نص الشريط
حاجتنا للحياة الطيبة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 4/9/1432 هـ
مرات العرض: 3295
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2062)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث حول الحياة الطيبة، وكلامنا حول هذا العنوان في عدة محاور:

المحور الأول: ما هي ماهية وحقيقة الحياة؟

الفلاسفة المسلمون يعرّفون الحياة بأنها مبدأ الحركة بذاته، فما كان مبدأ للحركة بذاته فهو حياة. مثلًا: النطفة التي تعلق بجدار الرحم مبدأ للحركة بذاتها؛ لأن هذه النطفة تكون منطلقًا لحركة في داخل الرحم من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى جسم إلى شعور إلى إحساس إلى إرادة إلى عقل، ولذلك هذه النطفة تحمل نواة الحياة، وتحمل جينة الحياة؛ لأنها تحمل شرارة الحركة ومبدأها، وما هو مبدأ الحركة بذاته - أي: من دون حاجة إلى شيء آخر - فهو الحياة.

ومن هنا يتبين الفرق بين الحياة وبين الطاقة، فإن الطاقة التي نراها قد تتحول إلى نور نبصره، وقد تتحول إلى حركة سيارة مثلًا، وقد تتحول إلى احتراق هائل، فالطاقة لها صور وألوان، ولها أعمال مختلفة، لكن هناك فرقًا بين الطاقة وبين الحياة، إذ أن الطاقة بذاتها ليست مبدأ للحركة، بل هي أمر كامن قابل للبروز والظهور، لكنها ليست مبدأ للحركة.

وبعبارة أخرى: الطاقة لديها القابلية والقدرة للبروز إذا اتصلت بالمادة، إذ أن كل طاقة إذا اتصلت بالمادة ظهرت وبرزت، وقد تظهر في صورة نور وشعاع، وقد تظهر في صورة سير، كما في حركة السيارة، وقد تظهر في صورة انفجار، فهذه الطاقة تمتلك القدرة على الظهور إذا اتصلت بالمادة، لكنها ليست مبدأ ذاتيًا للحركة، أي أنها ليست بذاتها محرّكة، وإنما تحتاج إلى عوامل وأسباب وصور أخرى، فالطاقة ليست بذاتها تولد الحركة، وإنما هي بذاتها قابلة للظهور إذا اتصلت بالمادة.

لذلك هناك فرق بين الطاقة وبين الحياة، إذ أن الحياة هي سبب الحركة ومولدها ومبدؤها بذاته من دون حاجة إلى أمور أخرى، فنواة الحياة وجينتها هي مبدأ الحركة بذاتها، فإذن هناك فرق بين فاعلية الطاقة وبين مبدئية الحركة في الحياة، فإن فاعلية الطاقة هي بروز الطاقة إذا اتصلت بالمادة، بينما مبدئية الحركة هي عبارة عن نواة تصدر الحركة وتنبع منها الحركة بذاتها، وهذه النواة التي تنبع منها الحركة وتنبثق منها الحركة بذاتها تسمى الحياة، كالنواة الموجودة في البذرة، وكالنواة الموجودة في النطفة، وكالنواة الموجودة في الماء، فأي نواة تنبثق منها الحركة بذاتها فهي حياة، وهذا هو تعريف ماهية وحقيقة الحياة.

المحور الثاني: ما هو المقتضي الأول والمصدر الأول للحياة؟

المصدر الأول والمقتضي الأول للحياة هو الماء، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. الماء هذا الجسم المائع البارد بطبعه، الماء يحمل ويختزن في جزيئاته نواة الحياة وجينة الحياة، إنما يحتاج إلى ظروف، يحتاج إلى شروط تنضم إليه لنتطلق الحياة منه، فالماء هو المصدر الأول للحياة، والإنسان دوره أن يوفر الشروط والظروف التي تكفل هذه النواة لكي تنبثق منها الحياة.

