نص الشريط
الإسم الأعظم والنور المحمدي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 18/1/1433 هـ
مرات العرض: 3338
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2514)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة - وهي قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا - نتحدث في محاورَ ثلاثةٍ:

المحور الأول: في بيان معنى الأسماء الحسنى.

ما هو المقصود بالأسماء الحسنى؟ وهل هناك أسماء غير حسنى أم لا؟

الأسماء على ثلاثة أقسام:

  1. قسمٌ يدل على النقص.
  2. وقسمٌ يدل على الكمال المشوب بالنقص.
  3. وقسمٌ يدل على الكمال المحض الذي لا نقص فيه.

القسم الأول: ما يدل على النقص.

كأن نقول مثلاً: «الميت»، «الجاهل»، «العاجز»، «البخيل» هذه أسماءٌ تدل على النقص، فهي أسماءٌ لا حُسْن فيها لأنّ مفادها النقص.

القسم الثاني: أسماءٌ تدل على كمال لكنّه كمالٌ مشوبٌ بالنقص.

مثلاً: عندما يقال: فلانٌ عفيفٌ، العفة كمالٌ، لكن عندما يقال: «عفيف» معناه أنّ فيه استعدادًا للشهوة لكنّه غلب شهوته وانتصر عليها فأصبح عفيفًا، فكلمة «العفيف» توحي بكمال من جهة ونقص من جهةٍ أخرى، فهو عفيفٌ لأنه انتصر على شهوته، ولولا أنّ له شهوة لما سُمّي عفيفًا، إذن فكلمة «عفيف» تدلّ على كمال مشوب بالنقص، أو عندما يقال: فلانٌ ورعٌ، الورع يدلّ على كمال لكنّه يدلّ على النقص أيضًا؛ لأنّ الورع هو من تنزّه عن الحرّمات، معناه أنّ له استعدادًا أن يخوض في الحرمات، لكنه انتصر على نفسه الأمّارة ومنعها من الخوض في المحرّمات، لذلك سُمّي ورعًا، فكلمة «الورع»، كلمة «العفيف» تدل على كمال مشوب بالنقص، وهو الاستعداد النفسي للشهوة، الاستعداد النفسي للخوض في المحرمات، إذن هذه الأسماء أيضًا لا تُعْتَبَرُ أسماءً حسنى.

القسم الثالث: الأسماء التي تدل على الكمال المحض الذي لا نقص فيه.

كما إذا قيل: «الحي»، «القادر»، «العالم» فإنّ هذه الأسماء تدلّ على كمالات لا يشوبها النقصُ، العلم نورٌ محضٌ، القدرة نورٌ محضٌ، الحياة نورٌ محضٌ، هذه الأسماء - علم، حياة، قدرة - تعتبر هي الأسماء الحسنى، فالأسماء الحسنى هي الأسماء الدّالة على كمال وسمو لا يشوبه نقصٌ من حيث المعنى، لذلك ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا، وقال في آية أخرى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [2] ، كل اسم يدلّ على كمالٍ محضٍ لا نقص فيه فهو من الأسماء الحسنى.

المحور الثاني: ما هي علاقة الاسم بذاته تبارك وتعالى؟

الله تبارك وتعالى له أسماءٌ حسنى، تسعة وتسعون اسمًا، ما هي علاقة ذاته بأسمائه: هل هي علاقة البساطة أم هي علاقة التركيب؟

عندما نأتي لشخصية الإنسان نجد أنّ الإنسان يعيش شخصيّة تركيبيّة، يعني: مركّبٌ من ذاتٍ ومن صفةٍ، أنت أيها الإنسان لك ذاتٌ ولك صفة، صفتك أنك مثلاً مهندسٌ، طبيبٌ، صفتك أنّك إنسانٌ متواضعٌ، متكبّرٌ، صفتك أنّك إنسانٌ ماشٍ، قائمٌ، قاعدٌ... على أية حال لك ذاتٌ ولك صفة، صفتك غير ذاتك، لكن عندما نأتي لله تبارك وتعالى فالنسبة بين ذاته وأسمائه ليست نسبة التركيب، ليست له شخصيّة مركّبة من ذاتٍ وصفةٍ، بل النسبة بين ذاته وأسمائه نسبة البساطة، هو بسيط كلّ البساطة، ما معنى بسيط كل البساطة؟

