نص الشريط
تركيز الصحيفة السجادية على لغة الكآبة والحزن
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 2/2/1424 هـ
تعريف: الليلة الثانية من شهر صفر
مرات العرض: 3149
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (998)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ

صدق الله العلي العظيم

من أروع مصاديق الدعاء، ومن أجلى نماذج الدعاء: الصحيفة السجادية، التي عبّرت عنها روايات أهل البيت بزبور آل محمد. هذا العطاء الروحي الضخم، إذا وقف الإنسان عليه من أجل قراءته، ومن أجل التأمّل والتمعّن فيه، ماذا يرى في هذا العطاء؟ هناك سؤال يتبادر لذهن الإنسان، وشبهة تعترض على ذهن الإنسان إذا قرأ الصحيفة السجادية، أو مر على فقراتها وسطورها، ما هو هذا السؤال؟

السؤال: نحن نلاحظ أن الصحيفة السجادية تركّز على لغة الكآبة والحزن والبكاء، اللغة العامة التي تسيطر وتخيّم على الصحيفة السجادية هي لغة الآهات، لغة البكاء، لغة الدموع، لغة الحسرات، لغة الكآبة، هذه هي اللغة التي تمتد إلى ثنايا الصحيفة السجادية، زين العابدين من خلال الصحيفة السجادية يرسّخ لغة البكاء: ”وما لي لا أبكي، ولا أدري إلى أين مصيري“. زين العابدين من خلال الصحيفة السجادية يركّز على لغة توبيخ النفس، وتأنيب النفس، وتقريع النفس: ”كلما طال عمري كثرت خطاياي، أما آن لي أن أستحي من ربي“. زين العابدين من خلال الصحيفة السجادية يركز على لغة الندبة: ”ليت شعري، ألشقاء ولدتني أمي“.

هذه اللغة - لغة الكآبة، لغة الحزن، لغة الدموع، لغة التأنيب والتوبيخ والتقريع - هل هي أسلوب تربوي ناجح؟ هذا السؤال الذي ينقدح عند الإنسان وهو يقرأ الصحيفة السجادية: هل هذه اللغة السجادية التي تخيّم على سطور الصحيفة أسلوبٌ تربويٌ فعّالٌ؟ أسلوب البكاء، أسلوب الكآبة، أسلوب تقريع النفس وتوبيخها وتأنيبها، هل هو أسلوب تربوي فاعل، أم هو أسلوب تربوي فاشل؟

أبعاد الشبهة:

ربما يقول الإنسان بأنَّ هذه اللغة أسلوب تربوي عقيم، لغة الصحيفة السجادية لغةٌ لا تنسجم مع الأساليب التربوية الناجحة، مع الأساليب التربوية المؤثرة الفاعلة؛ لأن أسلوب البكاء ولغة الحزن والكآبة يترتب عليها أثران تربويان سلبيان، وليسا أثرين إيجابين، وهما:

الأثر الأول: سلب روح الانفتاح على الحياة.

هذه اللغة تسلب الإنسان الانفتاح على لذة الحياة، الانفتاح على بهجة الحياة، الانفتاح على طعم الحياة وذوق الحياة، لم؟ أذكر لك هنا أمرين، تتضح لك الصورة بذكرهما.

الأمر الأول: المآبة تمنع الإنسان من الالتذاذ بالحياة.

الإنسان الكئيب إنسانٌ لا يلتذ بالحياة، الإنسان الكئيب لا يلتذ بالطعام الشهي إذا عُرِض عليه، الإنسان الكئيب لا يلتذ بجمال المرأة ولا بجمال الطبيعة ولا بمفاتن الحياة ولا بألوان الحياة، الإنسان الكئيب يعيقه همّه، وتعيقه كآبته أن ينفتح على لذة الحياة، والاستمتاع بجمال الحياة. لغة الصحيفة السجادية تزرع الكآبة في النفس، فإذا انزرعت وخيّمت الكآبة على النفس، لم ينفتح الإنسان على الجمال، على الحياة، على البهجة، على المفاتن، على لذائذ هذا الكون بمختلف أصنافها وألوانها.

الأمر الثاني: أهمية الانفتاح على الحياة.

