نص الشريط
كرامة الإنسان في الإسلام
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 9/1/1422 هـ
مرات العرض: 3645
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1577)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في ثلاث نقاط:

  • في بيان معنى الكرامة.
  • وفي الميزان الفقهي لكرامة الإنسان.
  • وفي الفترة الأولى للشعور بالكرامة.
النقطة الأولى: بيان معنى الكرامة.

الآية المباركة تضمنت مدلولين: المدول الأول: التفريق بين التكريم والتفضيل، والمدلول الثاني: تفضيل الإنسان على بعض المخلوقات.

المدلول الأول: ما هو الفرق بين التكريم والتفضيل؟

نلاحظ الآية المباركة اعتمدت التكريم مقدمة للتفضيل، أي أن الإنسان يمر بمرحلة التكريم، ثم ينتقل منها لمرحلة التفضيل، ولذلك بدأت الآية بالتكريم وختمت بالتفضيل، والمقصود من التكريم: تخصيص الإنسان بشيء ينسجم مع دوره المستقبلي، وأما التفضيل فهو: ترجيح الإنسان على غيره في الأمور المشتركة.

مثلاً: أنت مدرس في الثانوية، وعندك تلميذان، أحدهما يملك ذكاء متفوق يتناسب مع أن يكون دوره في المستقبل طبيبًا، فعندما تعطي هذا الطالب المتفوق كتبًا تتحدث عن الطب فإن هذا يسمى تكريمًا؛ لأنك أعطيته شيئًا ينسجم مع دوره المستقبلي - وهو كونه طبيبًا - وخصصته به، إذ لم تعط غيرَه ذلك، وبما أنك خصصته بشيء ينسجم مع دوره المستقلبي ومع مواهبه الذاتية، فإن هذا التخصيص يعبّر عنه بالتكريم، حيث حفظتَ به كرامتَه وشخصيتَه.

ولكن لو قدّم جميع الطلاب امتحانًا، ووزّعت عليهم جميعًا جوائز، ولكنك أعطيت أحدهم جائزة أثمن من بقية الجوائز، فحينئذ يسمّى فعلك تفضيلاً لا تكريمًا؛ لأنك لم تخصصه وإنما رجّحته على غيره في أمر مشترك، حيث أعطي الجميع هدايا، ولم يختص هو بهدية، إلا أن هديته أفضل من غيره. والخلاصة: أن الترجيح في الأمر المشترك يسمّى تفضيلاً، بينما التخصيص بما ينسجم مع الدور يسمّى تكريمًا.

ومن هنا نجد أن تكريم كل شيء يكون بما ينسجم معه، فمثلاً: تكريم المسجد بالصلاة فيه، وتكريم العالم بسؤاله، وتكريم المصحف الشريف بقراءته، كما في الحديث: ”ثلاثة يشكون إلى الله تعالى يوم القيامة: مصحفٌ مهجورٌ“، ونحن للأسف متخلفون في هذه الجهة، فإننا لسنا لا نقرأ القرآن فحسب، بل إننا لا نقرؤه إلا في أيام الفواتح أو في المناسبات أو في شهر رمضان! دستورنا وكتابنا الذي نعتز ونفتخر به لا نفتحه ولا نقرؤه؛ بحجة أننا مشغولون بالسوق وبالعمل وبالوظيفة! الإمام الصادق يقول: ”ما يمنع التاجر المشغول منكم بسوقه إذا رجع إلى منزله ألا ينام حتى يقرأ بعض آيات من القرآن؟! فإنه كلما قرأ آية رقى درجة“، ”من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين، من قرأ عشرين آية كتب من الذاكرين، من قرأ ثلاثين آية كتب من القانتين، من قرأ خمسين آية كتب من الخاشعين“، فكل آية تقرؤها تشهد لك يوم القيامة بأنك قرأتها، والقرآن شافعٌ ومشفَّعٌ، فقراءة القرآن تشفع لك، وتكفّر ذنوبك وسيئاتِك، ولا عذر لمن يقول بأنه مشغول، فإنه يستطيع أن يقرأ شيئًا من آية الذكر الحكيم كل يوم ولو بمقدار خمس دقائق.

