نص الشريط
حوار حول النسبية والقداسة والحرية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 6/1/1432 هـ
مرات العرض: 3964
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1795)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث عن ثلاثة مفاهيم

  1. الحقيقة المطلقة
  2. القداسة
  3. الحرية

في القرن السابع عشر ولد مفهمو يسمى مفهوم مقهوم ”الليبرالية“، ومن أوائل من نادى بهذا المفهوم ”جون لوك“ حيث قال بالحقوق الطبيعية للإنسان، وهي حق الانسان في التفكير، وحرية الانسان في التعير، وحرية الإنسان في القرار السياسي.

ومن أوائل المفكرين العرب الذين اعتنقوا الاتجاه الليبرالي ”أحمد لطفي السيد“ في كتابه ”الشخصية المصرية“، وإذا قارنا بين الاتجاه الليبرالي والاتجاه الإسلامي هناك تغاير واضح بين الاتجاهين في: الولاء، في الأصالة، في السيادة.

الولاء: فالولاء أوّلا في الاتجاه الليبرالي للقومية والوطن، بينما في الاتجاه الإسلامي الولاء أولاً للدّين ثم للقومية والوطن.

السيادة: في الاتجاه الليبرالي السيادة للأمة وللمجتمع من خلال الانتخاب وصناديق الاقتراع، بينما في الاتجاه الاسلامي السيادة أولا لله - تبارك وتعالى - وبتبع الصيغة الشرعية يمكن جعل الحرية للمجتمع في مجال الانتخاب.

الأصالة: وبحسب الاتجاه الليبرالي أنّ الأصالة للحرية، فالحرية هي المبدأ الأول، وبحسب الاتجاه الاسلامي أن الأصالة للاستخلاف، فالمبدأ الأول ليس هو كون الإنسان حرّا، بل المبدأ الأول هو كون الإنسان خليفة لله، يجري على وفق القانون الذي استخلف عليه، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً

إذن هناك تغاير واضح، ولسنا الآن في مقام محاكمة الاتجاه الليبرالي أو نقده، وإنما نحن نريد أن نقوم بمقارنة بين ما يطرحه بعض الليبراليين وما يراه الاتجاه الاسلامي في مفردات ثلاث: الحقيقة المطلقة، والقداسة، والحرية.

الأولى «الحقيقة المطلقة»: بعض الليبراليين يقول:

﴿بأنه قبل عدة قرون كان مصدر المعرفة الوحيد هو المسجد والمنبر، فلذلك كان يعتقد المجتمع أن الحقيقة حكر على رجال الدين وحكر على علماء الدين، ولكن في زماننا هذا بعد تعدد وسائل الاتصال، تعددت مصادر المعرفة وتوعت روافد المعرفة، فتبيّن من ذلك أمران:

أ‌» أن الحقيقة ليست حكرا لفئة معيّنة - وهم علماء الدين - قط، ميسورة ومنتشرة لكل أفراد المجتمع.

ب‌» أن الحقيقة نسبية، فلا توجد لدينا حقيقة مطلقة أبدا، لذلك كل فرد ينال من الحقيقة نصيبا بمقدار ثقافته وبمقدار عطائه، وعلى هذا الأساس «أساس النسبية» يمكن قبول كلّ الأديان وقبول كلّ المذاهب، فلايوجد دين لديه حقيقة مطلقة، بل جميع الأديان والمذاهب نالت من الحقيقة نصيبا، وبذلك تتحقق الوحدة الدينية بين جميع الاديان والمذاهب بناء على مسلك النسبية.

ويقول بعض الليبراليين:

وهذ ما يؤكده القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، أي أنه لا توجد حقيقة مطلقة، يمكن أنتم من على الحقيقة، ويمكن أن نكون نحن الذين على الحقيقة، ويمكن أن نكون كلانا، الحقيقة نسبية.

الاتجاه الثاني «الإسلامي»، يقول:

﴿ما هو المقصود بنسبية الحقيقة؟، النسبية لها معنيان:

1 - النسبية الواقعية.

2 - النسبية الادراكية.

