نص الشريط
أهل البيت (ع) مظهر الربوبية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 14/2/1431 هـ
مرات العرض: 3449
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1046)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

قد تطرأ على الإنسان شبهة حينما يتناول التراث الشيعي أو التراث الإمامي، وهذه الشبهة أن التراث الشيعي إذا قرأه الإنسان يوحي إليه في تصويره وتعظيمه وتقديسه لأهل البيت ما يقلل عظمة الخالق في نفس الشيعي الإمامي. هناك عدة موارد إذا تأملها في التراث الشيعي قد يبدو إليه أن هذا التراث يعظم أهل البيت على حساب عظمة الخالق، ويقدس أهل البيت على حساب قداسة الخالق، بحيث تتضاءل لدى الإنسان الإمامي عظمة الله الخالق، ويتصور أن العظمة لها مصداق آخر، ولها صورة أخرى، ألا وهي أهل البيت . نتعرض لموارد أربعة مثلًا.

المورد الأول: التراث الشيعي يصور لنا أن أهل البيت لهم ولاية تكوينية على الوجود بأسره، وهذا ما نطق به الإمام الخميني قدس سره في كتابه «الحكومة الإسلامية»: إن لأهل البيت ولاية تكوينية على الوجود بأسره من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة، فالإنسان عندما يقف على هذا النوع من التراث يتساءل: إذا كان لأهل البيت ولاية على الوجود كله، فما بقي موقع لله عز وجل يُعْمِل فيه ولايته! إذا كان الوجود بأسره خاضعًا لولاية أهل البيت، فلم يبق في الوجود بقعة تكون محطًا ووعاءً لولاية الله تبارك وتعالى، ولنفوذ مشيئة الله تبارك وتعالى، وقد قال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، وقال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

المورد الثاني: التراث الشيعي يحث الإمامي على اللجوء في حوائجه واللجوء في قضاياه وفي مهماته إلى أهل البيت، لذلك ترى الإمامي بصورة أوتوماتيكية يلجأ: يا علي أنجز لي حوائجي، يا علي اقض لي حوائجي، يا علي أنجز لي مهماتي... هذا اللجوء لأهل البيت بصورة مباشرة - كما يصوره التراث الإمامي - يقلل من ارتباط الإمامي بربه، ويجعل العلاقة بين الإمامي وربه علاقة محدودة في الصلاة والصوم وما شاكل ذلك من العبادات، وأما ما سوى هذه الدائرة - دائرة العبادات - فإن الشيعي توسله واستغاثته ولجوؤه كله لأئمته أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». إذن، اللجوء إليهم بقضاء الحوائج وإنجاز المهمات تقليل للارتباط الروحي بين الإمامي والله عز وجل، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، الأمر بيده تبارك وتعالى، ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

المورد الثالث: التراث الشيعي يتعلق ويتشبث حتى بالماديات فضلًا عن القضايا الروحية، أي أن المسألة لم تنحصر في التعلق بأهل البيت، بل امتدت المسألة حتى إلى التعلق بأجسامهم وما يرتبط بأجسامهم من القضايا المادية. مثلًا: التراث الشيعي يقدس تربة الحسين ، وهي تربة كسائر التراب، لا لشيء إلا لأنها ضمت جسم الحسين، جسم الحسين جسم مادي مثله مثل أي جسم آخر، جسم الإمام أو جسم النبي كأي جسم آخر، يأكل ويشرب، وتخرج منه الفضلات، وتعرض عليه الطهارة والنجاسة، فما ميزة هذا الجسم عن غيره حتى يمتد تعلق وارتباط الإمامية حتى بأجسام أهل البيت وما يرتبط بأجسامهم من تراب قبورهم وأضرحتهم المشرفة؟!

المورد الرابع: نحن عندما نلاحظ مثلًا - كما ذكرنا في الليلة السابقة - دعاء الندبة، دعاء الندبة يكرس في نفس الإمامي عشق الإمام الحجة والغرام والهيام بالإمام الحجة، على حساب ماذا؟! لو كان هذا الدعاء يكرس في نفس الإمامي حب الله والتعلق بالله لكان أمرًا منسجمًا مع ظواهر الآيات القرآنية، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ، وأما إذا كان هذا الدعاء يكرس العشق والتعلق بشخص المهدي، مع أن المهدي ليس أفضل من جده محمد ، فالأولى تكريس الحب لله، وتكريس التعلق بالله، أو على الأقل تكريس حب النبي والتعلق بالنبي، بدل تكريس هذا النوع من درجة الحب ودرجة العشق بالمهدي المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف».