يعني: ذاته صفته، وليس عنده ذاتٌ وصفة، ليس له ذاتٌ وصفة اسمها العلم، أو ذات وصفة اسمها القدرة، أو ذات وصفة اسمها الحياة، لا، لا، ذاته هي العلم، هي القدرة، هي الحياة، وقدرته هي علمه، وعلمه هو حياته، صفاته عين ذاته، بينهما نسبة العينيّة لا نسبة الاثنينيّة والتركيب، لماذا؟

لأنه الصفة متى ما كانت غيرَ الذات كانت حدًا ومحدودًا، كيف يعني حد ومحدود؟

الآن أنا لأنّني أعيش التركيب ليَ صفة وليَ ذاتٌ، صفتي محدودة بذاتي، وذاتي محدودة بصفتي، كيف أنا أعرّف ذاتي؟ أنا ليَ ذاتٌ لكن هذه الذات لابدّ لها من حدود، حدودها صفاتي، أقول: من حدود ذاتي أنّني إنسانٌ حيٌ، من حدود ذاتي أنّني إنسانٌ مهندسٌ، من حدود ذاتي أنّني إنسانٌ طبيبٌ، إذن ذاتي محدودة بصفاتي، وصفاتي أيضًا محدودة بذاتي، عندما يقال: مهندس، المهندس مَنْ؟! المهندس هو فلان، طبيب، الطبيب مَنْ؟! الطبيب فلان.

الصفة تحدّ الذاتَ، والذات تحدّ الصفة، لو كان الله تبارك وتعالى مركّبًا من ذاتٍ ومن صفةٍ لكانت ذاتُه محدودة بصفاته، وصفاتُه محدودة بذاته، كما في الإنسان، وإذا كان محدودًا صار فقيرًا مفتقرًا إلى الحد، يعني: ذاته تفتقر إلى صفة تحدّها، صفاته أيضًا تفتقر إلى ذات تحدّها، فصارت صفاتُه مفتقرة لذاته، وذاتُه مفتقرة لصفاته، وهذا يتنافى مع الغنى المطلق ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ [3] ، الغني المطلق هو الذي لا يفتقر إلى حدٍ من الحدود، لا يعيش فقرًا ولا نقصًا ولا حاجة إلى حدٍ من الحدود أبدًا، ذاته لا تفتقر إلى صفةٍ، وصفاته لا تفتقر إلى ذاتٍ، لأنّ ذاته عين صفاته، فهو الغني المطلق تبارك وتعالى المجرّد والمنزّه من جميع الحدود والقيود.

من هنا تختلف النسبة بين الإنسان وصفاته وبين الله تبارك وتعالى وصفاته، إذن الأسماء الحسنى التي لله تبارك وتعالى هي قسمان: قسمٌ هو ذاته، كالقدرة، كالعلم، كالحياة، هي ذاته، وقسمٌ منها هو فعله، يعني: إفاضته، عطاؤه، مثل ماذا؟ الرزق، الرحمة، الإحياء، الإماتة... هذه فعله، لذلك قسّموا صفاتِه إلى صفاتٍ ذاتيّةٍ وصفاتٍ فعليّةٍ.

المحور الثالث:

ورد في النّصوص الشّريفة المتعدّدة أنّ من بين الأسماء الحسنى لله تبارك وتعالى: الاسم الأعظم، وأنت تقرأ في كثير من الأدعية: ”اللهم إنّي أسألك باسمك الأعظم الأعظم الأعزّ الأجلّ الأكرم“، ما هي حقيقة الاسم الأعظم؟ كيف نحلل حقيقة الاسم الأعظم؟

الاسم الأعظم لله جلّ شأنه ليس من قبيل الألفاظ «أ، ب، ت، ث...» لا، ولا هو من قبيل المعلومات التي ترتسم في الذهن، مثلما الإنسان يتصوّر معلوماتٍ في الهندسة أو يتصوّر معلوماتٍ في الرياضيات، لا، ليس الاسم الأعظم ألفاظًا، وليس الاسم الأعظم معلوماتٍ وصورًا ترتسم في الذهن، الاسم الأعظم من الحقائق العينيّة، أي: من الوجودات الحاصلة القائمة الشّاخصة في الخارج، الاسم الأعظم حقيقة من الحقائق المتجلية في هذا الوجود، كيف يعني الاسم الأعظم حقيقة من الحقائق؟

