نص الشريط
قد أفلح المؤمنون
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 11/2/1433 هـ
مرات العرض: 3047
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (4188)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ

صدق الله العلي العظيم

في حديثنا حول الآية المباركة: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، نتناول محاور ثلاثة:

المحور الأول: دور الإيمان في حياة البشرية:

هناك سؤال يطرح نفسه: كل من التفت للإيمان ومدى تأثيره وفاعليته، يتبادر لذهنه هذا السؤال: ماهو جدوى الإيمان؟ لكن لو تأملنا، لم نجد فرقًا بين المؤمن وغير المؤمن، المؤمن يمرض وغير المؤمن يمرض، المؤمن يحتاج للدعاء ليعالج مرضه، وغير المؤمن كذلك، المؤمن يصيبه الفقر، وغير المؤمن كذلك، المؤمن قد يمر بعقد وأزمات نفسية فيلجأ إلى الطبيب النفسي؛ لعلاج عقده وأزماته، وغير المؤمن أيضُا كذلك، إذن أين أثر الإيمان؟ إذا كان المؤمن وغيره متساويين في المرض والشفاء والغنى والفقر، والأزمة النفسية وعلاجها، فما هو الفرق بين المؤمن وغيره؟ إذن أين جدوى الإيمان؟ وأين أثره؟ الإيمان الذي لا يشفي مريضًا ولا ينعش فقيرًا ولا يرفع أزمة نفسية، فما هي جدواه؟ وما هو أثره؟ وما هي حقيقته؟ لماذا نكلف أنفسنا ونتعب أنفسنا بالإيمان، مع أن الإيمان لا أثر له؟ فالكافرون والمؤمنون يعيشون في هذه الدنيا ويتناولونها ويتنعمون بخيراتها ويصابون بشرورها، من دون الفرق بين المؤمن وغيره، الشر يقع على المؤمن وغيره، والخير ينال المؤمن وغيره، فأين أثر الإيمان؟ لماذا نتعب أنفسنا بشيء - نسميه إيمانًا - وهو لا أثر له؟

الجواب عن هذه الفكرة التي قد تتبادر لذهن الإنسان عندما يتحدث عن الإيمان: الإيمان له آثار، وله فاعلية في عدة مواطن من شخصية الإنسان، ومن كيان الإنسان، وهي:

الموطن الأول: الإيمان يغرس الحافزية نحو العطاء والبذل.

فالإنسان بطبعه لا يقدم ولا يتفاعل ولا يبادر إلى عمل ما لم يؤمن بالعوض، الإنسان لا يضحي بطبعه، الإنسان لا يعطي بطبعه، الإنسان لا يبذل بطبعه، لا يبذل الإنسان ولا يقدم ولا يعطي ما لم يؤمن بأن هناك عوض وراء بذله وعطائه وتضحياته، الإنسان يطلب العوض دائمًا، لكل عطاء وبذل وتضحية، فإذا قارنّا بين المؤمن وغير المؤمن، فإن غير المؤمن الذي يرى الحياة هي الحياة الدنيا فقط وليس وراء هذه الحياة يوم آخر، من الطبيعي أن يحجم عن العطاء؛ لأنه لا يؤمن بأن هناك عوض، فيحجم عن العطاء من حيث الوقت والفكر والمال والجهد، يحجم عن العطاء والتضحية والبذل لأنه لا يؤمن بوجود عوض، لا يؤمن بأن هناك يوم يُعوّض فيه المضحي والمعطي والباذل، لذلك غير المؤمن يتراجع عن العطاء.

بينما إيمان المؤمن بأن هنالك يوم جزاء، بأن هنالك يوم عوض، بأن هنالك يوم يتدارك فيه كل نقص، هذا الإيمان يغرس في قلبه الحافزية نحو البذل والعطاء، يغرس في قلبه الدافعية نحو التضحية، نحو الإنفاق، ينفق ويعطي من وقته وفكره ونفسه ونفيسه وكل ما يملك؛ لأنه يؤمن بأن هناك يوم جزاء ويوم عوض، هذا هو الفرق بين المؤمن وغيره، إيمان المؤمن بأن هناك عوض يدفعه نحو البذل، وعدم إيمان غيره بأن هناك عوض يجعله مُحجمًا عن البذل والعطاء، يقول تعالى في محكم كتابه: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وفي آية ثانية: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ، ويقول في ثالثة: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ.