قد يقول قائل: خيرًا يا طير! ليس من الضروري أن ينفتح الإنسان على الحياة، وليس من الضروري أن ينفتح على الجمال، وعلى اللذات، وعلى أن يستمتع بالحياة، فلينغلق هذا الإنسان، وليمتنع عن الانفتاح على لذات الحياة، ما هو الضرر في ذلك؟! علماء النفس يقولون: الإنسان المنغلق على لذة الحياة وألوانها إنسان مريض، يعيش مرضًا نفسيًا، والإنسان المريض فاشلٌ في علاقاته، هذا المرض نتيجته الفشل في العلاقات الاجتماعية، لا يستطيع هذا الإنسان أن يحقق علاقات اجتماعية متوازنة، هذا الإنسان المريض، الإنسان الذي يعيش حزنًا وكآبة، يعيش آهات وحسرات، هذا الإنسان إنسان منغلق عن الحياة، والمنغلق عن الحياة إنسانٌ فاشلٌ في علاقاته الاجتماعية، لا يمكن علاقة مع زوجة، علاقة مع أسرة، علاقة مع أصدقاء، علاقة مع أقرباء، فاشل في علاقاته الاجتماعية؛ لأنه يعيش ويتقوقع ويقبع في عالم الحزن والكآبة والآهة والحسرة وحده. إنسان فاشل في علاقاته الاجتماعية.

ولذلك نجد أن النصوص الشريفة من القرآن والسنة تحث الإنسان على أن ينفتح على الحياة، أنت مأمور - كما أنك مأمور بالعبادة - بأن تأخذ قسطك ونصيبك من الاستمتاع بالحياة، ومن الانفتاح على ملذات الحياة، القرآن والسنة ينصان على روح الالتذاذ والاستمتاع بالحياة، كما ينصان على العبادة والتهجد والمناجاة. ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، القرآن الكريم يقول: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، يعني الشيطان زيّن؟! لا، ”زُيِّن“ أي: جعل الله هذا الحب زينةً للإنسان، كما قال تعالى في آيات أخرى يتحدث عن الزينة: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، زينة الدنيا تندفع وتنطلق من هذا الحب، ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

إذن القرآن الكريم يقول: لا بد أن تشبع نصيبك من لذة الحياة، وهذا رسول الإنسانية محمد : ”أحب من دنياكم ثلاثًا: الطيب، والنساء، وقرة عيني الصلاة“، وهذا الإمام أمير المؤمنين يقول: ”لا ينبغي للمرء أن يكون شاخصًا إلا في ثلاث: مرمةٍ لمعاش، وتزودٍ لمعاد، ولذةٍ في غير محرم“، إذن ممارسة اللذة غير المحرمة جزءٌ من نصيب الإنسان، جزءٌ من كيان الإنسان، إذا شخص له الإنسان فقد شخص لما ينبغي أن يشخص إليه.

إذن لغة الحزن والكآبة تسد باب الانفتاح على الحياة، وانسداد باب الانفتاح على الحياة يصطدم مع حاجةٍ إنسانيةٍ ملحةٍ، وهي حاجة الإنسان للذة الحياة، وهذه الحاجة نصَّ عليها القرآن الكريم والسنة الشريفة، هذا الأثر السلبي الأول.

الأثر الثاني: فقدان الثقة بالنفس.

إنَّ لغة الحزن والكآبة تشل الحركة الحضارية عند الإنسان، وحتى يتضح ذلك نذكر أمرين:

الأمر الأول: ما هو الهدف من وجود المجتمع الإنساني؟

الله تبارك وتعالى لماذا خلق المجتمع الإنساني؟ الهدف من وجود المجتمع الإنساني أن يصل إلى الكمال، الكمال النفسي، الكمال الروحي، ما هو طريق الوصول إلى الكمال؟ كيف نصل إلى الكمال؟ كيف يصل المجتمع الإنساني إلى الكمال؟ الوصول إلى الكمال له طريقان ذكرهما القرآن، وعبّر عنهما الفلاسفة بالمعرفة الأنفسية والمعرفة الآفاقية: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. هنا خطأ موجود في أذهان كثير من الإخوة، يتصور المعرفة الآفاقية بمعنى... الآن أشرح لك هذا.

