحمة بين الزوجين قابل للتخلف والتراجع، فيكف يستفاد من هذه الآية أن الإمامة منصب إلهي ثابت لا يتخلف ولا يتراجع؟

الجواب: هناك جعل فعلي وهناك جعل اقتضائي، كيف؟

حتى في الأمور التكوينية، لاحظوا مثلا الآية المباركة: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا «9» وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا «10» وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وقال في آية أخرى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ ما هو الفرق بين الجعل في الآيتين؟ الفرق أن أحدهما جعل فعلي والآخر اقتضائي، ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ هذا الجعل لا يتخلف، فعلا الله جعل في الأرض جبال رواسي، هذا جعل لا يتخلف ولا يتراجع، أما ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا «10» وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا هذا جعل قابل للتخلف، هذا يسمى جعل اقتضائي، يمكن أن يكون النهار لبسا والليل معاش في بعض الدول والمناطق، إذًا هذا جعل اقتضائي قابل للتخلف، فالجعل في القرآن على نوعين: جعل فعلي لا يتخلف، وجعل اقتضائي قابل للتخلف، هذا في الأمور التكوينية.

وكذلك في الأمور التشريعية، هنا نقول: الجعل إذا أطلق ولا توجد قرينة فمعناه أن الجعل فعلي لا يتخلف ولا يتراجع، نعم إذا وجدت قرينة توضح أن الجعل يمكن أن يتخلف نحمله على الجعل الاقتضائي وإلا ظاهره الجعل الفعلي، في آية الإمامة ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا حملناها على الجعل الفعلي لعدم وجود قرينة على الخلاف، إذًا هو جعل لا يتخلف ولا يتراجع، وأما في آية ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً لما رأينا أن المودة والرحمة قد تتخلف في الواقع الخارجي حملناه على الجعل الاقتضائي، لولا هذه القرينة لحملناها على الجعل الفعلي، أما في آية الإمامة لا توجد قرينة تجعلنا نحمل الجعل على الاقتضاء، لذا الإمامة منصب إلهي لا يتخلف، هذا تمام الكلام في المحور الأول.

المحور الثاني:

الإمامة في الآية المباركة بمعنى الولاية، الإمام هو الولي، وهو ما عبرت عنه آية أخرى في قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وعبر عن الرسول الأعظم : ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: ألا فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، الله والي من والاه وعادي من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيثما دار، يعني الولاية الثابتة للنبي ثابتة لعلي .

الإمامة بمعنى الولاية، وهذه الولاية لها سمات، من سماتها اليقين، قال تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون اليقين من سمات الإمامة، من أين يأت اليقين، مثلا أنت في زيارة الحسين تقول: ”أشهد أنكم قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين“ ليس المقصود باليقين يعني الموت، لا، يعني أنت تقول: «أطعت الله ورسوله حتى مت» هذا ليس مدحًا، المراد باليقين هنا مرتبة اليقين ﴿وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون ما هو المراد من اليقين؟

المراد من اليقين انكشاف عالم الملكوت، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ حتى يصل إلى اليقين أريناه ملكوت السماوات والأرض، مستحيل أن تصل إلى اليقين من دون أن ترى عالم الملكوت، من لم ير عالم الملكوت لم يصل إلى اليقين، القرآن الكريم يقول: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ «5» لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ لو عندكم يقين لرأيتم عالم الملكوت، ولرأيتم النار وأنتم في الدنيا، إذًا اليقين ملازم لعالم الملكوت، من انكشف له عالم الملكوت حصل على درجة اليقين، ومن لم ينكشف له عالم الملكوت لم يحصل على هذه الدرجة وإن كان مؤمنًا تقيًا ثابتًا، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ «14» كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ لا يرون عالم الملكوت بسبب الذنوب، إذًا رؤية عالم الملكوت هي طريق اليقين، واليقين ملازم لعالم الملكوت، فلما قالت الآية: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ يعني انكشف لهم عالم الملكوت، وإلا لما وصلوا إلى درجة اليقين.