إذن، من خلال هذه الموارد الأربعة نرى أن التراث الشيعي يؤكد الربط بأهل البيت على حساب الارتباط بالله، وعلى حساب الارتباط بجدهم النبي محمد ، وهذه مشكلة فكرية خطيرة جدًا لا بد من الوقوف عليها، ولا بد من وضعها على ما تقتضيه الموازين: الموازين القرآنية والموازين النبوية الواردة عن النبي .

هذه الشبهة قد تطرأ على ذهن الإنسان عندما يفتح بعض التراث الشيعي، والآن نحن نأتي للإجابة عن هذه الشبهة، فيكون حديثنا في محاور أربعة طبقًا للموارد الأربعة التي تحدثنا عنها في عرض هذه الشبهة.

المحور الأول: الولاية التكوينية.

مسألة الولاية التكوينية لأهل البيت، وما ذكره الإمام الخميني، وقبله من علماء الشيعة الكثير، كالمحقق الأصفهاني أستاذ السيد الخوئي قدس سره، والسيد الخوئي نفسه ذكره في كتابه «مصباح الفقاهة»، فهذا التصريح لا يختص بالإمام الخميني، جملة من كبار علماء أهل البيت صرحوا بهذا التصريح: أن لأهل البيت ولاية تكوينية عامة. هنا عندما نسلط الضوء على هذه النقطة نذكر أمرين:

الأمر الأول: الولاية التكوينية في القرآن.

القرآن نفسه - والذي هو مصدر ومنبع الفكر الإسلامي - نسب الولاية التكوينية لعباد الله الصالحين، حيث قال عندما تحدث عن عيسى بن مريم «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ، مع أن الخالق هو الله، القرآن الكريم يقول: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، كما أن نفخ الروح من الله عز وجل، هو يقول: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، ولكنه هنا ينسب الخلق والنفخ إلى عيسى بن مريم، وهذه ولاية تكوينية. كذلك في حديث سليمان مع وزرائه: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.

الأمر الثاني: الفرق بين الولاية الاستقلالية والمظهرية.

نحن عندما نقول بأن لأهل البيت ولاية تكوينية على الوجود بأسره، فهل ذلك لموضوعية في أهل البيت واستقلالية فيهم أم على نحو الطريقية؟ نقول: المسألة على نحو الطريقية لا نحو الاستقلالية، بمعنى أن ولايتهم التكوينية هي مظهر من مظاهر ولاية الله، هي ولاية الله في الواقع، ولاية الله أظهرها في هذه الذوات الطاهرة، أظهرها في هذه الذوات المقدسة، ولايتهم مظهر ومجلى لولاية الله تبارك وتعالى.

مثال: أنت عندما تأتي إلى الشمس، وتقول بأنها تمد الأرض بحرارتها وضوئها، ولولا ضوؤها وحرارتها لماتت الكائنات الحية على وجه الأرض كلها، فهل أنت تقصد الشمس على نحو الاستقلال والموضوعية؟! لا، بل هي مظهر لقدرة الله عز وجل، الشمس لا موضوعية ولا استقلالية لها، الشمس مظهر لقدرة الله ونفوذ مشيئته ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا، وكما أن الشمس مظهر لقدرة ولإبداع صنعته، فولاية أهل البيت مظهر لولايته ولنفوذ مشيئته تبارك وتعالى.

ولذلك، نقرأ في التراث الوارد عن أهل البيت: ”نحن صنائع الله، والخلق صنائعنا، إن شئنا شاء الله، ولا نشاء إلا أن يشاء الله“، مشيئتنا مظهر لمشيئة الله ليس إلا، مشيئة الله تجلت في مشيئتنا وفعلنا، ولا نشاء إلا أن يشاء الله، فمشيئتنا مظهر لمشيئته. كذلك في زيارة الجامعة: ”بكم فتح الله“ من هو الذي فتح؟ الله فتح، ما قلنا: هم فتحوا! قلنا ”بكم فتح الله“ يعني الفاتح هو الله، ”وبكم يختم“ يعني الله يختم، ”وبكم ينزل الغيث“ يعني هو الذي ينزل الغيث، ”وبكم يمسك أن تقع السماء على الأرض إلا بإذنه“، إذن الذي يفتح ويختم ويمسك هو الله، وهم مظهر لإبداع قدرته، ولنفوذ مشيئته، ولإبراز ولايته تبارك وتعالى.

