نص الشريط
المنهج الإمامي في قراءة النص
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 5/1/1435 هـ
مرات العرض: 3195
المدة: 01:17:38
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (46009)
تشغيل:


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

آمنا بالله، صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تحث على التفقه في الدين، ومن أوضح مصاديق التفقه في الدين قراءة النص قراءة موضوعية، فقد تحدثنا في ليلة سابقة، أن أصحاب الأئمة وعلماءهم، ومنذ زمن الأئمة الطاهرين إلى زماننا، كانوا قد بذلوا جهودا كثيرة في صيانة الحديث من الموضوع والمدسوس، حيث كانت احتمالية وجود المدسوس والموضوع احتمالية ضعيفة جدا، إنما السؤال الذي يطرح: هل أن كل حديث صحيح من حيث السند، - بمعنى الرواة ثقة وأهل للمدح - يؤخذ به؟

الجواب: لا؛ إذ أن صحة السند ووثاقة رواته لا تكفي للأخذ بالحديث، ولابد من قراءة مضمون الحديث قراءة موضوعية دقيقة، فإن فعل ذلك ورُأي أنه صحيح من جهة مضمونه، فحينها يكون الحديث حجة. وعليه، فثمة فرق بين الحجية المنطقية والحجية الأصولية. فالأولى بمعنى هل أن الخبر صدر أم لا؟ أي تكفيها جهة الصدور، بينما الثانية تقول: لا يكفي أن نقتنع بأن هذا الحديث قد صدر، ومن رواة ثقاة، بل علينا أن نبحث عن أمر زائد، وهو: هل أن هذا الحديث يعمل به أم لا؟ هل له جوازية ويعول عليه؟ وكذا هو الفرق بين الصحة السندية والصحة المضمونية. ولأجل هذا، سنبحث هذه الليلة، وفي محاور ثلاثة: عن الصحة المضمونية، والحجية الأصولية، والقراءة الموضوعية للحديث.

المحور الأول: ما هي ركائز القراءة الموضوعية؟

الركيزة الأولى: ألا يكون الحديث مصادما للعقل البديهي.

فإن كان كذلك، وإن كان صحيحا سندا، لا يعمل به، ومثال ذلك: روايات تمامية شهر رمضان. ذكر سيدنا الخوئي، في كتابه المستند في شرح العروة الوثقى، الجزء الثاني، ص 107: أن هذا الحديث: أن شهر رمضان لا ينقص أبدا. «أي عدته 30 يوما دائما»، قال: هذا الحديث رغم صحة سنده، غير قابل للتصديق أبدا. لضرورة أن حركة القمر واحدة، وليس لحركة الشمس بطء وسرعة. «أي إذا كانت حركة القمر في جميع الشهور واحدة، لا يعود يعقل أن يتميز شهر رمضان عن سائر شهور». وكذا لا يعمل بهذا الحديث لعدم صحته مضمونا.

أما العقل البديهي الذي نقصده في قولنا أن الركيزة الأولى أن لا يكون الحديث مصادما له» هو: ما تجمع عليه العقول، وليس ما تختلف فيه، وهو ما يسمى العقل النسبي. كما يحدث في قضايا يختلف عليها، وهو ما لا نعتبره ولا نعتمد عليه. أما ما تجتمع على صحته أو بطلانه العقول جميعها فهو العقل البديهي. وهو المطلوب أن يكون الحديث غير مصادم له.

ربما يتبادر لذهن الإنسان أن المقصود بالعقل هنا هو العقل السليم، والعقل السليم هو: ما تقتضيه طبيعة الأشياء، فلو جاءتنا رواية خلاف ما تقتضي الطبيعة ترفض. مثال ذلك: هذه الرواية، يذكرها صاحب الوسائل، الحر العاملي، في وسائل الشيعة، الجزء 13، ص300: قال: عن الإمام الكاظم : إن سفينة نوح طافت بالكعبة سبعة أشواط، وقد كانت مأمورة.

