نص الشريط
العراق مهد التشيّع
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 8/2/1424 هـ
مرات العرض: 3317
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (989)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

صدق الله العلي العظيم

حركة الحسين هي حركةٌ قرآنيةٌ، وهي حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الحسين رفع النداء القرآني شعارًا له في حركته المباركة المثمرة. الحسين انطلق من هذه الآية وغيرها، فكان داعيةً للخير، وآمرًا بالمعروف، وناهيًا عن المنكر، وأي منكر أفظع وأشد من سلطة يزيد بن معاوية، المتجاهر بالفسق، القاتل للنفس المحترمة؟! عندما نريد أن ندرس حركة الحسين فلا بد من أن ندرسها من مختلف جهاتها، ومن مختلف ملابساتها وظروفها. أي حركة في التاريخ، لا يمكن دراستها من خلال أفق معين، أو من خلال نقطة معينة. أي حركة في التاريخ، إذا أردنا دراستها، فلا بد من أن ندرسها بجميع ملابساتها، وبجميع ظروفها، وبجميع أوضاعها.

نحن عندما نريد أن ندرس حركة الحسين، ندرسها تارة من خلال شخصية الحسين نفسه، وندرسها تارة من خلال السلطة الأموية التي كان الحسين معاصرًا لها، وندرسها ثالثة من خلال الرصيد الذي اعتمد عليه الحسين، وهم مجموعةٌ من الصحابة والأنصار، استشهدوا بين يديه، وناضلوا دون مبادئه وقيمه، وندرسها رابعة من خلال الزمن الذي تحرك فيه الحسين، وامتدت فيه انتفاضة الحسين وثورته، وندرسها خامسة من خلال الوسائل الإعلامية المتاحة آنذاك لتبليغ ثورة الحسين، وأهداف الحسين، وندرسها سادسة من خلال التعاطف الشعبي الجماهيري في الحجاز أو في اليمن أو في العراق أو في أي منطقة أخرى لثورة الحسين وحركته. دراسة ثورة الحسين يجب أن تكون من مختلف الجهات، ولا يجب أن تقتصر دراسة الثورة والحركة على أفق أو على جهة أو على باب معين، مع عدم فتح الأبواب الأخرى، ومع عدم قراءة الجهات الأخرى.

من الجهات التي ينبغي أن نركّز عليها عندما نريد دراسة ثورة الحسين، ودراسة حركة الحسين: المهد الذي اعتمد الحسين عليه كامتداد لحركته وثورته. الحسين قام بالثورة، قام بالحركة، صُفِّي الحسين هو وأنصاره تصفيةً جسديةً، وكان الحسين قاصدًا أن يقوم بهذه العملية الاستشهادية في سبيل مبادئه وقيمه، هذا أمر واضح، ولكن هناك أمرًا اعتمد الحسين عليه كمهد لولادة حركته من جديد. الحسين قضى نحبه شهيدًا، ولكنه اعتمد على مهدٍ لكي يكون ميلادًا لحركته، وميلادًا لثورته، وميلادًا لصرخته، فما هو المهد الذي اعتمد عليه الحسين، وعوّل عليه تعويلًا كبيرًا، بحيث يكون منطلقًا لثورته، وبحيث تولد جيلًا فجيلًا، وقرنًا فقرنًا، وزمنًا بعد زمن؟ ما هو المهد والمنطلق الذي عوّل عليه الحسين لكي يكون ميلادًا لثورته وصرخته؟

المجتمع العراقي هو الذي وضع الحسين فيه رايته، وعوّل عليه كامتدادٍ لحركته وثورته، عوّل عليه كمهدٍ للثورات المتتابعة المتتالية استجابةً لندائه وصرخته. إذن ينبغي لنا عندما نريد أن ندرس حركة الحسين أن ندرس أيضًا المجتمع العراقي، هل المجتمع العراقي مهدٌ لثورة الحسين؟ هل المجتمع العراقي امتدادٌ لصرخة الحسين ولصدى الحسين؟ لا بد أن ندرس الحسين من خلال هذا المجتمع أيضًا، لا بد أن ندرس حركة الحسين من خلال المجتمع والأمة العراقية، التي اتكل عليها الحسين كامتداد لصوته وندائه وحركته المباركة.

شبهة حول المجتمع العراقي:

الكثير من الأقلام عندما تتحدث عن أمة العراق، وعن مجتمع العراق، وعن شعب العراق، فإنها تصبُّ الويل، وتصبُّ الشتائم، وتصبُّ اللغة القاسية على أمة العراق ومجتمع العراق؛ لأن هذه الأمة وهذا المجتمع لم يكن رصيدًا للحسين ولأهل البيت كما ينبغي أن يكون. الكثير من الأقلام تستقرئ تصريحات أهل البيت، وتصريحات أصحابهم، في حق المجتمع العراقي.

الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال في المجتمع العراقي: ”يا أهل العراق، ما لي إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم، دارت أعينكم، كأنكم من الموت في سكرة، ومن الذهول في غمرة؟! ما بالكم؟! ما داؤكم؟! ما دواؤكم؟! ما طبكم؟! ملأتم قلبي قيحًا“. الإمام الحسن الزكي خاطب أهل العراق بقوله: ”يا أهل العراق، لقد بلغني أن أهل الشرف منكم أتوا معاوية وبايعوه، فلا تغروني في نفسي وديني“. الإمام الحسين عندما التقى بالفرزدق وهو خارج من مكة المكرمة إلى العراق قال له: أيها الفرزدق، كيف خلّفت أهل العراق بعدك؟ قال: على الخبير سقطت! قلوبهم معك وسيوفهم عليك.

الحسين نفسه عندما وقف يوم عاشوراء خاطبهم بخاطبين لاذعين، حيث قال لهم: ”تبًا لكم أيتها الجماعة وترحًا، أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفًا لنا في أيمانكم، وحششتم علينا نارًا اقتدحناها على عدونا وعدوكم؟! فنعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم! آمنتم بالله، وصدّقتم برسوله، ثم إنكم زحفتم على ذريته وعترته، تريدون قتلهم! لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم“، ثم قال لهم: ”ويحكم! أهؤلاء تعبدون، وعنا تتخاذلون؟! أجل والله! غدرٌ فيكم قديمٌ، وجشت عليه أصولكم، وتآزرت عليه فروعكم، فكنتم بذلك أخبث ثمر شجًا للناظر، وأكلةً للغاصب“. وقال لما رآهم مصرين على قتاله يزحفون عليه بسهامهم ونبالهم: ”اللهم فرّقهم تفريقًا، ومزّقهم تمزيقًا، واجعلهم طرائق قددًا، ولا ترضِ الولاة عنهم أبدًا، فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا يقاتلوننا“.

من هذه التصريحات كلها يقف بعض الباحثين موقفًا قاسيًا لاذعًا من المجتمع العراقي، ومن الأمة العراقية، فيصوغ صورًا مختلفةً عن هذه الأمة وعن هذا الشعب، منتزعةً ومستقاةً من هذه التصريحات الواردة عن أهل البيت .

الصورة الأولى: أن هذا الشعب وهذه الأمة لن تفلح أبدًا، ولن توفق لنصر، ولا لاستقرار، ولا لهدوء، لأن الحسين دعا عليهم منذ ذلك اليوم، وقال: ”ولا ترضِ الولاة عنهم أبدًا“.

الصورة الثانية: أن الحسين وصفهم بالغدر، وهذا يعني أن التلوّن، بحيث تكون قلوبهم إلى جهة، وسيوفهم إلى جهة أخرى، هذا التلون سمةٌ وطابعٌ وصفةٌ عامةٌ للأمة العراقية، وهذا ما عبّر عنه الفرزدق بقوله: على الخبير سقطت! قلوبهم معك وسيوفهم عليك.

الصورة الثالثة: أن هذه الأمة أمةٌ انهزاميةٌ، أمةٌ متراجعةٌ، من تعامل معها بالبطش استجابت له، ومن تعامل معها بلغة السلم والهدوء، كما تعامل معها علي أمير المؤمنين ، فإنها لا تستجيب له، ولا تستظل بظله.

هذه صور قاتمة كتبتها بعض الأقلام، ولفظتها بعض المنابر، وتكلّمت فيها بعض الأفواه، من أجل إظهار أن المجتمع العراقي والأمة العراقية لا تصلح أن تكون رصيدًا يعتمد عليه الحسين كامتداد لصرخته، ومواصلة لندائه وثورته وحركته المباركة.

نحن لا نقبل بكل هذا الكلام، نحن نقرّر الآن أن الأمة العراقية هي مهد التشيّع، ولولا المجتمع العراقي لانتهى التشيع منذ ذلك اليوم. التشيّع الذي بذر بذرته عليٌ وأبناء علي لم تُسْقَ هذه البذرة، ولم تترعرع، ولم تثمر، ولم تنتج، لولا المجتمع العراقي. الأمة العراقية مهد التشيع، والبذرة التي ترعرعت وأصبحت شجرةً مثمرةً في أحضان هذه الأمة، وفي مهد هذا المجتمع، وبتضحيات وبطولات وما بذله هذا المجتمع في إبقاء هذه الشرارة، وفي سبيل تنمية هذه البذرة، وفي سبيل إثمار هذه الشجرة، وأنا أتحدث هنا عن محاور ثلاثة أركز عليها.