الإنسان لا يستطيع أن يصنع الحياة، ولا يستطيع أن يوفر ظروف الحياة، ولا يستطيع أن يصنع الحياة، وهذا ما يعبر عنه الفلاسفة بالفرق بين المقتضي والشرط، فمثلاً: النار طاقة من الحرارة، وهذه الطاقة الحرارية مقتضٍ، أي أن الحرارة تنبع وتصدر منها، لكن هذه الورقة لا يمكن أن تحترق بالنار إلا إذا اقتربت من النار، فالاقتراب من النار شرط، لكن الذي يحرق الورقة هو الحرارة الكامنة في ذات النار.

إذن فعندنا مقتض وعندنا شرط: المقتضي لاحتراق هذه الورقة هو الحرارة الكامنة المختزنة في النار، والشرط لاحتراق الورقة أن نقرّب الورقة من هذه النار فتحترق، فهناك مقتض وهناك شرط، ولذلك الفلاسفة يقولون: المقتضي ما منه الحياة، والشرط ما به فعلية الحياة، فما منه الحرارة هو النار، ولذلك يسمى مقتضيًا، وما به فعلية الحرارة هو الاقتراب، ولذلك يسمى شرطًا.

إذن الذي يقوم بصنع الشرط هو الإنسان الذي يوفر الظروف لكي تنطلق جينة الحياة، فالبذرة مثلاً فيها نواة وجينة الحياة، أي أن المقتضي لتوليد الحياة ولتوليد الحركة - حركة النبات - موجودٌ في البذرة. ليس الإنسان فقط هو من يتحرك! بل النبات أيضًا يتحرك، حيث تمتد جذوره في الأرض، وتمتد الساق إلى السماء، وتمتد الفروع يمنة ويسرة لتكون ثمرة، فالنبات يتحرك، والحيوان يتحرك، والإنسان يتحرك، والماء يتحرك، وهو مبدأ الحركة ومبدأ الحياة.

الإنسان لا يخلق الحياة، بل الحياة موجودة في البذرة، لكنه يوفر ظروفًا. البذرة تختزن نواة الحياة ومبدأ الحركة، والإنسان يأتي ويضع البذرة في التراب ويعطيها الماء والسماد، فتنبثق منها الحياة، فالإنسان يولّد الظروف ويصنع الشروط، ولكن الإنسان عاجز عن أن يصنع الحياة.

ولهذا ينقل عن نيوتن - هذا العالم المخترع المشهور - أن صنع البربتلاجم أعقد من صنع مركبة فضائية، فإن الإنسان يستطيع أن يصنع مركبة فضائية، ويستطيع أن يصنع أجهزة مختلفة ومتلونة، لكنه لا يستطيع أن يصنع جينة الحياة؛ لأن صنع جينة الحياة وتوليد بذرة الحياة يحتاج إلى المبدأ الأول في الحياة، وأما الإنسان بذاته فلا يمكن أن يصنع بذرة الحياة، ولذلك نرى القرآن ينسب الحياة له تبارك وتعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ، ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ، ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فهو مصدر الحياة، وإنما وظيفة الإنسان أن يوفر شرط الحياة وظروفها.

المحور الثالث: تقابل الحياة والموت تقابل الملكة والعدم.

نشرح هذا التعبير الفلسفي حتى تتضح لنا عناصر الحياة. الشيئان المتنافران المتباينان يتقابلان بثلاثة أنواع من التقابل: النوع الأول: يسمى تقابل النقيضين، والنوع الثاني: تقابل الضدين، والنوع الثالث: تقابل الملكة والعدم.

النوع الأول: تقابل النقيضين.

أي: تقابل النفي والإثبات، فأنت مثلاً الآن موجود في المسجد، ولا يمكن أن تكون الآن غير موجود في المسجد! لا يمكن أن أنت في آن واحد موجودًا في المسجد وغير موجود فيه، فوجودك في المسجد وعدم وجوده فيه متقابلان تقابلَ النفي والإثبات، فلا يجتمعان في آن واحد، وهذا ما يسمى تقابل النقيضين.

النوع الثاني: تقابل الضدين.

الضدان أمران وجوديان متعاقبان على موضوع واحد، فمثلاً: جسمك أنت يقوم ويقعد، فالقيام والقعود ضدان؛ لأنهما أمران وجوديان يتعاقبان على جسمك، إذ أن جسمك تارة يقوم، وتارة يقعد، ولا يمكن لجسمك أن يقوم ويقعد في آن واحد، فالقيام والقعود ضدان.

