نص الشريط
الاستنساخ في المنظور الإسلامي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 6/2/1424 هـ
مرات العرض: 2561
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1026)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا

صدق الله العلي العظيم

هناك قضيةٌ علميةٌ مثارةٌ، وهي قضية الاستنساخ. مسألة الاستنساخ لها صور عديدة: تارة يكون الاستنساخ عبارة عن أخذ نواة خلية من جسد المرأة، وتخصيبه مع بويضة غير ملقحة، لينتج إنسانًا مشابهًا وممثالًا للمرأة صاحبة الخلية، من دون أن يكون هناك حويمن منوي في إيجاد وإيلاد هذا الإنسان. وتارة يكون الاستسناخ أخذ خلية من الرجل لا من المرأة، وتخصيبها مع بويضة المرأة، لينتج إنسانًا مماثلاً للرجل صاحب الخلية، من دون توسط الحويمن المنوي في الموضوع. وتارة يكون الاستسناخ عبارة عن استنساخ الأعضاء البشرية وليس استنساخ البشر، حيث تؤخذ خلية العضو البشري - كاليد أو الرجل أو القلب - وعبر تفعيلها تحت أجواء معينة يتم زراعة بشري آخر مشابه للعضو الأول صاحب الخلية. وأحيانًا يكون الاستنساخ هو عبارة عن أخذ خلية لقراءة الجينات الوراثية من خلال هذه الخلية، ومحاولة مكافحة الأمراض الوراثية، نتيجة زرع هذه الخلية ومراقبتها.

إذن فالاستساخ له صور متعددة. نحن عندما نتحدث عن مسألة الاستنساخ، لنأخذ بشكل واضح أخذ خلية من امرأة، وتخصيب هذه الخلية مع بويضة امرأة أخرى، وينتج عن ذلك إنسان مشابه للمرأة صاحبة الخلية، فهو إنسان له أم ولكن ليس له أب؛ لأن الحويمن المنوي لم يتدخل في إنتاج هذا الإنسان، وإنما جاء عن خلية امرأة وبويضة امرأة أخرى، من دون تدخل الحويمن المنوي في إنتاجه. عندما نتحدث عن الاستنساخ نتحدث في نقطتين:

  • في إمكانه.
  • في جوازه وعدم جوازه.
النقطة الأولى: إمكان الاستنساخ.

هل ولادة الإنسان من غير حويمن منوي، نتيجة تخصيب امرأة مع بويضتها أو بويضة امرأة أخرى، أمر ممكن أم ليس بممكن؟ كثير من الباحثين الإسلاميين الذين تناولوا هذه القضية قالوا: هذا شيء مستحيل، ليس مستحيلًا في ذاته، وإنما هو مستحيل على البشر، لا أنه مستحيل في ذاته. مسألة الاستنساخ - أي: ولادة الإنسان من دون حويمن منوي، من دون أب - أمرٌ محالٌ على البشر، أمر مستحيل على البشر، فلا يمكن أن يقع من قِبَل البشر، لماذا؟

لأنه لو كان أمرًا ممكنًا لما كان معجزةً لعيسى بن مريم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام». معجزة عيسى بن مريم أنه وُلِد من غير أب، ويُعْتَبَر في المعجزة أن تكون خارجةً عن إمكان البشر في كل زمان، لا في خصوص زمان المعجزة. متى يعدّ الشيء معجزة؟ إذا صار خارقًا للعادة - أي: خارجًا عن إمكانات البشرية - في كل زمان، لا في زمان دون زمان. القرآن معجزة؛ لأن الإتيان بهذا الكتاب خارجٌ عن إمكانات المجتمع البشري في كل زمان، إلى يوم القيامة. معجزة موسى كذلك، ومعجزة عيسى أيضًا، وهي ولادته من غير أب، فحتى تكون الولادة من غير أب معجزة لا بد أن تكون خارجة عن إمكانات المجتمع البشري في كل زمان، إلى يوم القيامة، وإلا متى ما صارت أمرًا ممكنًا، ولو في زمان معين، ولو في فترة معينة، متى ما أصبحت أمرًا ممكنًا، لم تكن حينئذ معجزة، فحتى تكون معجزة لا بد أن تكون خارجة عن إمكانات المجتمع البشري. إذن الولادة من غير الأب المعبّر عنها بالاستنساخ أمرٌ غير ممكن؛ لأن معجزة عيسى بن مريم أنه وُلِد من غير أب، والأمر المعجِز مستحيل على البشر، وإن كان غير مستحيل في نفسه.

