نص الشريط
موقف الإسلام من سيطرة العقل الجمعي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 6/1/1422 هـ
مرات العرض: 3027
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1788)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في ثلاث نقاط:

  • في الحديث حول نظرية العقل الجمعي.
  • وفي موقف الإسلام من سيطرة العقل الجمعي.
  • وفي بيان الفن الإعلامي الحسيني.
النقطة الأولى: نظرية العقل الجمعي.

علم النفس الاجتماعي يطرح نظرية اسمها نظرية العقل الجمعي، ويعرّف «غوستاف لوبون» - أحد علماء النفس - نظرية العقل الجمعي بأنها عبارة عن تأثر الفرد بآراء الجمهور، فإذا عاش الإنسان في جو معين، وفي مجتمع معين، فإنه يتأثر بعقائد ذلك المجتمع وبآرائه، سواء كانت آراء سياسية أم كانت آراء دينية، وهذا التأثر بآراء المجتمع يعبّر عنه بسيطرة العقل الجمعي على الفرد. وهناك عاملان يطرحهما علماء النفس لتأثير العقل الجمعي على الفرد:

العامل الأول: عامل العدوى النفسية.

الإنسان عندما يعيش بين كم هائل من الناس، ويراهم يعتقدون بفكرة معينة، ويؤمنون بشيء معين، فإنه نتيجة العيش معهم تتضاءل عنده احتمال خطأ تلك الفكرة يومًا فيومًا، ويقوى احتمال الصواب، إلى أن يؤمن بتلك الفكرة التي يؤمن بها المجتمع، وعلى ذلك، ففكر الإنسان ويقظة عقله قد تتأثر وقد تنقاد وقد تتضمحل أمام الرأي الجمعي، فيتأثر تلقائيًا بالفكر الجمعي، وهذا ما يعبّر عنه بالعدوى النفسية.

العامل الآخر: عامل ركوب الموجة.

أحيانًا الإنسان يعلم أن الرأي الذي يعتقد به المجتمع الذي حوله رأي غير صائب، لكنه مع ذلك يمشي على ذلك الرأي لأنه ينسجم مع هواه، وينسجم مع ميوله، وينسجم مع غرائزه، وينسجم مع طريقته في الحياة، فهو يمشي مع هذا الرأي من أجل ركوب الموجة، أي: من أجل الاستفادة من هذا الجو الجمعي في سبيل تحقيق ميوله وأهوائه ورغباته.

النقطة الثانية: موقف الإسلام من العقل الجمعي.

النظام الديمقراطي في كثير من الدول - بل في كثير من مؤسساتنا ومجتمعاتنا - قائم على أغلبية الأصوات، فإنما يرشّخ الشخصُ الفلاني إذا كانت أغلبت الأصوات حوله، ويُتَّخذ القرار الفلاني إذا صوّت له أغلب الحاضرين، فالترجيح والميزان بأغلبية الأصوات، فهل يرضى الإسلام بذلك؟

نحن عندما نراجع النصوص القرآنية نجد أن الإسلام يذم الكثرة في كثير من آياته، كما في قوله: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، ويقول: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، وفي آية ثالثة: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، وفي آية رابعة: ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ، فالقرآن يذم الأكثرية في العديد من آياته، وهذا يعني أن الإسلام لا يحترم العامل الكمي، فلو رجّح الشخص الفلاني خمسة ملايين بينما ذاك الشخص رجّحه مليون، فحينئذٍ الإسلام لا يحترم العامل الكمي العددي، وكذلك لو صوّت خمسة آلاف على هذا القرار بينما صوّت لذاك القرار مئة فقط، فإن الإسلام لا يرى للعدد قيمة!

الإسلام يقول: ليست المسألة مسألة كم، وليست المسألة مسألة عددة، وليست مسألة هي أن الوصول إلى الحقيقة عبر الكم، فإن العامل الكمي لا يوصل إلى الحقيقة، والكثرة لا توصل إلى الحقيقة، كما قال أمير المؤمنين علي : ”إني لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة“.