الأول «الواقعية»: النسبية الواقعية أن ترى أن الواقع ليس واحدا بل متعدد، وهذا غير معقول، لا يعقل أن يكون الواقع متعددا بتعدد العقول ومتعدد بتعدد الثقافات، الواقع واحد تعددت العقول أو ما تعددت.. تعددت الثقافات أو ما تعددت، الواقع واحد.

مثلا: كروية الأرض، إما أن الأرض كروية أو لا، لا يمكن أن تكون الأرض كروية بلحاظ ثقافة وغير كروية بلحاظ ثقافة أخرى، الواقع لا يتعدد ولا يتجزأ بتعدد العقول، او بتعدد الثقافات، الواقع واحد لا يتغير، فلا يوجد لدينا نسبية واقعة.

أما إذا كان المقصود بالنسبية النسبية الإدراكية، فما هو المقصود من النسبية الإدراكية؟

الثاني «الإدراكية»: أي أن الواقع لا يتغيّر، بل إداركنا هو الذي يتغير، فالنسبية في إدراكنا لا في الواقع، إدراكنا متفاوت إدراكنا نسبي، بعضنا يدرك عشرة بالمئة، بعضنا يدرك خمسين بالمئة، وبعضنا يدرك ثمانين بالمئة، الواقع واحد ليس نسبيا، وإنما النسبية في إدراكنا لأن إدراكنا متفاوت، هذا يسمى بالنسبية الإدراكية.

إذا كان المقصود بالنسبية النسبية الإدراكية، الفلاسفة يقولون:

﴿الحقائق على قسمين:

1 - حقائق مشكّكة: أي لها مراتب ودرجات.

2 - حقائق بسيطة: مالها إلا درجة واحدة.

مثلاً: نأتي إلى العلم، العلم له درجات أيّ علم من العلوم، مثلا علم الطب له درجات، واحد يكتسب من علم الطب ثلاثين بالمئة، آخر يكتسب سبعين بالمئة، العلم حقيقة مشكّكة لأن لها درجات.

أمّا الموت، فهل هو حقيقة مشككة؟!، لا، الموت درجة واحدة، الموت هو انفصال الروح عن الجسد ‘ إذن هذا الإنفصال ليس له درجات وليس له مراتب بل هو مرتبة بسيطة واحدة.

نأتي إلى المعارف الدينية، المعارف الدينية مشككة أم بسيطة؟!

بعض المعارف الدينيّة مشككة مثل معرفة الله، معرفة الله لها درجات، من الناس من يعرف الله أنه واحد لا شريك له فقط، ومن الناس من يعرف أن لله صفات سلبية وثبوتيّة وجمالية وجمالية وأحديو وواحدية، ومن الناس من يعرف سرّ الذات الإلهية كمحمّد وآل محمّد - -.

إذن معرفة الله لها درجات ولها مراتب، لذلك يمكن أن تكون نسبية في معرفة الله عزّ وجل، ولكن أغلب المعارف الدينيّة هي حقائق بسيطة ما نتصور فيها نسبيّة، كيف؟

مثلا نبوّة النبي، إمّا أنه موحى إليه أو لا، هذه حقيقة بسيطة وليس لها درجات، إمامة الإمام علي إما أنه منصوص له بالإمامة أو لا، هذا أمر بسيط، أصول الدين، إما أن أصول الدين خمسة أولا، هذه الأمور ليس لها مراتب، أمور بسيطة، إذن أغلب المعارف الدينيّة هي معارف بسيطة، إما أن يدركها الإنسان أو لا يدركها، فلا يتصوّر نسبية إدراكية في أغلب المعارف الدينيّة.

وأمّا الآية المباركة: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ لا تفيد النسبيّة، لا تتحدث عن النسبية، بل على العكس، الواقع إمّ معكم أو معنا، لا يكون كلانا صح أو كلانا خطأ، إما المواقع معكم أو الواقع معنا، فلا نسبيّة ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ الواقع واحد، والقرآن ظاهر آياته الحقيقة المطلقة وليس الحقيقة النسبيّة، مثلا قول القرآن: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، لا يوجد نسبية، ﴿وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ.