وكيفما كان، فإن الإنسان قد مر بمرحلتين: مرحلة التكريم، ومرحلة التفضيل، وتتمثل مرحلة التكريم في العقل، ولذلك يقول الفلاسفة: الوجود منشأ للخير، فمتى ما وُجِد وجودٌ وُجِد خيرٌ، وبما أن الإدراك خيرٌ، إذن الوجود مساوقٌ للإدراك، فكلما وُجِد وجودٌ وُجِد إدراكٌ، فأي موجود في العالم عنده حظ ودرجة من الإدراك، وعلى ذلك، فحتى الحجر والصخرة الصماء عندها حظ من الإدراك، فالوجود مساوقٌ للإدراك، وكل موجود في هذا الكون - سواء كان ماديًا أم نباتيًا أم حيوانيًا أم إنسانيًا أم جانًا أم ملكًا - عنده نوعٌ وحظٌ من الإدراك.

وهذه الحقيقة يؤكدها القرآن الكريم، حيث يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، فلا يوجد شيء من الأشياء - حتى الصخرة الصماء - إلا ويدرك أن له خالقًا وأنه مرتبط بذلك الخالق. القرآن كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكتاب لا ينطق باطلاً، وهو نفسه يقول: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، ولو لم يكن لهذا الحجر إدراك لما هبط خشية لله «عز وجل». ويقول القرآن الكريم: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، هذا الجبل كيف يخشع لو لم يكن له إدراك؟!

إذن فالوجود يعني الإدراك، وكل موجود فهو مدرك وله حظ من الإدراك، وأما الإنسان فميزته أنه كما أعطي الإدراك أعطي العقلَ، وهو شيء يخص الإنسان دون غيره من المخلوقات، وهذا الشيء - وهو العقل - ينسجم مع الدور المستقبلي للإنسان، وهو الخلافة، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فالإنسان خليفة الله في الأرض، ودور الخلافة يحتاج إلى شيء يختص بالخلافة، ويتناسب وينسجم معها، ألا وهو العقل، فالعقل هو مصدر الإبداع والتغيير.

ولذلك جميع المخلوقات عندها إدراك، ولكنها لا تملك إبداعًا، ولا تملك قدرةً على التغيير، ولا تستطيع أن تصنع أنظمة وقوانين ودولاً ومجتمعات، فإن المخلوق الوحيد القادر على الصنع والإبداع هو الإنسان؛ لأنه يملك طاقة التغيير والإبداع. إذن أعطي الإنسان العقل فأعطي كرامته، حيث أعطي شيئًا ينسجم مع دوره - وهو الخلافة في الأرض - فنسمّي إعطاء العقل تكريمًا، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ.

ولذلك الآية المباركة بعد أن ذكرت التكريم ذكرت أمثلة على التكريم، حيث قالت: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. كيف يستطيع الإنسان أن يطوي البر والبحر لولا العقل؟! بالتكريم - أي: بالعقل - استطاع الإنسان أن يخترع وسائل النقل فينتقل عبر البر والبحر، ولولا العقل لما استفاد من الطيبات ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، حيث استطاع ببركة العقل أخذ هذه البذور، ثم يزرعها في الأرض، ويتخيّر الثمار، ويأخذ من هذه البذور طعامَه ولباسَه وأثاثَه ومركوبَه... فهذا الإنسان قادر على الاستفادة من الطيبات، بينما المخلوقات الأخرى لا تستطيع أن تستخدم هذا النبات في الطعام وفي اللباس وفي المنزل وفي الحضارة وفي بناء الجسور والطرق، وإنما القادر على الاستفادة من الطيبات هو الإنسان. والخلاصة: أن الإنسان بالتكريم أصبح يطوي البر والبحر، وأصبح يستفيد من الطيبيات.