إذن فالكثرة، والأصداء الجماهيرية، والصخب الجماهيري، والزخم الجماهيري، ليس هو الطريق للوصول إلى الحقيقة، وليس هو الطريق لمعرفة الحقيقة، إذ ليس الرأي الصواب هو الذي يقول به أكثر الناس، وليس الشخص الحق هو الذي يحبه أكثر الناس، بل المسألة ليست بالكثرة ولا بالعامل الكمي، بل المسألة مسألة البرهان، فالرأي الذي يعضده البرهان العقلي هو الرأي الصائب، والرأي الذي يعضده البرهان والدليل هو الرأي الصائب، سواء قال به الكثرة أم قال به القلة، والشخص الذي تعضده البراهين والأدلة العلمية هو الشخص الصائب سواء قالت به الكثرة أم لم تقل به، كما قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، ولم يقل: فيتبعون أكثره، فالمدار على الرأي المعضد بالبرهان لا الرأي المعضد بالكثرة.

إذن مجرد أن هذا رأي الأكثرية لا يفيد شيئًا، بل لا بد من أن يكون الرأي معضدًا بالبرهان والدليل العلمي. نعم، إذا كانت كثرة الأصوات تعني تداول الفكرة ونقاشها والبحث عنها، فالأمر مختلف، إذ أن بعض الأفكار نتيجة كثرة الأصوات تُتداول وتُطْرَح على طاولة البحث للنقاش، فتتبين سلبياتها وتتبين إيجابيتها، ثم تنضج فيقول بها أكثر الناس، وحينئذ نحترم الأكثرية هنا، لكن لا لأنها عدد، بل لأنها جاءت بعد نضج الفكرة ووضوح دليلها وبرهانها، ووضوح الميزان والمقياس في صحتها وتماميتها.

ولكن هل الإسلام لا يحترم العقل الجمعي أبدًا، أم أن هناك موارد يحترم فيها الإسلامُ العقلَ الجمعي؟

هناك ثلاثة موارد يحترم فيها الإسلام العقل الجمعي:

المورد الأول: الارتكازات العقلائية.

ما يرتكز عليه المجتمع العقلائي بما هو مجتمع عقلائي، لا بما هو عاطفي، ولا بما هو متأثر بقوة معينة، ولا بما هو متأثر بثقافة معينة، ولا بما هو متأثر ببيئة معينة، بل ما يتفق عليه أبناء المجتمع العقلائي بما هم عقلاء أصحاب خبرة وتجربة وفكر، فهذا يؤيده الإسلام ويمضيه.

مثلاً: المجتمع العقلائي يقبّح تعذيب الحيوان، حيث يقول المجتمع العقلائي كله بأن تعذيب الحيوان شيء قبيح غير جميل، وهنا يمضي الإسلام هذا الاتفاق وهذا العقل الجمعي، فقد ورد عن الرسول : ”إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور“.

مثال آخر: نسمع الآن ضجة في اليابان حول ظاهرة الاحتباس الحراري، حيث تختلفت الولايات المتحدة عن اتفاق مقاومة الاحتباس الحراري الناتج عن تصاعد الغازات إلى الجو، خصوصًا غاز ثاني أكسيد الكربون، مع أن المجتمع العقلائي كله يقول بلزوم المحافظة على سلامة البيئة، إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش على الأرض إلا في ظل توازن حراري معين، ولا يمكن له أن يعيش عليها مع تزايد وتنامي ظاهرة الاحتباس الحراري، وهذه دعوة إلى سلامة البيئة ونقائها وصحتها، وهذا أمرٌ يمضيه الإسلام، فهذا العقل الجمعي يمضيه الإسلام، حيث يقول: لا ضرر ولا ضرار.

مثال ثالث: عندما يسافر الإنسان إلى أمريكا أو أوروربا، فقد يقول بأن تلك الدولة كافرة، فيجوز له أن يختلس من أموالهم بقدر ما يستطيع! ويجوز له مخالفة أنظمتهم بقدر ما أستطيع! فلا يلتزم بنظام بلدي ولا بنظام مروري ولا بنظام مؤسساتي، بحجة أنهم كفّار لا حرمة لهم، وقد ورد عن الرسول : ”الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، به حقنت الدماء، وجرت المناكح والمواريث“، وهؤلاء لا إسلام لهم، فلا حقن لدمائهم، ولا حرمة لأموالهم، فيجوز لي التصرف معهم بما أريد!