المحور الأول: شواهد على أن العراق هي مهد التشيع.

عندي عدة شواهد على أن المجتمع العراقي والأمة العراقية هي مهد التشيع، لولاها لمات التشيع وانقرض، ولم يبقَ له أثرٌ ولا ذكرٌ إلى يومنا هذا.

الشاهد الأول: العراق هي رصيد الثورات العلوية.

كل الثورات العلوية اعتمدت على العراق، جميع الثورات العلوية اعتمدت على المجتمع العراقي. سليمان بن صرد الخزاعي قاد حركة التوابين، خمسة آلاف من العراق فقط. المختار بن عبيد الله الثقفي قاد حركة المطالبة بثأر الحسين اعتمادًا على المجتمع العراقي. زيد بن علي بن الحسين قاد حركته من الكوفة، واعتمادًا على المجتمع العراقي. الحسين بن علي صاحب معركة فخ قاد حركته وكان أنصاره أغلبهم من المجتمع العراقي. العباسيّون عندما ثاروا على بني أمية، وأطاحوا بالحكم الأموي، جيشهم كان جيشًا عراقيًا، اعتمدوا على الجيش العراقي في ذلك. الثورات العلوية رصيدها، جيشها، قاعدتها الشعبية، كلها انطلقت من الكوفة، وكلها انطلقت من العراق، وكلها انطلقت من هذا المهد، ومن هذا الموطن.

الشاهد الثاني: أغلب أصحاب أهل البيت من العراق.

من هم أصحاب أهل البيت؟ فلنرجع لنقرأ من هم أصحاب أهل البيت . من أهم أصحاب علي بن أبي طالب؟ الصفوة التي اعتمد عليها علي بن أبي طالب في إيصال معارفهم وعلومه هم: كميل بن زياد، ورشيد الهجري، وحجر بن عدي، وميثم التمّار، وحبيب بن مظاهر الأسدي، وكلهم كوفيون، كلهم عراقيون. الصفوة التي من خلالها انطلقت خطب الإمام علي ، وانطلقت علومه ومعارفه، كل الصفوة من هذا المجتمع، ومن هذه الأمة. صحابة الإمام الحسن الزكي: قيس بن سعد، حبيب بن مظاهر، عمرو بن الحمق الخزاعي، كلهم أيضًا من هذا المجتمع، كلهم من هذا الموطن. الحسين كان له اثنان وسبعون رجلًا من الأنصار، أغلبهم من الكوفة، أغلب أنصار الحسين هم من المجتمع العراقي ومن الكوفة نفسها، هم الذين جاؤوا لنصرته .

كذلك أصحاب الأئمة بعد الحسين. انظر إلى الإمام زين العابدين، هل جاءت صحابته من الحجاز؟! أو جاءت صحابته من بلاد أخرى؟! نفس الإمام زين العابدين يقول: ما بالمدينة ومكة محبٌ لنا أهل البيت. هذا تصريح الإمام زين العابدين، طبعًا هو يقصد الجو العام ولا يقصد كل فرد، طبعًا كان لهم محبون وموالون، ولكن يقصد الجو العام، الجو العام الذي اعتمد عليه الإمام زين العابدين هو هذه الأجواء التي اعتمد عليها آباؤه. أصحاب الإمام الصادق، أصحاب الإمام الباقر، أصحاب الإمام الكاظم، أصحاب سائر الأئمة، أصحابهم من هذا المجتمع.

فقهاء أصحاب أهل البيت: محمد بن مسلم، ومحمد بن أبي عمير، وجميل بن درّاس، وأمثالهم، كلهم من هذا المجتمع الكوفي، ومن المجتمع العراقي. الحسن بن علي الوشّاء أحد أصحاب الإمام الرضا يقول: دخلت مسجد الكوفة فرأيت تسع مئة شيخ كلٌ يقول: حدثني سيدي ومولاي جعفر بن محمد الصادق. سفراء الإمام المهدي من أين؟ سفراء الإمام المهدي الأربعة كلهم من العراق، كلهم من هذا الوطن، ومن هذا المهد، ومن هذا المجتمع. إذن أصحاب أهل البيت كلهم نبغوا من هذا الموطن، ومن هذا المهد.

الشاهد الثالث: فحول علماء الشيعة من العراق.