نحن نلاحِظ - كما هو المستفاد من الأدعية الشريفة - أنّ الاسم الأعظم علة العلل، ”اللهم إنّي أسالك باسمك الذي إذا دُعِيتَ به أجبتَ، وإذا سُؤِلتَ به أعطيتَ.. باسمك الذي نجّيتَ به موسى بن عمران.. باسمك الذي نجّيتَ به إبراهيم.. باسمك.. باسمك...“، اسمه علة العلل، فإذا كان اسمه علة العلل، هو علة الإحياء، هو علة الإماتة، هو علة ردّ الشمس، هو علة طي الأرض، هو علة كل شيء، فهل يُعْقَل أنْ يكون علة كلّ شيء ألفاظًا؟! ألفاظ تقال وبها يتحقق كلّ شيء؟! وهل يعقل أن تكون علة كلّ شيء معلوماتٍ صوريّة ترتسم في ذهن الإنسان؟! غير معقول.

إذن الاسم الأعظم حقيقة متجلية في ساحة هذا الكون هي تكون المبدأ مبدأ المبادئ وعلة العلل، حتى نوضّح هذا المعنى لابدّ أن تكون دقيقًا معي في تصوّر هذه المعلومة: العوالم التي ترتبت وتسلسلت في هذا الوجود نحن نأخذها بشكلٍ متصاعدٍ، هناك عدّة عوالمَ بشكل متصاعدٍ:

العالم الأول: عالم المحو والإثبات.

وهو عالم الذي نعيشه، هذا يسمّى بعالم المحو والإثبات، أخذًا من الآية المباركة: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [4]  يعني: كله في هذا العالم، المحو والإثبات ليس في عالم قبل، في هذا العالم عالم المادة، كيف عالم المحو والإثبات؟

يعني أنت الآن ترى شخصًا قويَ البنية طاقته الجسمانيّة قوية، هذه الطاقة الجسمانية سببٌ لأنْ يعيش هذا الإنسانُ سبعين سنة، الطاقة الجسمانيّة، الجهاز الذي يمتلكه جهازٌ مستعدٌ للبقاء سبعين سنة، لكن من جهة أخرى ترى هذا الإنسان مبتلىً، يعيش في بيئة ملوّثة، بيئة ملوّثة بالغازات السّامة، بالأبخرة السّامة، كونه يعيش في بيئة ملوّثة سببٌ لألا يعيش أكثر من خمسين سنة.

إذن هناك سببان متزاحمان: سببٌ يدعو للبقاء سبعين سنة، وهو الطاقة الجسميّة التي خُلِقَ عليها، سببٌ يدعو للبقاء خمسين سنة فقط ألا وهو البيئة الملوثة، فهنا سببان متزاحمان، سببٌ يطيل العمر، وسببٌ يبتر العمر، تزاحم الأسباب هذا لا يحدث إلا في عالم المادة، عالم المادة هو عالم تزاحم الأسباب، كلُ سبب يريد أن يتغلب على الآخر ويقوى على الآخر، عالم المادة عالم تزاحم الأسباب، إذا نظرنا إلى هذا الشخص ورأينا بنيته القوية قلنا: هذا لن يؤثر عليه شيءٌ، سيبقى سبعين سنة، فجأة نتفاجأ أنّه أثرت عليه البيئة الملوّثة، بترت عمرَه، مات، هنا مُحِيَ السببُ الأول وأثبتَ السببُ الثاني، سببٌ محا سببًا، سببٌ طغى على سبب آخر، إذن عالم المادة عالم المحو والإثبات، يعني: عالم غلبة سبب على سبب، وانتصار سبب على آخر، هذا هو عالم المادة.

العالم الثاني: عالم الكرسي.