هذه الفكرة ليست مقبولةً عند المجتمع العقلائي، ولذلك بعض فقهائنا - ومنهم سيدنا الأستاذ السيستاني «دام ظله» - يقولون بأن هناك عقد أمان يجب احترامه شرعًا، إذ أن الإنسان عندما يأخذ فيزا - أو تأشيرة الجواز - لدخول أمريكا أو أوروبا، فإن هذه الفيزا هي عبارة عن عقد بينه وبين تلك الحكومة، فهم يقولون: نسمح لك بدخول بلادنا بشرط أن تكون آمنًا منا ونحن آمنون منك، فلا نعتدي عليك ولا تعتدي علينا. هذا عقد أمان، وعقد الأمان هو عقد التعايش السلمي بين جميع الملل والفرق والأديان، وإذا أمضى الإنسان عقد الأمان لم يجز له مخالفته، فلا يجوز له مخالفة الأنظمة واختلاس الأموال؛ لأنه قد أمضى عقدًا، فلا بد له من المشي على ضوء عقده؛ إذ أن احترام العقد ارتكازٌ عقلائيٌ يقرّه جميع العقلاء، وقد أمضاه الإسلام، حيث قال: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. والخلاصة: أن الإسلام يحترم العقل الجمعي إذا كان ارتكازًا عقلائيًا يمضيه جميع العقلاء بما هم عقلاء.

المورد الثاني: فهم العرف العام.

الفقهاء يطرحون هذه المسألة في الفقه، فيقولون بأن فهم العرف العام في المفاهيم دون المصاديق، فمثلاً: النصوص الشريفة تحرّم الغناء، ولا يوجد إنسان مسلم أو شيعي يصرّ على استماع الغناء إلا وهو مخالف للنصوص والروايات الواردة عن أهل البيت ، فقد ورد أن أحد أصحاب الإمام الصادق قال: قلتُ لأبي عبد الله: إني ربما دخلتُ الكنيف - أي: بيت الخلاء - وهناك جوارٍ يغنين، فربما أطلتُ الجلوس فأستمع لغنائهن! قال له الإمام : ”إذا فرق الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء؟! قم واغتسل وتب إلى الله، فإنك كنتَ مقيمًا على أمر عظيم، ما كان أسوأ حالك لو جاءك الموت وأنت على هذه الحالة!“.

والمقصود من هذه الرواية: أن الإنسان لو كان أمام قسمة حاصرة بين الحق والباطل، ولا ثالث لهما، فأين سيضع الغناء؟! لو سئل هذا السؤال بالنسبة للصلاة مثلاً لقيل بأنها من الحق، وكذلك الرفق بالوالدين، وأما ظلم الآخرين فيدخل في الباطل، ولكن لو سئل الإنسان: أين يكون الغناء؟ فهل يستطيع أحد أن يقول بأن الغناء في الحق؟! من الواضح أن الغناء في الباطل، فإذا كان في الباطل فلم الإصرار عليه؟! ولذلك أمر الإمامُ الراوي بأن يغتسل غسل التوبة، وبيّن له أنه كان يعيش في ذنب كبير، وأن عاقبته ستكون عاقبة سوء لو جاءه الموت وهو مصر على هذا الذنب العظيم.

النصوص الشريفة تقول بأن الغناء حرام، وتقول بأن ”بيت الغناء بيتٌ لا تؤمن فيه الفجيعة“ كما ورد عن الإمام الصادق ، ولكن كيف نحدّد مفهوم الغناء؟ هنا نرجع إلى فهم العرف العام، وهنا يكون العقل الجمعي محترمًا، وهذا العرف العام يشمل العالم والجاهل والعامل وغير العامل، وهذا العرف يفهم من عنوان الغناء الصوت المطرب الذي يُحْدِث في النفس الطربَ والنشوةَ، فهذا الصوت المطرب حرام، وهنا يكون العقل الجمعي حجة معتمدة، حيث حدّد لنا مفهوم عنوان من العناوين، فنرجع إليه.