قد يقول قائل بأن هذه الرواية مصادمة للعقل، لمخالفتها طبيعة السفينة، إنما هذا المفاد نفسه غير مصادم للعقل البديهي، فالأمر يحتمل وجود أمر إعجازي، حيث الرواية نفسها تذكر هذا «وقد كانت مأمورة». كما الأمر مع ناقة صالح، ورغم أنها ناقة، إنما كانت لها دلالات إعجازية، والأمر أيضا مع ناقة رسول الله : حيث وقفت في مكان ما، فتعين أنه مكان بيت الرسول ومسجده. فكون الشيء جمادا أو نباتا أو حيوانا لا يعني أبدا أن الله سبحانه وتعالى لم ينط به بعض القضايا الإعجازية، وعلى خلاف ما تقتضيه طبيعته. وكذا لا ترفض الرواية السابقة لمجرد أنها خالفت العقل النسبي.

الركيزة الثانية: ألا يكون الخبر مخالفا للكتاب.

فإن كان مخالفًا لم يُعْمَل به؛ وذلك لموثقة السكوني، عن أبي عبد الله ، إن رسول الله قال: إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه. مثال ذلك: ما مثل به السيد الشهيد محمد باقر الصدر في بحوثه الأصولية، ومثل به السيد الأستاذ السيستاني دام ظله، وهذا الحديث مذكور في كتاب الوسائل، الجزء 20، ص 84: لا تنكحوا الأكراد فإنهم جنس من الجن كشف عنهم الغطاء. يقول السيدان: هذا الحديث لا نعمل به، وإن كان صحيحا، لمخالفته للكتاب، في قوله عزوجل: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا. وعليه، فالرواية وإن كانت أخص من عموم الكتاب، إنما لسان الآية لسان يأبى التخصيص. وعليه لا نأخذ بها.

الركيزة الثالثة: ألا يصطدم الحديث مع الحقائق العلمية.

وليس مع النظريات، فالأخيرة تتبدل بين فترة وأخرى، ولذا لا يقاس عليها ولا تعد ميزانا في قبول أو رفض الرواية. أما الحقائق فهي الميزان ومتىوصلت النظرية مستوى الحقيقة المسلم بها عدت ميزانا أيضا. مثال: السيد الخوئي، في كتابه: المستند في شرح العروة الوثقى، الجزء الأول، ص 360: تعرض لصحيحة محمد بن مسلم: يكره صلاة الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها. لأنها - أي الشمس - تغرب بين قرني الشيطان وتطلع بين قرني الشيطان.

ورغم أن الرواية صحيحة السند، إنما سيدنا الخوئي «قده» يعلق عليه: إن هذا التعليل، إنما يكون معقولا لو كان للشمس طلوع وغروب حقيقي وليس كذلك. إذ أن مقتضى كروية الأرض وحركتها أن الشمس في كل لحظة لها طلوع ولها غروب. أي في كل لحظة للشمس هي تطلع على بلد وتغرب عن بلد. وعليه لا نأخذ بهذه الرواية.

الركيزة الرابعة: ألا يكون الحديث مصادما لعقيدة مسلمة.

مثال ذلك: روايات نسبة السهو للنبي ، ورغم أنها صحيحة السند. أي رواتها ثقاتها، إنما تطرح، الرواية تقول: أن النبي نام عن صلاة الفجر، ولم يستيقظ حتى أذاه حر الشمس. وفي بعض الروايات: أنه صلى صلاة الظهر في المدينة ركعتين، رغم أنه حاضر وغير مسافر.

وقد كتب الشيخ المفيد كتب رسالة مستقلة في نفي السهو عن النبي . وقال الحر العاملي في [الوسائل، الجزء الثامن، ص 199]: أن هذه الأحاديث - أي التي تتحدث عن سهو النبي - محمولة على التقية؛ لكثرة الأدلة العقلية والنقلية على استحالة السهو لدى النبي . وقد حققنا ذلك في رسالة مستقلة «أي لا نقول ما وقع فحسب بل يستحيل وقوعه». وذكر ذلك الشيخ المجلسي في [البحار، الجزء التاسع، ص 90]. وقال سيدنا الخوئي في كتابه [المستند، الجزء الأول، ص 340، وفي الجزء السادس، ص 40]: إن هذه الأخبار - أي أخبار سهو النبي - بالرغم من صحة أسانيد جملة منها، لكنها غير قابلة للتصديق. لمخالفتها لأصول المذهب، كما لا يخفى.