الموطن الثاني: الإيمان رادع عن ارتكاب الرذيلة.

الإيمان يشكل مناعة أمام الريذلة، وأمام الانجرار والاسترسال مع الرذيلة، كل إنسان يدرك بعقله - حتى الإنسان الذي لا يؤمن «الملحد» - أن هناك رذيلة، فالخيانة رذيلة، والظلم رذيلة، والكذب بدون مبرر عقلائي رذيلة، الإنسان بطبعه وبعقله يؤمن بأن هناك رذيلة، لكن لا يكفي هذا الإيمان لامتناعه عن الرذيلة، يحتاج إلى رادع داخلي يقاوم به الإقبال على الرذيلة، وهذا الرادع الداخلي يستقيه الإنسان من الإيمان.

الإنسان غير المؤمن وإن اعتقد بأن هناك رذائل وقبائح، لكنه لا يملك حصانة تمنعه عن مقارفة الرذيلة، لكنه لا يمتلك مناعة داخلية تعيقه أمام اقتراف الرذيلة، أما المؤمن فلأنه يؤمن بأن هناك عقاب، وأن هناك جزاء، وأن هناك وعيدًا، وأن هناك تهديدًا، الإيمان يعطيه مناعة عن ارتكاب الرذيلة، يغذيه برادع داخلي يحجبه عن مزاولة الرذيلة، يقول القرآن الكريم: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

الموطن الثالث: الإيمان علاج للقلق والاضطراب النفسي.

الإنسان بطبعه قلق، لا يوجد إنسان ليس عنده قلق، بمجرد أن يولد الإنسان ويقرأ صفحة الكون والطبيعة؛ يعرضه عليه القلق، القلق من الأمراض والأوبئة، القلق من الزلازل والبراكين، القلق من الحروب والمجاعات، كل إنسان يتفتح ذهنه؛ يعرض على ذهنه القلق، وهنا يتحدث القرآن على أن هذا القلق موجود بطبيعة الإنسان: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، الإنسان بطبعه قلق، وهذا القلق يحتاج إلى غذاء، يحتاج إلى علاج؛ ليشعر الإنسان بالاستقرار والاطمئنان والهدوء.

العلاج للقلق والاضطراب هو الإيمان، الإيمان هو الذي يهبنا الاستقرار، الإيمان هو الذي يهبنا الشعور بالاطمئنان، لو لا الإيمان لكنّا في قلق دائم، واضطراب ملح، وفي تأرجح نفسي عميق، الإيمان هو الذي يغذينا بالشعور بالاستقرار وبالاطمئنان، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي، ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الإيمان يرفع الحزن، الإيمان يقتلع الاضطراب والقلق من أعماق النفس، الإيمان هو الذي يسبغ على روح الإنسان حالة من الاستقرار والهدوء والوداعة، كل ذلك من آثار الإيمان.

إذن، عندما نتساءل: أين دور الإيمان؟ وما الفرق بين المؤمن وغيره؟ وهل هناك امتيازات للمؤمن دون غيره؟ فالجواب: المؤمن يعيش امتيازات روحية لا يعيشها غيره، المؤمن من يمتلك الدافعية نحو العطاء والبذل، المؤمن من يمتلك حصانة أمام اقتراف الرذيلة، المؤمن من يعيش حالة من الاستقرار والاطمئنان والهدوء.

المحور الثاني: السعادة الحقيقية في درب الإيمان

الآية المباركة تقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، ما معنى أفلح؟ الفلاح هو السعادة، وما تعريف السعادة؟ يعرف علماء العرفان السعادة بأنها: اللذة الخالصة، ما معنى اللذة الخالصة؟ اللذة على قسمين: هناك لذة ممزوجة بالألم، وهناك لذة حقيقية لا يعتريها ألم ولا يعتريها نقص، وهذه اللذة الحقيقية هي المعبر عنها بالسعادة.