أمّا الوحدة، وحدة الأديان ووحدة المذاهب فالمرا بها التركيز على المشتركات بين الأديان والمذاهب، وليس المراد بوحدة الأديان والمذاهب النسبيّة، وأن جميع الأديان لها نصيب من الحقيقة، وجميع المذاهب لها نصيب من الحقيقة، لا، الحق مع دين واحد او مذهب واحد، وأمّا الوحدة فالمقصود بها التركيز على القضايا المشتركة.

المفردة الثانية «القداسة»: هل هناك قداسة؟، أولا يوجد قداسة؟!، نتعرّض لما يطرحه بعض الليبراليين وما يطرحه الإسلاميّون حول مفردة ”القداسة“.

إذا تراجع مجلّة عالم الفكر - كويتيّة - مجلّد 26، أو تراجع كتاب ”الليبرالية إشكاليّة المفهوم“ للدكتور ”ياسر قانصوه“، أ وتراجع مقالات الدّين العلماني للدكتور ”عبد الكريم سروش“ المفكّكر الإيراني، كتب متعددة تتحدث عن هذه النقطة، بعض الليبراليين ماذا يقول؟

يقول:

بما أن المرجعيّة للعقل البشري كما يقول القرآن الكريم: ﴿نَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ، ويقول القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ، بما أن المرجعيّة الأولى للعقل إذن لا قداسة لأي فكر، لا يوجد فكر مقدس، فكل فكر قابل للنقد وقابل للرد.

الفيلسوف ”كانت“ يقول: ”أول خطوة في طريق المعرفة أن تكون جريئا في نقد المقدسات“، لا تعترف بشيء اسمه مقدّسات، انقد كل شيء، ويقول الدكتور ”سروش“: ”نحن أهل التحليل لا أهل التجليل“، أي ليست وظيفتنا تقديس الآخرين، نحن نحلّل.

ما يترتّب على هذا «أي إن لم يكن هناك مقدس»:

1 - الأصل المقدّس أن لا مقدّس، أن لا عصمة لأي فكر، لا يوجد فكر معصزم، فكل فكر قابل للنقد، وقابل للرد، وهذا يقتضي أن الفضيلة الأولى التي علينا أن نتحلى بها هي التسامح، التسامح بين الأديان، التسامح بين المذاهب، نحن فكر غير مقدّس.. هم فكر غير مقدس، فالالفضيلة الأولى هي فضيلة التسامح بين الأديان والمذاهب.

2 - ان قيمة الإنسان بإنسانيّته، لا بفكره ولا بعقيدته، الإنسان ذو كرامة، ذو قيمة بغض النظر عن عقيدته، فلا يجوز قتل إنسان يخالفنا في العقيدة، ولا يجوز إطاء إنسان حقوق وامتيازات لأن له عقيدة معيّنة، والعقيدة لا دخل لها في قيمة الإنسان.

ومن هذا المنطلق وصلنا إلى النقطة المهمة - وهي ما يطرحه الكثير من الليبراليين -: ”لا قداسة للفقهاء“، الفقيه ليس له قداسة، لماذا؟!، لأن قيمة الإنسان ليست بفكره، قيمة الإنسان بإنسانيّته، مجرد هذا الفقيه يحمل فكرا دينيّا هذا لا يعطيه قداسة تميّزه عن سائر الناس، فمن حق المجتمع نقد الفقيه والرد على الفقيه، لأنه لا قداسة للفقيه ما دامت القيمة الإنسانية للإنسان بما هو إنسان لا بما يحمل من فكر ولا بما يحمل من عقيدة.

ما يطرحه الاتجاه الإسلامي حول مفردة القداسة:

هل هنا في الكون شيء مقدّس أولا؟، هل في الوجود شيء مقدس أم لا؟، القداس ليست بمعنى الطهارة والنزاهة، القداسة بمعنى من ليس لك حق نقده، المقدسهو الذي ليس لك حق نقده، هل هناك شيء مقدس في هذا الوجود أم لا - بهذا المعنى -؟!