الركيزة الخامسة: ألا يكون الحديث مخالفًا لحكم شرعي مسلم.

إذ هناك أحكام مختلف عليها، وأخرى مجمع عليها عند كل علماء الإمامية. مثال ذلك: ذكر السيد الخوئي، في كتاب آخر من كتبه، هو: مباني شرح العروة الوثقى، الجزء الثاني، ص 30، صحيح معاوية بن عمار، عن الصادق : إن الهاشمية - أي المرأة الهاشمية - تركب وتضع يدها على عنق الأسود.

المقصود بهذه الرواية، أن لو هاشمية تملك عبدا لها، وتأتي لتركب رحلها، فهي تضع يدها على عنقه حتى تركب على ظهر الراحلة، هل هذا جائز أم لا. فالرجل يسأل عن الحكم الشرعي، فقال له الإمام الصادق : إقرأ هذه الآية: لا جناح عليهم في أبائهن أو أبنائهن..... «إلى أن بلغ إلى» ولا ما ملكت أيمانهن. ثم قال: يا بني، لا بأس أن يرى المملوك الشعر والساق. وعلى هذا القول، لا مانع من أن تعتمد عليه وتصعد على الراحلة.

الرواية صحيحة، إنما سيدنا الخوئي «قده»، قال: هذه غير قابلة للتصديق؛ لأنها دلت على جواز مماسة المرأة للعبد، ولا خلاف في حرمتها. وحكم مماسة المرأة لجسم الأجنبي غير جائزة. وإن كان هذا الأجنبي مملوكا لها. وهذا حكم متسالم عليه، ولا خلاف بين علماء الإمامية بشأنه، ولذلك ترد هذه الرواية.

لذا يرجى الانتباه، بعضهم مذ يصل المستشفى يعطي يده الممرضة، وأمر كهذا لا بأس به لو ماكان هنالك رجل بديل من ممرض أو طبيب، مع وجود حائل يمنع المماسة، كلبس الممرضة للقفاز، فالمماسة المباشرة، ولو بغير شهوة، هي غير جائزة شرعا. وكيفما كان، عرفنا من مجموع ما عرضنا أن هناك مجموعة من الركائز التي يرتكز عليها في قبول الرواية أو ردها.

المحور الثاني: ما هو المبرر لنا، لقراءة النص موضوعيا؟

المبرر الأول: لتحقيق حجية النص، إذ لا يكون النص حجة إذا خالف إحدى الركائز الخمسة التي أنهينا عرضها توا. المبرر الثاني: لرفع التعارض عن خبرين أو أكثر، فنأخذ ما مضمونه موافق لكتاب الله ونرد كل ما يخالف. المبرر الثالث: لتحقيق حالة الرواية واكتشاف دقة نقله وضبطه من عدمهما. فإذا اكتشفنا عدم الدقة وغياب الضبط بعد قراءة مجموع ما روى موضوعيا نتوقف عن قبول روايته. ولذلك تجد علماء الرجال غاية في الدقة، يقولون: حديثه منكر، أي وإن هو ثقة، إنما روايته مردودة لمخالفتها القواعد. أو يقولون: حديثه يعرف وينكر، أي بعضه موافق للقواعد وبعضه مخالف. أو يقولون: فلان صحيح الحديث، أي كل روايته وفق القواعد ومعمول بها.

ما هي مؤهلات قراءة النص قراءة موضوعية؟ وهل يحق لأي شخص أن يقوم بهذه القراءة؟ كما يحدث اليوم مع رسائل الوتساب، رأينا وحققنا وعمم جزاك الله خيرا، وهذا صحيح وهذا مدسوس وهذا إسرائلي، وكل ذلك دون ذكر المحقق أو المصدر ومن رأى وما هي كفاءته العلمية ومبلغه الذهني ومؤهلاته،.. المهم الاختصاص، إذ مع الكفاءة لا مانع، للوصول للمصداق القرآني: ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين.

المؤهل الأول: أن تكون القراءة مجموعية لا تجزيئية.