المعرفة الأنفسية واضحة. الإنسان يقرأ نفسه، يهذبها، يطهّرها من جميع الأدران، من جميع الشوائب، ”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه“، أمير المؤمنين يقول: ”وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى“، وورد عن الرسول محمد : ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“، هذه المعرفة الأنفسية لا أتحدث عنها، لكن ما معنى المعرفة الآفاقية؟ لا يمكنك أن تصل إلى الكمال إلا عبر المعرفة الأنفسية والمعرفة الآفاقية، فما معنى المعرفة الآفاقية؟

الكثير من الناس يتصور أن المعرفة الآفاقية هي أن يجلس الإنسان، وينظر إلى السماء، وإلى النجوم، وإلى الأرض التي حوله، وإلى... وهذه هي المعرفة الآفاقية! وكأنه بالنظر إلى السماء أو إلى الأرض بلغ القمة والذروة في المعرفة، ووصل إلى الله تبارك وتعالى عبر المعرفة الآفاقية! أو بعض الناس يتصور أن المعرفة الآفاقية هي أن يدرس منظومة ملا هادي السبزواري، أو أسفار ملا صدرا الشيرازي! لا، المعرفة الآفاقية هي أن تقيم الحضارة الكونية، أن تقيم الحضارة، المجتمع الإنساني إذا أقام الحضارة الكونية حصل على المعرفة الآفاقية، المعرفة الآفاقية هي أن تكتشف أسرار الكون، هي أن تكتشف ألغاز الأرض، هي أن تكتشف ألغاز الطبيعة، هي أن تكتشف المعادن والبركات والطاقات الممتدة في أرجاء هذا الكون، هذه هي المعرفة الآفاقية، كيف تكتشف الأسرار؟ عن طريق المنبر؟! أو عن طريق دراسة العرفان أو دراسة الفلسفة أو دراسة علم النفس أو دراسة علم الاجتماع؟!

لا، اكتشاف أسرار الكون، واكتشاف ألغاز الكون، طريقه هو إقامة الحضارة. علم الهندسة، علم الفيزياء، علم الأحياء، علم الجيولوجيا، سائر العلوم الطبيعية التي تفتح لك أسرار الطبيعة، تفتح لك ألغاز الكون، تدلك على مظاهر الإبداع، مظاهر القدرة الإلهية، مظاهر العظمة الإلهية في هذا الكون، إقامة الحضارة، اكتشاف أسرار الكون، هي المعرفة الآفاقية، ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ، هم لا ينظرون فحسب، بل يتفكرون، هناك علوم يستخدمونها من أجل اكتشاف أسرار الكون، ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. إذن المجتمع الإنساني خُلِقَ لأجل أن يصل إلى الكمال، والكمال الروحي طريقه المعرفة الأنفسية والمعرفة الآفاقية، والمعرفة الآفاقية عبارة عن إقامة الحضارة، واكتشاف أسرار الكون.

الأمر الثاني: لا يمكن للإنسان الحزين الكئيب أن يقيم الحضارة.

الإنسان الذي يتعود على لغة البكاء، لغة التأنيب، لغة الحزن، لغة الأسى، إنسان لا يستطيع أن يقيم الحضارة؛ لأن الإنسان الذي اعتاد عشرين سنة، ثلاثين سنة، أن يعاتب نفسه، إنسان تعود على أن يحتقر نفسه، تعود على أن يدوس نفسه، تعود على أن يقرّع نفسه، الإنسان الذي اعتاد على تقريع النفس ولومها إنسانٌ يفقد الثقة بنفسه، يفقد الثقة بطاقاته، يفقد الثقة بأعماله، يفقد الثقة بمشاريعه، وإذا فقد الثقة بنفسه ومشاريعه وأعماله فكيف يعوّل عليه في إقامة الحضارة أو اكتشاف أسرار الكون، وهو إنسان لا يعيش ثقة بنفسه، لأنه اعتاد على لغة تأنيب النفس، وتقريع النفس، وتحطيم النفس؟! إنسان لا يمكنه أن يقيم الحضارة المطلوبة.

بينما النصوص الشريفة تحث الإنسان على اكتشاف الألغاز، تحث الإنسان على إقامة الحضارة، كما ورد عن الأئمة الهداة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». الإمام الباقر أو الإمام الصادق يود أن يقبّل يد الإنسان العامل. الإنسان العامل الذي يكدح، يحرث الأرض، ينتج، يقيم ثروة زراعية على الأرض، الإمام يريد أن يقبّل يده؛ لأنها يد شاركت وساهمت في تحقيق خلافة الله على الأرض ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. الإمام علي يربّي الإنسان على أن يثق بنفسه، يثق بمهاراته، يثق بطاقاته، كما ورد عنه : ”إذا خفت من شيء فقع فيه“، لا تكن إنسانًا خوّافًا مترددًا بين إحجام وإقدام، كن إنسانًا جريئًا واثقًا بطاقاتك وقدراتك ومهاراتك، ”إذا خفت من شيء فقع فيه؛ فإن انتظارك له أشد من وقوعك فيه“.