إذن، هم مظهر له وليسوا ملحوظين على نحو الموضوعية والاستقلالية، هم مظهر لنفوذ مشيئته، ”لا فرق بينك وبينهم إلا أنهم عبادك، فتقها ورتقها بيدك“ يعني الأمر بيدك أنت، هم مظهر لك. إذن، ما نؤمن به أنهم مظاهر لجلال الله ولنفوذ مشيئته، ”السلام على محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سر الله“. إذن، هم وعاء قدرته ووعاء نفوذ مشيئته تبارك وتعالى. إذن، لا يوجد مانع في دعوى أن لهم ولاية تكوينية عامة من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة، لا يوجد مانع لأن ولايتهم التكوينية مظهر لولاية الله.

هذا الإنسان مخلوق حسي، والمخلوق الحسي لا يتأثر إلا بالأشياء الحسية، لذلك الله تبارك وتعالى جعل لهذا المخلوق الحسي مظاهر حسية تثبت عظمة الله، فمن تلك المظاهر الحسية التي تثبت عظمة الله الشمس والقمر، ومن تلك المظاهر الحسية التي تثبت عظمة الخالق محمد وآل محمد «صلوات الله وسلامه عليهم»، فهم في ولايتهم وقدرتهم وإبداعهم مظهر حسي لولايته ولإبداعه ولعظمته تبارك وتعالى، لأجل أن الإنسان يستدل بهم على الله تبارك وتعالى، ويتخذهم طرقًا لمعرفته واكتشاف عظمته.

المحور الثاني: التوسل.

المورد الثاني هو مسألة اللجوء إليهم في قضاء الحوائج، والاستغاثة والتوسل بهم في إنجاز المهمات والشدائد «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». ذكرنا في السنوات السابقة أن الفلاسفة يقولون: هناك مقتض وهناك شرط، المقتضي ما منه الوجود، والشرط ما به الوجود، كيف؟

مثال: وجود الجنين في بطن أمه، حتى يتكون الجنين في بطن أمه يحتاج إلى عاملين: العامل الأول هو المقتضي، وهو الذي يفيض الحياة، ما منه الوجود، من هو المقتضي الذي يفيض الحياة؟ هو الله ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، هو مفيض الحياة تبارك وتعالى. وعندنا عامل آخر، وهو الشرط، ما به الوجود، ألا وهو لا لقاء الذكر والأنثى، بلقاء الذكر والأنثى يتحقق الشرط، لما تحقق الشرط جاء دور الإفاضة، فأفاض الله تبارك وتعالى الحياة على هذه النطفة المتطورة.

إذن، هناك عاملان: عامل المقتضي وعامل الشرط. وهذا ما نقول به في أهل البيت، نحن لا نعتقد أن أهل البيت مصدر إفاضة، بل هم وسائط، وفرق بين وسائط الفيض وبين مصدر الإفاضة. مصدر الإفاضة هو الله عز وجل، هو مصدر الحياة، هو مصدر العطاء، هو مصدر الخلق والرزق، منه الوجود تبارك وتعالى، الإمام واسطة في الإفاضة، كما مثلنا: المفيض لحياة الجنين هو الله لكن الواسطة في الإفاضة لقاء الذكر والأنثى، أيضًا المفيض لقضاء الحوائج، المفيض لإنجاز الشدائد، المفيض لكل الأمور هو الله ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، ولكن هذه الإفاضة لها واسطة تحمل الإفاضة من مصدرها - وهو الله تبارك وتعالى - إلى الوعاء المتمثل في الإنسان، فهم وسائط في الفيض لا أنهم مصدر الفيض.

والقرآن الكريم نفسه يتحدث عن مقتض ويتحدث عن شرط، مثلًا القرآن الكريم في بعض آياته يقول: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ويقول في آية أخرى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا، فكيف نجمع بين الآيتين؟ بالذي قلناه، المقتضي للوفاة ولقبض الأرواح هو الله، لكن الواسطة في القبض ملك الموت، ملك الموت مجرد واسطة. وقال في آية: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يعني الأمر بيده، بينما في آية أخرى يقول: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يعني الملائكة يدبرون الأمر، فالأمر بيده وأما الملائكة فهم وسائط في تدبير الأمر.