الطيبيات كثيرة بين أيدينا والحمد لله، ولكننا كيف نتعامل مع الطيبات؟! كيف نتعامل مع الأموال؟! كيف نتعامل مع الثروات؟! مجتمعاتنا - مع الأسف - مجتمعات استهلاكية، لا تفكر في كيفية الاستفادة من الثروات، ولذلك أنا مثلاً عندي جوّال، وبمجرد أن يصدر موديل جديد بعد شهرين أستبدله، وبمجرد أن يظهر موديل جديد للسيارة أستبدل سيارتي، وكذلك أستبدل أثاثي.. فدورنا هو دور الاستهلاك، ولذلك جميع الأسواق والشركات العالمية تربح في مجتمعاتنا أرباحًا هائلة؛ لأن الذهنية الخليجية ذهنية استهلاكية لا تفكر إلا في التجديد والتنويع، وكأن الأموال ما وضِعَت إلا للتجديد والتنويع! الدول الغربية فيها مكاتب لترشيد الاستهلاك، أي أنها مكاتب معدة لإرشاد المواطن إلى كيفية الاستهلاك، وذلك باختيار الجهاز الأفضل، والسيارة الأفضل، والمنزل الأفضل، والأثاث الأفضل، فهي مكاتب لترشيد الاستهلاك، وليست للتسويق والترويج والإعلانات الكثيرة بالآلاف المؤلفة! يقول القرآن الكريم: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، ويقول: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.

وأما المرحلة الثانية فهي مرحلة التفضيل، بمعنى أن الإنسان مخلوق اجتماعي، ولكن الحيوان أيضًا مخلوق اجتماعي، بل إن جميع ما على الأرض مخلوقات اجتماعية، كما يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ، فظاهرة الأممية وظاهرة المجتمعات موجودة عند جميع من يسكن الأرض، ولكن الإنسان فُضِّل على هذه المخلوقات الاجتماعية، بمعنى أن البنية الاجتماعية عند الإنسان - المتكونة من اقتصاد وسياسة وتشريع وتنفيذ - متميزة على البنية الاجتماعية لجميع المخلوقات التي تسكن الأرض وتعيش عليها، فالإنسان بمرحلة التكريم انطلق إلى مرحلة التفضيل، أي: لأنه في مرحلة التكريم أعطي العقل، استطاع في مرحلة التفضيل أن يستثمر عقله، وأن يجعل بنيته الاجتماعية أفضل من جميع المجتمعات التي تعيش على الأرض، فالإنسان أفضل الكائنات الاجتماعية التي تعيش على الله.

ومن هنا يتبيّن لنا المدلول الثاني: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.

لم يقل القرآن بأن الإنسان أفضل من جميع المخلوقات، وإنما قال بأن الإنسان أفضل من كثير من المخلوقات، أي أنه أفضل المخلوقات الاجتماعية التي تعيش ظاهرة الأممية، وأما أنه أفضل جميع المخلوقات غير المخلوقات الاجتماعية فالقرآن ساكت عن ذلك، حيث لم ينفِ ولم يثبت.

النقطة الثانية: الميزان الفقهي في كرامة الإنسان.

فقهاؤنا «رضوان الله عليهم» يقولون: الإنسان المسلم له كرامة حيًا وميتًا، وهناك مسألة فقهية ترتبط بكرامة الإنسان، ألا وهي مسألة نقل الأعضاء. لنفترض أن رجلاً قد مات، ولكن بعض أعضائه لا زالت فيها حرارة وطاقة الحياة، فهل يجوز نقل الأعضاء من هذا الجسد الميت إلى جسد مريض محتاج إلى بعض هذه الأعضاء؟

هنا فقهاؤنا يقولون: هناك فرق بين جسد المسلم وجسد الكافر، فلو افترضنا أن الجسد الميت جسد إنسان كافر جاز نقل أي عضو من أعضائه إلى جسد الإنسان المسلم المحتاج إلى هذا العضو، سواء كانت هناك ضرورة أم لم تكن هناك ضرورة؛ لأن الكافر لا حرمة له، وهذا لا يعد مثلةً؛ لأن المثلة هي التصرف في الجسد بهدف التشفي والانتقام، وأما إذا كان التصرف في الجسد بهدف عقلائي - كنقل العضو إلى جسم آخر يحتاج إليه - فهذا ليس من المثلة في شيء، ولذلك يجوز التصرف في جسم الكافر بهذا النحو.