مناقشة هذا الاستدلال:

هذا الكلام غير صحيح، لماذا؟

أولاً: هناك فرق بين الخلق الإيجادي والخلق الإعدادي. الآية القرآنية عندما نقرؤها: ﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، أي أن الله خالق، والبشر خالق، ولكن الله أحسن الخالقين، ما معنى هذا الكلام؟ أو عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ، كيف عيسى بن مريم يخلق؟

عندنا نوعان من الخلق: خلق إيجادي، وخلق إعدادي. الخلق الإيجادي هو إفاضة الصورة، والخلق الإعدادي هو ضمّ المادة لمادة أخرى، فمثلًا: الأب ماذا يصنع؟ هل يخلق ولده؟! لا، الأب وظيفته الإعداد، الأب يُخْرِج المادة المنوية من جسده، يقذفها في رحم المرأة، تلتصق هذه المادة وتتلقح مع بويضة المرأة، بعد التلقيح تلتصق البويضة الملقحة بجدار الرحم، نتيجة ذلك يتكوّن الجنين، فالأب وظيفته الإعداد، هو لم يفض الصورة، هو ضمّ المادة المنوية لبويضة المرأة، ضمّ مادة لمادة أخرى، هذا يسمى خلقًا إعداديًا، الأب صدرت منه عملية خلق، لكنه خلق إعدادي، وأما بعد ضم المادة من قِبَل الرجل للمادة من قِبل الأنثى، من الذي أفاض الصورة البشرية على هذه المادة؟ هل هو الأب؟! هو الله تبارك وتعالى، فإذن الخلق الإعدادي - بمعنى ضم مادة لمادة أخرى - يصدر من البشر، لكن الخلق الإيجادي - بمعنى إفاضة الصورة على هذه المادة - لا يصدر إلا من الله تبارك وتعالى.

ولذلك الآية المباركة تعبيرها دقيق: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، أنتم وظيفتكم أو دوركم دور الإعداد، الإمناء، وأما الخلق - إفاضة الصورة - فهذا ليس دوركم، بل هو دور إلهي، الخلق الإيجادي بمعنى إفاضة الصورة مختص به تبارك وتعالى. لذلك الآية المباركة تقول: ﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، الله خالقيته خالقية إيجادية، بينما خالقية البشر خالقية إعدادية وليست خالقية إيجادية. خالقية عيسى بن مريم خالقية إعدادية، وأما الخالقية الإيجادية - بمعنى إفاضة الصورة - فهي من الله تبارك وتعالى.

أنت عندما تقول بأن ولادة الإنسان من غير أب أمر مستحيل! المسألة مسألة إعداد، وأما إفاضة الوجود، وإفاضة الصورة على هذا الإنسان المتكون مع خلية امرأة وبويضة امرأة أخرى، هذه إفاضة الصورة من قِبَلِه تبارك وتعالى. لأجل ذلك، ليس من المستحيل على البشر إيلاد إنسان من غير أب؛ لأن إيلاد الإنسان من غير أب نتيجة ضم خلية من امرأة لبويضة من امرأة أخرى خلقٌ إعداديٌ وليس خلقًا إيجاديًا، وبما أنه خلقٌ إعدادي، ومفيض الصورة هو الله تبارك وتعالى، إذن ليس مستحيلًا على البشر، فإن المستحيل على البشر هو الخلق الإيجادي، لا الخلق الإعدادي، الخلق الإعدادي لا مانع منه، والاستنساخ خلق إعدادي وليس خلقًا إيجاديًا. إذن ما هو معنى معجزة عيسى؟