ربما يقول قال: لماذا كل هذا اللف والدوران؟! الله هو الذي يفيض وهو الواسطة، هو الأول والآخر، فلماذا تقومون بكل هذه الالتفافات وتقولون: هو المفيض ولكن هناك واسطة في الفيض؟! لماذا لا يفيض الله مباشرة ويتكفل الأمور كلها؟! والجواب عن ذلك: أن حكمة الله جرت على ذلك، وبعبارة فلسفية: القصور في القابل لا في الفاعل. ابن أبي العوجاء عندما يسأل الإمام الصادق يقول له: هل الله قادر على أن يخلق الدنيا في بيضة؟ الإمام أجابه بما معناه بحسب الفلاسفة: القصور في القابل لا في الفاعل.

الله لا قصور في قدرته، ولا قصور في خالقيته، وإنما القصور في المخلوق نفسه، البيضة ليس لديها القابلية أن تستوعب الدنيا، القصور في البيضة وليس في قدرة الله، البيضة ليس لها القابلية أن تستوعب الدنيا كلها، الظرف الصغير ليس له قابلية استيعاب المظروف الكبير، هذا قصور في القابل. كذلك هذه الوجودات المادية، الإنسان والكون كله وجود مادي، الوجود المادي لا يقبل تلقي الإفاضة إلا بواسطة، هذا قصور فينا نحن وليس قصورًا في الله عز وجل، الوجود المادي قاصر عن تقبل الإفاضة إلا بواسطة في الفيض، لذلك نحتاج إلى الملائكة كوسائط في الفيض، القصور فينا نحن القابل وليس القصور فيه هو الفاعل، الوجود المادي يتوقف قبوله للإفاضة على الواسطة، لذلك خلق الله واسطة، وكما أننا نحتاج إلى وساطة الفيض من قبل الملائكة، نحتاج أيضًا إلى وساطة الفيض من قبل محمد وآل محمد «صلوات الله وسلامه عليهم».

ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، الله هو المفيض للغنى، والنبي واسطة في الفيض. إذن، هذه الواسطية في الفيض هي التي أصبحت ملاكًا في التوسل بأهل البيت، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ، الوسيلة قد تكون زمانية مثل ليلة القدر، قد تكون مكانية مثل الكعبة المشرفة، قد تكون شخصًا إنسانيًا كما في شخص النبي محمد ، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا.

ويذكر الطبراني في معجمه أن الرسول حين دفن فاطمة بنت أسد الهاشمية أم أمير المؤمنين ، حينما دفنها نزل إلى قبرها واضطجع فيه، وقال: ”أسألك بحق نبيك وبحق الأنبياء من قبلي إلا غفرت لأمي فاطمة بنت أسد ووسعت عليها مدخلها، ثم قال: رحمك الله يا أمي“، الأنبياء من قبله أغلبهم موتى «موسى وإبراهيم ونوح...»، رسول الله يتوسل بالموتى لأنه يعتقد أنهم وسائط في الفيض.

المحور الثالث: التبرك.

مسألة سراية البركة من أجسام أهل البيت إلى ما يتعلق بأجسامهم من تراب وأضرحة وقبور مشرفة.. قد يستغرب الإنسان ويقول: ما هي العلاقة؟! جسم أهل البيت جسم يمرض ويتعب، وجسم رسول الله يوم أحد كُسِرَت رباعيته، كُسِرَت أسنانه، وسالت الدماء على وجهه وصدره، بالنتيجة جسم رسول الله كسائر الأجسام، يمرض ويتعب، ويخرج الفضلات، وتعرض عليه الطهارة والنجاسة، ومثله مثل سائر الأجسام، فما هي الخصوصية في جسم النبي؟!

التفت هنا إلى أثر العنصر الروحي على هذا الجسد المادي، الجسم المادي يتأثر بالعنصر الروحي، وأنا أثبت لك هذا من القرآن الكريم، فلاحظ قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، الجبل مادي والقرآن مضامين روحية، إذن حتى الجسم المادي يتأثر بالجانب الروحي، يتأثر بالعلقة الروحية بالله تبارك وتعالى، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.