مثال آخر: مسألة الموت من المسائل الطبية التي قد يبتلى بها الكثير من الناس، فلو كان هناك شخص في العناية المركزة مثلاً، فمتى نقول بأنه قد مات؟ هل يموت بموت قلبه أم يموت بموت دماغه؟ الطب إلى الآن يقول بأن الموت هو موت الدماغ، إذ أن مركز البدن هو الدماغ، فإن خلايا الدماغ هي التي ترسل الإشارات لأعصاب البدن بالحركة، فما دام الدماغ حيًا فهو حي، وإذا مات الدماغ مات حتى إذا كان قلبه ينبض، ولا يقاس القلب بالدماغ أصلاً، إذ أن القلب ليس مركزًا لحياة الإنسان، وإنما هو مجرد مضخة دم، ولذلك يمكن استبداله بقلب صناعي، ويستطيع الإنسان العيش إذا كان الدماغ سليمًا، ولكن الدماغ لا يمكن استبداله ولا تعويضه، فمحور الحياة هو الدماغ وليس القلب، فالموت هو موت الدماغ وليس موت القلب.

وفي مقابل هذا الرأي الطبي يقول أغلب فقهائنا بأن الموت هو موت القلب، فإذا توقف القلب عن الحركة ويئسنا من حياة الإنسان، بحيث يئسنا من رجوع نبض قلبه بأي وسيلة، فحينئذٍ يموت الإنسان، فيغسّل ويكفّن وتبين زوجته وتقسّم تركته، حتى لو بقيت بعض خلايا الدماغ لدقيقة أو دقيقتين على قيد الحياة. وأما إذا مات دماغه، وأصبح جثة هامدة، وبقي قلبه يضخ الدم في أجزاء البدن، فهو حي، وتبقى الأجهزة عليه، ولا يجوز رفع أي جهاز عنه، إلى أن يتوقف قلبه، وأما ما لم يتوقف فزوجته لا تبين، وأمواله تبقى ملكًا له، ويعتبر إنسانًا حيًا.

هذا الاختلاف بين الرأي الطبي والرأي الفقهي جاء من الفهم العرفي، فإن لفظ الموت عندما يُطْلَق في الروايات يفهم منه العرف العام - كما يقول بعض الفقهاء - موت القلب، ولذلك يطبّق هؤلاء الفقهاء النصوصَ على هذا المعنى للموت، وفي المقابل يوجد بعض الفقهاء الذين يقولون: هذا العرف كان عرفًا بدائيًا غير متنوّر، وأما الآن فقد تغير العرف، وأصبح يفهم من عنوان العرف موتَ الدماغ، وبذلك تغيرت المسألة؛ لأننا ندور مدار فهم العرف، فما يفهمه العرف العام من اللفظ الوارد في النص الشرعي نمشي عليه، وعلى أساسه نحدّد الحكم الشرعي.

المورد الثالث: مورد العادات والتقاليد.

العادات والتقاليد من العقل الجمعي أيضًا، فهل يحترم الإسلام العادات والتقاليد؟ اعتاد المجتمع الإماراتي على لبس العقال، فهل هذه العادة مقدّسة في الإسلام؟ اعتاد أبناء المجتمع على أن يطبخوا في أيام المواسم رزًا، ولا يطبخون شيئًا آخر، فهل هذه العادة محترمةٌ في الإسلام؟! هل الإسلام هنا يحترم العادات والتقاليد؟!

هنا لا بد من التصنيف بالعقل: ”من سنَّ سنةً حسنةً كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنةً سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة“، وبناءً على هذا التصنيف نقول: الاحتفال بأعياد الميلاد، من خلال وضع بعض الشموع، وتشغيل بعض الأصوات الموسيقية اللطيفة مثلاً، وقراءة بعض الأناشيد الأجنبية المعروفة، ثم يطفئ الطفل الشمعات الخمس مثلاً فرحًا مسرورًا بعيد ميلاده، عادةٌ من العادات الموجودة عندنا. ومن العادات الواردة علينا أيضًا عيد الحب «14 فبراير»، حيث تُشْتَرَى الورود وتوزَّع، وتفرح المعلمة التي تقدّم لها التلميذةُ ورودًا في عيد الحب! ويفرح المعلّم الذي يقدّم له الطالبُ ورودًا بعيد الحب! فكيف لا تفرح زميلة الرجل في العمل إذا قدّم لها ورودًا بمناسبة عيد الحب؟!