مثلًا: الإنسان يظن أن سعادته في الثروة، فيجهد نفسه ويتعب نفسه ليلًا ونهارًا في سبيل الحصول على الثروة، لكنه إذا حصل على الثروة، يجد فيها لذة، ولكنها لذة ممزوجة بالألم، هو يمتلك الثروة، لكن يعيش خوفًا على بقائها ونموها واستمرارها، اللذة الحاصلة من الثروة هي لذة غير حقيقية، لذة ممزوجة بالألم والخوف والحسرة، الإنسان قد يسعى للمعصية - والعياذ بالله -، يسعى للعلاقة مع المرأة الأجنبية، يظن أن في ذلك سعادته، لكنه إذا حصل على هذه العلاقة؛ يشعر بلذة، إلا أنها لذة ممزوجة بالألم والخوف والاضطراب وتأنيب الضمير، فهي ليست سعادة حقيقي؛ لأنها لذة ممزوجة بالألم.

بينما لذة العلم تختلف، الإنسان إذا تعلم واكتشف مجالًا وحقلًا من العلم؛ يشعر بلذة لا ألم معها، لا نقص معها، لذلك العلم سعادة حقيقية، مقابل المال والثروة التي تمث سعادة وهمية، يقول القرآن الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، هذه السعادة هي سعادة وهمية، سعادة عابرة، لأنها لذة مزوجة بالألم.

إذن أين اللذة الحقيقية التي لا ألم معها؟ لذة الإيمان، الإيمان هوالسعادة الحقيقية؛ لأنه لذة لا يشوبها ألم أبدًا، لماذا؟ علماء العرفان يقولون: الإحساس بالنظافة بثير الشعور بالبهجة، الإنسان إذا رأى ثوبه نظيفًا ومنزله نظيفًا؛ يبتهج قلبه، الإنسان إذا رأى أبناءه نظيفين؛ يبتهج قلبه، الشعور بالنظافة يغرس البهجة في القلب، والشعور بالبهجة هو نوع من السعادة ولون من السعادة، كذلك الإنسان إذا أحس بنظافة قلبه، القلب كالثوب، كالبدن، كالمنزل، كالأولاد، إذا الإنسان قرأ قلبه ورأى قلبه نظيفًا، لا حقد ولا حدس ولا سوء ظن فيه، القلب إذا كان نظيفًا وطاهرًا خاليًا من الحقد والحسن وسوء الظن والوسوسة والشك، إذا كان القلب نظيفًا؛ أحس الإنسان ببهجة النور الإيماني في قلبه.

هذا ما يتحدث عن القرآن، يقول: ﴿فَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ، ويقول القرآن الكريم: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، ويقول كذلك: ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، انشراح الصدر ما معناه؟ انشراح الصدر يعني الشعور بالبهجة، والشعور بالبهجة متوقف على أن ترى قلبك نظيفًا، وهنا يفترق المؤمن عن غير المؤمن، المؤمن إذا قرأ قلبه وجده صفحة بيضاء نظيفة، لا حسد ولا بغي ولا سوء ظن، فإذا رأى قلبه نظيفًا؛ شعر بلذة البهجة، وهذه هي السعادة الحقيقية، أن يشعر الإنسان بالبهجة، لماذا؟ أن يشعر الإنسان بانشراح صدره، لأنه أدرك أن قلبه مفعم بالإيمان، كون القلب مفعم بالإيمان يولّد الشعور بالبهجة، ببهجة النور، القرآن يسميه نورًا حقيقيًا، نظافة القلب يسميها القرآن نورًا، ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ويقول كذلك: ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ، النور هو الشعور بالبهجة، والشعور بالبهجة متفرع على الإيمان، والإيمان عبارة عن نظافة القلب وطهارته من كل هذه الرذائل النفسية والروحية، هذه السعادة الحقيقية، السعادة الحقيقية هي السعادة التي تنطلق من الداخل، وليست السعادة الآتية من الخارج، الإنسان يظن السعادة في الأموال والألقاب والمنصاب والثروة، هذه سعادة جاءت من الخارج، لن تجدِ معك شيئًا، لن تعطيك سعادة لا ألم فيها، أما السعادة التي تنطلق من الداخل، هي التي تعطيك لذة لا ألم فيها، الشعور بالبهجة هو اللذة الحقيقية التي لا ألم فيها، وهذا ما عبر عنه القرآن بالفلاح: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وقال في أخرى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا، وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، الفلاح هو السعادة، السعادة هي اللذة الحقيقية التي لا ألم معها، وهذه اللذة الحقيقية لا يشعر بها إلا المؤمنون.