الكثير من علمائنا يقولون: ولادة عيسى من غير أب ليست معجزة، وإنما هي كرامة من كراماته. معجزة عيسى أنه تكلّم في المهد، وليس معجزة عيسى أنه وُلِد من غير أب، هذه مجرد كرامة أكرمه الله بها، وإلا آية عيسى ومعجزته أنه تكلّم في المهد، هذه مجرد كرامة، وإلا لا تتصور أن معجزة تحتاج إلى معجزة أخرى. عيسى وُلِد من غير أب، لكن لم يصدّقوه، وقالوا: هذا زنا! ولذلك اليهود اتهموا مريم بالزنا، وما زال في التوراة المحرفة أنها ارتكبت - والعياذ بالله - فاحشة، ونشأ هذه الفاحشة ولادة عيسى بن مريم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام». المعجزة هي التي إذا حصلت اندفعت الشبهة، وليست التي إذا حصلت أوجدت شبهة أخرى! المعجزة هي الأمر الخارق للعادة الذي إذا حصل رفع الشبهة، وأما إذا حصل وأوجد شبهة أخرى فلا يكون معجزةً. ولادة عيسى من غير أب ليست معجزة، بل كرامة أكرم الله بها عيسى، ولذلك لما وُجِد أثار شبهة أخرى، وهي أنه وُلِد عن طريق - والعياذ بالله - الفاحشة، ومن هنا احتاج عيسى، واحتاجت مريم للمعجزة الحقيقية، ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا وبمجرد أن قالوا هذا الكلام هو نطق ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ، هذه هي المعجزة الحقيقية لعيسى بن مريم، هذا أولاً.

ثانيًا: لنفترض أن ولادة عيسى بن مريم من غير أب معجزة، لكن هناك فرقًا بين هذا وبين الاستنساخ. عيسى وُلِد من دون أي مادة بشرية معينة، مجرد قذف ونفخ من الله تبارك وتعالى، الملك الذي تمثّل لمريم نفخ في رحمها هذا الجنين، نفخ في رحمها وجود عيسى بن مريم، فعيسى تكوّن في بطن أمه من دون خلية، بينما الاستنساخ هو عبارة عن ضم خلية لبويضة امرأة، فلا يقاس الاستنساخ بولادة عيسى من غير أب. ولادة عيسى من غير أب إنما صارت معجزة لأنها لم تستند إلى مادة بشرية، نفخ مباشر، نفخ الله روحه ووجوده في رحم أمه، لذلك صار معجزة، بينما الاستنساخ هو عبارة عن ضم خلية من امرأة لبويضة من امرأة أخرى، وتكوين الإنسان عبارة عن ضم هذه المادة لهذه المادة، ففرق بين الاستنساخ وبين معجزة عيسى بن مريم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»، فالمستحيل هو الولادة من غير مادة بشرية، وليس المستحيل هو الولادة من غير أب، أي: من غير حويمن منوي. إذن الاستنساخ أمر ممكن، وليس أمرًا مستحيلًا.

النقطة الثانية: حكم الاستنساخ.

إذا كان الاستنساخ أمرًا ممكنًا، فهل هو جائزٌ شرعًا؟ هل القيام بعملية الاستنساخ جائز أم لا؟ عندما نبحث جائز أو غير جائز فما هو الأصل؟ هل الأصل أنَّ الإنسان يتصرف في جسده بما يريد، أم أن الأصل أن الإنسان لا بد من أن يرجع للشرع ليعرف هل يجوز له التصرف في جسده أم لا؟

الأصل هو أنَّ الإنسان ليست له ولاية على جسده. قد يقول قائل: هذا جسدي، فمن حقي أن أقطع أذني مثلًا أو أبيع عضوًا من أعضائي، أنا أتصرف في جسدي كما أريد! ورد عن الرسول محمد : ”الناس مسلّطون على أموالهم“ فكيف لا يكونون مسلطين على أجسادهم وأنفسهم؟! أنا مسلط على نفسي وجسدي، أتصرف فيه كما أشاء! نقول: لا، ليس للإنسان سلطة على جسده، ليس للإنسان ولاية على جسده ونفسه؛ لأن الإنسان خليفة الله في الأرض، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، الإنسان خليفة، والخليفة لا يتصرف في شيء من الشؤون إلا بمراجعة من استخلفه، وليست له ولاية استقلالية.