أبرز علماء الشيعة، أبرز فقهاء الشيعة، من أي مجتمع؟ الكليني من أين أتى؟ من العراق. الشيخ المفيد من أين أتى؟ من بغداد. السيد المرتضى والسيد الرضي علم الهدى من أين أتيا؟ من بغداد. العلامة الحلي والمحقق الحلي وفخر المحققين من الحلة. صاحب الجواهر النجفي من النجف. الإمام الحكيم «قدس سره»، الإمام الصدر «قدس سره»، الإمام كاشف الغطاء «قدس سره»، من أين أتوا؟ من العراق. حتى الإمام شرف الدين، عائلة شرف الدين أصلها من الكاظمية، نزحوا إلى لبنان، وإلا فأصولهم من العراق. إذن فحول علماء الشيعة الذين قام المذهب على أقلامهم، وقام المذهب على فكرهم، وقام المذهب على جهودهم، هم من هذا المجتمع، وهم من هذا الموطن.

الشاهد الرابع: الكتابات التي نحن نعتمد عليها هي أقلام عراقية.

إلى الآن نحن الشيعة مدينون للأقلام العراقية إلى يومنا هذا، إلى الآن ما زال المجتمع الشيعي مدينًا في فكره إلى الأقلام النجفية والأقلام العراقية. الذي كتب حول الأدب الشيعي هي الأقلام العراقية، الذي كتب حول الفكر العقائدي عند الشيعة هي الأقلام العراقية، الذي كتب حول كثير من حقول الفكر الإمامي هي الأقلام الشيعية، ما زلنا إلى الآن نستقي فكرنا، ونستقي مبادئنا، ونستقي أصول مذهبنا من هذه الكتابات، من كتابات السيد الصدر، من كتابات الشيخ محمد رضا المظفر، من كتابات السيد محمد تقي الحكيم، من هذه الكتابات التي نشأت في النجف الأشرف، وعلى مستوى العراق بصفة عامة.

إذن هذه الشواهد إذا استقرأناها نصل إلى نتيجة: أن مهد التشيع هو العراق، منطلق التشيع هو العراق، لولا هذا المجتمع وهذه الأمة وما بذلت من تضحيات وبطولات وفكر وعطاء، لما بقي التشيع ولما بقي له لونٌ ولا ذكر ولا صيت.

المحور الثاني: توجيه الذم المعصومي والدعاء الحسيني على أهل العراق.

أنا لا أنكر أن ثلاثين ألف ازدلفت لقتل الحسين من الكوفة. طبعًا ليس مقصودي من الكوفة منطقة الكوفة بما هي هي، وإنما من هذا السواد المسمّى بسواد العراق، يعني: النخيل الممتدة من البصرة إلى الكوفة، هذه المنطقة في أزمنة الأئمة كلها قطعة نخيل واحدة، فتسمّى بسواد العراق، وهذه المنطقة كلها كان يعبّر عنها بالكوفة، وكان يعبّر عنها بسواد العراق. نحن لا ننكر أن هناك مجموعةً حاربت الإمام عليًا من أهل العراق، وهناك مجموعة حاربت الإمام الحسن وحاربت الإمام الحسين من أهل العراق.

نحن لا ننكر هذا، ولكن نقول: جميع هذه التصريحات - تصريحات الذم التي صدرت من الإمام علي ، والدعاء على أهل العراق الذي صدر من الإمام الحسين - كلها خاصة بمن قاتلهم، وخاصة بمن حاربهم، وخاصة بمن شهر السيف ضدهم، ولا يُعْقَل أن يظلم الأئمة أجيالًا متتابعةً إلى يوم القيامة. أجيال من المؤمنين منذ يوم كربلاء إلى يوم القيامة، يبذلون كل ما في وسعهم، من أجل الحسين، ومن أجل كربلاء، ومن أجل زيارة كربلاء، ومن أجل المحافظة على العتبات المقدسة، لا يعقل أن يظلمهم الحسين بدعائه، ويدعو عليهم بعدم الفلاح، وعدم الاستقرار، وعدم التأييد، إلى يوم القيامة، فهل يُتَصَوَّر صدور الظلم من الإمام المعصوم؟! هذا غير معقول.

في ذلك الزمن كانت الكوفة تعتبر أكبر حاضرة إسلامية، فكان فيها على الأقل خمس مئة ألف أو ستة مئة ألف شخص، ثلاثون ألفًا منها لا تشكّل الغالبية العظمى من الكوفة. افترض أن ثلاثين ألفًا منها خرجوا لقتال الحسين أو لقتال علي أو لقتال الحسن ، وذمهم الأئمة، وصرّحوا بذمهم، ودعوا عليهم، مع ذلك كله، لا يحتمل أن تتحمل أجيال هؤلاء المؤمنين ذنوب آبائهم، هذا غير معقول، لا يمكن تحميل هذه الأجيال كلها ذنوب من حارب الحسين، وجرائم من حارب الحسين، والقرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، فلا يُعْقَل من إمام معصوم كالحسين أن يدعو على جميع أجيال العراق، وأن يذم جميع أجيال العراق، وأن يذم جميع المجتمعات العراقية، لأن مجموعة منهم حاربوه وقاتلوه، هذا غير معقول.