الاتجاه الإسلامي يرى أن القداسة الأولى والحقيقيّة لله تبارك وتعالى، المقدس الحقيقي هو الله عز وجل، لماذا؟

في علم الكلام يقولون: منشأ القداسة الإلهية ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، منشأ القداسة الإلهية هو الخالقيّة، كيف تكون الخالقيّة؟

توجد مسألة عقلية كل واحد منّا يدركها ن الصنع يساوي المالكيّة، الآن أنت أفعلك تملكها أو لا، مثلا قيامك.. تفكيرك.. مشاعرك، لأنك صنعت هذه الأفعال فأنت تملكها، الآن في الحقوق المستحدثة مثلًا من اخترع فكرة ألا يقال له حق الاختراع، له حق البراءة، الإنسان إذا اخترع شيئ له حق البراءة، له حق الاختراع، لماذا؟، لأن الصنع يعني الملك، هو الذي صنع الفكرة فالفكرة ملكه، والملك أمره بيد المالك.

هنا أيضا نطبّقها على علاقة الله بالبشر، من الذي صنع البشر؟، الله، بما أن البشر صنع الله فالبشر ملك لله، وأمر الملك بيد المالك، إذن أمر البشر بيد مالكهم، هو الذي يقرر لهم ماذا يصنعون وماذا يتركون، البشر خلق الله وخلق الله ملكه وملكه أمره بيد، إذن ليس للعبد حقّ النقد لله، أو حق الردّ على الله، لأنه ملكه، وأمر الملك بيد مالكه، ﴿وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ؟!

إذن في علم الكلام يقال: القداسة الحقيقيّة لله لأن الخالق فهو المالك، وبما أنه المالك فنن ملكه، وبما أننا ملكه فليس لنا حقّ نقده، ولا ردّ كلامه وفكره، هذا شيء عقلي، العقل يفرضه.

بعد أن عرفنا هذا «أن هنان مقدّس هو الله»، نأتي لما يتفرع على هذا الأمر:

1 - ماهو الفكر المقدّس، متى نقول أن هذا الفكر مقدّس لايجوز نقده؟، الفكر المقدّس هو الفكر الإلهي، والفكر الإلهي هو ما وصلنا بالقطع والتواتر، الفكر الذي وصل إلينا بالأدلّة القطعيّة الضرورية عن الله جلّ جلاله يسمّى فكر إلهي، فلا يجوز نقده، مثل التوحيد، العدل، النبوة، وجوب الصلاة، وجوب الحج، هذه ضروريّات أي وصلت إلينا بالأدلة القطعيّة، ما وصلنا بالأدلة القطعية فهو فكر إلهي، والفكر الإلهي مقدس، فالقضايا القطعيّة الضرورية مقدسة لا يمكن نقدها، إلا أن يخرج الإنسان عن الإسلام أوالدّين.

هذا ما يعبّر عنه في مصطلح المفاهيم الإسلاميّة ب ”الثابت والمتغيّر“، ما هو الثابت في الفكر الدّيني؟، هو ما وصل إلينا بدليل قطعيّ، وما هو المتغيّر، هو ما وصلنا بدليل ظنيّ، ما وصلنا بدليل قطعي مقدّس وإلهي وثابت، ما وصلنا بدليل ظنّي ليس مقدسا ولا ثابتا، بل يمكن المناقشة فيه والتأمّل فيه.

2 - القداسة الذاتيذة لله عز وجل، لأنه هو الخالق، وما سواه فهو مقدّس قداسة اكتسابيّة عرضيّة، النبيّ مقدس لكن باكتساب من الله، الإمام مقدّس لكن باكتساب من الله، حتّى التراب يمكن أن يصير مقدّس، يقول القرآن الكريم: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، هذا تراب، أهو أعظم من الفقيه؟!، أنت لست راضيا من أن يكون الفقيه مقدس، فهذا التراب الحبيبات الرمليّة القرآن يعبر عنها بأنها مقدس، وأنت بخيل على الفقيه بأن يكون مقدّسا، ﴿إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، لماذا التراب مقدّس؟

لن هذا التراب صار وعاء لكلام الله عندما نزل كلام الله من الله إلى موسى بن عمران - عليه وعلى نبيّنا وآله أفضل الصلاة والسلام - في طور سيناء، نزل هذا الكلام وموسى واقف على هذا التراب، فأصبح التراب مقدّسا لنه صار وعاء وظرفا لكلام الله عز وجل، فالتراب مقدّس قداسة اكتسابيّة وليست قداسة ذاتيّة، القداسة الذاتية لله عز وجل.