إذن هناك أثران سلبيان يترتبان على لغة البكاء ولغة الحزن: الأثر الأول عبارة عن عدم الالتذاذ بالحياة، والأثر الثاني عبارة عن فقدان الثقة بالنفس، ومع هذين الأثرين السلبيين كيف يكون الأسلوب الذي مارسه الإمام زين العابدين من خلال الصحيفة السجادية أسلوبًا تربويًا ناجحًا؟! الإنسان ينبغي أن يمارس أسلوب العفوية والاسترسال مع الحياة، وعدم الاكتراث بالأخطاء، وعدم الاكتراث بالجرائر، حتى يعوّد نفسه على الثقة بنفسه، وحتى يزرع في نفسه الطمأنينة والقدرة على مواجهة الحياة، بتحدياتها ومصاعبها وألوانها المختلفة.

الجواب عن الشبهة:

الآن نحن قوّينا الشبهة، وتركنا السؤال سؤالاً عميقًا كبيرًا عريضًا، ولا بد من أن نجيب عن هذا السؤال، وأن نجيب عن هذه الشبهة، وذلك عن طريق وجهين:

الوجه الأول: التفريق بين البكاء الفعلي والبكاء الانفعالي.

هنا مقدمتان:

المقدمة الأولى: أهمية البكاء في نقد الذات.

هنا ثلاثة أسئلة تواجه الإنسان في علم الإدارة والتربية.

السؤال الأول: ما هو الطريق للنجاح؟

كيف يصبح الإنسان إنسانًا ناجحًا؟ ما هو طريق الوصول إلى النجاح؟ أنا إنسان أدرس في الجامعة مثلاً، كيف أصل إلى النجاح؟ كيف أصل إلى المستوى المرموق؟ ما هو طريق الوصول إلى النجاح؟ الجواب: طريق الوصول إلى النجاح نقد الذات، أن تنتقد ذاتك، من لم ينتقد ذاته لا يخطو خطوة نحو الأمام إطلاقًا. الإنسان الذي لا ينقد ذاته إنسانٌ لا يتقدّم، إنسانٌ لا يتغير، الإنسان القنوع بوضعه، والله أنا قانع بوضعي، وبما أنا فيه! قانع بمستواي العلمي، قانع بمستواي الثقافي، قانع بمستواي الاجتماعي! الإنسان الذي لا ينقد ذاته إنسان لا يتقدم خطوة، يتراوح في مكانه، لا يتقدم خطوة واحدة، إنسان يبقى في محله من دون أن يتقدم. طريق الوصول إلى النجاح نقد الذات، أن تتحدث مع الداخل، أن تتحدث مع النفس، أن تسأل نفسك: ماذا قدمت؟ ماذا أعطيت؟ ماذا أنتجت؟ إلى أين وصلت؟ إلى أين بلغت المسيرة؟ إلى أين وصلت المسيرة؟ لا بد أن تنقد ذاتك، من دون نقد الذات لا يمكن الوصول إلى القمة، الوصول إلى الذات إنما يكون عبر نقد الذات، ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا“ كما ورد عن الرسول ، نقد الذات - محاسبة النفس - طريق الوصول إلى القمة.

السؤال الثاني: ما هي آلية نقد الذات؟

نحن نريد أن نحاسب أنفسنا وننقد ذاتنا، ولكن ما هي الآلية لنقد الذات؟ ما هي الآلية التي نتبعها ونسير عليها من أجل نقد الذات؟ نحن نريد أن ننقد ذاتنا، لكن ما هي الآلية لنقد الذات؟ آلية نقد الذات تقوية الإرادة، أن تكون عندك إرادة وطموح. الإنسان الذي لا يمتلك طموحًا يبقى على وضعه، لا يتغير ولا يتبدل، لا بد أن تكون عندك إرادة الطموح. الكثير منا مع الأسف يقول: والله أنا دعني على وضعي! أنا الآن أخرج من الصباح للعمل، وأرجع للغداء، وأتغدى، وأرتاح، وأخرج لملاقاة الأصدقاء، وأجلس مع أهلي، وأتنزه... وضعي ممتاز وكاف، أنا أعيش في هذا الوضع كما هو عليه! ليس عنده طموح نحو المستقبل، ليس عنده إرادة التغيير، ليس عنده إرادة أن يصل إلى شيء، على أي مستوى، مستوى تجاري، أو مستوى مادي، أو مستوى اجتماعي، أو مستوى ثقافي. لا يملك إرادة الطموح، لا يملك روح الطموح. الإنسان الذي لا يمتلك روح الطموح لن يستطيع أن ينقد نفسه أبدًا، دائمًا يشعر أنه زين، لأنه لا يمتلك إرادة الطموح، فإرادة الطموح ضرورية لنقد الذات، ونقد الذات ضروري للوصول إلى القمة والنجاح، فلا بد من إرادة الطموح.

