نص الشريط
معالم وأبعاد الفكر الليبرالي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 4/2/1426 هـ
مرات العرض: 2720
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1075)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ

صدق الله العلي العظيم

ذكرنا في الليلة السابقة أننا نجيب عن سؤال أو سؤالين يتعلقان بالمحاضرة السابقة، ثم ندخل في موضوع المحاضرة اللاحقة.

السؤال الأول الذي ورد: كيف يمكن إثبات العقل العملي للإمام المعصوم منذ الولادة؟ كيف نثبت أن الإمام المعصوم يملك العقل العملي منذ ولادته؟

الجواب عن ذلك: الدليل العقلي قد يكون دليلًا عقليًا مستقلًا، لا يعتمد على مقدمة غير عقلية، كما إذا قلنا: العقل يحكم بقبح الظلم وجمال العدل، هذا برهان عقلي مستقل. وتارة يكون الدليل العقلي معتمدًا على مقدمة غير عقلية، فيسمى دليلًا عقليًا غير مستقل، ومثال ذلك ما هو محل كلامنا: قامت الأدلة على أن الإمام إمام منذ ولادته، الرسول الأعظم عندما قال: ”الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا“، هذا الحديث مطلق، الحسن إمام منذ ولادته، والحسين إمام منذ ولادته، ولذلك قال الرسول هذا الحديث مع أن الحسن والحسنين كانا طفلين صغيرين، فهما منذ ولادتهما إمامان، فإذا ثبتت الإمامة للحسن أو للحسين منذ ولادته بالدليل النقلي، ثبت بالدليل العقلي أنَّه يمتلك العقل العملي منذ ولادته؛ لأنَّ الإمامة لا تنفصل عن العقل العملي، معنى الإمامة أنَّ هذا الشخص يمتلك سائر المعلومات التي ترتبط بمنصب الإمامة، ومن المعلومات التي ترتبط بمنصب الإمامة أحكام العقل العملي، فهو منذ أن يكون إمامًا يمتلك سائر المعلومات، ومنها أحكام العقل العملي، كحسن العدل والأمانة، وقبح الظلم والخيانة، فإذا ثبتت الإمامة بالدليل النقلي للإمام منذ ولادته، ثبت أنه يملك العقل العملي منذ ولادته؛ لأنَّ الإمامة لا تنفصل عن العقل العملي، معلومات العقل العملي هي من المعلومات الأساسية لمنصب الإمامة، فإذا ملك العقل العملي منذ ولادته، فقد ملك الإرادة والسيطرة على ذاته بالفعل أو الترك، كما شرحنا ذلك في الليلة السابقة.

السؤال الثاني: قلتم بأنَّ النبي كان نبيًا منذ أن كان آدم بين الماء والطين، فإذا كان نبيًا منذ صغره فلماذا أخّرت الرسالة إلى عمر الأربعين؟

هناك فرق بين النبوة والرسالة، النبوة تعني أنه شخص قد انكشف له عالم الملكوت، فالنبي محمد منذ أول يوم من ولادته هو نبي، أي: انكشف له عالم الملكوت، ولكن لم يُبْعَث، أي: لم يؤمر بالتبليغ، إلا لما صار عمره أربعين سنة؛ لأن طبيعة المجتمعات لا تنقاد للإنسان صغير السن، لا من باب الخلل في شخصيته، بل لأن طبيعة المجتمعات هكذا، خصوصًا المجتمعات العربية العشائرية في ذلك الوقت، فلأن المجتمع العربي لا يمكن أن ينقاد لشخص ذي سن صغير، لذلك الله «تبارك وتعالى» من أجل أن يثبت ويوطّد قيادة النبي تركه إلى أن بلغ أربعين سنة، وصار بنظر الناس مؤهلًا وكفئًا لقيادة المجتمع ولإدارته، حينئذ بعثه بالرسالة، أي: أمره بتبليغ الرسالة، وأمره بتبليغ الدين السماوي، لا لخلل في شخصيته، بل لأن طبيعة المجتمع العشائري العربي تقتضي أن يكون القائد في مثل هذا السن.


المحور الأول: أبعاد النظرية الليبرالية.