المحور الثالث: الإيمان ملهم الثورات الإنسانية

هنا قد يطرح الإنسان سؤالًا: إذا كان الإيمان أمرًا حقيقيًا واقعًا، فلماذا لم يؤمن إلا القليل من البشر؟ لماذا أكثر البشر غير مؤمنين، إذا كان الإيمان حقيقة واقعية مؤثرة؟ هناك فرق بين الحقيقة وبين الخرافة، ما هو؟ الحقيقة تفرض نفسها على المجتمع البشري، فيتفاعل معها أغلب المجتمع البشري، بينما الخرافة لا تفرض نفسها على المجتمع البشري، لذلك لا يتفاعل معها إلا فئة قليلة ويسيرة من المجتمع البشري، ما هو الفرق؟

الفرق أن الحقيقة تلامس العقل، وتلامس الوجدان، فلأنها تتحدث مع العقل، وتخاطب العقل، والعقل قوة مؤثرة في شخصية الإنسان؛ لذلك نجد أغلب المجتمع البشري يتفاعل مع الحقيقة، بينما الخرافة لا تخاطب العقل بل تخاطب الوهم، الإنسان كما أنه يمتلك عقل، فإنه يمتلك وهم وخيال، الخرافة تخاطب الخيال، والخيال ليس قوة مؤثرة على شخصية الإنسان، لذلك من يتفاعل مع الخرافة فئة قليلة من المجتمع.

هذا المثال للتوضيح: الفرق بين علم الطب وعلم السحر، المجتمع البشري يتفاعل مع علم الطب، دراسة، تدريسًا، تطبيقًا؛ لأن علم الطب حقيقة، لأن علم الطب يخاطب العقل، لذلك يتفاعل معه أغلب المجتمع البشري، بينما علم السحر، تتفاعل معه نسبة قليلة من المجتمع البشري؛ لأنه لا يخاطب العقل، بل يخاطب قوة الخيال وقوة الوهم.

من هذا المنطلق، يقول بعض المفكرين الماديين: الإيمان من سنخ الخرافة، وليس من سنخ الحقيقة، لأننا لا نرى المجتمع البشري يتفاعل مع الإيمان، إذا استقرأنا المجتمع البشري من يوم آدم إلى يومنا هذا، نجد أن المؤمنين قليلين، كم نسبة المؤمنين لغير المؤمنين في هذا المجتمع البشري منذ يوم آدم إلى يومنا هذا؟ القرآن قد اعترف بأن المؤمنين قليلون: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، ويقول: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، ويقول القرآن: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، إذا كان الإيمان لم يفرض نفسه على المجتمع البشري، ولم يتفاعل معه إلا قلة قليلة، فهذا دليل على أن الإيمان ليس حقيقة، هذا دليل على أن الإيمان ليس واقعًا وإنما هو وهم، لهذا لم يفرض نفسه على المجتمع البشري، لماذا يأمرنا الله بأمر ليس حقيقيًا، إذ لو كان حقيقة لتفاعل معه أغلب المجتمع البشري في كل جيل، وفي كل زمان، لماذا؟

الجواب بالنقض وبالحل:

النقض: المجتمع البشري يؤمن بالقيم ومع ذلك من يتفاعل مع القيم قليل، مثلًا قيمة العدالة، ألا يعترف بها المجتمع البشري، كل المجتمع البشري يؤمن بأن العدالة قيمة فاضلة، وأن الظلم قبيح، كل المجتمع البشري يعترف بأن الأمانة قيمة فاضلة، وأن الخيانة عمل قبيح، لكن المتفاعلين مع ذلك قليل، هل هذا يعني بأن العدالة والأمانة ليس لها واقعية، وأنها من سنخ الوهم والخيال؟ لأن المتفاعل معها من المجتمع البشري قليل؟ لا، عدم تفاعل المجتمع البشري مع قيمة العدالة، مع قيمة الأمانة، لا يسلبها واقعيتها وحقيقتها، التفاعل شيء والقيمة الواقعية شيء آخر، المجتمع يقدّس العلم، لكن نسبة المتعلمين كم في المجتمع البشري؟ منذ يوم آدم إلى يومنا هذا، المجتمع البشري يقدس العلم كقيمة إنسانية جلية، ومع ذلك المتعلمون قلائل نسبة لغير المتعلمين، هل هذا يعني أن العلم لا واقعية له لأنه لم يتفاعل معه من المجتمع البشري إلا القليل، عدم التفاعل قد يكون لمانع نفسي، أو لمانع اجتماعي، أو لمانع شهوي، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي.