أضرب لك مثالاً: إنسان يدرس في الجامعة مثلاً، هو طالب طب، ويختبر كل شهرين، فتكون درجته C أو B مثلاً، هذا الإنسان لو قال: لا بأس بذلك! لست أول شخص يأخذ هذه الدرجة! دعني على هذه الدرجة إلى أن يفتح الله بفتحه، وإلى أن يغيّر الله الأوضاع بنفسه، وأنا باق على C، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وسيرزقني الله يومًا من الأيام بأكبر معدل وأفضل درجة، وانتهى الموضوع! هذا الإنسان لا يمكن أن يتغير، هذا الإنسان لو قال: سأبقى أعيش بأسلوب العفوية والاسترسال، ولا داعي إلى أن أنقد ذاتي، ولا إلى أن أركز على أخطائي، ولا إلى أن أحاسب نفسي، محاسبة النفس، نقد الذات، هذا أسلوب تربوي خاطئ، فلأبقَ على السي إلى أن يرزقني الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب!

لو بقي هذا الإنسان من دون إرادة، من دون طموح، من دون نقد الذات، لا يستطيع أن يصل إلى النجاح، لا يستطيع أن يصل إلى القمة، لذلك ورد عن الرسول محمد : ”إن الله يبغض العبد النوّام“، وورد عنه : ”من تساوى يوماه فهو مغبونٌ“. هو بعد سنة كما كان قبل سنة، وبعد عشرين سنة كما هو قبل عشرين سنة، لم يتغير مستواه، لم تتغير أوضاعه، هذا إنسان مغبون. إذن لا بد من إرادة الطموح.

السؤال الثالث: كيف نمتلك الإرادة؟

نحن نعيش قلقًا، نعيش اضطرابًا، نعيش تخوّفًا، كيف نمتلك إرادة حديدية صامدة، وبهذه الإرادة نستطيع أن ننقد ذواتنا، وبهذه الإرادة نستطيع أن نصل إلى القمة والنجاح؟ ما هي الآلية لتقوية الإرادة، ولتقوية الصمود؟ إذا فعلاً كنت تريد أن تحصل إرادة، فإن آلية تحصيل الإرادة هي الإحساس بالخطر، فمن أحس بالخطر ملك الإرادة، وأما من لم يحس بالخطر فهو مرتاح! الإنسان الذي يحسّس نفسه بالخطر هو الذي يمتلك الإرادة. أنت إذا مررت على طريق، وشعرت بأن هناك التماسًا كهربائيًا في الطريق، ألا تمتلك إرادة الهروب؟! طبعًا تمتلكها، فلأنك أحسست بالخطر، امتلكت إرادة الهروب. الإنسان إذا خسر في تجاره، خسر الأسهم، سقطت الأسهم في البنوك، أو في الشركات، وخسر في تجارته وتراكمت عليه الديون، هذا الإنسان إذا أحس بالخطر، ألا يمتلك إرادة التغيير، أن يغير وضعه، أن يغير ما هو فيه؟! ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، طريق تحصيل الإرادة هو التحسيس بالخطر، أن تحسّس نفسك بالخطر، وكيف نحسّس أنفسنا بالخطر؟

أفضل وسيلة - حتى علماء النفس يذكرون - وأنجع وسيلة لتحسيس النفس بالخطر هو البكاء، البكاء أفضل وسيلة، البكاء أفضل وسيلة لتحسيس النفس بأخطائها، لتحسيس النفس بكبواتها، لتحسيس النفس بتجاوزاتها، لتحسيس النفس بأخطائها وانحرافاتها، أفضل وسيلة، أنجع وسيلة، أهم وسيلة، هي البكاء.

المقدمة الثانية: الفرق بين العقل الظاهر والعقل الباطن.