في هذه الأيام، نسمع مصطلحًا شائعًا، في الصحافة، وفي وسائل الإعلام، ألا وهو مصطلح الليبرالية، الإنسان الليبرالي، أو المنهج الليبرالي، فماذا يعني مصطلح الليبرالية؟ وكيف يمكن أن يوفّق بين المنهج الليبرالي والمنهج الديني؟

الليبرالية لها محاور ثلاثة: المحور السياسي، والمحور الاقتصادي، والمحور الفكري. الليبرالية في المحور السياسي معناها أن السلطة وكيلةٌ عن الشعب بالاختيار والانتخاب في إدارة مصالحه، وأنها بمثابة الشرطي الذي يكون دوره ووظيفته حراسة وحماية حقوق الفرد. وأما الليبرالية في المحور الاقتصادي فتعني أن يُفْتَح المجال أمام الإنسان في امتلاك الثروة، ألا توضع قيود ولا عقبات أمام الإنسان في سبيل امتلاك الثروة، بل يفتح أمامه المجال لكي يمتلك الثروة بأي كيفية وطريقة شاء، ويصبح ملياردير بأي شكل ولون وأسلوب. ولكننا لا نتحدث الآن عن المحور السياسي ولا عن المحور الاقتصادي، وإنما حديثنا عن المنهج الفكري، والمنهج الفكري الليبرالي له بُعْدان: البُعْد المعرفي، والبُعْد الإنساني.

البعد الأول: البُعْد المعرفي.

هذا البُعْد له أصول ثلاثة نتحدث عنها ونوضّحها.

الأصل الأول: عدم احتكار الحقيقة.

لا يحق لأحدٍ - ولا لجهةٍ - أن يدّعي أن الحقيقة عنده دون بقية البشر، وأنه وصل إلى الحقيقة دون أن يصل إليها غيره من البشر، الحقيقة متساوية النسبة إلى جميع البشر، لم يصل أحد إلى الحقيقة أكثر مما وصل إليه غيره، فالحقيقة أمر نسبي وليست أمرًا مطلقًا، فكل بشر يصل إلى نسبةٍ وإلى قسطٍ وإلى مقدارٍ من الحقيقة، لا يمكن لبشرٍ أن يصل إلى الحقيقة بتمامها، فالحقيقة متساوية النسبة لجميع أبناء البشر، فليس هناك حقيقة مطلقة، وإنما الحقيقة نسبية، إذن لا حق لأحد أن يحتكر الحقيقة. مثلًا: المسلمون يقولون: نحن عندنا الحقيقة وليست عند المسيحيين، أو الشيعة يقولون: نحن عندنا الحقيقة وليست عند غيرنا من أبناء المذاهب الأخرى! لا يمتلك أحد الحقيقة المطلقة، أو يدّعي أنه وصل إلى الحقيقة المطلقة دون غيره أبدًا، وذلك لعاملين:

العامل الأول: تعدد مصادر المعرفة.

قبل سبع مئة سنة كان مصدر المعرفة واحدًا، وهو الدين والقرآن، ثم تعددت مصادر المعرفة، حيث نشأت العلوم الطبيعية، ونشأت العلوم الإنسانية، كعلم النفس، وعلم الاجتماع، ونشأت العلوم الأخرى، ونتيجة تعدد مصادر المعرفة ليس هناك شخص يمتلك الحقيقة وحده، المتدين يمتلك مصدرًا، وعالم النفس يمتلك مصدرًا آخر، وعالم الاجتماع يمتلك مصدرًا ثالثًا، فتعدد المصادر يعني أن الحقيقة ليست حكرًا على أحد.

العامل الثاني: تولّد النظريات وتكاملها.

لا توجد عندنا نظرية حاسمة، بل كلما تطورت الحضارة، واتسعت الآفاق أمام العقل البشري، كلما تولدت نظريات جديدة، واتضح لنا نقص النظريات السابقة. إذن، ما دامت النظريات في مرحلة تكامل وتصاعد، فليست هناك حقيقة مطلقة يمتلكها الإنسان، فالأصل الأول للفكر الليبرالي: ليس هناك حقيقة مطلقة.

الأصل الثاني: ليس هناك مقدّس على الإطلاق.