هنا قد يطرح بعض السؤال سؤالا عن قول أمير المؤمنين : ”لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا“ ما المقصود بذلك؟ الإمام أمير المؤمنين بلغ درجة اليقين، يعني مكشوف له عالم الملكوت، إذًا ما المقصود من «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا»؟ المقصود لو كشف لي الغطاء يعني الموت، لأن الموت عبارة عن كشف الغطاء، ما هو الغطاء؟ الغطاء هو الزمان والمكان، نحن ما دمنا نعيش في الدنيا محددون بزمان ومكان، وينكشف هذا الغطاء ويتحرر الإنسان من سلطة الزمان والمكان بالموت، القرآن الكريم يقول: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ إلى أن يقول: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أنت كنت في زمان ومكان والآن تحررت، الإمام علي يقول: أنا سواء كنت حي أو ميت لا يتغير علي شيء، لأن عالم الملكوت مكشوف لي وأنا حي في الدنيا، فلو مت وكشف عني الغطاء لم يتغير عندي شيء، «لو كشف عن الغطاء - يعني لو مت - ما ازددت يقينًا».

إذًا السمة الأولى من سمات الإمامة بمعنى الولاية هي اليقين، أي انكشاف عالم الملكوت.

السمة الثانية من سمات الإمامة بمعنى الولاية هي الهداية الواقعية، يقسم الفلاسفة الهداية إلى قسمين: هداية بمعنى إراءة الطريق، أنت واقف على الشارع تسأل: أين طريق تاروت؟ أنا أقف على الطريق وأريك أين هو، هذه الدرجة الأولى من الهداية، الدرجة الثانية بمعنى الإيصال إلى المقصود، أنا آخذ بيدك وأوصلك إلى البيت الذي تريده، هذه درجة أعلى من الهداية، تسمى الإيصال إلى المقصود، الدرجة الأولى وهي إراءة الطريق هداية ظاهرية، الدرجة الثانية وهي الإيصال إلى المقصود هداية واقعية، والإمام قد حصل على الهداية الظاهرية والواقعية، طبعًا عندما نقول إمام فلا نعني أئمة أهل البيت فقط، لا، حتى بعض الرسل وصلوا إلى الإمامة، كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى والنبي حمد ، فحصلوا على هذه السمة الثانية وهي سمة الهداية بنوعيها: الهداية الظاهرية بمعنى إراءة الطريق، والهداية الواقعية بمعنى الإيصال إلى المقصود.

قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما معنى يبين لهم؟ يعني هداية ظاهرية، يريهم الطريق، ﴿فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء يهدي من يشاء هنا بمعنى الهداية الواقعية، يعني الإيصال إلى المطلوب، فوظيفة الرسل هي لهداية الظاهرية، يعني إراءة الطريق، وما يقوم به الله هو الهداية الواقعية، يعني الإيصال إلى المطلوب، ﴿فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء.

إذًا الهداية الواقعية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دور رباني، الله تبارك وتعالى يخاطب نبيه محمد : ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ كيف «إنك لا تهدي من أحببت» مع أن النبي يهدي جميع الناس؟ المراد بالهداية هنا الهداية الواقعية بمعنى الإيصال إلى المقصود لا الهداية الظاهرية بمعنى إراءة الطريق التي هي وظيفة الرسل، الهداية الظاهرية أنت تقوم بها، لكن الهداية الواقعية تحتاج إلى إذن خاص من الله.

إذا الهداية الواقعية بمعنى الإيصال إلى المقصود دور رباني حباه الله بعض أوليائه وبعض أصفيائه بإذن منه وبإقدار منه، فكل من حصل على منصب الإمامة أعطاه الله هذا الدور تفضلا منه وعناية منه بإقدار وبإذن خاص منه، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا.

ربما الإنسان يتساءل مستنكرًا: ما هذه الهداية التي تعطى لهؤلاء؟! هذا ليس أمرًا صعب الاستيعاب، الطبيب النفسي مثلا ماذا يفعل للمريض؟ لا يعطيه دواء ولا إبرة، بل يقوم بالهداية الواقعية، الطبيب النفسي يتحدث مع قلب المريض وآلامه وهمومه إلى أن يقتلع من قبله جذور المرض وأصوله، أصول الهم، أصول الغم، أصول الكآبة، هذا الاقتلاع هداية واقعية، إذا كان الطبيب النفسي يستطيع أن يقوم بدور الهداية الواقعية فلماذا تستعظم على الأئمة أن يقوموا بهذا الدور؟ الطالب عندما يعجب بأستاذه إلى حد يتأثر بأستاذه من حيث لا يشعر، يتأثر بأسلوب أستاذه وطريقة كلامه وسلوكه، فيتأثر به سلوكًا وكلامًا، هذا درجة من درجات الهداية الواقعية.