وأما إذا افترضنا أن الجسد الميت لإنسان مسلم، فتوجد حالتان:

الحالة الأولى: أن يتوقف إنقاذ حياة المسلم المريض على هذا العضو، بحيث يموت ذلك الإنسان المريض إذا لم ننقل ذلك العضو، فهنا يقول أغلب الفقهاء: يجوز نقل العضو إذا كانت حياة المريض تتوقف على ذلك؛ لقاعدة التزاحم بين الأهم والمهم. مثلاً: لو كان هناك غريقان: مات أحدهما، وبقي الآخر عضوًا، لكن لم نستطع إنقاذ الحي من الغرق إلا إذا قطعنا عضوًا من أعضاء الغريق الميت، فحينئذٍ يجوز قطع عضو من أعضاء الغريق الميت من أجل إنقاذ الغريق الحي؛ لأن المحافظة على جسد الميت المسلم وعدم هتك حرمته أمرٌ مهمٌ، بينما المحافظة على حياة النفس المحترمة أمرٌ أهم، فيقدّم الأهم على المهم لقاعدة التزاحم.

الحالة الثانية: إذا لم تتوقف حياة المريض على نقل عضو، بحيث لو لم ينقل له الكبد، أو لم ينقل له القلب، أو لم تنقل له إحدى الكليتين، فإنه يستطيع أن يعيش سنة أو بضعة أشهر، أي أن حياته لا تتوقف على نقل هذا العضو، بل يمكن أن يعيش لفترة معينة، فحينئذٍ جاز النقل - كما يقول سيدنا الخوئي «قدس سره» - إذا أوصى، وإذا لم يوصِ لم يجز. وبعبارة أخرى: إذا كتب الميت في وصيته أن يتم نقل أعضائه لمن يحتاج إليها، فقد أسقط حقه، ومادام قد أسقط حقه يجوز لنا بمجرد أن يموت أن ننقل عضوه حالاً إلى الجسد المحتاج، وأما إذا لم يوصِ فلا يجوز للولي - كأبيه أو أخيه أو ولده - أن ينقل عضوًا من أعضائه أبدًا.

وأما رأي الأستاذين - شيخنا الأستاذ الشيخ التبريزي والسيد الأستاذ السيد السيستاني - فهو أن نقل الأعضاء لا يجوز في غير الضرورة سواء أوصى أم لم يوص، وبعبارة أخرى: مادامت حياة المريض لا تتوقف على هذا النقل، فلا يجوز نقل عضو من أعضاء الميت إليه حتى لو أوصى، وذلك لقاعدة فقهية لا بد من فهمها.

الفقهاء يقولون: هناك فرق بين الحق والحكم، فإن الحق يسقط بالإسقاط، ولكن الحكم لا يسقط بالإسقاط، فمثلاً: من حق الزوجة على زوجها أن ينفق عليها، ولكن لو أسقطت الزوجة حقها، وقالت بأنها لا تريد النفقة، فحينئذٍ يسقط حقها، ولا يجب على الزوج أن ينفق عليها. ولكن حرمة الغيبة من الأحكام، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فلو قال شخص لآخر: لقد سامحتك وأسمح لك باغتيابي ليلاً ونهارًا! حينئذٍ لا تجوز الغيبة ولو قال ذلك مليون مرة؛ لأن الغيبة ليست حقًا، وإنما هي حكم شرعي.

الإسلام يحافظ على كرامة الإنسان حتى لو رفض الإنسان المسلم ذلك وقال بأنه لا يريد حرمة ولا كرامة وسمح للآخرين باغتيابه، فإن الإسلام يقول له: هذا ليس حقًا من حقوقك، بل هو قانون من قوانيني، وتشريع من تشريعاتي، فلك حرمة ولك كرامة حتى ولو فرّطت فيها أنت، ولذلك لا تجوز الغيبة حتى لو رضي المغتاب بها.