لا يوجد عندنا شيء اسمه مقدس، لا يمكن لك أن تقول: القرآن مقدس، أو الإمام الفلاني مقدس، أو العالم الفلاني مقدس، أو الكتاب الفلاني مقدس، ليس هناك مقدس على الإطلاق، لم؟

الفيلسوف الألماني «كانت» - وكذلك الفيلسوف البريطاني «اسبنسر» - من رواد الفكر الليبرالي، «كانت» يقول: لتكن جريئًا في نقد المقدسات، لا تعتبر شيئًا أمامك مقدسًا، انقد، لأنك متى ما اعتبرت شيئًا مقدسًا، وقلت بأن العالم الفلاني مقدس، أو قلت بأن القرآن مقدسًا، فإنك متى ما اعتبرت شيئًا مقدسًا خرجت من أهل التحليل إلى أهل التجليل، سوف تركع أمام العالم الفلاني لأنك تعتبره مقدسًا، ولن يكون لك نقد أو تحليل لشخصيته، إذا اعتبرت شيئًا مقدسًا أصبحت من أهل التجليل ولست من أهل التحليل، وإذا خرجت من أهل التحليل فقد قيّدت فكرك. أنت خُلِقْتَ حر التفكير، أنت وُلِدتَ حرًا، أنت حر التفكير، تحلّل من تشاء، تنقد من تشاء، تبحث عما تشاء، خلقت وأنت حر التفكير، فإذا اعتبرت شيئًا مقدسًا طوّقت حريتك، وقيّدت حريتك التي خُلِقْتَ وأنت تملكها. إذن، من أجل أن تنسجم مع طبيعتك البشرية، ومن أجل أن تتلاءم مع فطرتك، ابقَ حرًا، انقد من تشاء، وحلّل ما تشاء، فليس هناك مقدس على الإطلاق.

الأصل الثالث: ليس هناك معصومٌ من البشر.

لا يوجد بشر معصوم، لا نبي، ولا إمام، ولا عالم، ليس هناك معصوم عن الخطأ؛ لأن العناصر البشرية متساوية، كالعقل والشهوة والغريزة، هذه العناصر موجودة في كل إنسان، العناصر البشرية متساوية، وزّعت على جميع البشر، وإذا كانت العناصر البشرية متساوية فمن أين جاء عنصر العصمة؟! إما جاء من البشر أو من خارج البشر، فإذا جاء من البشر أنفسهم، بمعنى أن البشر هم الذين جعلوا لأنفسهم عنصر العصمة، فهذا شيء غير معقول، ما دامت العناصر البشرية متساوية فلا يعقل أن تنتج عنصرًا متميزًا لشخص على شخص آخر.

وأما إذا كانت العصمة من خارج البشر، بمعنى أن الله «تبارك وتعالى» أعطى العصمة لبشر دون بشر آخر، فهذا عبث وترجيحٌ بلا مرجح، ما هو المائز لهذا الإنسان على هذا الإنسان؟! إذن بالنتيجة: ليس هناك معصوم على الإطلاق، فكل بشر يمكن أن نجعله على الطاولة، ونقوم بتحليل شخصيته، ونقد تصرفاته، فما هو صالحٌ منها قبلناه، وما هو خطأ رفضناه، ليس هناك معصوم على الإطلاق. إذن فبالنتيجة: الفكر الليبرالي له أصولٌ للبُعْد المعرفي، شرحناها وبينّاها.

البعد الثاني: البعد الإنساني.

هذا البعد له أصول أيضًا.

الأصل الأول: العقيدة ليست ركنًا في إنسانية الإنسان.

الإنسان إنسانٌ بقطع النظر عن عقيدته، بقطع النظر عن دينه، ليست العقيدة عنصرًا دخيلًا في إنسانية الإنسان، ولأجل ذلك لو أن الإنسان الآخر اختلف معي في العقيدة، لا يجوز لي أن أسلخه عن إنسانيته وعن حقوق الإنسانية لأنه مختلف عني في العقيدة، العقيدة ليست عنصرًا من عناصر الإنسانية، وليست مقومًا من مقومات الإنسانية، فلو أن إنسانًا ارتد عن عقيدته، فهذا لا يعني أنه خرج عن إنسانيته، بل لا زال إنسانًا، فلا يجوز أن تُسْحَب منه حقوق الإنسانية لأنه غيّر عقيدته، أو لأنه ارتأى عقيدة أخرى؛ لأن العقيدة ليست ركنًا في إنسانية الإنسان.