إذًا الهداية الواقيعة بمعنى غرس الإيمان وزرعه في قلب الإنسان ونفسه أمر ممكن وإن كانت تحتاج إلى إذن خاص من الله وإقدار منه، وهذا ما وهبه الله للأولياء والأصفياء من عباده الذين وصلوا إلى مرتبة الإمامة، وفي طليعتهم محمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم.

انظر إلى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ لماذا يؤتى بنا مع إمامنا؟ يوم القيامة لا توجد لغة إلا لغة العمل، فلماذا أدعى بإمامي؟ المفروض أن أدعى بعملي، القرآن الكريم يتكلم عن يوم القيامة: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ لا توجد لغة غير لغة العمل، ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا لغة يوم القيامة هي لغة العمل، لا يوجد أب ولا أم، لا شيء إلا العمل فلماذا يقول القرآن الكريم: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ؟ ما هو ربط الإمام بالعمل؟

هذا إشارة إلى الهداية الواقعية، لأن للإمام تأثيرًا واقعيًا على نفس الإنسان فهو المسؤول عن عمله، لكل زمان إمام ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ وكل إنسان يدعى بإمامه لأن له تأثيرًا واقعيًا على نفسه وقلبه، لذلك هو المسؤول عن أعمال الخلائق، وبما أنه المسؤول عن أعمال الخلائق يدعا كل أناس بإمامهم.

فإذًا الهداية الواقعية دور رباني أعطاه الله بعض أصفيائه وهم الأئمة من خلقه، وهذه سمة أخرى من سمات الإمامة.

توجد فقرة في أدعية رجب كثير من الأخوة يسأل عنها، وهي: «لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك» كيف يعني لا فرق بين الله وأهل البيت إلا أنهم عباده؟ ما معنى هذه العبارة؟ لهذه الفقرة معنيان:

1/ أن المراد بالفرق الحاجب، يعني لا حاجب بينك وبينهم، فكان قاب قوسين أو أدنى، يعني وصلوا من درجة العروج والقرب من الله ألا حاجب بينهم وبينه لولا العبودية، لولا أنهما عبيد فلا حاجب بينهم وبين الله، بلغوا من القرب درجة انتفت الحواجب بينهم وبين الله تبارك وتعالى إلا حاجب واحد وهو حاجب العبودية، فالفرق هنا بمعنى الحاجب، هذا هو المعنى الأول.

2/ لا فرق بينك وبينهم في التأثير إلا أن تأثيرهم مستند إليك لأنهم عبادك، الله يهدي والإمام يهدي، إلا أن هداية الله بالأصالة وهداية الإمام هداية مستقاة ومستمدة من الله تبارك وتعالى، فالهداية لله بالأصالة وللإمام بالتبع والإذن، فلا ففرق بينك وبينهم في التأثير إلا أنهم عبادك يستمدون منك الولاية والقدرة على الهداية وبإذنك تباركت وتعاليت.

المحور الثالث:

ربما يقال هذه الأبحاث دعوة للتشيع، والدعوة للتشيع دعوة للمذهبية، والدعوة للمذهبية تتنافى مع الوحدة الإسلامية، فلنكرس جهودنا وطاقاتنا في الدعوة للإسلام، ولنترك الخوض في القضايا المذهبية، لأن الخوض في القضايا المذهبية يتنافى مع الدعوة للإسلام، ويتنافى مع التركيز على ما هو الأهم وهو الدعوة إلى الإسلام.

نحن نجيب، هناك أناس يخافون أن يقال عنهم شيعة، وهناك أناس يخجلون أن يقال لهم شيعة، وكأن التشيع مذهب مليء بالعيوب والأخطاء، فلذلك يخجل أن يقال عنه شيعي، أو يخاف على منصبه وأمواله وعقاراته وعلاقاته أن تزلزل إن عرف الآخرون أنه شيعي.