عيد الحب وأعياد الميلاد وأمثالها من العادات - التي استوردناها واستقبلناها من الأفق الغربي - عاداتٌ سيئةٌ، ويجب أن يقف أمامها المجتمع الإسلامي بحزم؛ لأن هذه العادات تُضعِف روحية الفرد المسلم، فإن الفرد المسلم إذا أصبح إنسانًا يستقبل العادات والتقاليد من الغرب، فإنه حينئذٍ لا يثق بتراثه، ولا بأصالته، ولا بدينه، ولا بمبادئه، بل يصاب بالضعف والانهيار؛ لأنه يستقبل من الغرب سيارتَه وجهاز التلفون وثوبَه وأثاثَه وجميع معداته، وحتى عاداته وتقاليده! فماذا بقي له من تراثه الإسلامي؟! وماذا بقي له من رصيده الإسلامي؟! وماذا بقي له من مخزونه الإسلامي إذا كان كل شيء يستقبله ويستورده من الغرب؟! فتح الباب أمام هذه العادات والتقاليد يؤدي إلى إضعاف روحية الفرد المسلم، ويؤدي إلى هز روحيته من الداخل، وجعله إنسانًا لا يثق بأن له تراثًا، ولا يثق بأن له رصيدًا دينيًا ولا رصيدًا اجتماعيًا.

وفي المقابل توجد عادة جميلة جدًا، وهي عادة التكليف. إذا بلغت البنت تسع سنوات أصبحت - عند أغلب الفقهاء - امرأة يجب عليها التحجب والصلاة والصيام، ويجب عليها ما يجب على أمها، ويجب على الأب وجوبًا عرفيًا اجتماعيًا، بل يستحب له أن يمرنها ويدربها منذ أن يكون عمرها سبع سنوات - مثلاً - على هذه الواجبات، حتى إذا بلغت تسع سنوات لا ترى وحشةً ولا كلفةً ولا عناءً؛ لأنها تدربت على الالتزام بهذه الواجبات قبل سنتين.

في بعض المجتمعات توجد عندنا هذه العادة، كما في المنطقة الشرقية مثلاً، وهي عادة إقامة حفلة التكليف، حيث تدعو البنت التي بلغت تسع سنوات صديقاتها، كما تدعو الأم صديقتها، وتأتي العائلة والصديقات لتهنئة الفتاة على بلوغها سن التكليف، وتُقَدَّم لها الهدايا التي تحسّسها بأنها امرأة، كالحجاب والقرآن والكتاب وغيرها مما يحسّسها بأنها قد أصبحت امرأة، وهكذا ترتفع معنوياتها للحث على الالتزام بسبيل المرأة وطريقها، وتُقْرَأ المدائح والقصائد التي تتلى في مديح أهل البيت . وهذه عادة حسنة، من عملها فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

إذن فموقف الإسلام من العقل الجمعي إذا كان عبارة عن عادات وتقاليد هو ما ذكرناه بالتفريق بين العادة الحسنة والعادة السيئة.

النقطة الثالثة: الفن الإعلامي الحسيني.

قبل الدخول في هذه النقطة ننبه على أمر: أنتم تسمعون من خلال الإذاعات، وتشاهدون في القنوات المختلفة، الحديثَ والمؤتمراتِ عن العولمة والعولمة.. هل العولمة حسنة أم سيئة؟ ما هي العولمة؟ هناك حديث مفصّل عن العولمة في الإعلام.

روبرتسون - وهو أحد علماء الاجتماع - يقول: العولمة عبارة عن اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم، بحيث يصبح العولمة قرية واحدة على حد تعبيرهم. ومن الطبيعي أن للعولمة إيجابياتها، فإن نصف سكّان الكرة الأرضية - ثلاثة مليارات - يستطيعون ببركة العولمة أن يشاهدوا أي حدث عالمي في وقت حدوثه بالصوت والصورة، ومن الطبيعي أن يتسع أفق الإنسان حتى يرى العالم ويعرفه همومه ويعيش مشاكله، كمشكلة البيئة والفقر والأمراض الخطيرة والأوبئة.. ويظل الإنسان يعيش الهموم العالمية من خلال وسائل الإعلام، وهذا أثر إيجابي للعولمة.