قراءة الحديث الواحد والحكم عليه ليس بالأمر العلمي، وحتى تصل للقراءة العلمية عليك بقراءة المجموع. لتحصيل الخبرة في مجال الروايات الإمامية. ومثال هذا: من يفسر الآية القرآنية منفصلة عن كامل القرآن الكريم، إذ لا يخرج تفسيره دقيقا، على خلاف من له خبرة بمجموع الآيات القرآنية، إذ يخرج تفسيره ضمن خبرته وقراءته. والأمر نفسه بشأن الروايات الإمامية. ليتم اكتساب الخبرة والمعرفة بالطريقة في الكلام ولغات الطرح ورموز ذلك وإشاراته.

ففي صحيحة منصور بن حازم، قلتُ لأبي عبدالله - أي الصادق - ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب، ثم يجيئك غيري فتجيبه بجواب آخر؟ قال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان. «أي نجيب كل بمقدار ما يعقله». وهذا يكشف أن طريقة الإجابة ليست واحدة، بل متفاوتة بتفاوت مستويات الناس ومستويات أفهامهم وباختلاف المقامات والمواقع.

وفي حديث آخر، عن الصادق : لا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض كلامنا. وفي اللغة، معنى المعاريض هي الرموز والإشارات. فنخلص إلى أن لغة الأئمة ليست بالصريحة تماما. وبالتالي أخذ الرواية بلفظها الصريح ليس صحيحا علميا؛ لأن الروايات الإمامية تضمنت المعاريض.

أيضا، في صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبدالله : قال قلت له: ما بال أقوام يروون «لاحظ هذه النقطة، فبعض الصحابة كان يروون عن النبي الحديث والأئمة تصدر عنهم أحاديث على خلاف ما يروي الصحابة، وكلاهما عن النبي ؛ الأمر الذي أثار الجدل» عن فلان وفلان عن رسول الله لا يتهمون بالكذب، «كأبو سعيد الخدري مثلا، سهل بن سعد الساعدي، عبدالله بن عباس، عمار بن ياسر، أبو ذر الغفاري، سلمان الفارسي،...» ثم يجيء منكم خلافه. فقال له الإمام: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن.

أي أن هؤلاء الصحابة اطلعوا على الحديث المنسوخ ولم يطلعوا على الحديث الناسخ، ونحن لأنا أهل البيت وبحر العلم اطلعنا على الحديث الناسخ فرويناه. وعليه، فالأحاديث أقسام. بها المنسوخ والناسخ، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين. وإن اطلعت علة كل هذا، وكانت لك خبرة بالقراءة المجموعية فلك أن تقرأ الروايات موضوعيا.

المؤهل الثاني: الاجتهاد في الأصول العقائدية.

أنت لن تستطيع معرفة الرواية المحالفة من غير المحالفة ما لم تكن مجتهدا، كون المجتهد يعرف حدود العقائد. مثلا، في الفقه، لدينا هذه المصطلحات: ضرورات، مسلمات، مشهورات.. هل نعرف الفروقات بينها؟ إن لا، كيف سنقرأ الروايات موضوعيا دون معرفة بالحدود العقائدية؟ إذن يلزمنا الاجتهاد هنا.

سؤال آخر: ما هي حدود الغلو؟ إذ أحيانا يقال عن رواية معينة أن فيها غلو. ونظرا لما فيها تطرح. وللجواب أقول: الوحيد البهبهاني، أحد علمائنا الأعاظم، لعله من قبل ثلاثة قرون، عبارته في كتابه: الفوائد على من منهج المقال: الظاهر أن القدماء، «أي زمان المفيد والصدوق»، كانوا مختلفين في المسائل الأصولية، «أي العقائدية»، فربما كان شيء عند بعضهم فاسدا أو كفرا أو غلوا أو تفويضا أو جبرا أو تشبيها، وكان عند آخر مما يجب اعتقاده. وربما كان منشأ جرحهم «أي جرحهم في الرواة» وجدان الرواية الظاهرة فيها منهم كما أشرنا آنفا.