النوع الثالث: تقابل الملكة والعدم.

كالعلم والجهل، فإن العلم ملكة، والجهل عدم هذه الملكة، والبصر ملكة، والعمى عدم هذه الملكة، فالعلم والجهل متقابلان تقابل الملكة والعدم، وهذا التقابل لا يرجع إلى القسم الأول - تقابل النقيضين - لأنه يحتاج إلى موضوع قابل له، فمثلاً: الحجر ليس عنده بصر، لكن لا يقال له: أعمى؛ لأنه ليس قابلاً للإبصار، فما هو قابلٌ للإبصار هو الذي يكون أعمى إذا لم يبصر، وما هو قابل للعلم هو الذي يكون جاهلاً إذا فقد العلم.

إذن فتقابل الملكة والعدم يحتاج إلى موضوع قابل لهما، بينما النقيضان لا يحتاجان موضوعًا، فإن تناقض النقيضين يشمل الموجودات كلها، فحتى الحجر لا يمكن أن يكون موجودًا في المسجد وغير موجود فيه، مما يعني أن تقابل النقيضين يشمل كل الموجودات، بينما تقابل الملكة والعدم يختص بالموجودات القابلة للاتصاف بالملكة وعدمها، فالإنسان يقبل الاتصاف بالعلم والجهل، ويقبل الاتصاف بالعمى والإبصار، لكن الحجر لا يكون بصيرًا أو أعمى، ولا يكون عالمًا أو جاهلاً، فهذا يسمى تقابل الملكة والعدم.

من هنا نقول: الحياة والموت متقابلان تقابل الملكة والعدم، فهذا الجسم حي بمعنى أن فيه ملكة الحياة ومبدأ الحركة، بينما هذا الجسم ميت بمعنى أنه فقد المبدأ، وأما الحجر فلا يقال له حي ولا ميت، وإنما يتصف بالحياة والموت الجسم النباتي والإنساني والحيواني، وأما الحجر فلا يتصف بالحياة ولا بالموت، وإنما يتصف بهما ما كان قابلاً للحركة، فإذا فقدها كان ميتًا.

توجد مسألة فقهية ترتبط بهذا البحث، الفقهاء عندهم منطلقات، بعض منطلقاتهم هي منطلقات فلسفية أيضًا. السقط إذا أسقطته المرأة، إذا سقط بعد ولوج الروح.. الروح لا نستطيع تحديد وقت ولوجها، لكن ظاهر الروايات أن الروح تلج بعد اثني عشر أسبوعًا، فإذا أكملت النطفة اثني عشر أسبوعًا ولجتها الروح. هذا القدر متيقن، وإلا فنحن بالدقة لا نستطيع ضبط وقت ولوج الروح، لكن ظاهر الجمع بين الروايات الواردة عن أهل البيت أنه إذا أكمل اثني عشر أسبوعًا ولجته الروح.

إذا سقط بعد ولوج الروح، يقال: هذا ميت؛ لأنه عاش الحياة ثم فقدها، وأما إذا سقط هذا الجنين قبل ولوج الروح وقبل أن يذوق طعم الحياة الإنسانية فهل يعتبر ميتة نجسة؟! لأن الميتة نجسة، فهل هذا يقال له ميتة فيكون نجسًا؟! أم لا يقال له ميتة، فيكون طاهرًا، ولا يجب تطهير اليد بعد مسه برطوبة مسرية لأنه ليس نجسًا؟

هنا الفلاسفة الفقهاء لهم منطلقات في هذه المسألة، بعض الفقهاء يقول: تقابل الحياة والموت تقابل الملكة والعدم، لكن يمكن أن يتصف الجسم بعدم الحياة قبل أن يتصف بالحياة، إذ ليس لازمًا اتصافه بالحياة حتى يتصف بعدمها، ما دام هو قابلاً للاتصاف بالحياة فإنه يتصف بالموت وإن لم تسبقه الحياة، هذا الجسم فيه قابلية للاتصاف بالحياة ولو بقي لصار حيًا، هذا الجسم ما دام فيه قابلية للاتصاف بالحياة إذن فهو متصف بالموت فعلاً وإن لم تسبقه الحياة، فهو ميتة نجس.