وهناك أثر سلبي للعولمة، فإن العولمة طريقٌ لسيطرة الثقافة الاستهلاكية علينا، فإننا الآن - خصوصًا مجتمع الخليج - مجتمع استهلاكي، وليس مجتمعنا مجتمعًا منتجًا، إذ أن جميع الشركات العالمية وجميع مصادر الإنتاج سوقها عندنا، وبضاعتها عندنا، ورواجها عندنا، فأنا مثلاً أستخدم اليوم هذه السيارة، وبمجرد ظهور موديل جديد أستبدلها به، وأستخدم اليوم هذا الهاتف النقّال، وبمجرد ظهور موديل جديد أقوم بعملية استبدال، وهكذا... فدورنا دور استهلاك لا دور إنتاج.

إذا استقرت العولمة وسيطرت ستسيطر علينا الثقافة الهلاكية، بحيث أن أي شركة تريد أن تسوق لموديل معين، أو تريد أن تسوّق لموضة معينة، باستطاعتها في لحظة واحدة أن تؤثر على مليار إنسان وتجعلهم - من خلال العولمة - يلبسون شكلاً واحدًا، وباستطاعة أي شركة أو مصدر إعلام أو إعلان في خلال لحظة واحدة أن يجعلوا مليار شاب يمشون على تسريحة معينة، ويجعلوا مليار امرأة تلبس شكلاً معينًا، ويجعلوا مليار إنسان شراء سيارة معينة، وهكذا تسطيع على مجتمعنا الثقافة الهلاكية، فنجري وراء الموضات والموديلات ووراء الجديد والتنوع، من دون رشد ولا اقتصاد ولا تهذيب ولا تأمل.

مع الأسف، نحن ماذا نخطط والآخرون ماذا كيف يخططون؟! أين عقولنا التخطيطية وأين عقول الآخرين؟! سنة 1997 اجتمعت أربعون دولة في العالم للتفكير في كيفية إدارة العالم في القرن الواحد والعشرين. عبر ألفين قمر صناعي يعمل في هذا الفضاء كيف يحرّكون هذا العالم؟! وكيف يديرون أفكار هذا العالم؟! وكيف يؤثرون على جماهير هذا العالم؟! هكذا يخططون، ولكن نحن كيف نخطط؟! المسلمون كيف يخططون؟! أين قنواتنا الفضائية المتنوعة؟! كم موقعًا إسلاميًا لنا على الإنترنت؟! كم قناة فضائية لا تتحدث إلا بالإسلام عندنا؟! كم صحيفة إسلامية خالصة عندنا؟! كم إذاعة إسلامية خالصة عندنا؟! كيف يخطط الآخرون وكيف يخطط المسلمون؟! كيف ينظر المسلمون إلى هذا القرن الجديد؟! أين موقعهم؟! أين منارهم؟! أين منبرهم؟! أين هم في هذا العالم كله؟!

لو سرنا على خطى أئمتنا - أئمة الهدى - لكان لنا دورٌ إعلاميٌ باهرٌ، فإن الحسين لم يكن إنسانًا ثائرًا فقط، بل كان إنسانًا سياسيًا يخطّط لفن إعلامي كما كان يخطط لموقف ثائر، فمثلاً: الحسين عندما خرج من مكة المكرمة قيل له: إذا كنتَ مصرًا على الخروج فلماذا تأخذ النساء معك؟! قال: ”شاء الله أن يراني قتيلاً وأن يرى النساء سبايا“، والمشيئة هنا مشيئة تشريعية، أي أن الله تعالى أمره بالتضحية وأمره بحمل النساء معه.