الحل: يكون من جهتين:

الجهة الأولى: الإيمان مراتب ودرجات.

كيف يكون الإيمان مراتبًا ودرجات؟ علماء الكلام يقولون: الإيمان هو العقد الفعلي للقلب على المعلومة، الإنسان إذا تلقّى معلومة معينة، هل ينعقد قلبه على صدق هذه المعلومة؟ هناك قسمان من العقد: هناك عقد انفعالي، وهناك عقد فعلي.

القسم الأول: العقد الانفعالي.

مثلًا: الإنسان يعلم أن في الشارع خطر كهربائي، بمجرد علم ذلك فإنه يفر من الخطر بطبعه وفطرته، هذا يسمى عقد انفعالي، بمعنى أن المعلومة أوجبت انفعالًا لدى النفس، فهرب الإنسان من هذا الخطر بطبعه وبفطرته.

القسم الثاني: العقد الفعلي.

العقد الفعلي يحتاج إلى عقد والتفات، مثلًا: الإنسان يعلم أن في الصدقة حياة للفقراء، لكن مع ذلك قد لا يُقدم على الصدقة، مع أنه يعلم أن في الصدقة خير، ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، لكنه لا يعقد قلبه على العطاء والبذل والصدقة، لأن في داخله شح وبخل، إذن لو أن الإنسان عزم قلبه على الصدقة، لسُمي هذا عقدًا فعليًا، فالعقد الفعلي يختلف عن الانفعالي، العقد الفعلي هو الإيمان، الإيمان عبارة أن تعقد قلبك بعقلك ووعيك على المعلومات التي وصلت إليك، العقد الفعلي للقلب على طبق المعلومات، يعني العقد الصادر عن وعي وعقل، هذا هو المسمى بالإيمان.

لذلك الإيمان قابل للتبعيض والتجزئة، القرآن يقول: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، يعني الإيمان يتبعض، هناك إيمان مشوب بالكفر، ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ، الإيمان يتجزأ، الإيمان يتبعض، والإيمان أيضًا يتكامل ويترقّى، يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إذا عرفنا بأن الإيمان يتبعض ويتكامل، إذن لا يخلو مجتمع بشري من الإيمان، الإيمان الأعلى اختص بفئة قليلة، لكن أدنى مراتب الإيمان موجودة في كل المجتمعات البشرية، نسبة المؤمنين من المسيحين - المؤمنين ليسوا فقط المسلمين، الإيمان هنا بصفة عامة بمعنى الإيمان بالدين - واليهود والمسلمين هي أكبر من نسبة غير المؤمنين في العالم، وما مرت فترة زمانية منذ يوم أدم إلى يومنا هذا إلا وللمؤمنون كثرة كاثرة، لكن ليس المؤمنون بالدرجة العليا، بل بالدرجة الدنيا، لأن الإيمان درجات متفاوتة، كيف الإيمان درجات متفاوتة؟

الإيمان له مظاهر، من مظاهره العبادة، هناك من يعبد الله، وهذا مظهر من مظاهر الإيمان، ومن مظاهر الإيمان: القيم، هناك إنسان لا يعبد الله، لكنه صاحب قيم، صاحب تواضع، صاحب احترام للناس، صاحب أمانة، هذا أيضًا مؤمن بقسم من الإيمان، وإن كان عاصيًا للعبادة، هناك مظهر ثالث للإيمان وهو الرحمة، الإنسان قد يكون رحيمًا ودودًا على أصدقائه وأسرته، هذا مظهر ثالث من مظاهر الإيمان، إذن الإيمان لا ينحصر بالعبادة، بحيث نقول ما دام الذي يعبد الله من المجتمع البشري قليل، إذن المؤمنون قلائل، لا، الإيمان له مظاهر، له مواطن، المجتمع البشري يعيش مظاهر متنوعة من الإيمان، ويعيش مظاهر متعددة من الإيمان، ويعيش مواطن مختلف ومتنوعة من الإيمان، لذلك لا يمكن أن نقول: دائمًا المؤمنون قليلون، المؤمنون بالدرجة العليا من الإيمان قليلون، أما الإيمان ببعض مظاهر الإيمان، وببعض أقسام الإيمان، فهم الكثرة الكاثرة في المجتمع البشري في كل زمن وفي كل جيل.