بعض الفقهاء يقول: مصطلح الفلاسفة شيء والمصطلح اللغوي والعرفي شيء آخر، ونحن نعتمد على المصطلح اللغوي والعرفي. المصطلح اللغوي والعرفي أن الميت من فقد الحياة لا من لم يتصف بالحياة، أي أن له حياة سابقة ثم يتصف بالموت، والحال أن هذا لم يتصف بالحياة، أي أنه لم يفقد الحياة، فلا تترتب عليه أحكام الميتة. إذن هذا ينتج ويترتب على أن تقابل الحياة والموت تقابل الملكة والعدم، وهذا ما شرحناه.

المحور الرابع: التزاوج بين الموت والحياة.

إن هناك تزاوجًا بين الموت والحياة، ولذلك تكون الحياة وجودًا تشكيكيًا، والوجود التشكيكي هو عبارة عن مصطلح في الفلسفة، والمقصود منه: الوجود ذو المراتب المتفاوتة، كل مرتبة تمتاز عن مرتبة أخرى بأن ما به الاشتراك عين ما به الامتياز، فمثلاً: النور مراتب متفاوتة، إذ أن هذا المصباح أقل مرتبة من نور القمر في الليل، ونور القمر في الليل أقل مرتبة من نور الشمس في النهار، فكل مرتبة في الوقت التي هي نور، هي فاقدة للمرتبة التي هي أقوى منها، فما به الاشتراك بين هذه المراتب هو عين ما به الامتياز؛ لأن كل مرتبة من النور في الوقت التي هي واجدة هي فاقدة، فهي واجدة بدرجة من النور فاقدة لدرجة أخرى.

كذلك في الحياة والموت. الحياة مراتب، أي أن الموت مراتب، أي أن كل مرتبة من الحياة لها موت مثلما كل مرتبة من النور لها فقدان لمرتبة أعلى منها. كل مرتبة من الحياة معها فقدان لمرتبة أعلى منها، أي أن معها موتًا، فالإنسان في كل آن في كل لحظة هو حي وهو ميت، وهذا معنى الآية: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ أي: خلق التزاوج والتمازج والتقارن بين الموت والحياة، فلا يمكن أن توجد درجة من الموت إلا ومعها درجة من الحياة، ولا توجد درجة من الحياة إلا ومعها درجة من الموت.

ولذلك يقرر علماء الطبيعة أن جين الإنسان في كل آن تموت منه ملايين الخلايا وتحيا ملايين الخلايا، فهو في كل آن يتجدد، وفي كل آن يفقد مرتبة من الحياة ويتلبس بمرتبة، فهو في كل آن يحيا ويموت. قال تعالى: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ أي أن هذا الوجود في كل لحظة يمر بحياة وموت، وقال تعالى: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ.

المحور الخامس: خصائص الحياة الطيبة.

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ما معنى الحياة الطيبة؟ بعضهم قال هو حي، فكيف يحييه؟! إنما يعطيه مضافًا إلى الحياة طيبًا، إذا صار مؤمنًا الله يعطيه طيبًا، وإلا هو حي. هذا غلط، لو كانت المسألة مسألة طيب لقالت الآية: «من عمل صالحًا من ذكر أو أثنى وهو مؤمن لنطيبن حياته»، الآية ما قالت لنطيبن حياته، الآية قالت: لنحيينه حياة طيبة.

الرأي الثاني قال: هذه حياة مجازية، ليست حياة حقيقة، وإلا هو حي، الإنسان حي، هذه حياة مجازية عبرت عنها الآية بأنها حياة طيبة. هذا أيضًا خلاف الظاهر القرآني، الظاهر القرآني أنها حياة حقيقة، المؤمن يعطى حياة أخرى، حياة حقيقة، لماذا يعطى حياة حقيقية؟ القرآن لا يتكلم بمجازات القرآن، القرآن يتحدث عن حقيقة، فما هي هذه الحياة الحقيقية التي تعطى للإنسان؟

قلنا بأنَّ الإنسان في حد ذاته هو حي؛ لأن الحياة عرّفناها في المحور الأول: الحياة مبدأ الحركة، لإنسان منذ ولادته يتحرك، يتحرك حركة مكانية، يمشي، يتحرك حركة زمانية، ينتقل من طفولة إلى شباب إلى كهولة، يتحرك حركة كمية، جسمه يطول ويعرض، يتحرك حركة كيفية، يتلون بألوان، قسمات وجهه تتغير بمرور الأيام، الجسم يتحرك حركات مختلفة، فهو حي، لكن يعطى مبدأ جديدًا لحركة جديدة غير هذه الحركة.