أنت تعلم - وأنا تعرضت لهذا في محاضرات سابقة - أن هناك قوتين عند الإنسان: قوة العقل الظاهر، وقوة العقل الباطن، وهذا تذكره المدرسة التحليلية في علم النفس. العقل الظاهر هو الذي يخطّط، هو الذي يرسم الأهداف، مثلاً: أنا الإنسان لماذا دخلت اختصاص الطب ولم أدخل اختصاص الهندسة ولا الرياضيات؟ العقل الذي خطّط لي أن أدخل علم الطب هو العقل الظاهر الواعي، وهذا ما يسمّى بمنطقة الشعور والوعي. هناك قوة غير هذه تسمى منطقة اللاشعور ومنطقة اللاوعي، وهي العقل الباطن. العقل الباطن خزانةٌ تختزن الميول المكبوتة عند الإنسان، فمثلاً: لو كان هناك شخص عنده هواية الرسم، أو التمثيل المسرحي مثلاً، لكن لم تسمح له الظروف بأن يُشْبِع هوايته، وبأن يغذّي هوايته، ما سمحت له الظروف بذلك، هل هذه الهواية تتبخر وتزول؟! هذه الهواية إذا لم تشبعها تتراجع وتصبح ميولاً مكبوتة، وهناك خزانة تستقبل هذه الميول المكبوتة، وهذه الخزانة تسمى بالعقل الباطن، فهو منطقة اللاشعور.

وهذه لم تذكرها المدرسة التحليلية في علم النفس فحسب، بل حتى النصوص الشريفة ذكرت مسألة العقل الباطن، كقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، ما هو الشيء الأخفى من السر؟ السر معروف، وهو عبارة عن حديث بين الإنسان ونفسه، ولكن هناك شيئًا أخفى من السر، وهو العقل الباطن، الميول المكبوتة، منطقة اللاشعور. الإمام أمير المؤمنين ورد عنه في دعاء كميل: ”وجعلتهم شهودًا عليَّ مع جوارحي، وكنتَ أنت الرقيب عليَّ من ورائهم، والشاهد لما خفي عنهم“، ما الذي خفي عن الملائكة الموكلين برقابة أعمال الإنسان؟ الملائكة يراقبون حتى خطرات الإنسان وأحاديثه النفسية وأفكاره الذهنية، هذه كلها يطلع عليها الملائكة ويسجلونها، فما الذي خفي عنهم؟ ما خفي على الملائكة إلا الميول المكبوتة في منطقة اللاشعور عند الإنسان. والإمام أمير المؤمنين يتحدث عن هذه المنطقة بشكل واضح: ”ما أضمر امرؤ في قلبه شيء إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“.

مثلاً: إنسان محترم مقدّر، له شخصية اجتماعية، ثقيل في المجتمع، تراه جالسًا على الكرسي، ويسرح بفكره، ويقوم بحركات بيده وقلقلات برجله وهزات برأسه مثلاً! هذه ميول مكبوتة تظهر عند الإنسان يومًا من الأيام، هذا الإنسان تمر عليه أحيانًا بعض الميول المكبوتة التي تفرض نفسها عليه في وقت معين، في ظرف معين، في لحظة معينة، ”ما أضمر امرؤ في قلبه شيء إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“، منطقة العقل الباطن، منطقة اللاشعور.

التصرفات الصادرة من العقل الظاهر الواعي نسمّيها تصرفًا فعليًا، والتصرفات الصادرة من العقل الباطن نسميها تصرفًا انفعاليًا، وهذا هو الفرق بين الفعلي والانفعالي. التصرف الفعلي واضح، أنا أخطط للإتيان إلى المأتم أو للقاء صديقي، هذا تصرف فعلي، لكن هناك تصرفًا انفعاليًا. بعض الأشخاص إذا أصيب بخسارة، خسر في علاقته مع زوجته، خسر في علاقته مع التجارة، خسر في علاقته مع الصديق، بعض الناس إذا أحس بالخسارة، تصيبه حالة انهيار، تصيبه صدمة نفسية، حالة انهيار، يبدأ بالبكاء والهويل والهذيان في الكلام، هذا تصرف انفعالي، نشأ عن العقل الباطن، ولم ينشأ عن العقل الواعي.

النتيجة:

إذن البكاء على قسمين: بكاء فعلي يصدر من العقل الواعي، وبكاء انفعالي يصدر عن العقل الباطن. البكاء الذي مارسه زين العابدين من خلال الصحيفة السجادية، أو من خلال بكائه على أبيه سنين طويلة، من أي قسم؟ من قسم البكاء الفعلي، لا من قسم البكاء الانفعالي. البكاء الانفعالي حالة مرضية، وهذه الحالة المرضية يترتب عليها آثار سلبية، وهي التي ذكرناها، كفقدان الثقة بالنفس، وحرمان الإنسان من الانفتاح على الحياة والالتذاذ بجمالها. لكن الإمام السجاد يتحدث عن البكاء الفعلي، أي: البكاء الصادر من العقل الواعي، أن أُبْكِيَ نفسي، من أجل أن أحسسها بالأخطار، وإذا أحسست بالأخطار امتلكت إرادة التغيير، وإذا امتلكت إرادة التغيير وصلت إلى القمة، ووصلت إلى النجاح.