الشيخ الصدوق، وهو من أعاظم وأكابر علماء الإمامية، وهو صاحب كتاب: من لا يحضره الفقيه، والإمامية تدين له بهذا الكتاب، إنما يقول فيه: الشهادة الثالثة في الآذان «أي أشهد أن عليا ولي الله» من وضع المفوضة لعنهم الله. أما علماؤنا الآخرون فيقولون: أن الشهادة الثالثة مستحبة في الآذان وفي غيره.

ولنلاحظ جميعا أن علماءنا السابقون لا يقولون بأن الشهادة الثالثة جزء من الآذان، إنما يقولون بأفضلية ذكر الشهادة الثالثة أثناء الآذان. فهي مستحب في نفسه، في الآذان وفي غيره. وذلك طبقا للرواية المشهورة: من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فليقل علي أمير المؤمنين. فإذا الشيخ الصدوق يقصد أن جزئية الشهادة من الآذان من وضع المفوضة، أي المفوضة هي من قالت بأن الشهادة الثالثة جزء من الأذان، فهذا أمر ممكن. وكذا لا إشكال فيما قال. أما إن قصد أن الشهادة الثالثة، غير مستحبة وغير راجحة في الآذان، فهذا خلاف ما تبانى عليه علماء الإمامية، من قبله ومن بعده.

مثال آخر: اختلاف العلماء في حدود الغلو والتقصير والتفويض. الشيخ محمد بن الحسن بن الوليد، وهو أستاذ الشيخ الصدوق، إنما كان يقول: أول الغلو نفي السهو عن النبي . «أما نحن فبينا قبل قليل، وعبر عرض أقوال كذا عالم إمامي بشأن هذه المسألة، حتى وصلنا إلى استحالة وقوع السهو، فضلا عن عدم الوقع». الشيخ المفيد، عندما تعرض لكلام الشيخ محمد بن الحسن بن الوليد قال: وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد رحمه الله لم نجد لها دافعا في التقصير، وهي أنه قال: أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي والإمام . فإن صحت هذه الحكاية عنه، فهو مقصر.

وقد وجدنا جماعة وردت علينا من قم، «وقد كان الشيخ المفيد في ذلك الزمان ببغداد»، يقصرون تقصيرا ظاهرا في الدين. ينزلون الأئمة عن مراتبهم ويزعمون أنهم لا يعرفون كثيرا من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم ورأينا من يقول كانوا يلجؤون في أحكام الشريعة إلى الرأي والظنون «أي حالهم حال المجتهد» ويدعون مع ذلك أنهم علماء، وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه. وهكذا رأينا اختلاف العلماء في بعض المسائل، واختلافهم في ردها وقبولها تبعا لاجتهادهم، وعليه لا يمكن أن تقبل رواية أو تردها دون علم بالحدود العقائدية، أي ما لم تبغ المرتبة الاجتهادية.

وعلى سبيل المثال أيضا: علي بن محمد القاساني وصفه النجاشي وغيره بالفقه والفضل، إلا أنه غمز فيه أحمد بن محمد بن عيسى، وذكر أنه سمع منه مذاهب منكرة وليس في كتبه ما يدل على ذلك. مثال آخر: أحمد بن الحسين بن حماد بن سعيد الأهوازي، يقول عنه الغضائري: قال القميون كان غاليا وحديثه فيما رأيته سالم. إذن، ما دام هناك خلاف بين القدماء في حدود الغلو وفي حدود التفويض والتقصير، نجد أنه ينبغي على من يريد قراءة الروايات قراءة موضوعية أن يكون له اجتهاد وأدلة قاطعة وواضحة على حدود الغلو والتقصير والتفويض حتى ترد الأحاديث أو تقبل بهذه الحجة أو تلك.

المؤهل الثالث: تمييز العقل البديهي من العقل البدوي.

ليس المناط في قبول الحديث منطق العقل البدوي، بل كما قلنا أول المحاضرة، المناط هو العقل البديهي، ويحدث للعقل أن يرفض رواية بمجرد غرابة المضمون، وقد يراها خرافة، وبتسرع غالبا، ودون تامل وتحقق. رغم أن التريث مطلوب والمنطق البدوي غير معتبر في رد الراويات وقبولها، وذلك لصدور روايات كثيرة على نحو التعبد.