ولذلك، الفكر الليبرالي يدعو إلى ظاهرة التعددية، ينبغي لكل مجتمع أن يقبل بظاهرة التعددية، تعدد الأديان، تعدد المذاهب، تعدد الآراء، لا ينبغي أن نجبر المجتمع على دين، أو على مذهب، أو على رأي معين، بل علينا أن نقبل هذه الظاهرة الإنسانية البشرية، وهي ظاهرة التعددية، تعدد الأديان، تعدد المذاهب، تعدد المناهج المختلفة، تعدد الآراء المختلفة، فإن هذا كله مقتضى إنسانية الإنسان؛ لأن العقيدة ليست ركنًا من إنسانية الإنسان.

الأصل الثاني: يجب أن تكون مساحة الحقوق أكثر من مساحة الوظائف.

أنت عندما ترجع للقرآن الكريم، تجده مليئًا بالتكاليف والأوامر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ... إلخ، القرآن كله تكاليف، مساحة التكاليف والوظائف في القرآن مساحة عريضة جدًا، القرآن كبّل الإنسان بالوظائف والتكاليف، أينما التفت الإنسان يخاطَب بتكليف من التكاليف، فالقرآن اعتبر الإنسان جهازًا لتنفيذ الوظائف، ولذلك أكثر عليه الوظائف والتكاليف.

بينما الفكر الليبرالي يقول: ابحث عن الحقوق والامتيازات لا عن الوظائف. أنا إنسان، فماذا لي من حقوق؟ عليَّ الصيام والصلاة والغسل وحرمة الربا وعليَّ وعليَّ! يجب أن أبحث عما لي لا عما عليَّ، ماذا لي؟! ماذا أعطاني القرآن من امتيازات؟! ماذا أعطاني القرآن من حقوق؟! ماذا أعطاني القرآن من صلاحيات؟! لا ما فرض عليَّ من وظائف، لا ما فرض عليَّ من تكاليف. إذن، الفكر الليبرالي يقول: يجب النظر أولًا للحقوق والامتيازات، لا للوظائف والتكاليف.

الأصل الثالث: ربط الحُسْن بالتجربة.

نحن نسمع كلمة الحسن والقبح، هذا الفعل حسن، وذاك الفعل قبيح، فمن الذي يقرّر الحسن والقبح؟! الحسن والقبيح تقرّره التجربة، إذا لم يجرَّب شيءٌ فلا يصح الحكم عليه بالحسن ولا بالقبح، فمثلًا: الحرية الجنسية، الإنسان يصبح حرًا في ممارسة الجنس، ولو عن طريق الشذوذ الجنسي والعياذ بالله، أنت لا تستطيع أن تقول: الحرية الجنسية أمر حسن أو قبيح، إلا إذا خضعت للتجربة، إذا خضعت الحرية الجنسية للتجربة الاجتماعية، واكتشفنا سلبياتها، بعد ذلك نقول: قبيحة، وأما إذا اكتشفنا إيجابيتها فإننا نقول: حسنة. إذن، أي فعل وأي سلوك لا يمكن أن نحكم عليه بالحسن أو بالقبح إلا إذا خضع للتجربة الاجتماعية، وما لم يخضع للتجربة فإن الحكم عليه بالحسن أو القبح إملاءٌ وفرضٌ على المجتمع البشري، من دون مبرر ولا مسوّغ.

المحور الثاني: تأملات في النظرية الليبرالية.

نكتفي بهذا المقدار، حتى لا نبخس النظرية الليبرالية حقها، عرضناها بتمام وجوهها، الفكر الليبرالي هذه أصوله على مستوى البعد المعرفي، وعلى مستوى البعد الإنساني، والآن نحن نأتي لكي نسجّل ملاحظاتِنا على الفكر الليبرالي، ولا أستطيع في محاضرة واحدة أن أسجّل ملاحظاتٍ على كل ما قلت، بل لا بد من محاضرات أخرى أيضًا، ولذلك أكتفي في هذه الليلة بعرض ملاحظتين.

الملاحظة الأولى: حول نسبية الحقيقة.

الأصل الأول الذي يقرّره الفكر الليبرالي هو عدم احتكار الحقيقة، وأنه ليس هناك حقيقة مطلقة، لم يصل أحد إلى الحقيقة المطلقة، ولا أحد يستطيع أن يدّعي أنه وصل للحقيقة المطلقة، بل إن الحقيقة نسبية. هذا الأصل نسجّل عليه أولًا بأنَّ هذا الأصل يستبطن تكذيب نفسه بنفسه، هو هذا الأصل يكذّب نفسه.