نصعد من هذا العالم إلى عالم أرقى: ما بعد عالم المحو والإثبات «عالم الكرسي»، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [5] ، عالم الكرسي يعني ماذا؟ الروايات تعبّر عن عالم الكرسي: ”منه البَدْع، ومنه الأشياءُ كلها“، كيف يعني منه البَدْع ومنه الأشياء كلها؟

هناك عبارة في خطبة السّيّدة الزّهراء : ”ابتدع الأشياء لا من شيء كان قلبها“ يعني: علاقة الله بمخلوقاته هي علاقة ابتداع لا علاقة إفاضة، لاحظوا: الشمس علاقتها بالنور ما هي؟ علاقة إفاضة، يعني: الشمس جُبِلَت وخُلِقَت على أن تفيض النورَ، تفيض الضوءَ، هذه تسمّى علاقة إفاضة، علاقة البحر بالماء علاقة إفاضة، علاقة رشح، أمّا علاقة الله بهذه المخلوقات فليست علاقة إفاضة، ليست نسبة الله للمخلوقات نسبة الشمس للنور، أو البحر للماء، لا، نسبة الابتداع والصنع، الله ابتدع الأشياء وصنعها لا أنّه أفاضها من ذاته، لا، ذاته جلّ وعلا شيءٌ، وما صنعه وابتدعه شيءٌ آخر، ابتدع الأشياء، كيف ابتدعها؟

يعني: ليس عنده مخطط مشى عليه وعلى إثر ذلك المخطط أتى بالأشياء، لا، هذه مسألة ابتداع وابتكار، ليس هناك مخطط رُسِمَ له فمشى عليه، لا، ”ابتدع الأشياء لا من شيء“ لا يوجد مخطط سابقٌ، ”ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها“، إذن عالم الكرسي هو عالم الابتداع، يعني: في هذا العالم - ألا وهو عالم الكرسي - جرت إرادته ومشيئته على صنع الأشياء من دون أمثلة سابقة، ومن دون صور وبرنامج سابق، فعالم الكرسي هو عالم الابتداع.

العالم الثالث: عالم العرش.

نصعد من عالم الكرسي إلى العالم الذي فوقه: «عالم العرش»، العرش فوق الكرسي، الإمام الصادق في رواية حنّان بن سدير يقول: ”العرش والكرسي بابان هما أكبر أبواب الغيوب، فالباب الظاهر هو الكرسي، منه البَدْع ومنه الأشياء كلها، والباب الباطن هو العرش، فيه علم الكَيْف والأين والحدّ والمشيئة والقدر“، إذن الباب الظاهر لنا الذي منه نزلت الأشياء بصور مبتدعةٍ نسمّيه: الكرسي، والباب الذي لم يظهر لنا وإنّما هو يلي الله تبارك وتعالى هو: العرش، عالم العرش عالم التقدير والقضاء، قدّر الحدود، قدّر الأشياء، قدّر الأمور كلها، فيه علم الحدّ والكَيْف والأين والمشيئة، كله في ذلك العالم المسمّى بعالم العرش.

ولذلك لأنّ العرش هو أمّ التقدير كله عُبّر عن العرش بأم الكتاب، ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ لأنّه أمّ تقدير الأشياء كلها، ولأنّ العرش هو علم التقدير ووعاء التقدير فمن سيطر على العرش سيطر على الكون كله، ومن دبّر العرشَ دبّر الكونَ كله، ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [6]  استوى يعني: سيطر عليه، لأنّ العرش هو وعاء تقدير الأشياء كلها، فالاستواء عليه استواءٌ على الوجود كله، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.

العالم الرابع: عالم المادة.

نصعد من عالم العرش إلى عالم فوقه: هذا العالم الذي نحن نعيش فيه - عالم المادة - وما فوقه من عالم الكرسي وما فوقه من عالم العرش وكل هذه العوالم بأجمعها وجودها يحتاج إلى مادةٍ نوريّةٍ تُوجَد به، جميع هذه العوالم وجودٌ، وهذا الوجود يحتاج لمادةٍ نوريّةٍ يتحقق بها ويُوجَد بها، فهناك قبل عالم العرش «عالم المادة النوريّة» التي منها انبثق الوجودُ كله، وتلك المادة النوريّة يعبّر عنها في بعض الروايات: عالم الأسماء والصّفات، يعبّر عنها في بعض الروايات: عالم النور، وفي بعض الروايات بالحقيقة المحمّديّة نورِ محمّدٍ وآل محمّدٍ، تجلى جلّ جلاله في أوّل عالم بأسمائه وصفاته من خلال النور المحمّدي، فهو أوّل تجلٍ ومنه انبثقت التجلياتُ الأخرى والعوالمُ الأخرى.