قد يستغرب الإنسان ويقول: إذا كان الإنسان عاقلاً ويعلم بأنه سيموت، فكيف يحمل زوجته وأطفاله ونساءه معه؟! إذا كان يعلم بأنه سيُذْبَح، وسُيْقْتَل، وسيُصَفَّى جسدُه وستُصَفَّى الأجساد كلها معه، ولن يبقى أحد، فكيف يحمل معه نساءً وأطفالاً صغارًا وأيتامًا؟! كيف تتحرك هذه العقلية؟! كيف تفكّر هذه العقلية؟! كيف أقدم الحسين على هذه الخطوة؟! لماذا حمل نساءه وأطفاله وهو يعلم بمصرعه؟!

هذا فنٌ إعلاميٌ، إذ أن الحسين سياسي، وكان يخطط لمسيرة إعلامية، ويخطط لصدى إعلامي، وبقي هذا الصدى وبقي هذا الفن وبقي هذا المنهج إلى يومنا الحاضر، إذ أن صوت المرأة وسيلةٌ إعلاميةٌ مهمةٌ جدًا، فهو من أهم الوسائل الإعلامية، خصوصًا إذا اكتسب نبرة الحزن والأسى واقترن بالعاطفة والبكاء، ولم يغفل الحسين عن ذلك، حيث علم بأنه إذا قُتِل وذُبِح ستكون الوسيلة الإعلامية لثورته وحركته صوت زينب، وصوت سكينة، وصوت ليلى، وصوت رملة، وصوت أم كثلوم.. صوت المرأة الممتزج بالحزن والكآبة والدموع والانفعال هو الذي سيؤجّج الجماهير، وهو الذي سيحرّكهم، وهو الذي سينقذهم من سباتهم. الحسين لم يغفل عن هذه الوسيلة الإعلامية، ولذلك حمل معه النساء، وقال: ”شاء الله أن يراهن سبايا“، أي أنهن سيتكلمن ويبلغن صوتي وهم في السبي وفي المذلة وفي حال يرثى لها، هذا أولاً.

ثانيًا: الحسين خطّط لمبدأ اللطم.

اللطم الذي نحن نصنعه أتانا من عقل الحسين، فإن الحسين هو الذي خطّط لنا مبدأ اللطم والعزاء، حيث علم بما سيحصل بعد موته، وفعلاً تقول الروايات: فلما رأت النساء جسد الحسين حمن حوله فلطمنه وندبنه، وكان زين العابدين - وهو الإمام المعصوم الذي لا يرضى على باطل - قد رآهن بهذا المرأى، وأقرهن على هذا الأمر؛ كي يبقى هذا الأسلوب أسلوب إثارة وتحريك، وكي يبقى أسلوب اللطم أسلوبًا يحرّك الجماهير - على مدى العصور - نحو مظلومية الحسين وقضيته.

ثالثًا: لقد خطّط الحسين لهذه الندبة.

نحن نقرأ الأشعار بصوت حزين ونلونها ونرجّعها، وهذه ندبة خطّط لها الحسين؛ لأن النساء ندبن وأعولن على جسده، فهو عندما حمل النساء كان ملتفتًا إلى أنهن سيقمن بهذه الوسيلة الإعلامية، ألا وهي وسيلة الندبة. الإمام الصادق يخاطب أحد أصحابه فيقول له: أتزور الحسين؟ قال: نعم، قال: إذا زرته ماذا ترى هناك؟ «كان الأمويون يحاربون زيارة الحسين، فكان زوار قبر الحسين قليلين، فماذا كان يرى هذا الراوي هناك؟...»، قال: أرى شيعتكم حول القبر بين قاصٍّ يقصُّ - أي: يقرأ قصة - ونادب يندب ولاطم يلطم، فقال الإمام: ”الحمد لله الذي جعل من شيعتنا من يفد إلينا ويندبنا“، فالأئمة باركوا هذا الأسلوب؛ لأنه أسلوب احتجاج.