ليست لك الولاية والسلطة على جسدك لتتصرف فيه كما تريد، ما دمتَ خليفة لله عز وجل، فلا بد من أن تراجع من استخلفك في كل شأن من شؤونك، شؤون جسدك، شؤون نفسك، شؤون الطبيعة، لا بد من مراجعة من استخلفك على ذلك، فليست للإنسان ولاية ولا سلطنة. إذن لا بد من الرجوع إلى الشرع المقدس، نرجع إلى الشارع فنسأله: هل يجوز لنا التصرف في أجسادنا أم لا؟

نحن نقول: الأصل الأولي هو الحلية؛ لأن الشارع هو الذي قال لنا: ”كل شيء لك حلال، حتى تعلم أنه حرام بعينه، فتدعه“، كما ورد عن الإمام الصادق . إذن الأصل الأولي أن عملية الاستنساخ حلال تطبيقًا لهذا الحديث، إلى أن يقوم دليل على أنها عملية محرّمة، وما لم يقم دليل فهي مباحة بهذه الرواية. هل هناك أدلة على الحرمة أم لا؟ طبعًا عُقِد مؤتمرٌ في القاهرة قبل ست سنوات، وعُقِد مؤتمرٌ في طهران أيضًا قبل أربع سنوات، وضمَّ مجموعةً من علماء المسلمين، بحثوا حول هذه المسألة: هل الاستنساخ عمل محرم؟ هل هناك دليل على حرمة الاستنساخ، أم ليس هناك دليل على حرمته؟ أهم الأدلة على الحرمة دليلان.

الدليل الأول: حرمة تغيير خلق الله.

الآية التي افتتحنا بها تقول: ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا. الآية الكريمة تتحدث عن أعمال الشيطان، ومن الأعمال التي يدعو إليها الشيطان: تغيير خلق الله، وبما أن الأعمال التي يدعو إليها الشيطان محرمة، إذن تغيير خلق الله أمرٌ محرّمٌ.

هؤلاء العلماء يقولون: جرت السنة الإلهية على خلق الإنسان من أب، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا والمقصود بالماء هنا: المادة المنوية، وقال تبارك وتعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، إذن بالنتيجة: سنة الله في خلقه على أن الإنسان ينحدر عن أب، ينحدر عن حويمن منوي، فعندما نحن ندعو إلى سنة أخرى، ونقول: فليخرج الإنسان من خلية امرأة، فليخرج الإنسان من دون حويمن منوي، هذا يعدّ تغييرًا لخلق الله، وبما أنه تغيير لخلق الله، وتغيير الله حرام، إذن الاستنساخ عملٌ محرّمٌ؛ لأنه تغيير لخلق الله، وهذا هو الدليل الأول الذي طرحه أكثر علماء إخواننا أهل السنة، ومنهم الشيخ القرضاوي، حيث تبنى هذا الدليل.

مناقشة الدليل الأول:

نحن هذا الدليل لا نقبله، لماذا؟ نقول: لا بد أولًا من تحديد معنى خلق الله حتى نعرف معنى تغيير خلق الله. كلمة ”خلق الله“ تحتمل معنيين متساويين: المعنى الأول: أن المراد بها المادة، فيكون تغيير خلق الله هو تغيير مجرى المادة. والمعنى الثاني: أن المراد بخلق الله الفطرة. المعنى الأول - وهو أن المراد بخلق الله المادة - يعني: إذا جرت سنة الله على مادة معينة، وعلى نهج معين في خلقه، فتغيير هذه السنة تغيير لخلق الله، ولذلك بعض علماء إخواننا أهل السنة استدلوا على حرمة الإخصاء بنفس هذه الآية، الإنسان قبل أن ينجب أي ولد، يذهب ويقوم بعملية إخصاء تجعله عميقًا، يقولون: هذا العمل محرم؛ لأنه تغيير لخلق الله. جرت سنة الله على أن تكون إنسانًا منجبًا، فعندما تقيم عملية جراحية تتسبب إلى عمقك، تكون قد غيّرت خلق الله، وتغيير خلق الله حرام.