وهكذا هو حال مسألة نقل الأعضاء، فلا يحق للإنسان أن يتصرف في جسده كما يشاء، بحيث يقص منه ما يشاء ويلعب به أو ينتحر مثلاً! إذ لا ولاية للإنسان على جسده بحيث يتصرف فيه كما يشاء، فالمسألة مسألة حكم وليست مسألة حق. ولذلك ورد عن الصادق في الرواية الصحيحة: ”إن حرمته ميتًا كحرمته حيًا“، فلا يجوز له التصرف في جسده في غير موارد الضرورة، فما لم تتوقف حياة الإنسان الآخر على التصرف في جسده لم يجز التصرف، وهذا حكم وليس حقًا يقبل الإسقاط، فلو أوصى مليون وصية لم يجز التصرف في ذلك.

النقطة الثالثة: الفترة الأولى التي يشعر الإنسان فيها بالكرامة.

الفترة الأولى التي يشعر فيها الإنسان بأن له كرامة وشخصية وكيانًا هي مرحلة المراهقة، فبمجرد أن يدخل الإنسان هذه المرحلة - وعمره 11 أو 12 سنة مثلاً - يبدأ الشعور عنده بالشخصية والكرامة، وتحتاج فترة المراهقة إلى تسليط الضوء عليها، فما هي المراهقة؟ وما هي آثار المراهقة؟ كيف نتعامل مع أبنائنا وإخواننا المراهقين؟

المراهقة يقسّمها علماء الاجتماع والتربية إلى أربعة أقسام: مراهقة متكيّفة، ويكون صاحبها إنسانًا خلوقًا متواضعًا يتعامل مع الكل معاملة الألفة والمحبة، كما ورد عن الرسول : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقًا الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون“. والقسم الثاني: المراهقة المنطوية، ويكون صاحبها شخصًا منطويًا منعزلاً لا يحب الاجتماعيات، ليس عنده خلق ولا تواضع للآخرين، ويرجع ذلك إلى عوامل أسرية جعلت هذا الشخص ينطوي على نفسه. والقسم الثالث: مراهقة عدوانية، ولذلك نرى بعض الأشخاص يحملون سجائر، ويقودون دراجات نارية، ويثيرون الشغب في داخل البيت وفي داخل المدرسة، فهم يعيشون مراهقة عدوانية، وهي المراهقة التي يعيش صاحبها روح تمرد وانتقام، فيحب الإيذاء وإثارة الشغب. والقسم الرابع: المراهقة المنحرفة، حيث يصل الأمر بصاحبها إلى ارتكاب الجرائم، كجريمة السرقة، وجريمة الاعتداء على الأعراض، ونحو ذلك.

أقسام المراهقة تكون في فترة بين الطفولة المتأخرة والنضج الرجولي يتأرجح الإنسان في هذه الفترة - عشر سنوات أو أكثر - بين روحية الطفولة وروحية الرجولة، وحتى نعرف كيف نتعامل مع المراهق وكيف نتعامل مع هذه الفترة الحسّاسة الحرجة لا بد من التعرّض لآثار ومظاهر المراهقة لنعرف كيف نتعامل معها.

الأثر الأول: اليقظة الجنسية.

المراهق يبدأ بالإحساس بغريزة الجنس، ولذلك يبدأ الإنسان في هذه الفترة بالتزين والتجمّل لجلب انتباه الطرف الآخر إليه، ويبدأ بالميل ميلاً جنسيًا واضحًا إلى النوع الآخر، فكيف تتعامل الأسرة مع هذه الفترة التي يبدأ فيها الإحساس الجنسي؟

هنا تأتي مسؤولية الأب مع الولد والأم مع البنت، وهذا ليس مكان خجل ولا مجال حياء، بل لا بد من التحدث مع الولد إذا بلغ عشر سنوات مثلاً. قل له: هناك علامات بلوغ، وهناك مادة منوية، ويحصل للإنسان كذا وكذا، وهناك شهوة جنسية، وهذه الشهوة لها طريقان: طريق مشروع، وطريق غير مشروع، ويتمثل الطريق المشروع في الزواج، بينما غير المشروع يتمثل في الفواحش والعادة السرية وما شابه ذلك... نبّهه على أنه إذا أراد أن يخفّف من غلواء الجنس فهناك ممارسات تخفف منها، كممارسة الرياضة والسباحة والجري، وكذلك ممارسة الصيام مثلاً، والانضمام للأنشطة الاجتماعية، كاللجان الخيرية واللجان المسجدية واللجان المأتمية، فإن الانضمام لهذه الأنشطة يشغله عن أجواء الجنس بأجواء أخرى.