لا تهتم بلوم الآخرين! الآخرون قد يلومونك ويقولون لك: أنت - أيها الشيعي - منذ 1400 سنة وأنت تضرب صدرك وتلطم على وجهك! إلى متى أنت في هذا الجو؟! ليس هذا أسلوبًا حضاريًا! وليس هذا أسلوبًا ينسجم مع واقع العصر! أجبه، قل له: نعم، لطمنا وندبتنا هي مسيرات احتجاجية، فنحن نمارس مسيرة احتجاجية من خلال لطمنا وندبتنا، وهذه الألوان التي نمارسها من عويل وندبة ولطم خطّط لها أهل البيت، وذلك لأنها مسيرات احتجاجية، ولأنها وسائل إعلامية توصل صدى الحسين ونبضه وطعمه إلى القلوب والنفوس.

نحن عندما نمارس اللطم والندبة إنما نمارس دور سكينة ودور فاطمة، ونحن عندما نمارس اللطم والندبة إنما نوصل حرارة الحسين إلى قلوبنا، ”وإن لقتل جدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا“، فحافظوا - يا إخوان - على هذه الوسيلة الإعلامية، وركّزوها، وأصروا عليها، فإن وسيلة اللطم والندبة هي وسيلتنا الاحتجاجية على الجريمة الأموية التي اقترفت في حق الحسين، وهي وسيلتنا الإعلامية على صدى الحسين وصوته، وهي التي ستوصل قضية الحسين إلى قلوب أطفالنا، وإلى قلوب أجيالنا، وإلى قلوب من يأتي بعدنا، ولن تصل إليهم قضية الحسين إلا عبر هذه الألوان: الندبة والبكاء واللطم والحلقة والمأتم.

وهذه الوسائل تربّي في أرواحنا مبدأ الحسين، وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الوسائل تربّي عندنا روح الحسين الذي لا يرضى بالمنكر ولا بالفساد ولا بالانحراف، وتربّي عندنا أن نكون كالحسين، فلا نرضى من أصدقائنا ولا من بناتنا ولا من أولادنا الانحرافَ والمنكرَ.

حافظوا على هذه الوسيلة وطوّروها. أدخلوا فيها بعض الكلمات، ودعوا المضامين التي تتلى أثناء العزاء مضامين تتحدث عن العقيدة وعن الإمامة وعن العصمة وعن المهدي المنتظر «عجل الله فرجه الشريف»، واجعلوا مضامين اللطميات تتحدث عن مبدأ الحسين وثورته وأهدافه، ودعوا مضامين الكلمات تتحدث لأولادنا ولأجيالنا عن الآداب، وعن التعاليم الإسلامية، ودعاو هذه المضامين والكلمات تتحدث عن مآساة الحسين والجريمة التي اقترفت في حق الحسين.

ومن الضروري أيضًا الاعتناء بالطفل، فإننا مهملون بأطفالنا. أنت تأتي بطفلك إلى المأتم، ويستمعني أنا مثلاً، فأطيل عليه، وهكذا يتأذى، فإنه لا يستطيع أن يتحمل أن يستمع لمدة ساعة، فإن الكبير يقول بأن هذا السيد دائمًا يطيل! فكيف بالطفل؟! نعم، نحن لو جعلنا ألوانًا للأطفال، وعزاءً للأطفال فقط، بحيث يديره شخص من الكبار، فتكون لهم لطميات خاصة وعزاء خاص بهم، حتى يتعلموا كيف يعزون بأنفسهم، بحيث ينشد لهم طفلاً منهم، وهم يرددون معه ويعزون معه.

علينا أن نعطي الطفل دورًا في هذه المراسم، وعلينا أن نعطي الطفل دورًا في هذه الوسائل الإعلامية، وعلينا أن نعطي الطفل دورًا في هذه الشعائر الحسينية. إذا شعر الطفل بأن له دورًا وشخصيةً وكيانًا فإنه سيأتي إلى هذه المآتم؛ لأنه يرى أن هذه المآتم وظيفته وساحته وأفقه ومجاله.

إذن علينا أن نحافظ على هذه الوسائل لأنها تحفظ صوت الحسين وأصداءه ، وهنيئًا لأنصار الحسين! نحن إذا أردنا أن نكون من أنصار الحسين فعلينا أن ننصره بالعويل وبالندبة وباللطم وبالمأتم، وهنيئًا لأنصاره الذين بذلوا دماءهم وأنفسهم...

المرأة المؤمنة ودورها الاجتماعي
مرض الجفاف الروحي