كذلك أيضًا تغيير الجنسية، بمعنى تغيير الجنس من ذكر إلى أنثى، أو من أنثى إلى ذكر، كما هو الآن موجود في كثير من دول العالم، إجراء عمليات جراحية وتجميلية، يتغير على أساسها من ذكر إلى أنثى، أو من أنثى إلى ذكر. بعضهم يقول: هذا كله حرام؛ لأنه تغيير لخلق الله، ولكننا نحتمل معنى آخر لخلق الله، وهو الفطرة، بقرينة قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ، فالمراد بخلق الله الفطرة، الفطرة تدعو الإنسان إلى التوحيد، أي: لو خُلِّيَ الإنسان وفطرته لانجذب إلى طريق التوحيد، ولذلك ورد عن الرسول محمد : ”كل مولود يولَد على الفطرة“ أي: فطرة التوحيد، ”إلا أن يكونا أبواه يهوديين فيهودانه، أو مجوسيين فيمجسانه“، إذن الإنسان فطرة، والفطرة تدعو إلى التوحيد، فالمراد بخلق الله هو نداء الفطرة، وتغيير خلق الله من قِبَل الشيطان هو دعوة الإنسان إلى الشرك، ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ أي: ولآمرنهم بالشرك، فإنني إذا أمرتهم بالشرك خالفت نداء الفطرة، وإذا خالفت نداء الفطرة فقد غيّرت خلق الله، هذا هو المراد بتغيير خلق الله.

إذن، إذا قرأنا الآية المباركة نجد أن تغيير خلق الله يحتمل معنيين: تغيير المادة، أو تغيير نداء الفطرة، وبما أن الآية تحتمل معنيين متساويين فلا يصح ترجيح أحدهما على الآخر، إذن لا يصح الاستدلال بهذه الآية المباركة على حرمة الاستنساخ، فهذا الدليل ساقط، ولا يتم التعويل عليه.

الدليل الثاني: ما ذهب إليه بعض علمائنا.

بعض أساتذتنا في قم المقدسة ذهب إلى هذا الدليل، وقال بحرمة الاستنساخ بناءً على هذا الدليل، وهذا الدليل يتكوّن من مقدمتين:

المقدمة الأولى: مصادمة الاستنساخ للأهداف الإلهية.

لقد كشف لنا القرآن الكريم عن وجود أهداف تكوينية وتشريعية. الله تبارك وتعالى له أهداف تكوينية، وله أهداف تشريعية، فمن أهدافه التكوينية: قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، هذا هدف إلهي، الله من أهدافه في عالم الكون الاختلاف، اختلاف الألسنة والألوان، لماذا هذا الاختلاف؟ لأن الاختلاف يجعل المجتمع يحتاج بعضه إلى البعض الآخر. التفاوت الذهني مثلًا: هذا إنسان ذكي، ذاك إنسان عبقري، والثالث ذكاؤه متوسط، والرابع ذكاؤه عادي... اختلاف درجات الذكاء يجعل البشر يحتاج بعضهم إلى البعض الآخر، كذلك اختلاف القدرة البدنية، هذا أقوى من ذاك بدنًا، فذاك يحتاج إلى هذا، وكذلك اختلاف القوى المادية، هذا أغنى من فلان، ذاك أثرى من فلان. إذن الله تبارك وتعالى هدفه في عالم التكوين هو الاختلاف، ولذلك هناك اختلاف في الذهن، وفي القوة البدنية، وفي الرزق، وفي اللسان، وفي اللون، فالاختلاف هدفٌ من الأهداف الإلهية، والغرض من هذا الهدف احتياج المجتمع بعضه إلى البعض الآخر.