إذن البكاء الفعلي هو البكاء الذي يساعد الإنسان على الإحساس بالخطر الذي يداهمه، على الإحساس بالأخطاء والكبوات التي تقضي على مستقبله، وهذا النوع من البكاء هو طريقك الوحيد لامتلاك الإرادة، فإذا امتلكت الإرادة بلغت النجاح، ووصلت إلى القمة.

إذن هناك بكاء فعلي، ولذلك القرآن كما يأمر بالانفتاح على الحياة، ويقول: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وكما يأمر ببناء الحضارة: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، كذلك يأمر بالبكاء: ﴿وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا، لا يقصد البكاء الانفعالي الذي يحوّل النفس إلى نفس متشائمة متراجعة قلقة، بل يقصد البكاء الفعلي الذي يخطّط له العقل، ولكي أوضح لك الأمر أكثر: هناك فرق بين أمرين: بين البكاء على النفس، والبكاء للنفس. هناك بكاء على النفس، وهناك بكاء للنفس، كيف؟

مثلاً: الإنسان بمجرد أن يخسر علاقته، كما لو أحب امرأة معينة، ولكنه خسرها، فإنه بمجرد أن يخسرها يصاب بحالة ندبة، يقول لك: والله أنا إنسان تعيس لا حظ لي ولا نصيب في الحياة! أنا إنسان شقي، انظر للآخرين كيف يتمتعون بحياتهم، بينما أنا مستثنى! هذا بكاء انفعالي، هذا حالة مرضية. هذا البكاء الانفعالي بكاءٌ على النفس، ندبةٌ للنفس، نعيٌ للنفس، هذا لا قيمة له.

لكن هناك إنسانًا خسر في الجامعة، خسر في المدرسة، أبكى نفسه من أجل أن يحصل على إرادة التغيير، بكاء صنعه عقله، هذا بكاء للنفس، بكاء واعٍ، بكاء مسؤول، بكاء فعلي، هذا البكاء الفعلي يخلق قوة الإرادة، فلذلك نحن ندعو للبكاء الفعلي. حتى البكاء على الحسين يجب أن يكون بكاءً فعليًا لا بكاءً انفعاليًا، بكاؤك على الحسين بكاء يجعلك حسينيًا، وليس بكاؤك على الحسين بكاءً يجعلك إنسانًا متخاذلاً متراجعًا. البكاء على الحسين بكاءٌ فعليٌ يرسم في أعماقك صورة الحسين، وأهداف الحسين، وأمثلة الحسين، يجعلك إنسانًا حسينيًا، هذا هو البكاء المطلوب. وهذه حالةٌ ومنهجٌ تربويٌ رائعٌ.

الوجه الثاني: عدم انحصار الصحيفة السجادية في لون الأسى والحزن.

من قرأ الصحيفة السجادية بلون واحد، هو الذي يقول بأن الصحيفة السجادية تخيّم عليها لغة البكاء، ولكن من قرأ الصحيفة السجادية بألوانها الأخرى، وجدها بحرًا زاخرًا من المعاني والأساليب التربوية الرائعة. هناك آثار تربوية رائعة للصحيفة السجادية، هناك ألوان أخرى للصحيفة السجادية، غير لون البكاء، وأنا أقرأ لك هذه الألوان.

اللون الأول: العشق الإلهي.

الصحيفة السجادية تعلّمه على الحب الحقيقي، وعلى العشق الحقيقي، تعلم روحك على أن تنفتح وتلتذ وتستمتع بالحب الحقيقي، والجمال الحقيقي. الإمام زين العابدين من خلال الصحيفة السجادية يقول: ”إلهي، من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك، فرام عنك بدلاً؟! ومن ذا الذي أنف بقربك، فابتغى عنك متحوَّلاً؟! إلهي، يا من أنوار جماله لأبصار محبيه رائقة، ويا من سبحات قدسه لقلوب عارفيه شائقة. اللهم إني أسألك حبَّك، وحبَّ من يحبك، وحبَّ كل عمل يوصلني إلى قربك“. الصحيفة السجادية لها لغة أخرى غير لغة البكاء، لغة الحب، لغة الانفتاح على المحبوب الحقيقي، والجمال الحقيقي، ألا وهو الله تبارك وتعالى.