الآيات القرآنية التي تقول: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، و﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، و﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ناظرة للمراتب العالية من الإيمان، وأما المراتب الدانية من الإيمان فهي متوفرة وكثيرة، إذن نستطيع أن نقول: الإيمان حقيقة واقعية، والدليل أنه حقيقة واقعية: أن أغلب المجتمع البشري تفاعل مع الإيمان، والدليل على أن أغلب المجتمع البشري تفاعل مع الإيمان: أنه لا يخلو إنسان إلا وهو يعيش مظهر من مظاهر الإيمان، ولمعة ولمسة من لمسات الإيمان، نعم المؤمنون الكاملون يشكلون نسبة قليلة، ونسبة يسيرة، وهذا في القضايا كلها، مثلًا: الطب، المجتمع البشري كله يتفاعل مع الطب، أما الأطباء في الدرجة العالية فهم نسبة قليلة، والباقي من المجتمع: كل شخص يعيش مقدارًا من التفاعل مع علم الطب، فللطب مراتب متفرقة: أعلاها يحملها قليل من الناس، وأدناها يحملها كثير من الناس.

الجهة الثانية: الإيمان ملهم للثورات الإنسانية.

مما يدلنا على أن الإيمان حقيقة واقعة وليست خرافة ولا وهمًا: أن الإيمان هو الملهم للثورات الإنسانية دائمًا، عندما نقرأ مسيرة التاريخ، الثورات يقودها المؤمنون بالله تبارك وتعالى، أغلب الثورات تقودها المؤمنون، عامل الإيمان يتدخل في صناعة الثورة، وفي صناعة الانطلاقة، الذين ثاروا على نمرود هم النخبة المؤمنة، الذين ثاروا على هيردوس - أصحاب الكهف - هم النخبة المؤمنة، الذين ثاروا على فرعون هم النخبة المؤمنة، الذين ثاروا على الأوضاع الجاهلية، ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، الذين قدموا البطولات والتضحيات على مدى التاريخ الإسلامي إلى يومنا هذا هم النخبة المؤمنة، الإيمان إذا لم يؤثر على جميع أبناء المجتمع، فهو يصنع الفئة القيادية لكل مجتمع، ليس المهم أن يكون الإيمان هو الطابع العام للمجتمع، المهم: أن المؤمنين هم الثلة القيادية، هم النخبة التي تقود انطلاقة المجتمع، هم النخبة التي تقود مسيرة التغيير في المجتمع، مما يؤكد أن الإيمان حقيقة وواقع: أن الإيمان يضع في كب مجتمع وفي كل جيل نخبة، هي التي تقود ذلك المجتمع، هذا يؤكد على فاعلية الإيمان، أن النخبة المؤمنة قادت التغيير على مدى التاريخ الإنساني، كما ذكرنا الأمثلة.

إذن، ليس الإيمان خرافة ولا وهمًا، الآية الكريمة عندما تقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، ومن فلاحهم: أنهم هم القادة، والنخبة المغيرة، والرواد لهذه الثورات التي بدأت منذ بداية التاريخ، وهذا من مظاهر فلاح المؤمنين في كل جيل، كما ورد عن النبي محمد : ”في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين، وبدع المبطلين، في كل جيل هناك نخبة مؤمنة، هي التي تقود المسيرة، تقود الدفاع عن هذا الدين، تقود الدفاع عن أركان هذا الدين، وهذا ما مثّله سيد الشهداء، فقال:“ ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة وبين الذلة، وهيهات منا الذلة ”، نحن النخبة المؤمنة، نحن الذين نمثل واقع الإيمان وحقيقته، الإيمان هو الذي ألهمنا العزة، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ،“ ويأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وجذور طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية أن تأثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة ”يعني هذه النخبة المؤمنة التي دفعها الإيمان للزحف نحو الحق والدفاع عنه،“ مع قلة العدد، وخذلان الناصر".

علاقة الإنسان بالأرض مبدأ سعادته وشقائه