وهذا ما يسمّى بنظرية الاستخدام. علماء الاجتماع يقولون: المجتمع قائم على أساس نظرية الاستخدام، أنت تستخدمني وأنا أستخدمك، أنت طبيب أستخدمك لعلاج مرضي، وأنا معلم تستخدمني لتعليم ولدك، فأنا أستخدمك وأنت تستخدمني، الكيان الاجتماعي قائم على نظرية الاستخدام، ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، أي: كل واحد يستخدم الآخر. إذن الاختلاف هدف إلهي، والغرض من هذا الهدف احتياج المجتمع بعضه إلى البعض الآخر.

الاستنساخ يتصادم مع هذا الهدف. أنت عندما تستنسخ خمس مئة إنسان من إنسان واحد، هذه امرأة، تأخذ منها خمس مئة خلية مثلًا، وتستنسخ منها خمس مئة إنسان، وهكذا نحصل على خمس مئة إنسان متشابهين تمامًا، في اللون، في اللسان، في الأوصاف، في جميع الأمور، متساوون، متشابهون، متماثلون، إذن أين الوارث وأين المورّث؟! أين المجرم وأين البريء؟! أين الزوج وأين غير الزوج؟! أين السارق وأين غير السارق؟! خمس مئة إنسان متشابهين في كل أمور، هذه مصادمة واضحة لهدف إلهي في عالم التكوين، ألا وهو هدف الاختلاف.

ومن أهدافه التشريعية «تبارك وتعالى» قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، أو قوله: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، هذه الآيات تفصح عن أن هناك هدفًا إلهيًا في الأسرة، أي: من أهدافه تعالى وجود الأسرة، من أهدافه وجود أب، لأن انحدار الإنسان عن الحويمن المنوي يشكّل علاقة أسرية، يشكّل علاقة أبوية بين الأب والولد، ومن أهدافه تعالى إيجاد العلاقة الأبوية، بينما الاستنساخ يتصادم مع هذا الهدف، إذ لو تمت عملية الاستنساخ من خلية امرأة وبويضة امرأة أخرى، لوُجِد الإنسان من دون أسرة، ومن دون علاقة أبوية، وهذا حرمانٌ له من الجو الأسري والجو الأبوي، وهذا الحرمان يتصادم مع هدفه تعالى.

كما أن الاستنساخ يتصادم مع النسب، الإنسان ينحدر من سلالة نسبية، ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا أي: يريد أن تنحدر من نسب معين، فوجود الإنسان عن نسب، وانحدار الإنسان عن نسب، هدفٌ إلهيٌ. الله «تبارك وتعالى» من أهدافه أن ينحدر الإنسان عن سلالة نسبية معينة؛ لأن هذا يعطيه انتماء اجتماعيًا، والإنسان محتاج إلى الانتماء الاجتماعي، انحدار الإنسان عن النسب يشكّل له انتماءً اجتماعيًا، والإنسان يحتاج إلى الانتماء الاجتماعي؛ لأن الانتماء الاجتماعي يعطي الإنسان الشعور بالحماية، والشعور بالعزة، والشعور بالكرامة. إذن وجود الإنسان من غير أب عن طريق الاستنساخ يتصادم مع هذا الهدف الإلهي، وهو النسب. فهمنا في هذه المقدمة الأولى أن لله أهدافًا تكوينيةً وأهدافًا تشريعيةً أفصحها عنها القرآن الكريم، والاستنساخ يتصادم مع هذه الأهداف التي ذكرناها.

المقدمة الثانية: استلزام حكم العقل لحكم الشرع.