العالم الخامس: عالم الرقيقة.

وإذا تجاوزنا هذا العالم - عالم الحقيقة المحمّديّة - يأتي «عالم الرقيقة»، رقيقة الحقيقة، رقيقة الحقيقة هي صلة خفيّة لا يدركها أحدٌ ولا يصل إليها أحدٌ، هذه الصلة الخفيّة بين ذاته جلّ وعلا وبين أوّل تجلٍ له - ألا وهو النور المحمّدي - تلك الصلة الخفيّة لا نجد تعبيرًا يدلّ عليها إلا ما ورد في الحديث القدسي: ”كنتُ كنزًا مخفيًا“ كلمة «كنتُ»، ”كنتُ كنزًا مخفيًا فأحببتُ أنْ أعْرَف فخلقتُ الخلقَ لكي أعْرَف“، «كنتُ» هذا أوّل تعبير وهذا أوضح تعبير عن تلك الرقيقة التي هي الصلة الخفيّة بين ذاته وبين أوّل نورٍ تجلى به جلّ جلاله، هذه الصلة الخفيّة هي الاسم الأعظم، مبدأ المبادئ، علة العلل، هذا الاسم الأعظم حقيقة وليس شيئًا لفظيًا أو معلوماتٍ ذهنيّة، بل هي رقيقة الحقائق ومبدأ المبادئ.

لذلك عندنا من الرّوايات الواردة عن الباقر يقول: ”إنّ ﴿بسم الله الرّحمن الرّحيم أقرب إلى الاسم الأعظم من بياض العين إلى سوادها“ يعني: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم هي جامعة لكل صفات الله؛ لأنّنا ذكرنا في المحور الثاني أنّ صفات الله إمّا صفات فعل، وكلها تشترك في كلمة الرّحمن، «إحياء، إماتة، رزق، خلق...» كلها ترجع إلى كلمة واحدة وهي الرحمة، وعندنا صفات ذات: قادر، حي، عالم... وكلها ترجع إلى عنوان واحد: الله، «الله» يشير إلى كل الكمالات التي استجمعتها الذاتُ المقدّسة، و«الرحمن» يشير إلى جميع الأفعال التي أبدعتها الذاتُ المقدّسة، فالبسملة عنوانٌ مشيرٌ إلى جميع كمالاته، وجميع أفعاله تبارك وتعالى، لذلك كانت البسملة أقرب إلى الاسم الأعظم - الذي هو مبدأ المبادئ - من بياض العين إلى سوادها.

وفي الرواية الأخرى عن الباقر قال: ”إنّ الاسم الأعظم ثلاثة وسبعون حرفًا، أعْطِينا منها اثنين وسبعين حرفًا، واستأثر اللهُ بحرفٍ منها لم يُطلع عليه نبيًا مرسلاً ولا ملكًا مقرّبًا، وإنّ آصف بن برخية أعْطِيَ حرفًا واحدًا، وكان به نقل عرشَ بلقيس من مكانه إلى سليمان“ بحرف واحد من الاسم الأعظم، ليس المقصود بالحروف الألفاظ، المقصود بالحروف يعني ماذا؟ الحقائق، وليس المقصود بالحروف الألفاظ، يعني: نحن حملنا من الحقائق - حقائق الأسماء والصفات - ما جعلنا نحمل اثنين وسبعين حرفًا من حروف الاسم الأعظم.

بما أنّهم «صلوات الله وسلامه عليهم» هم الحقيقة المحمّديّة، وهي عالمٌ سبق عالمَ العرش وعالمَ الكرسي، إذن هم مظاهر أسمائه، هم مظاهر صفاته، ”السلام على محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله...“ إلى آخر الزيارة المباركة، من هنا نحن نتعجّب ممّن يمنع أو يجرّم من التوسّل بمحمّدٍ وآل محمّدٍ، التوسل بهم في شفاء الأمراض، في كشف الكربات، في قضاء الحاجات، كيف لا يتم وهم الحقيقة المحمّديّة؟! وهم مظاهر أسمائه وصفاته؟! كيف لا يتم التوسل بهم أو يُعْتَبَر التوسل بهم شركًا؟! يقول لك: هذا شركٌ بالله تبارك وتعالى!