3 - نحن عندما نقول بان الفقيه مقدّس، ماذا نقصد بقداسة الفقيه؟

قداسة الفقيه قداسة رمزية، لسنا نقول بأن الفقيه بما هو بشر مقدّس، الفقيه بما هو بشر يخطئ ويصيب، ولي كون الفقيه مقدسا بمعنى أن جسمه مقدسا، لا، جسمه قد يكون مصدر للبركة لأنه جسم صرف في عبادة الله، افرض مثلا فقيه يعيش ثمانيين سنة، تسعين سنة، جسم قضى في العبادة، وقضى في المناجاة وقضى في الارتباط بالله سبعين سنة مثلا، فهذا ممكن.

ولكن عندما نقول بأن الفقيه مقدس، فالمقصود بها القداسة الرمزيّة، ما معنى القداسة الرمزيّة؟

الآن مثلاً: الصورة الفرنسية لها شعارٌ، المبادئ الديمقراطية في أمريكا لها شعارٌ، المبادئ الأممية في أوربا لها شعارٌ، الآن تأتي إلى شعار الثورة الفرنسية، هذا الشعار، الشعار الذي يرمز إلى الثورة الفرنسية يعتبر بنظر المجتمع الفرنسي مقدسًا، لا لأجل ذاته، هو قطعة من القماش ليس لها أيّة قداسة، القداسة للشعار لا لذاته بل لما يرمز إليه وهو مبادئ الثورة، فقداسة الشعار قداسة رمزية لأنها ترمز إلى مبادئ مقدسة «الكرامة والحرية وأشباه ذلك»، عندما يأتي إنسانٌ ويقف أمام الشّعار، افترض هذا الشعار «شعار الثورة الفرنسية» مرفوعٌ على عمارة معينة، أو في ساحة معينة، يأتي إنسان بالرصاص ويمزّق هذا الشعار، هذا يعتبر بنظر القانون أهان المقدّس! مع أنّه لم يهن سوى قطعة قماش أو قطعة حجر! لكنهم يقولون: بما أنّه أهان الشعار فقد أهان ما يرمز إليه الشعار وهو مبادئ الثورة.

كذلك نحن عندما نقول: الفقيه مقدس، ماذا نقصد بقداسة الفقيه؟!

الفقيه مقدس بما هو رمزٌ للدين، لأن الفقيه وجهٌ من واجهات الدين فهو رمزٌ للدين فيكتسب القداسة من الدين، قداسته قداسة رمزية، وإلا فنحن لا نقول أنّ الفقيه ملكٌ من الملائكة أو معصوم من المعصومين! لا، نحن نقول: الفقيه قداسته رمزية لأنه يرمز إلى الدين، وأما نقد فتوى الفقيه أو نقد حكم الفقيه فإذا كان الناقد فقيهًا فلا مانع، إذا واحد من أهل الاختصاص يريد أن ينقد كلام الفقيه حكمًا أو فتوىً إذا عُلِمَ خطؤه أو خطأ مستنده فلا مانع، تفضّل! الباب مفتوح، أمّا إذا واحد ليس من أهل الاختصاص ويمسك له موقعًا في الإنترنت وواضع نفسه ”دوبه بدوب الفقهاء، ابش! ابش!“ طيب أنت اعرف حجمك ومستواك! نحن لا نقول أنّ هذا الفقيه مقدّسٌ كالمعصوم، لا، قداسة الفقيه قداسة رمزية، لكن نقول: بما أنّك لست من أهل الاختصاص فمقتضى الموضوعية والإنصاف أنت تجعل هذه الأمور بيد أهلها.

الأطباء لا يقبلون منك أن تأتي وتنتقد قاعدة في علم الطب على الإنترنت، ولا يقبل منك علماء الفيزياء أن تأتي تنتقد قاعدة في علم الفيزياء على الإنترنت، يقولون لك: إمّا أنّك من أهل الاختصاص فأهلاً وسهلاً، أو لستَ من أهل الاختصاص فلماذا تتدخل في أمور ليست من اختصاصك؟! ليست لدينا مشكلة سوى هذه، إذن بالنتيجة: القداسة للفقيه هي قداسة رمزية، لا نقول نحن بأكثر من ذلك.