نحن عندنا قاعدة في علم الأصول، يقولون: «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع». العقل البشري الفطري القطعي - لا الظني - إذا أدرك أن هناك هدفًا إلهيًا، فهو يدرك أن الشريعة لا تتصادم مع ذلك الهدف، متى ما أدرك العقل وجود هدف إلهي في موضع معين، فهو يدرك أنه ليس هناك تشريع سماوي يتعارض مع هذا الهدف؛ لأن التشريع تكميلٌ للتكوين، عالم التشريع مكمِّلٌ لعالم التكوين، عالم التشريع يجري على أسس الأهداف التكوينية، إذن العقل إذا أدرك هدفًا إلهيًا، العقل أدرك من خلال القرآن أن هناك هدفًا إلهيًا في وجود الأسرة، العقل أدرك من خلال القرآن أن هناك هدفًا إلهيًا في وجود النسب، العقل أدرك من خلال القرآن أن هناك هدفًا إلهيًا في وجود الاختلاف، وبما أن العقل أدرك ذلك، إذن العقل نفسه يدرك أن التشريع الإسلامي لا يمكن أن يصطدم مع هذه الأهداف التكوينية، فلا يمكن أن يكون الاستنساخ جائزًا؛ لأنه لو كان جائزًا شرعًا لتصادم عالم التشريع مع عالم التكوين، ولتصادم القانون الإلهي مع الأهداف الإلهية التكوينية، وهذا مستحيلٌ عقلًا، وهذا هو معنى «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع».

مناقشة الدليل الثاني:

نحن أيضًا لا نقبل هذا الدليل، لماذا؟

أولاً: الاستنساخ لا يلغي هذه الأهداف. صحيح أن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، أي أن القانون التشريعي السماوي لا يصطدم مع الأهداف التكوينية، لكن متى يصطدم؟ يصطدم إذا ألغاها، إذا كان القانون السماوي يلغي الأهداف التكوينية، فحينئذ تكون هناك عملية اصطدام بين القانون السماوي والأهداف التكوينية، وأما إذا القانون السماوي لا يصطدم معها، بل يترك مجالًا للأهداف التكويني ويفتح مجالًا آخر، لا يلغيها ولا يرفعها، فلماذا يكون هناك عملية تصادم؟! الله «تبارك وتعالى» من أهدافه الاختلاف، ومن أهدافه وجود النسب، ومن أهدافه وجود الأسرة والعلاقة الأبوية، والاستنساخ لا يلغي هذه الأهداف؛ لأن هناك مجموعة من البشر يمشون على هذه الأهداف، والاستنساخ فتح بابًا آخر، وهو وجود البشر وولادتهم من غير أب، هذا لا يصطدم مع هذه الأهداف؛ لأنه لا يلغيها، بل تبقى هذه الأهداف موجودة، غاية ما في الأمر أن الاستنساخ فتح بابًا جديدًا للولادة، لا أنه ألغى الأهداف التكوينية الأولى، بل لا زالت الأهداف التكوينية موجودة؛ لأن غالبية البشر تمشي على طبقها، غاية ما في الأمر أن هناك بابًا آخر انفتح، فلا توجد عملية تصادم بين جواز الاستنساخ وبين هذه الأهداف؛ لأن الاستنساخ لا يلغي هذه الأهداف، وإنما يفتح بابًا جديدًا ومجالًا آخر للولادة ليس إلا.

ثانيًا: حتى علماء الاستنساخ يؤكدون على أننا لو استنسخنا من خلية واحدة فإنهما يختلفان، الاختلاف يقع لا محالة، حتى لو كانا مُسْتَنْسَخَيْن من خلية واحدة، يبقى نوع من الاختلاف، الاختلاف بين البشرين لا يزول، حتى لو كانا من خلية واحدة، أو من نطفة واحدة، أو من بويضة واحدة، الاختلاف لا يزول، بل يبقى مقدار من الاختلاف بينهما، إذن الاستنساخ لا يلغي هدفًا تكوينيًا، وهو هدف الاختلاف، بل الاختلاف باق لا يزول، حتى بين التوأمين، وحتى بين المُسْتَنْسَخَيْن من خلية واحدة، فلا يمكن أن يقال بأن تجويز الاستنساخ يتصادم مع هدف الاختلاف. إذن بالنتيجة: نحن نقول بأن الاستنساخ بابٌ فتحه الله للبشر؛ ليطلعوا على مدى قدرته «تبارك وتعالى».

العراق مهد التشيّع
حق الصدقة في المنظور الإسلامي