هذه المقولة - مقولة الشرك - ناشئة عن خطأ في التصوّر يدفعه الدّليلُ العقليُ والدّليلُ النقليُ:

أمّا الدّليل العقلي:

العقل عندما يتأمّل يرى أنّ هناك فرقًا بين المفيض وواسطة الإفاضة، وهو ما يعبّر عنه الفلاسفة: بين المقتضي والشرط، يعني كيف؟ يعني مثلاً: أنا عندما آتي لأكتب بالقلم، أنا حتى أكتب هذا البحث هناك مفيضٌ للكتابة، وهناك واسطة في الإفاضة، المفيض للكتابة أنا؛ لأنّ الفكر مني، فكرة البحث مني، صورة البحث مني، إذن أنا الذي أفضتُ الكتابة، أنا الذي أوجدتها، لكن هناك واسطة في الإفاضة وهي ماذا؟ حبر القلم وحركة القلم، إذن المقتضي الذي منه الوجود هو أنا، وأمّا القلم وحبره فهو مجرّد شرطٍ وواسطةٍ ليس إلا، وإلا مصدر العطاء ومصدر البحث ومصدر الفكر هو أنا وليس القلم، القلم مجرّد واسطة.

هكذا تبارك وتعالى تعامل مع الكون، هو باستطاعته أن يخلق الكونَ وينشئه ويوجده بلا وسائط، لكنه تبارك وتعالى ربط وجودَ الكون بعاملين: عامل المقتضي، وهو مصدر العطاء، وعامل الشرط، وهو الواسطة في الإفاضة، فهو من جهةٍ يقول: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [7] ، ومن جهةٍ يقول: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [8] ، المتوفي الحقيقي من هو؟ هو الله، ملك الموت مجرّد ماذا؟ واسطة، مثل القلم الذي يحرّكه الكاتبُ ليس إلا، المتوفي من بيده سلطة قبض الأرواح، من بيده القيمومة على سائر الأرواح في إحيائها وإماتتها هو الله، ملك الموت مجرّد واسطة، مجرّد قلم، وليس هو مصدر العطاء، وليس هو مصدر الإفاضة، وليست بيده السلطنة والقيمومة.

كذلك نسبة محمّدٍ وآل محمّدٍ لهذا الوجود، جميع الأشياء: شفاء المرض، كشف الكربة، قضاء الحاجة... لا يوجد شيءٌ، لا يوجد وجودٌ إلا ومصدره هو الله ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [9]  ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [10]  لا يتمثل وجودٌ إلا وهو مصدره، لكنّ تمثل هذا الوجود كما يحتاج إلى مصدرٍ يحتاج إلى واسطةٍ في الإفاضة، وبما أنّهم مظاهرُ أسمائه وصفاته فهم وسائط في الإفاضة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، وسائط في الإفاض، ولذلك ترى عبارة زيارة الجامعة عبارة دقيقة، قال: ”بكم فتح الله“ يعني الفاتح مَنْ؟ الله وليس أنتم، ”بكم“ بواسطة، ”بكم فتح اللهُ، وبكم يختم، وبكم ينزل الغيثَ، وبكم يمسك السّماءَ أن تقع على الأرض إلا بإذنه“ واسطة في الفيض.

أما الدليل النقلي:

القرآن الكريم: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [11] ، ﴿أَغْنَاهُمُ اللَّهُ واضحة، لكن كيف أغناهم الرسول؟ كيف الرسول يغني يعني؟! القرآن يقول: ﴿أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، ﴿أَغْنَاهُمُ اللَّهُ واضح، لكن أغناهم الرسول كيف؟ لأنّه واسطة في الغنى، فمصدر الغنى والمعطي للغنى هو الله، والواسطة في الغنى النبي، وهذه الآية مطلقة تشمل الغنى التشريعي والغنى التكويني، فهو واسطة فيض الغنى بتمام صوره وأشكاله.