أنتم تقولون: نحن عندنا أصول للفكر: عدم احتكار الحقيقة أصلٌ، وعدم وجود معصوم أصلٌ ثانٍ، وعدم وجود مقدس أصلٌ ثالث، فهل هذه الأصول حقائق أم فرضيات؟! إذا قيل لنا بأنَّ هذه الأصول مجرد فرضيات وليست حقائق، فلا يمكن اعتبارها أصولًا، إذا كانت فرضيات لا يصح لنا أن نعتبرها أصولًا للفكر نسير عليها ونمشي على ضوئها، وإذا قلتم بأن هذه حقائق فقد وصلتم إلى الحقائق! أنتم تقولون: لا يمكن الوصول إلى الحقائق، وقد وصلتم إليها! هذه إذا كانت حقائق فأنتم تدّعون أنكم وصلتم إلى حقائق لم يصل إليها غيركم، المتدينون لم يصلوا إلى هذه الحقائق، ووصل إليها الليبراليون، بينما أنتم تقرّرون أنه ليس لإنسان أن يدّعي أنه وصل إلى الحقيقة، ليس هناك حقيقة مطلقة، الحقيقة نسبية، مع أنكم تعتبرون هذه الأصول حقائق، وأنكم وصلتم إلى حقائق لم يصل إليها غيركم.

إذن، هذا الكلام هو بنفسه يستلزم تكذيب نفسه، وبعبارة أخرى أوضح: أنت عندما تقول: «ليست هناك حقيقة مطلقة»، هذه العبارة نفسها هل هي حقيقة مطلقة أم لا؟! إذا قلتَ: هذه الكلمة ليست حقيقةً مطلقةً، بل هي مجرد نظرية، فلا يمكن أن نعتمد عليها ونعتبرها أصلًا، وإذا قلتَ: هذه الكلمة حقيقة مطلقة، فإذن هذا الأصل كذّب نفسه، هذا الأصل انطوى على نفي نفسه، هو يقول: ليست هناك حقيقة مطلقة، مع أنه في الواقع حقيقة مطلقة! هذا أولًا.

ثانيًا: ما هو الفرق بين الحقيقة والنظرية؟ متى نعتبر الشيء نظرية، ومتى نعتبره حقيقة؟ أنت تجلس وتقول: ليست هناك حقيقة وليست هناك حقيقة، فالذي تريده هو أن تلغي الدين! المشكلة كلها في الدين، كل هذا الكلام يراد منه كلمةٌ واحدةٌ: أبعدوا هذا الدين لتنتهي المشكلة! على كل حال، ما هو الفرق بين الحقيقة والنظرية؟

الفرق بينهما في البرهان وعدمه، ليس هناك شيء آخر، كل فكرة قام عليه البرهان العقلي الفطري فهي حقيقةٌ، وكل فكرةٍ ما زالت في مجال الدرس والتحليل فهي نظريةٌ وفرضيةٌ، فالفرق بين الحقيقة والنظرية بقيام البرهان وعدم قيامه، فلماذا نصعّد الموقف ونعتبر ذلك مشكلة؟! كل فكرة قام عليها البرهان القاطع فهي حقيقةٌ مطلقةٌ. طبعًا لا المتدين يدّعي ولا الليبرالي يدّعي، فحتى المتدين لا يقول بأنه وصل إلى جميع الحقائق، فليس المتدين يدّعي هذه الدعوى، بل المتدين أيضًا يقول: أنا ما وصلت إلى جميع الحقائق، وإنما وصلت إلى قسم من الحقائق، وبقيت أقسام كثيرة لم أصل إلى الحقيقة فيها، وما زالت مجرد نظرية وفرضية، بل إنَّ ما لم أصل إليه أكثر مما وصلت إليه، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، ما وصلت إليه من الحقيقة أقل بكثير مما لم أصل إليه، هذا المتدين والليبرالي كلاهما يقرّان به.

ولكن الفرق بين الحقيقة والنظرية هو أن كل فكرة قام عليها البرهان القطعي فهي حقيقة، توحيد الله قام عليه البرهان فهو حقيقة، خالقية الله قام عليها البرهان فهي حقيقة، نبوة النبي قام عليها البرهان فهي حقيقة، إمامة الإمام قام عليها البرهان فهي حقيقة، كل فكرة قام عليها البرهان القطعي فهي حقيقة، وما لم يكن كذلك فهو فرضية ونظرية.