مثال ذلك: صحيحة أبان بن تغلب، سأل الإمام : ما تقول في رجل قطع اصبعا من أصابع المرأة. قال: عليه عشر من الإبل. قلت: قطع اصبعين. قال: عليه عشرون، قلت: قطع ثلاثة، قال: عليه ثلاثون. قلت: قطع أربعة. قال: عليه عشرون. قلت: كان يبلغنا ذلك عنكم فنقول: إن الذي جاء به شيطان. قال: مهلا يا أبان، أخذتني بالقياس، وإن السنة إذا قيست محق الدين، وإن أول من قاس إبليس. إن المرأة تعاقل الرجل «تعاقله أي تكون مثله» إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث ردت إلى النصف. هذا من رسول الله من أبان. وهذا مثال على عدم موافقة الحديث للعقل البدوي إنما لا يرفض، كونه حكما تعبديا، فنقبله تعبدا.

المحور الثالث: صدور بعض الأحاديث بدافع التقية.

عندما نقول أن هذا الحديث غير قابل للتصديق، فهل هذا يعني أنه موضوع ومدسوس، أم لا؟ قبل قليل، ذكرنا أن السيد الخوئي قد رد مجموعة من الأحاديث كونها غير قابلة للتصديق، إنما لا ملازمة بين الحديث غير الصحيح مضمونا وبين كون الحديث مدسوسا أو موضوعا. وبيان ذلك ومثاله: السيد الخوئي «قده» يقول: تفسير علي بن إبراهيم صحيح، أي الرواة الذين وقعوا في تفسيره ثقات، ما لم يقدح فيهم أحد من علماء الرجال. ولكن هذا لا يعني أبدا صحة التفسير، إذ قلنا أول المحاضرة أن الصحة السندية تختلف عن الصحة المضمونية. ولذلك السيد وضع الركائز لقراءة المضمون، ورد بعض الأحاديث لمخالفتها تلك الركائز. وبالنتيجة، لو فرضنا أن مضمون الحديث كذا غير صحيح، وغير قابل للتصديق، فهو ليس مدسوسا بالضرورة، إذ لعله صدر عن الإمام تقية.

هل هناك أحاديث تصدر عن الأئمة تقية؟

نعم، وهي كثيرة. إذ عاش الأئمة في ظروف ضاغطة، خاصة الإمامين الباقر والكاظم ، والأئمة المتأخرين، وهم: الإمام الجواد والإمام الهادي والإمام العسكري . حيث كان الحاكم الظالم آنذاك يحيطهم بالرقباء والجواسيس، ويجعلهم في عيش يشبه مفهوم الإقامة الجبرية، وكان بعض أولئك من الشيعة، مما اضطرهم إلى العيش بتقية وحذر شديد.

فأحيانا يقتضي منهم الموقف السكوت، إذ يسألون فلا يجيبون؛ حذرا من الجالس، وفي أحيان أخرى، يجيبون بجواب يوافق مذهب الحاكم، والإمام أعلم بظروفه. مثال ذلك: لو أن الإمام في الحج، ومحاط بالرقباء، والخليفة مالكي، والحكم الإمامي يخالف مذهب المالكيين. فلو نطق به الإمام لتعرض ومن تبعه للأذى، وكذا يضطر للتقية. لذلك، صاحب الوسائل، عندما تعرض لروايات سهو النبي ، قال: صدرت، إنما على سبيل التقية؛ لأن المذاهب الإسلامية الأخرى كانت ترى أن النبي يسهو .

وعلى هذا المنوال، صدرت أحكام إمامية كثيرة، ما قصد بها بيان الحكم الواقعي، بل التخلص من الضرر الواقع فيما لو أبين الحكم الواقعي. والتقية نوعان: فتارة يتقي الإمام على الشيعي المقابل له، فيتحفظ عليه. كما في رواية داوود بن زربي، يقول: سألت أبا عبدالله عن الوضوء؟ فقال لي: توضأ ثلاثا ثلاثا. «أي اغسل الوجه ثلاثا واليد ثلاثا»، ثم قال لي: أليس تشهد بغداد وعساكرها؟ قلت: بلى. فكنت يوما أتوضأ في دار المهدي «أي المهدي العباسي الحاكم»، فرآني بعضهم وأنا لا أعلم به. فقال: كذب من زعم أنك رافضي وأنت تتوضأ هذا الضوء. فقلت: لهذا والله أمرني الإمام . وكذا يتضح لنا أن قول الإمام «ثلاثا ثلاثا» هو صار على سبيل التقية.