الأمر الرابع:

نحن أيضًا لا نبرّر.. يعني الفكر الإسلامي لا يجوّز لك قتل أيّ إنسان من أجل عقيدته أو من أجل فكره، لا، نحن نقول: الإنسان له قيمة حتّى لو كان مخالفًا لنا في الدّين أو في المذهب، الفكر الإسلامي لا يقرّ القتل ولا إهدار الكرامة ولا الإهانة للآخر لأنّه يختلف معنا في العقيدة أو الفكر أو الرأي، لا، ليس كذلك، إنّما المحارِب هو الذي نحكم بقتله «الشخص الذي يحاربنا»، ولذلك يقول القرآن: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنه يحب المقسطين إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم وإلا الكافر المسالِم له قيمة إنسانية عندنا وله كرامة إنسانية عندنا والقرآن الكريم يقول: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ومفاد الآية: كرامة تكوينية وكرامة تشريعية، والإمام أمير المؤمنين يقول: ”وإنّما النّاس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدّين، أو نظيرٌ لك في الخلق“.

نأتي إلى المفردة الثالثة والأخيرة من حديثنا ألا وهي: مفردة الحرية.

ماذا يقول بعض الليبراليين في عنوان الحرية؟ وماذا يقول الاتجاه الإسلامي؟

بعض الليبراليين يقول: الأصالة للفرد وليست للمجتمع، بما أنّ الأصالة للفرد وليست للمجتمع فالمفهوم الآلي والعملي لأصالة الفرد هو مبدأ الحرية فللفرد حرية مطلقة ما لم يعتدِ على حرّية الآخرين، له حرية في التفكير، له حرية في التعبير، له حرية السلوك، المهم ألا يعتدي على حرية الآخرين، وإلا فله الحرية المطلقة، وماذا يترتب على هذا؟

يترتب على هذا أثران:

الأثر الأول الذي يترتب على ذلك: أنّ هناك فرقًا بين الفكر الإسلامي «يعني الفكر الديني» والفكر الليبرالي، الفكر الديني يركز على الواجبات دائمًا، «يجب عليك تجاه جارك، يجب عليك تجاه زوجتك، يجب عليك تجاه أولادك، يجب عليك تجاه ربّك، يجب عليك تجاه مجتمعك..» الفكر الديني يركّز على الواجبات والتكاليف ومن الواضح أن التكاليف والواجبات تستطبن العبودية والإذعان والطاعة، بينما الفكر الليبرالي يركز على الحقوق، لا يقول: واجباتك ما هي؟ يقول: ما هي حقوقك؟ ما هي امتيازاتك؟ حقّك في التّعبير، حقك في القرار السياسي، حقك في حرية الرأي، حقك في الدين، حقك.. والحقوق تعني الامتيازات والحريات، إذن ما يركز عليه الفكر الديني هو لغة التكليف، بينما ما يركز عليه الفكر الليبرالي هو لغة الحق والامتياز والحرية، هذا الأثر الأول.

الأثر الثاني: عندما ننظر إلى الفكر الديني نرى لائحة من القبائح، لائحة من الذنوب «هذا ذنب.. هذا قبيح.. هذا معصية.. هذا حرام...» بينما نأتي إلى الفكر الليبرالي نجده ”خوش“ فكر! لا فيه قبائح، لا فيه ذنوب، ولا فيه معاصي، هذه الدوخة كلّها غير موجودة! «لائحة معاصي وذنوب وقبائح..» لا توجد هذه ”الخبصة“ كلها! الفكر الليبرالي يرى أنّ الكمال والفضيلة في أن يكون الإنسان إنسانًا واقعيًا، الفكر الديني يركز على الإنسان المثالي، بينما الفكر الليبرالي يركز على الإنسان الواقعي، الإنسان المثالي هو الإنسان الذي يتّسم بالتواضع والزهد والتضحية.. هذه كلّها مثاليات لا يستطيع أغلب النّاس أن يقوم بها! بينما الفكر الليبرالي يركز على الإنسان الواقعي، يقول: الفضيلة والكمال أن تكون واقعيًا لا أن تكون مثاليًا والإنسان الواقعي هو الإنسان الذي يشبع شهواته ويشبع غرائزه ويشبع نهمه في الجنس، في المال، في الطعام، في الشراب، في اللباس، في الرأي، في الطقوس، يمشي وراء شهواته وغرائزه، هذا إنسانٌ واقعيٌ وليس إنسانًا معقّدًا، المهم ألا يعتدي على حرية الآخرين، الفضيلة أن تكون قادرًا على الانسجام مع الناس، الفضيلة أن تكون قادرًا على العيش مع النّاس، وليست الفضيلة أن تتحلى بالزهد والتواضع والتضحية وما أشبه ذلك من الأمور، هذه مثالية وليست واقعية، هذا ما يطرحه بعض الليبراليين.