اللون الثاني: المسؤولية الاجتماعية.

الصحيفة السجادية تربّي الإنسان على المسؤولية الاجتماعية، الصحيفة السجادية تربط المحراب بالمجتمع، تربط المحراب بالعمل الاجتماعي، ليس هناك انفصال وانفكاك بين أجواء المحراب والأجواء الاجتماعية، الصحيفة السجادية تربينا على أن ننفتح على المجتمع، على أن نتحمل المسؤولية الاجتماعية، وعلى أن نتحمل الحقوق الاجتماعية. الإمام زين العابدين يقتدي بأمه الزهراء. الإمام الحسن يقول: ”ما رأيتُ أعبد من أمي فاطمة! كانت إذا قامت إلى صلاتها لا تنفتل حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها“، الإنسان عندما يقرأ هذا المقطع قد يتصور الزهراء كمريم العذراء، امرأة راهبة لا علاقة لها بالمجتمع ولا بالناس! ولكن اقرأ المقطع الثاني في حديث الحسن عن أمه الزهراء، يقول: ”وما رأيتُها دعت لنفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات، فأقول لها: أماه، لم لا تدعين لنفسك؟ فتقول: بني حسن، الجار ثم الدار“.

الزهراء إنسان اجتماعي، الزهراء ضمير اجتماعي، الزهراء إنسان يمتلك الإحساس الاجتماعي، ولذلك الزهراء مزجت المحراب بالمجتمع، ومزجت الرسالة المحرابية بالرسالة الاجتماعية، تقف فلا تنفتل عن عبادتها حتى تتورم قدماها، وتقف في المسجد لتبدي معارضتها للأوضاع السيئة بتلك الخطبة البليغة الفصيحة، فهي راهبة ومجاهدة، فهي عابدة ومناضلة، فهي لها علاقة بربها وعلاقة بمجتمعها. الإمام زين العابدين يقتدي بأمه الزهراء، يربينا على الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية، يقول: ”اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظُلِمَ بحضرتي فلم أنصره، ومن ذي فاقةٍ سألني فلم أوفره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره“. الإمام يربينا على أن نشعر بحقوق الآخرين، على أن نشعر بشخصيات وكيانات الآخرين، على أن نكون اجتماعيين.

اللون الثالث: الخُلُق والقيم الإنسانية.

الصحيفة السجادية ليست دموعًا وبكاء فقط، بل أخلاق وقيم، تربيك على الالتزام بها والسير عليها. الإمام زين العابدين يقول: ”اللهم وسدّدني لأن أعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبِر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر“. يربيك على التواضع، يربيك على أن تكون متخلقًا بالأخلاق الاجتماعية الفاضلة، ”اللهم ووفقني أن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة“.

إذن فالصحيفة السجادية لها ألوان تربوية زاخرة، الصحيفة السجادية تربيك على مداواة الجراح. هل يوجد إنسان لا جراح عنده؟! كل إنسان يعيش في قلبه جراحًا لاذعة، جراحًا مستعرة، هذه الجراح إذا لم نعالجها، إذا لم نداوها، فسوف تتفاقم، وتكبر، وتتسع، وإذا اتسعت الجراح تحولت إلى نزيف دامٍ، والنزيف الدامي لا علاج له، ولا دواء له. لا بد لنا أن نعالج جراحنا، وذلك بأن نقف عليها، ونضع أيدينا عليها. الإمام زين العابدين يعلمنا كيف نداوي الجراح، وكيف نضع أناملنا على جراحنا، برفق، بلين، بهدوء، إلى أن نعالج هذه الجراح، ”إلهي، ما عصيتُك إذ عصيتُك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولا بأمرك مستخف“ هذه كلها ظواهر، هناك جرح أعظم من هذا، ما هو الجرح؟ ”ولكن سولت لي نفسي“ هذا هو الجرح، تسويل النفس، النفس الأمارة، هذا هو الجرح الذي لا بد من علاجه.

الإمام زين العابدين يضع أيدينا على الجرح: ”ولكن سولت لي نفسي، وأعانني عليها شقوتي، وغرني بذلك سترك المرخى عليَّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني؟! وبحبل من أتصل إن قطعت حبلك عني؟! فوا سوأتاه غدًا من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا، أمع المخفين أجوز؟! أم المثقلين أحط؟! ويحي! كلما طال عمري كثرت خطاياي، أما آن لي أن أستحي من ربي؟!“.

الليلة الثالثة
الإنجازات الحضارية في سيرة أهل البيت