إذا عمل صالحًا وهو مؤمن، إذا لم يكن مؤمنًا ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً، هو يقوم بأعمال حسنة، يتصدق، يصل رحمه، يحسن للناس، لكنه ليس مؤمنًا، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ هذه الحياة لا يحصل عليها إلا المؤمن، لم يعمل صالحًا فحسب، بل ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، يعني يعطى حركة جديدة غير حركة الجسم.

حركة الجسم في الزمان والمكان والكم والكيف، هذه حركة موجودة حتى في الحيوان، فما هي ميزة الإنسان؟! حتى الحيوان - أجلكم الله - هو أيضًا يمشي ويتحرك في الزمان والمكان ويكبر، نفس الحركة الجسمانية للإنسان موجودةٌ في الحيوان، إذن هناك حياة أخرى، هناك مبدأ جديد لحركة جديدة في الإنسان المؤمن، وهي حياة حقيقية، يشعر بها الإنسان المؤمن، هذه الحركة الحقيقية والحياة الجديدة ما هي خصائصها؟ كيف نعرف أنها فعلًا حياة حقيقية؟

الصفة الأولى: الطيب.

الطيب يعني الاطمئنان، ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ما هو معنى الاطمئنان؟ إذا خسر في تجارته لا يتأثر، تراه إنسانًا مطمئنًا، إذا أصابه مرض لا يتأثر، تراه إنسانًا مطمئنًا، إذا سُجِن، إذا أوذي، إذا ضُيِّق عليه، تراه إنسانًا مطمئنًا لا يتغير، لا يعيش هلعًا، لا يعيش جزعًا، لا يعيش ارتباكًا، إنسان مطمئن، الاطمئنان أثرٌ واضحٌ للحياة الطيبة، مطمئن، مستقر.

هذا لا يختص بالأولياء، بعضهم يقول: القرآن يقول: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، فقط الأولياء هم الذين يطمئنون ولا يحزنون! لا، ليس الأولياء فقط، القرآن نفسه الذي قال هذه الآية قال آية أخرى: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، ليس الأولياء فقط، حتى هذا الإنسان الذي آمن بالله واليوم والآخر وعمل صالحًا أيضًا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يعيش اطمئنانًا واستقرارًا في حياته، مهما عرضت عليه من مصائب ونوائب هو مطمئن مستقر. وهذا معنى انشراح الصدر، ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، هذا منشرح الصدر، مطمئن بربه تبارك وتعالى، كما ورد عن أمير المؤمنين :

رضيت  بما  قسم  الله لي
كما أحسن الله فيما مضى
  وأوكلتُ  أمري  إلى iiخالقي
كذلك   يحسن  فيما  iiبقي

﴿لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، أنت عش مطمئنًا، إن الله لا يكتب لك إلا ما هو صلاحٌ لك، عش مطمئنًا. ورد عن النبي محمد : ”رأس الإيمان التوكل على الله“.

الصفة الثانية: الشعور باللطف الخفي.

ما هو اللطف الخفي؟ كيف تشعر فعلًا أن الله لطف بك لطفًا خفيًا؟ القرآن يقول: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، القضية لا تختص بالأنبياء والمرسلين فقط، القرآن قال في حق عيسى بن مريم: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ، لكن أنت أيضًا المؤمن مؤيد: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، أنت تشعر بأن هناك لطفًا خفيًا ومددًا خفيًا يدفع عنك المكاره، ويمهّد لك الأرض، ويهيّئ لك الأسباب، أنت تشعر بمدد الله، إذا وصلت إلى حالة الشعور بمدد الله وبلطف الله عليك في حياتك فقد حصلت على الصفة الثانية، ألا وهي الشعور باللطف الخفي.