يقول القرآن الكريم: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، مع أن مقام إبراهيم صخرة مثل سائر الصخور، أحضرها وجلس عليها فأصبحت مباركة، سرت إليها البركة من ذلك الجسم المبارك، جسم إبراهيم جسم صُرِف في العبادة، صُرِف في طاعة الله. أنت عندما تأخذ شيخًا كبيرًا من المؤمنين الأتقياء، هذا الذي قطع ستين أو سبعين سنة في العبادة، هذا جسمه مبارك، العبادة تطرح البركة في هذا الجسم، تجعل هذا الجسم جسمًا مباركًا، إبراهيم هذا الجسم المبارك الذي بذل في طاعة الله سرت البركة منه إلى الصخرة.

القرآن الكريم يقول: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، هو وادٍ مثله مثل سائر الوديان، لكنه أصبح مقدسًا لأن الوحي الإلهي سرت بركته إلى تراب هذا الوادي، فأصبح واديًا مباركًا. إذن، البركة تسري من الجانب الروحي إلى الجانب المادي، ولذلك تاريخ المسلمين كله يذكر - الطبري، ابن عساكر، ابن هشام، صحيح البخاري، صحيح مسلم، كتب الشيعة... إلخ» أنه لما حج محمد رسول الله حجة الوداع كان إذا توضأ أخذ المسلمون فضل وضوئه، يعني هذه القطرات التي تنزل من يده يأخذها المسلمون ويتبركون بها بمرأى ومسمع من رسول الله ، لأنه ماء مبارك اختلط بالجسم المبارك، ولما حلق شعره بمنى هو الذي أعطاه المسلمين، وزع شعره على المسلمين يأخذونه ويتبركون به. في هذا الزمان هناك بعض شعيرات النبي في مصر، وبعض شعيراته في تركيا، وبعض شعيراته في العراق، هذه كلها من حجة الوداع عندما حلق شعره .

وكما كان شعره مباركًا، كان ريقه كذلك. كل المسلمين يروون أن عليًا في يوم خيبر.. لما فشل المسلمون في حسم المعركة، قال رسول الله : ”لأعطين الراية غدًا رجلًا يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، كرارًا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه“، يقول ابن عباس: فاشرأبت أعناق القوم أيهم يعطاها.. أيهم أهل لهذه الراية، اشرأبت أعناقهم، بقوا طول الليل ينتظرون اليوم الثاني، فلما جاء الغد قال: أين علي؟ قالوا: أرمد العين يا رسول الله، قال: ائتوني به. أتي به فبصق في عينه فشفيتا، وقال علي : ”ما رأيت أذىً في عيني بعد ذلك اليوم أبدًا“. إذن، الجسم المبارك مصدر للبركة، لبركة العبادة والارتباط بالله تبارك وتعالى الذي حل في ذلك الجسم المبارك.

المحور الرابع: دعاء الندبة.

المورد الرابع والأخير هو مسألة دعاء الندبة الذي يربي لدى الشيعة الإمامية التعلق بالمهدي على حساب التعلق بالله، وعلى حساب التعلق بالنبي ، وهذا خلاف الموازيين المستفادة من القرآن والسنة. هنا نذكر أمرين:

الأمر الأول: مقتضى الصناعة العلمية ملاحظة الفكر كمنظومة متكاملة.

الإنسان الذي عنده موضوعية علمية لا بد من أن يقرأ التراث كله، أنت إذا أردت أن تحاسب إنسانًا على فكره فلا يصح لك أن تأخذ قصاصات من فكره من هاهنا وهاهنا، بل لا بد من أن تقرأ فكره كله، القراءة العلمية أن تقرأ الفكر كله؛ لأن هذا الفكر يُشَكِّل منظومة متجانسة، يُشَكِّل أسرة متكاملة، كل إنسان مفكر له منظومة فكرية معينة، له أسس، له مبانٍ، له منطلقات ينطلق منها في فكره، إذا أردت أن تقرأ فكره فلا بد من أن تقرأ الفكر كله حتى تتعرف على منطلقاته ومبانيه وأسسه التي ينطلق منها.

الإسلام والتشيع منظومة فكرية متتابعة ومتواصلة، فلا يصح أن تأخذ دعاء الندبة وحده وترتب عليه آثارًا من دون أن تقرأ الفكر الإمامي كله، الفكر الإمامي كله منظومة واحدة، أوله قرينة على آخره، وآخره قرينة على أوله. إذن، لا يجوز قراءة دعاء الندبة وحده، اقرأ الصحيفة السجادية لترى كيف تربي على العلاقة مع الله، ما وجدنا تراثًا روحيًا يربي المسلم على التعلق بالله والارتباط بالله والشغف بمحبة الله والهيام في خشية الله كالصحيفة السجادية الواردة عن زين العابدين ، زبور آل محمد .