إذن هذه التصريحات من الذم والتوهين كانت خاصة بمن قاتله، وبمن حاربه، ولذلك أنت تقرأ في زيارة الحسين وفي زيارة أبي الفضل العباس: ”لعن الله أمة قتلتك، ولعن الله أمة ظلمتك، ولعن الله أمة استحلت منك المحارم، وانتهكت في قتلك حرمة الإسلام“. إذن لا يمكن امتداد هذا الذم وهذا الدعاء إلى آخر الأجيال، مع أن هذه الأجيال هي التي حافظت على كربلاء. كان زوار الحسين من أهل العراق، وكان يذهب العشرة فيُقْتَل واحدٌ منهم ويدخل تسعة، وكان زائر الحسين يخيّر بين أخذ أمواله أو قطع يمينه أو صدّه عن الطريق، فكان يختار تارة دفع أمواله، وتارة قطع يمينه، والمهم ألا يتراجع عن زيارة الحسين ، وألا يتراجع عن الوصول إلى قبر الحسين .

المحور الثالث: سر تسليط التاريخ للضوء على العراق.

هل يختلف المجتمع العراقي عن غيره؟! جميع المجتمعات فيها انهزاميون وفيها أبطال، لا يخلو مجتمع من المجتمعات، جميع المجتمعات فيها صنف انهزاميون جبناء يتحينون الفرص، وفيها صنف مجاهدون وأبطال. ما رأيك في مجتمع المدينة الذي عاش فيه النبي نفسه؟! ما رأيك في المجتمع المدني الذي عاش فيه النبي واحتضن النبي؟! القرآن نفسه يقول: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، فهل يسقط المجتمع المدني لأن فيه مجموعة منافقين؟! القرآن لم يصرّح في أهل العراق، وإنما صرّح في أهل المدينة، فهل تسقط قيمة الأنصار الذين احتضنوا رسول الله، وفدوه بأنفسهم، وبذلوا أموالهم في سبيل دعوته، لأجل وجود مجموعة من المنافقين؟!

كان في مكة والمدينة قسمٌ سمّاهم القرآن بالمؤلفة قلوبهم، ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وهم الشكّاكون الذين كانوا يعيشون شكًا في الدين، وشكًا في الوحدانية، وشكًا في مبادئ النبي، فكانوا يُعْطَون من الزكاة لدرء خطرهم، ولدرء مكائدهم، ولدرء حيلهم. إذن، هؤلاء كانوا من ذلك المجتمع، فكل مجتمع ينقسم إلى صنفين: انهزاميين وأبطال، منافقين وحقيقيين، وليس المجتمع العراقي وحده. غاية ما في الأمر أن التاريخ سلّط الضوء على المجتمع العراقي، لا أكثر. الإمام علي نقل العاصمة من المدينة إلى الكوفة، بمجرد أن نقل العاصمة إلى الكوفة صار التاريخ ضوءه على الكوفة، وأصبحت الكوفة في زمان بني أمية مصدرًا للتوراة، وأصبحت في زمان العباسيين عاصمةً وحاضرةً إسلاميةً، فلأجل أن التاريخ سُلِّط على العراق، نُقِل عن العراق بعض المآسي، أو بعض التجاوزات، أو بعض الظواهر المرضية، وإلا فجميع المجتمعات لا تخلو عن هذه الظواهر، ولا تخلو عن هذه الأمور.

الذي أريد أن أقوله: التشيع مهده العراق، المجتمع العراقي، الأمة العراقية، مهد التشيع، قاعدة التشيع، الرصيد الشعبي للتشيع، لولاه لانقرض التشيع، ومنذ أن كان المجتمع العراقي إلى يومنا هذا، ما زال يقدّم البطولات والتضحيات، ما قدّم شعبٌ كما قدّمه العراق من تضحيات وبطولات وتفانيات، في سبيل أن يحافظ على دينه، وأن يحافظ على مبادئه، وأن يحافظ على قيمه، وأن يحافظ على عزّ الإسلام وكرامة الإسلام فيه. ولذلك كان أهل البيت متصلين ولصيقين بالمجتمع العراقي.

الليلة التاسعة
الاستنساخ في المنظور الإسلامي