كذلك الأم عليها ألا تخجل، بل عليها أن تخبرها بأن هناك دورة شهرية، وأن هناك واجبات كذا، وأن هناك علاقات مشروعة وعلاقات غير مشروعة. إذا لم تتحدثي مع ابنتكِ وإذا لم تتحدث مع ولدكَ فسيتحدث معه الإعلام والقنوات الفضائية، وسوف يفهم ولدك الجنسَ وكيفية التعامل معه من خلال القنوات الفضائية الخلاعية، وسوف يتعلم كيف يتعامل من خلال أصدقائه ومن خلال مجتمعه ومن خلال بيئته، وبالتالي سيستورد ولدكَ وستستورد ابنتكِ مفاهيم ملوثة وقوانين خاطئة، وسينجر إلى انحرافات وإلى شذوذ من غير أن يكون هناك ضابط ولا حصانة. لذلك قبل أن تتلوث البنت وقبل أن يتلوث الولد بالمفاهيم الجنسية المختلفة، على الأبوين أن يتحدثا بنفسهما قبل أن ينفلت الأمر وقبل أن يفوت القطار.

الأثر الثاني: شعور المراهق بالاستقلال.

بمجرد أن يصبح عمره 11 سنة قال: أنا رجل ولست طفلاً، فتعاملوا معي معاملة الرجال! وهكذا تبدأ عنده روحية التمرد على السلطة البيتية والسلطة المدرسية، فلا يريد أن يتسلط عليه الأبوان، ولا يريد أن تسيطر عليه المدرسة، فتبدأ عنده روح التمرد والخروج عن قيود السلطة المنزلية والسلطة المدرسية، فكيف نتعامل معه في هذه المرحلة؟

الرسول يرشدنا إلى قانون التعامل، فيقول: ”لاعب ابنك سبعًا، وأدّبه سبعًا، وصاحبه سبعًا“، فالسنوات الأولى هي فترة اللعب، و”من كان له صبيٌ فليتصابَ له“، وأما التأديب فليس من اللازم أن يكون سبع سنوات، بل بحسب نضج الطفل، وينبغي ألا يكون تأديبه بالقوة والعنف، بل بالإقناع وبإعطاء الجوائز وبالتشجيع وبالترغيب والترهيب حتى يتعلم الآداب. وأما فترة المراهقة فينبغي على الأب فيها أن يتخذ ولده صديقًا له، وألا يعتبره ولده حتى يسيطر عليه بأوامره ونواهيه.

أنت أيها الأب، وأنتِ أيتها الأم، هذه فترة حرجة، فعليك أن تتعامل مع الولد معاملة الصديق، وأن تتعاملي مع البنت معاملة الصديقة، ولا تقل: هذا ولدي وأنا أفرض عليه أوامري! إذا تعاملتَ معه بالسلطة وبفرض الإرادة فسينفر منك، وسيتحين الفرصة حتى يفلت منك، ولذلك حاول أن تتعامل معه معاملة الصديق. اجلس معه وتحدث معه، واستشره في بعض الآراء، واعتمد عليه في بعض المسؤوليات، وأشعره بالثقة بنفسه، وعزّز ثقته في نفسه، وأشعره بأنه رجل أصبح يتحمل المسؤوليات والأعباء، فإذا أشعرته وعززته بالثقة بنفسه أصبح صديقًا لك، وهكذا يبث لك أسراره وأوضاعه وقضاياه ويهتم بك كما تهتم به، وكذلك البنت بالنسبة للأم.

الأثر الثالث: ولاء الجماعة.