وهناك أناس همهم أن يقزموا التشيع ظنًا منهم أننا ما لم نقزم هذا المذهب فإننا لن نستطيع أن نتفاعل مع الأحداث الإسلامية لأن المسلمين لا يقبلوننا ولأن أبناء المذاهب الأخرى ترفضنا ما لم نقزم ونضيق من هذا المذهب، ونترك بعض الأمور كي يقبلنا الآخرون ونتفاعل معهم في الهموم الإسلامية العامة.

نحن لا نقبل هذه النظرة، لأننا لسنا جبناء ولسنا خائفين ولسنا خجولين، وزماننا هذا هو زمان الفخر بالتشيع، وليس زمان الخوف من التشيع، زماننا هذا هو زمان الاعتزاز والافتخار بالتشيع، وليس زمان الخوف والخجل من التشيع، أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى إذا كانوا منصفين وكانوا موضوعيين عليهم أن يقبلونا كما نحن، بمذهبنا، بعقائدنا، بشعائرنا، بطقوسنا، كما يقبلون الحوار مع الأديان الأخرى، فتحوا حوار الأديان وانفتحوا على اليهود والمسيح وانفتحوا على الملل الأخرى دون أن يطلبوا منهم أن يضيقوا أديانهم أو يقزموها، ألم يؤسسوا مبادئ للحوار بين الأديان وقالوا بأن الإسلام ينفتح على الأديان الأخرى على ما هي عليه ولم يطالبوا الأديان الأخرى بالتنازل أو التراجع؟ بل حاوروا الأديان الأخرى في خرافاتهم فلماذا لا يقبلونا مع أننا مسلمون نشهد ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؟ وقد ورد عن النبي : ”الإسلام شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله به حقنت الدماء وجرت المناكح والمواريث“ نحن المسلمون أولى بأن ينفتح علينا ويقبل منا ويتحاور معنا ويتفاعل معنا كما نتفاعل مع أبناء المذاهب الأخرى من دون حاجة إلى دعوة: صححوا مذهبكم أولا، صححوا تراثكم أولا، صححوا قضاياكم أولا، ثم انفتحوا على المذاهب الإسلامية الأخرى، نحن لسنا ضعفاء لنتنازل عن مبادئنا وعقائدنا، ليس في مذهبنا شيء يحتاج إلى تصحيح.

إذًا نحن نقول زماننا هذا زمان الافتخار والاعتزاز بالتشيع، لماذا؟

أولا التشيع مذهب دعا إليه القرآن والسنة، يقول الكميت:

وجدنا   لكم   في  آي  حم  آية
وما   لي  إلا  آل  أحمد  شيعة
  تأولها   منا   لبيب   iiومعرض
وما لي إلا مذهب الحق مذهب

القرآن الكريم عندما يقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

القرآن الكريم عندما يقول: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى

القرآن الكريم عندما يقول: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ

القرآن الكريم يدعو إلى الالتفاف حول أهل البيت، وليس مذهبنا إلى مذهب الالتفاف حول أهل البيت، النبي في حديث الثقلين يقول: ”إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا“ إذًا نحن ندعو إلى مذهب هو عبارة عن الالتفاف حول أهل البيت، وهو مذهب دعا له القرآن والسنة النبوية، ومن كان مذهبه هكذا ومن كان خطه هكذا فلا يقال له بأنك إنسان مذهبي وأنك إنسان طائفي، وأنك لو كنت تريد الوحدة لما ركزت على المذهبية، لا، أنا أركز على ما ركز عليه القرآن والسنة النبوية، ”مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من تمسك بها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى“.