وهذه الدرجة إن كبرت تصبح أنت ممن عرف نفسه، ورد عن النبي محمد : ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“، كيف يعرف الواحد نفسه؟ يعرف نفسه بمعنى أن يشعر بأن لله وجودًا في نفسه، كما يقول الفلاسفة: هناك علم تصوري حصولي، وهناك علم حضوري، نحن كلنا علمنا بالله علم حصولي، يعني علم عن طريق الصور، إن قال لك شخص: الله عالم قادر حي، تتصور أنت صورًا، صورة لله، صورة للقادر، صورة للحي، صورة للعالم، أنت تعرف الله بالصور التي ترتسم في ذهنك، هذا يسمى علمًا حصوليًا، علمًا صوريًا.

وهناك نوع آخر من العلم: علم حضوري، أنت تعلم بحزنك وفرحك، ليس عن طريق الصورة، بل عن طريق الشعور والإحساس، إذا أنا أحبك أشعر بحبي لك، إذا أنا فرح أشعر بفرحي، إذا أنا حزين أشعر بحزني، الفرح والحزن والحب والبغض.. هذا علم حضوري، ليس عن طريق الصور، بل عن طريق الشعور والوجدان، أنت يراد لك أن تشعر بالله لا أن تتصور الله، إذا وصل الإنسان إلى حد الشعور بالله شعورًا وجدانيًا، إذن وصل إلى مرحلة: ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“.

يعني شعر بالله في داخل نفسه شعورًا وجدانيًا، وهذا الشعور الوجداني يكبر، يكبر، يكبر.. إلى أن يصل في الإنسان إلى أن يقول: ”يا من دل على ذاته بذاته“، أنت في قلبي، إذا كنت في قلبي فأنت دللتني عليك، ”بك عرفتك وأنت دللتني عليك“ لأنك وضعت نورك في قلبي، وضعت وجودك في قلبي، فصرت أشعر بوجودك شعورًا وجدانيًا، كما أشعر بنفسي وعواطفي ومشاعري، ”بك عرفتك وأنت دللتني عليك“، ”يا من دل على ذاته بذاته“، هذا كلام علي بن أبي طالب .

وأما كلام ابنه الحسين : ”متى غبت حتى تحتاج..“ أنا لا أحتاج إلى أن أتعامل معاك بالصور، أنت داخل قلبي فكيف أتعامل معك بالصور؟! أنا لا أحتاج أن أتصورك، أنت في قلبي، ”متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى كانت الآفاق هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من ودك نصيبًا“. وورد عن أمير المؤمنين علي : قيل له: هل رأيت ربك؟ قال: ”وكيف أعبد ربًا لم أره؟! ما رأته العيون بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان“ علم حضوري، هذه الصفة الثانية من صفات الحياة الطيبة، من صفات الحركة الحقيقية التي أعطيت للإنسان المؤمن.

الصفة الثالثة: رؤية عالم الملكوت.

هذا المؤمن.. طبعًا بدرجات متفاوتة، لكن يرى عالم الملكوت، بعض المؤمنين يرى جنته وناره، يصل إلى هذه الدرجة من رؤية عالم الملكوت، ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، بمعنى أنك أنت في الدنيا ترى الحجيم، ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، تنكشف هذه الغشاوة فترى جنتك ونارك وطريقك وعالم قبرك قبل موتك.

الصفة الأخيرة: النورية.

المؤمن نور لنفسه ونور لغيره، المؤمن يصبح قدوة، الناس تقتدي به من حيث لا يشعر، تقتدي بخلقه، تقتدي بسلوكه، تقتدي بنصائحه، تقتدي بإرشاداته، المؤمن يتحول إلى أنموذج مقتدى، ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، هو لا يفتعل النور، هو لا يختلق النور، هو نور يضيء لغيره شاء أم لم يشأ، هو نور، ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا، ولذلك هذه الآية المباركة: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا بمعنى: اجعلنا قدوة للآخرين، أعطنا هذه الصفة الخامسة من صفات الحياة الطيبة، وهي أن نكون أئمة للآخرين، قدوة للآخرين، مثالًا للآخرين.