ويقول القرآنُ الكريمُ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [12]  ويقول القرآنُ الكريمُ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [13]  وهم أجلى وسيلةٍ وأسمى وسيلةٍ «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، يذكر الطبراني في «المعجم الكبير» يقول: لما ماتت فاطمة بنت أسد الهاشميّة أم الإمام علي أقبل الرّسولُ إلى البقيع وحفر قبرَها بيده المباركة، وعندما حفر القبرَ نزل واضجع فيه، ليقيها من ضغطة القبر، ثم دفنها، قبل أن يدفنها رفع يديه، قال: ”اللهم إنّي أسألك بحقّ نبيّك“ يعني: يتوسّل بنفسِه الذاتِ الطاهرةِ، ”اللهم إنّي أسألك بحقّ نبيّك، وبحقّ الأنبياء من قبلي، إلا غفرتَ لأمّي فاطمة بنت أسد، ووسّعت عليها مدخلَها“ ثم دفنها وقال: ”رحمكِ الله يا أمّي بعد أمّي“، الرّسول ما حظِيَ بالأم، ماتت أمّه وهو صغيرٌ في سنّ الطفولة، فاحتضنه صدرُ فاطمة بنت أسد، وكفلته خيرَ كفالةٍ، وعُنِيَت به خيرَ عناية، لذلك عبّر عنها: أمّي، وقال: ”رحمكِ الله يا أمّي بعد أمّي“ فاطمة بنت أسد.

بيوت عبد المطلب كثيرة، لكن هذين البيتين - بيت عبد الله، وبيت أبي طالب - اقترنا في جميع الأدوار، في جميع الصّور اقترن هذان البيتان، في عهد النبي أبو طالب احتضن رسولَ الله وقدّمه على أبنائه.

واللهِ   لن  يصلوا  إليك  iiبجمعهمْ

وعدوتني  وعلمتُ  أنّك  iiناصحي

فاصدع بأمركَ ما عليكَ غضاضة

ولقد   علمتُ   بأنّ   دين   iiمحمّدٍ





 
حتّى   أوسّد   في   التّرابِ  iiدفينًا

ولقد   صدقتَ   وكنتَ   ثمّ   iiأمينًا

وابشر   بذاك   وقرّ  منكَ  iiعيونًا

مِنْ    خيرِ   أديانِ   البريّةِ   iiدينًا

والدور امتدّ من أبي طالب إلى أبناء أبي طالب، كما كان أبو طالب مع النبي كان أبناؤه مع النبي، يقول ابن أبي الحديد:

فلولا   أبو   طالبٍ   iiوابنُهُ

فهذا   بمكّة  آوى  وحامى

تكفل    عبدُ   منافٍ   بأمرٍ

فما  ضرّ  مجدَ  أبي iiطالبٍ

كما لم يضرْ بضوءِ iiالنهار







 
لما مثلُ الدّينُ شخصًا فقامَ

وهذا  بيثربَ  جسّ iiالحِمَامَ

فأودى  وكان  عليٌ iiختامًا

جهولٌ لغا أو بصيرٌ iiتعامى

سحابٌ  طغى فأثار iiالظلامَ

أبو طالب مات وجاء علي بن أبي طالب يدًا لرسول الله، درعًا لرسول الله يحميه ويدفع عنه المخاطرَ كلها، ويفديه بنفسه، ومات علي بن أبي طالب وقام أبناءُ علي بحماية أبناء رسول الله، أبناء علي دفاعٌ عن أبناء رسول الله ، لذلك الإمام علي يوم صفين أعطى الراية محمد بن الحنفية، اعترضوا عليه، قالوا: كيف تقدّم محمّدٌ على الحسنين وهما خيرٌ منه؟! سيّدا شباب أهل الجنة، كيف تسلم الراية ابنك محمد وهذان الحسنان موجودان؟! قال: ”هذا ولدي أزجّه في الحروب، وهما ولد رسول الله“، أنا مسؤولٌ عنهما وحمايتهما وولدي فداءٌ لهما، أبناء علي فداءٌ لأبناء رسول الله ، وتمثل هذا المعنى يوم كربلاء، أبناء أم البنين فداءٌ لأبناء فاطمة الزّهراء...

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين

[1] الأعراف: 180.
[2] الإسراء: 110.
[3] فاطر: 15.
[4] الرعد: 39.
[5] البقرة: 255.
[6] طه: 5.
[7] الزمر: 42.
[8] السجدة: 11.
[9] فاطر: 3.
[10] غافر: 62.
[11] التوبة: 74.
[12] النساء: 64.
[13] المائدة: 35.

مبررات الفائدة الربوية ونقدها
الدولة الخاتمة بين الرجعة والمهديين