نأتي إلى ما يطرحه الاتجاه الإسلامي:

ما يطرحه الاتجاه الإسلامي أنّ الأصالة ليست للنزعة الفردية، كما أنّ للفرد قيمة فللمصلحة الاجتماعية قيمة في عرضها وبموازاتها، ويترتّب على ذلك عدّة آثار أتعرّض إليها:

الأثر الأول من آثار الاتجاه الديني:

الفكر الليبرالي - بهذا الطرح الذي طرحناه طبعًا - يستبطن نقضيه في نفسه، لماذا؟

لأنّ الفكر الليبرالي يقول: السيادة للأمة وليست لله، الولاء للقومية والوطن وليس للدين، الأصالة للحرية والفرد وليست للاستخلاف، بينما الفكر الديني بعكسه، هل يسمح الفكر الليبرالي للفكر الديني بالوجود أو لا يسمح؟! هل الفكر الليبرالي يقول: أنا عندي عادي أن يسيطر الدينُ على المجتمع! ليس عندي مانع! عل يسمح الفكر الليبرالي للفكر الديني بالوجود والانتشار أم لا؟! إذا قال: لا، فقد نقض نفسه بنفسه لأنه يؤمن بالتعددية الفكرية، لأنه يؤمن بالحرية الدينية، لأنه يؤمن بأن كل إنسان حرٌ في الرأي، حرٌ في التعبير، حرٌ في السلوك، وإذا يقول: لا مانع، يلزم من ذلك الصراع والفوضى؛ لأنّه لا يمكن اجتماع الفكرين في مرحلة التطبيق، في مقام التطبيق لا تقدر، كيف تجمع بين السيادة لله والسيادة للمجتمع؟! كيف؟! كيف تجمع بين الأصالة للحرية أو الأصالة للاستخلاف؟! لا تستطيع الجمع بينهما، إذن سينشأ صراعٌ بين الكفرين في مقام التطبيق فلابد من التضحية بأحدهما، ولابدّ من القانون أن يفصل الأمر بالتضحية بأحد الاتجاهين لسبيل الاتجاه الآخر، من هنا يؤمن الاتجاه الإسلامي بضرورة سيطرة الاتجاه الديني الذي تنبثق عقيدته في النظام والسيادة والولاء والأصالة من الفكر السماوي فإنّ الله هو الخالق للإنسان وهو الأعرف بمصلحة الإنسان من العقل الوضعي، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.

الأثر الثاني:

لا يوجد لدينا حرية مطلقة، لا تصدّق هذا الكلام! لا يوجد مذهب عقلائي هذا اليوم يؤمن بالحرية المطلقة، هذا الكلام الحرية «مقيّدة بعدم سلب الحرية عن الآخر» لا، الحرية ليست مقيّدةً بعدم سلبية حرية الآخر بل بأكثر من ذلك، لماذا؟

نحن الآن نذكر في علم الكلام عندنا، عندنا في علم الكلام يقال: هناك قيم خادمة وهناك قيم مخدومة، القيم المخدومة هي قيمٌ مطلقةٌ لا تتغيّر، مثل ماذا؟ مثل العدالة، العدالة دائمًا قيمة جيّدة، مثل: حفظ النّظام، حفظ النّظام دائمًا قيمة جيّدة، لماذا؟ لأنّ القيمة الأولى للمصلحة الاجتماعية العامّة، وبما أنّ العدالة تخدم المصلحة العامة إذن العدالة دائمًا قيمة، وبما أنّ حفظ النّظام دائمًا يخدم المصلحة العامة إذن حفظ النظام دائمًا قيمة، بينما نأتي إلى قسم من القيم: «التسامح، احترام الآخر، التواضع..» هذه ليست دائمًا قيمًا، أحيانًا تكون قيم، أحيانًا تكون لا قيمة لها، لماذا؟!