الملاحظة الثانية: الفرق بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية.

الأصول التي ذُكِرَت للبُعْد الإنساني، وهي أنَّ الإنسان ليس له حسنٌ مطلقٌ، الحُسْن مربوطٌ بالتجربة، أنَّ الإنسان مثلًا ليست العقيدة جزءًا من إنسانيته، هذه الأصول أتعلم إلى أين ترجع؟ كلها ترجع إلى كلمة واحدة، وهي الحرية. أصلًا كلمة «ليبرالي» أتت من «ليبارك» بمعنى التحرر والحرية، فالليبرالي هو المتحرر، جميع الأصول التي ذكرها الليبراليون للبُعْد الإنساني هي ترجع إلى أصل واحد، وهو أصل الحرية، خُلِق الإنسان حرًا، فينبغي أن يكون حرًا، حرًا في الاقتصاد، حرًا في السياسة، حرًا في الفكر، هذا هو! جميع هذه الأصول ترجع إلى أصل واحد، ألا وهو أصل الحرية.

لأجل ذلك، لا بد من تسليط الضوء على هذه النقطة: هناك خلط بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية، فما هو الفرق بينهما؟ حرية الإنسان بما هو كائنٌ حيٌ نعبّر عنها بالحرية الطبيعية، وحرية الإنسان بما هو كائنٌ اجتماعيٌ نعبّر عنها بالحرية الاجتماعية. الحرية الطبيعية ليست خاصة بالإنسان، بل حتى الحيوان، المقدار الذي أعطي للإنسان أعطي للحيوان تمامًا، الحرية الطبيعية - حرية الإنسان بما هو كائن حي - موجودة حتى في الحيوان، الإنسان حر في جسده، يفعل بجسده ما يشاء، يأكل، يشرب، يُخْرِج من جسده ما يريد، ونفس هذه الحرية موجودة عند الحيوان، يتوهّم، يفكّر، يتخيّل، نفس هذه الحرية موجودة عند غير الإنسان، فالحرية الطبيعية - أي: حرية الإنسان بينه وبين نفسه، حرية الإنسان بما هو كائنٌ حيٌ - موجودة عند الإنسان وعند الحيوان، وهذا واضح.

أما حرية الإنسان بما هو كائن اجتماعي لا بما هو كائن حي، حرية الإنسان ضمن إطار المجتمع، ضمن حقل المجتمع، هذه تسمى بالحرية الاجتماعية، فهل يجب أن تكون الحرية الاجتماعية مطابقة مع الحرية الطبيعية؟ كما أن الإنسان وُلِد حيًا، ينبغي أن يكون في المجتمع حرًا أيضًا؟ هل يجب تطابق الحرية الاجتماعية مع الحرية الطبيعية أم لا؟ هذه مسألة قانونية.

نقول: لا؛ لأنَّ وظيفة كل مجتمع بناء حضارة، وبناء الحضارة يتوقف على السلم الاجتماعي، بمعنى أن يكون أبناء المجتمع متسالمين، وبعضهم آمن من البعض الآخر. لا يمكن لمجتمع أن يبني حضارة وهو يعيش حربًا، وهو يعيش تناحرًا، وهو يعيش اختلافًا، وهو يعيش اشتباكًا، بناء الحضارة يتوقف على السلم الاجتماعي، أن يكون بين أبناء المجتمع ميثاق وعقد، ألا وهو ميثاق السلم والأمن الاجتماعي. ما لم يكن هناك ميثاق سلم، لا يمكن بناء حضارة من قبل هذا المجتمع.

إذن، ما دام السلم الاجتماعي شرطًا في بناء الحضارة، لذلك أنت حر إذا كانت حريتك في ضمن السلم الاجتماعي. أنت حر حرية طبيعية، لكن لا تكون حرًا حرية اجتماعية إلا إذا كانت حريتك الاجتماعية في إطار السلم الاجتماعي، في إطار الإنتاج الاجتماعي، وإلا فلا يمكن بناء الحضارة. إذن، الحرية الاجتماعية ليست متطابقة مع الحرية الطبيعية؛ لأن الحرية الاجتماعية مقيّدة ومنوطة بالسلم الاجتماعي؛ لأن السلم الاجتماعي شرطٌ في بناء الحضارة.