الطفل قبل أن يصل عمره إلى 11 سنة يكون ولاؤه للأسرة وللوالدين، ولكن بعد دخول هذه الفترة الحرجة يصبح ولاؤه لجماعته وأصدقائه الذين يذهب معهم ويجلس معهم ويأكل مهم، فينتقل ولاؤه من الأسرة إلى الجماعة، بل ربما يفضّل الجماعة على الأسر، وربما يحب أصدقاءه أكثر من أسرته، فكيف تتعامل معه الأسرة؟

تعامل معه ببيان مفهوم الصداقة. علّم ولدك مفهوم الصداقة قبل أن ينطلق إلى المجتمع، وعلمي ابنتكِ مفهوم الصداقة قبل أن تنطلق إلى المجتمع؛ فإن الصديق أكبر مؤثر على سلوك صديقه، كما ورد عن الإمام زين العابدين : ”يا بني، خمسة لا تجالسهم ولا ترافقهم ولا تحادثهم: الكذّاب؛ فإنه كالسراب، يقرّب لك البعيد ويبعّد عنك القريب. والفاسق؛ فإنه بائعك بأكلةٍ أو بأقل منها. والبخيل؛ فإنه يمنعك أحوج ما تكون إليه. والأحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. وقاطع الرحم؛ فإني وجدتُك ملعونًا في كتاب الله“.

صاحب ذوي العقل وأهل الدينِ   فالمرء  منسوبٌ  إلى  iiالقرينِ

إذن فالمجتمع مؤثر على سلوك الفرد أثرًا كبيرًا، وذلك علّم ابنك في هذه المرحلة - مرحلة المراهقة الخطرة - بأن ينضم إلى المساجد والمآتم والمدارس التثقيفية وبيوت العلماء ومحاضراتهم حتى يتزوّد من التاريخ، وعلّمه النماذج الفضلى من أهل البيت ، وعلّمه أن مثله الأعلى وقدوته العليا علي بن الحسين الأكبر. لنقتدِ - نحن الشباب - بعلي الأكبر في روح البذل والعطاء؛ فقد أعطى وبذل وقدّم، فلنكن نحن ممن يبذل ويعطي ويقدّم. نقدّم طاقاتنا الجسدية والعقلية والاجتماعية والمادية، ونقدّم كل ما عندنا ما طاقات في سبيل مبادئنا وقيمنا ومثلنا، كما صنع علي بن الحسين الأكبر.

وقد تحدثنا قبل ليال عن مشروع التبرع بالدم، وفعلاً مجلس الأوقاف الجعفرية - جزاهم الله خيرًا - أحكموا هذا المشروع ورتّبوه مع وزارة الصحة، وإن شاء الله يكون مشروع التبرع بالدم يوم العاشر من المحرم يوم الأربعاء من الساعة الرابعة والنصف عصرًا إلى الساعة السابعة والنصف ليلاً في مأتم العدواني، وأي إنسان يرغب في أن يتبرع بدمه لمن يحتاج إليه من المسلمين يبادر من الآن لتسجيل اسمه، فبادروا جزاكم الله خيرًا؛ فإن التبرع بالدم من الصدقة، ومن أفضل الصدقة، وهو تعويدٌ للنفس على البذل والعطاء لمن لا يضره التبرع. التبرع بالدم اقتداءٌ بالباذلين واقتداءٌ بالأبطال الذين بذلوا ما عندهم في سبيل الله وفي سبيل مجتمعهم، وتحرّكوا لإنجاز هذا المشروع، فسوف يكون وسيلة إعلامية حسنة للشيعة والتشيع، وسيكون صفحة بيضاء مشرقة عن الشيعة والتشيع، حيث يستفيدون من حرارة عاشوراء ومن ذكرى عاشوراء ومن أصالة عاشوراء في المساهمة في إنقاذ حاجة المحتاج من المجتمع الإسلامي، فبادروا إلى هذا المشروع المبارك.

ونقتدي بعلي الأكبر في بره بوالديه، فكما أن الوالد مأمور بتربية ولده، فالولد مأمورٌ ببر والديه، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ فضلاً عن نهرهما ورفع الصوت عليهما وإسقاط احترامهما، فإن كل ذلك من العقوق، وعقوق الوالدين من الكبائر التي توجب النار بل توجب الخلود في النار، فإن عقوق الوالدين من أشد الكبائر التي تكون سببًا للبقاء في النار وحميم جهنم.

ربط واقعنا بأهداف النهضة الحسينية
الأمومة بين الميزان الفقهي والوظيفة التربوية