لأنّ المهم المصلحة العامة، إذا كانت هذه الأمور تصبّ في المصلحة العامة فهي قيمٌ وإلا فلا قيمة لها، ولذلك يعبّر عن هذه القيم بقيم «خادمة» وليست «مخدومة» لأنّها منوطة بالمصلحة العامة، ومن هذه القيم: الحرية، الحرية ليست قيمةً دائمًا، الحرية تكون قيمةً إذا ساهمت في المصلحة العامة، وأمّا إذا لم تساهِم في المصلحة العامة فليس لها قيمة، الحرية من «القيم الخادمة» لا من «القيم المخدومة»، أضرب لك مثالاً لا يستطيع أحدًا مناقشته: الدولة المتحضّرة أجمعت على محاربة المخدّرات فكرًا وترويجًا وتناولاً، المخدّرات محارَبة، لو أنّ إنسانًا أو مجتمعًا أصرّ على تناول المخدّرات أو على ترويج المخدّرات باسم الحرية، قال: واللهِ أنا حر! المهم ألا أؤذي الآخرين وأنا لن أؤذي الآخرين بل سأشرب المخدّر إلى أن أموت ولن أؤذي أحدًا! هل يُقْبَلُ منه؟! لا، ليست الحرية مبرّرةً لتناول المخدّر لأنّ هذا يهدم المصلحة العامة ولا يخدم المصلحة العامة، فالحرية ليست «قيمة مطلقة»، الحرية قيمتها بأن تكون في إطار المصلحة العامة.

الأثر الثالث والأخير:

الإسلام عندما يدعو للقيم، يدعو الإسلامي لقيمة التضحية، يدعو الإسلام لقيمة التواضع، يدعو الإسلام لقيمة الصدق، يدعو الإسلام لقيمة الأمانة.. هذه التي سمّاها «لائحة»! هذه القيم التي يدعو إليها الإسلام ليست قيمًا مطلقة حتى تقول: والله الإسلام يدعو للإنسان المثالي! لا، هذه قيم فطرية لا مثالية، وُلِدَ الإنسان وفطرته تنادي بهذه القيم، الإنسان إذا فتّش وجدانه، فتّش فطرته، سواءً كان مسلمًا أو كافرًا «أيّ دين، أي مذهب، أيّ ملّة» يجد أنّ فطرته تقول: الصدق جميلٌ، الأمانة جميلة، العدالة جميلة، بينما الكذب قبيحٌ، الخيانة قبيحة، الظلم قبيح، هذه القيم فطرية وليست قيمًا مثالية، ولذلك عندما يدعو الإسلام لهذه القيم فهو لا يدعو إلى إنسان مثالي وإنّما يدعو لإنسان فطري، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.

ومن أنبل القيم وأروعها: قيم التضحية، التضحية قيمة عظيمة، أن يضحي الإنسان بما عنده لأجل مجتمعه، لأجل مبادئه، لأجل قيمه، التضحية ليست قيمة مثالية، بل قيمة فطرية، ولذلك يقف التّاريخ الإنساني - حتى الليبرالي يقف - بكلّ إجلال وإكبار لعمالقة التضحية، الذين ضحوا يقف لهم بإجلال لا لأنهم مثاليون بل لأنهم تناغموا مع فطرة الإنسان ووجدان الإنسان.

عليٌ : ”واللهِ لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلتُ، واللهِ لو كان المال لي لساويتُ بينهم فكيف وإنّما هي أموالهم“ هذا قاعد يضحّي بكلّ شيء في سبيل العدالة العامة، وهذا المبدأ الذي سار عليه الحسين بن علي: ”ما خرجتُ أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح“، ”إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذوني“ ولأجل هذه التضحية صار الحسين رمزًا للأنصار والأعوان.

أصالة الإمامة ومساحتها
المغترب والدور الرسالي