مثلًا: الله «تبارك وتعالى» لماذا حرّم الخمر والميسر؟ هذه وظائف من الوظائف التي ذكرها القرآن الكريم، حيث قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، هذه هي الحكمة، الخمر وسيلة لهدم السلم الاجتماعي، الميسر وسيلة لهدم السلم الاجتماعي، إذا شاع القمار بين أبناء المجتمع شاعت روح التشاحن وروح الحقد؛ لأن الآخر سلبني ثروتي نتيجة القمار، وبما أن الآخر سلبني ثروتي نتيجة القمار إذن فحياته مهدّدة بالنسبة لي، ولذلك ترى الجرائم الكثيرة في البلاد التي تفتح باب القمار على مصراعيه، باب القمار بابٌ لإحداث العداوة والبغضاء، نتيجة استلاب الثروة، وإذا حدثت العداوة والبغضاء أصبح السلم الاجتماعي في معرض الخطر، وأصبح بناء الحضارة في معرض الخطر.

إذن، أنت حرٌ، ولكنك لست حرًا في لعب القمار؛ لأن لعب القمار يؤدي إلى هدم السلم الاجتماعي، وهدم السلم الاجتماعي مانعٌ من بناء الحضارة، ولذلك نحن نقول بأن الحرية الاجتماعية لا بد أن تكون في إطار السلم الاجتماعي.

مثال آخر: لو ارتد شخص عن دينه، فتارة يرتد بينه وبين نفسه، جهنم! نحن لا علاقة لنا فيه، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، إذا ارتد بينه وبين نفسه فهذا لا ربط لنا به، وتارة يعلن الارتداد، هي المشكلة ليست في الارتداد، المشكلة في إعلان الارتداد لا في نفس الارتداد، أما إذا أعلن الارتداد في المجتمع الإسلامي، في إطار المجتمع الإسلامي أعلن الارتداد، هنا نقول: أنت لست حرًا، أنت حر في أن ترتد بينك وبين نفسك، ولكنك لست حرًا في إعلان الارتداد في المجتمع الإسلامي؛ لأن إعلان الارتداد في المجتمع الإسلامي يؤدي حتمًا إلى الصراع الديني، يؤدي إلى الصراع في الأسرة الواحدة وفي المجتمع الواحد، وحينئذ يكون إعلان الارتداد وسيلةً لهدم السلم الاجتماعي، ولأجل ذلك الإسلام يمنع إعلان الارتداد ويرتّب عليه عقوبةً قاسيةً.

إذن، المسألة ليست هي خنق الحرية، بل نقول: لك الحرية الطبيعية، ولكن الحرية الاجتماعية لا بد أن تكون في إطار السلم الاجتماعي، بحيث لا تكون وسيلة وسببًا لهدم السلم الاجتماعي. يحرم عليك شرب الخمر؛ لأن شربه يؤدي إلى فقد الوعي، وإذا فقدت الوعي صار السلم الاجتماعي في معرض الخطر والتلف، ولذلك نقول: لست حرًا في شرب الخمر؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون السلم الاجتماعي في معرض الخطر، وفي معرض التلف والزوال.

هذه الأصول الذي ذُكِرَت للفكر الليبرالي هناك خلطٌ بين الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية، وإلا فالفكر الديني أيضًا يمنح للإنسان الحرية في إطار بناء المجتمع، وفي إطار حضارة المجتمع، وفي إطار المواثيق الاجتماعية، ولذلك تجد الأئمة من أهل البيت يركّزون على مسألة الحرية، فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”لا تكن عبد غيرك، وقد خلقك الله حرًا“، والإمام الحسين يوم عاشوراء يناديهم: ”إن لم يكن لكم دينٌ، فكونوا أحرارًا في دنياكم“، القرار يجب أن يكون بأيديكم، أنتم تقررون مصيركم، أنتم تقررون حياتكم.

إلى أن استجاب له الحر بن يزيد الرياحي، وعندما خرَّ صريعًا على الثرى، وقف عليه الحسين ، وقال: ”صدقت أمك حين سمّتك حرًا. أنت حر في الدنيا“ لأن قررت المصير بنفسك، لم تخدعك الدراهم والدنانير، ولم تخف من سلطان عبيد الله بن زياد، ”أنت حرٌّ في الدنيا، وسعيدٌ في الآخرة“.

مقارنة بين الفكر الديني والفكر الليبرالي
دعوى تهافت أصول الفكر الإمامي ج1