كل إمام له معجزة، معجزة علي في علمه وبلاغته، معجزة الحسين في قوة إرادته، معجزة زين العابدين في هذه الصحيفة السجادية، هذا التراث العظيم الذي لم يرد عن أحد لا من الأنبياء ولا من المرسلين ولا ممن سبق ولا ممن لحق. إذن، أنت لا يصح لك أن تقرأ الفكر الإمامي مجزأَ، بل لا بد من أن تقرأه منظومة واحدة، دعاء الندبة تقرؤه وأنت تقرأ الصحيفة السجادية، وأنت تقرأ الصحيفة الصادقية، وأنت تقرأ الأدعية العلوية الواردة عن أمير المؤمنين ، إذا قرأت الجميع كمنظومة فكرية متواصلة عرفت أن الفكر الإمامي كما يربي الإنسان المؤمن على حب الإمام المهدي وعشق الإمام المهدي والتعلق بالإمام المهدي في دعاء الندبة، فإنه يربي الإمامية على حب الله والهيام في الله كما في الصحيفة السجادية.

الأمر الثاني: التلازم بين حب المهدي وحب النبي.

دعاء الندبة عندما يربينا على التعلق بحجة زماننا وولي أمرنا الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف.. ”إلى متى أحار فيك يا مولاي؟! وأي خطاب أصف فيك وأي نجوى؟! عزيز علي أن أجاب دونك وأناغى، عزيز علي أن أبكيك وتخذلك الورى، عزيز علي أن يجري عليك دونهم ما جرى، هل من معين فأطيل معه العويل والبكى؟! هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا؟! هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى؟!“، هذا النوع من الكلمات تربي فينا العشق بالمهدي، لماذا؟! لأن المهدي شخص من الأشخاص؟! لا، بل لأن المهدي صورة أخرى لمحمد بن عبد الله ، عشق المهدي عشق لجده، لا تنفصل القضية.

أنت تقول: أنتم الإمامية تعظمون أهل البيت على حساب النبي!! ولكن لماذا نحن نعظم أهل البيت؟! أليس لأنهم خلفاء النبي؟! تعظيم أهل البيت لأنهم خلفاء النبي، لأنهم صورة أخرى عن النبي، لأنهم مثال للنبي، فيرجع الأمر للنبي . سئل العلامة الحلي: ما هو سر عظمة الإمام علي؟ قال: سر عظمته أنه معجزة لمحمد .

إذن، تعظيم علي يرجع للنبي، تعظيم أهل البيت يرجع للنبي، هذا العشق الذي يربيه دعاء الندبة للمهدي لأن المهدي صورة أخرى عن جده رسول الله ، كما ورد عنه: ”أولنا محمد، أوسطنا محمد، آخرنا محمد“، هناك نور محمدي واحد، مطلعه النبي وختامه المهدي، ولهذا هناك رواية عندنا وعند المذاهب الإسلامية الأخرى: الإمام علي يسأل النبي : المهدي منا أم من غيرنا؟ قال: ”منا، بنا فتح الله وبنا يختم“، يعني النور واحد.

إذن، تعظيم المهدي، والاستغراق في حب المهدي، والعشق لشخصية المهدي، هو عشق لجده؛ لأنه صورة عنه ومثال له، وعشق رسول الله عشق للدين، رسول الله هو الدين، رسول الله هو حقيقة الدين، فداء رسول الله وحب رسول الله وعشق رسول الله يرجع لعشق الدين وفداء الدين الذي تجسد في النبي . لا يمكن الفصل بين هذه المواضع، ولا يمكن التفكيك بين هذه المواضع، المهدي هو رسول الله ورسول الله هو الدين، كما ورد عن رسول الله : ”علي مع الحق والحق مع علي“.

إذن، التراث الإمامي لا يربي الإنسان المسلم على تعظيم أهل البيت على حساب عظمة الله أو على حساب عظمة النبي، مرجع هذا التعظيم إلى تعظيم الله ولتعظيم النبي الذي هو في الحقيقة تعظيم للدين وإخلاص للدين.

ليلة 13 : الهدفية في لقاء الإمام (عج)
ليلة 28 : تجليات الرحمة المحمدية