ثانيًا مثل الإسلام وحضارته في التشيع، التشيع ليس شيئًا آخر غير الإسلام، رحم الله الشاعر أبا رياض الجشي يقول:

إن  التشيع  وهو  أول بذرة   غرست بجانب بذرة الإسلام

مثل الإسلام وحضارة الإسلام في التشيع، القرآن الكريم يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الذكر يبقى محفوظًا بأسباب، والحافظ للقرآن عن التحريف والتغيير اللفظي أو المعنوي هو عدل القرآن أي آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم، مثل القرآن في مذهب أهل البيت، حضارة الإسلام في حضارة التشيع، التشيع أعطى الإسلام دماء وتضحيات أبطال، ولولا دماء التشيع لما بقي الإسلام، حضارة الإسلام هي حضارة التشيع.

نحن نفخر بالتشيع وندعو إليه، نحن ندعو للوحدة الإسلامية وندعو للتشيع أيضًا لأن التشيع مظهر للإسلام، نحن لا نبرز لسانين ولا كلمتين، نعم ندعو للتشيع بمنابرنا وكتبنا وأقلامنا وقنواتنا وعلاقتنا وكل ما نلمك من وسائل، لأن التشيع مثال للإسلام، ونحن نفتخر بهذا التشيع، ألا نفتخر بالإمام الجواد؟ وهل له مثيل في الإسلام؟ عمره ثمان سنوات يقف العلماء أمامه صاغرين، ويستفيدون ويستضيئون من أنوار علمه، نحن نفتخر بأطفال يحفظون القرآن وعمرهم خمس سنوات أو سبع سنوات فكيف لا نفتخر بشخص عمره ثمان سنوات يجيب على مختلف الأسئلة في الفقه والتفسير والعقيدة؟

لا نفتخر بابن سينا الذي أعطى الإسلام من الفلسفة والطب ما لم يعطه شخص آخر وكان شيعيًا؟ ألا نفتخر بجابر بن حيان الذي أعطى من علم الكيمياء من نفحات علمه من لم يعط أحد وكان مسلمًا شيعيًا؟ ألا نفتخر بصدر المتألهين الشيرازي في مجال الفلسفة وبالسيد محمد باقر الصدر قدس سرهما في مجال الاقتصاد؟ أليس هذا فخرًا للإسلام، أليس هذا مفخرة لحضارة الإسلام؟

إذًا حضارة الإسلام في حضارة التشيع، وافتخارنا بالتشيع افتخار بالإسلام، ألا نفتخر بمذهب وبأناس حطموا الكيان الإسرائيلي في لبنان؟ ألا نفتخر بأناس فجروا ثورة عملاقة في إيران ما زال صداها إلى يومنا هذا منذ ثلاثين سنة؟ ألا نفتخر بشيعة العراق الذين ضربوا المثل الأعلى في الوحدة الإسلامية وتحملوا المشاق في سبيل حقن دماء المسلمين؟

ألا نفتخر بالمرجعية الرشيدة في العراق وإيران التي هي صمام الآمن للوحدة الإسلامية ولحقن دماء المسلمين؟ إن كل ذلك مثال للفخر ومدعاة للفخر، لذلك أخاطب جميع أخوتي وأعزائي ألا يكونوا خجولين أو خائفين من إظهار التشيع، التشيع فخر واعتزاز منذ عصوره الأولى وتضحياته، منذ يوم أبي ذر الغفاري ومنذ يوم رشيد الهجري حجر بن عدي ومنذ يوم الحسين بن علي منذ تلك الأيام أيام التضحيات والبطولات التي لم تنقطع واستمرت إلى يومنا هذا لتثبت لجميع الأمم أن التشيع رافد للإسلام بدمائه وتضحياته وبطولاته، هذا التشيع الذي أعطى التضحيات والبطولات مذهب له عقائد وطقوس وشعائر ومراسم معين، فالتشيع بتمام طقوسه وقضاياه وأصوله وعقائده هو الذي أخرج هؤلاء الأبطال، فنحن عندما ندعو للتشيع ندعو للإسلام الذي جمع كل هذه المفاخر.

إذا لا تنافي بين دعوتنا للتشيع وبين افتتاحنا على الدعوة الإسلامية وقضاياه وهمومه وشؤونه العامة، لأن التشيع مذهب أهل البيت وأهل البيت هم أول من اهتم بالقضايا الإسلامية العامة، أمير المؤمنين سلام الله عليه يقول: ”والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين“.

تأثير عالم المادة على مسيرة الإنسان
الرصيد الروحي للتشيع