راوية أخرى: لسلمة بن محرز، قلت لأبي عبد الله : أن رجلا مات، وأوصى إلي بتركته «أي جعله الوصي»، وترك ابنته. فكم لها؟ طبعا، وفقا لمذهب الإمامية، فللبنت كل المال. أما وفقا للمذاهب الأخرى فلها النصف، ولعمها النصف الآخر. وهذا يسمى توريث العصبة. إنما الإمام الصادق في هذا الموضع قال له: أعطها النثف، فأخبرت زرارة، فقال لي: اتقاك. إنما المال لها، فدخلت عليه بعد ذلك، وقلت: أصلحك الله، إن أصحابنا زعموا أنك اتقيتني. فقال: لا والله ما اتقيتك ولكني اتقيت عليك. «أي خفت عليك أن تعطيها كل المال فيشكيك عمها عند الحاكم فتضر»، فهل تضمن؟ قلت: نعم. فقال: فأعطها ما بقي.

وتارة تكون التقية في الفتوى، كما في صحيحة الحلبي، قال أبو عبدالله الصادق : كان أبي «يعني الإمام الباقر يفتي وكان يتقي في صيد البزاة والصقور، «لو أن صقرا اصطاد فريسة، فهل تحل فريسته دون تذكية؟ وفقا لبعض المذاهب الإسلامية الأخرى، فنعم، تحل. والإمام الباقر كان قد أفتى وفقا لما عندهم تقية»، أما الآن «أي لأن حكم الأمويين انتهى، وهناك فاصل بين حكم الأمويين والعباسيين، والظروف لا تلزمني بالتقية، لذا أبين الحكم الواقعي» فإنا لا نخاف، فأقول: لا يحل صيدها إلا أن تدرك ذكاته.

وهكذا نرى أن تقية الإمام قد تكون من الحاكم وقد تكون من الشيعي نفسه، فبعض الشيعة أصحاب ثرثرة فيتقيهم الإمام كي لا يضعوا الأمور في غير مواضعها. وعليه لا يفتيهم بالحكم الواقعي. كما في موثقة أبي بصير: سألت أبا عبدالله عن القنوت، فقال: فيم يجهر فيه بالقراءة. «أي أن القنوت في الصلوات الجهرية». قلت: لقد سألت أباك الباقر، فقال: في الخمس كلها. فقال الإمام: رحم الله أبي، إن أصحاب أبي أتوه فسألوه فأخبرهم بالحق، ثم أتوني شكاكا، فأفتيتهم بالتقية. أي إذا احتملت أن الشيعي شاكا، وصاحب إذاعة لما سأقول، وإذاعته ستكون منشأ للخطر، فأنا لا أفتيه بالحكم الواقعي، إنما أفتيه بالتقية.

وكذا تكون النتيجة النهائية أن لا ملازمة بين كون الحديث غير قابل للتصديق بكونه مدسوسا أو موضوعا، فقد يكون صدور الحديث واقعا، إنما على سبيل التقية. ولذلك العلماء يشيرون إلى وجود فرق بين الكذب الخبري، والكذب المخبري. أي قد يكون الراوي ثقة فلا كذب مخبري، إنما ما نقله ليس بمطابق للحكم الواقعي، وهذا هو الكذب الخبري. ورد في صحيحة أبي عبيدة الحذاء، في كتاب وسائل الشيعة، باب ثمانية من أبواب صفات القاضي، حديث 39: ”إن أحب أصحابي إلي أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا، وإن أسوأهم عندي حالا وأمقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا فلم يقبله اشمأز منه وجحده وكفر من دان به وهو لا يدري، لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا“.

البعد القيمي في التراث الامامي
المنهج الإمامي في حفظ التراث