ويقول القرآن الكريم: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، هل الذين آمنوا لا يخسرون الدقائق التي تذهب؟! هم يخسرونها، فما معنى الاستثناء؟ ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، يعني كلما ذهب يوم لا يرجع مرة أخرى، كلما ذهبت سنة لا ترجع مرة أخرى، خسارة، خسارة، خسارة، فلماذا يستثني الذين آمنوا؟ الذين آمنوا أيضًا يخسرون أعمارهم.

لأن الحياة ليست هذه الحياة القصيرة، لو كانت الحياة هي الخمسين سنة التي سوف نعيشها، أو السبعين سنة التي سوف نعيشها، لو كانت الحياة هي هذه لما كان هناك فرق بين المؤمن وغير المؤمن، الجميع في خسارة؛ لأن كل دقيقة تذهب لا تعود مرة أخرى.

دقات   قلب  المرء  قائلة  iiله
فاعمل لنفسك قبل موتك ذكرها
  إن    الحياة   دقائق   iiوثواني
فالذكر   للإنسان  عمر  iiثاني

إذا لاحظنا الحياة المادية فقط فالجميع في خسر، أما إذا لاحظنا أن هذه الحياة المادية هي مقدمة، ليست هي الحياة، هذه السبعين سنة التي نعيشها ونجادل ونبني ونعمر ونتزوح وننجب، وبعضهم يشعل الدنيا كلها في هذه الحياة هذه التي يعيشها، يصبح له شأن، يقلب الدنيا رأسًا على عقب، كلها هذه ليست إلا مقدمة فقط، طريق، ليست هي الحياة، ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ يعني هي الحياة الحقيقية، هذه ليست حياة حقيقية، ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، هذه مجرد مقدمة، فلا تمش على المقدمة، امش لما بعدها.

ما بعدها أنت لست في خسر إذا كنت من المؤمنين، المؤمن ما خسر حياته؛ لأن السبعين سنة التي عاشها شكلت زادًا ونورًا وشعاعًا وضياء لقبره ولآخرته، فهو ما خسر شيئًا، ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا عقيدة، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سلوك، والصفة الثالثة مسؤولية اجتماعية: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، بعض الناس يقولون: أنا لا علاقة لي بالناس، دعني أولًا أصبح مؤمنًا، إذا صرت مؤمنًا متقيًا أصلي وأصوم فهذا كافٍ، ولا علاقة لي بالناس! القرآن يقول: لا، لا بد من هذه الصفة الثالثة، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.

تكون لك مسؤولية اجتماعية، تكون إنسانًا آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر داعيًا إلى الخير، لا تقل: لا علاقة لي بالناس! بل لك علاقة بالناس، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ”لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو يسلطن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم“، لا بد من أن تكون داعية يوصي ويوصى، يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر.

لا بد من ذلك، لا تقل: لا شغل لي بالناس! بل لك شغل بالناس، بعضهم حتى أهله لا علاقة له بهم! هو يأتي المسجد، تراه مؤمنًا متدينًا، آثار السجود على جبينه، لكن لا يأمر ابنته بالصلاة، ولا يأمرها بالحجاب، ولا ينهى أهله عن استماع الموسيقى والغناء، ولا يراقب أوضاع بيته أبًدا، كأن الإيمان فقط في المسجد! لا، هذا كله لا يفيد، أنت تتحمل آثامهم وأنت لم تفعل شيئًا، كل إثم يصدر من ابنتك أو ولدك وسببه تقصيرك في عدم النهي عن المنكر أنت الذي سوف تتحمله، أنت الذي سوف تحمله على ظهرك يوم القيامة.

والله هذه ابنتك تقصر في الحجاب، ابنتك بلغت، أكملت تسع سنوات، شعرها يبرز، ولدك بلغ سن التكليف ولا يصلي، أهل بيتك لا يتورعون عن سماع الموسيقى المطربة، وسماع الأغاني، وأنت تدري، وتقول: هؤلاء مجرد جهال لم يفهموا بعد! كل هذه الآثام أنت تحملها على ظهرك؛ لأنك أنت المسؤول، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ لا أنفسكم فقط، ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.

الروح
مسائل فقهية 5