نص الشريط
العلاقة بين الشهادة والعدالة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 19/2/1435 هـ
مرات العرض: 3075
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1332)
تشغيل:

ما هي العلاقة بين الشهادة والعدالة؟

الشهادة هي عبارة عن تحمل الأعمال، فعندما يشهد الإنسان بعمل من الأعمال، كمن يشهد بحصول جريمة، أو من يشهد بحصول حدث معين، فإن معنى شهادته بهذا العمل تحمله له، أي أنه رأى العمل واستوعبه في ذهنه فتحمله بوجدانه وقام بأدائه في المورد المناسب، فالشهادة هي عبارة عن تحمل العمل، بمعنى استيعابه من أجل أدائه. فما هي العلاقة بين الشهادة والعدالة؟

لا يمكن تحقيق العدالة، باعتبار أن العدالة هي عبارة عن إعطاء كل ذي حق حقه، وإعطاء الحقوق وتوفية الحقوق يتوقف على الشهادة؛ لأن طبيعة المجتمع البشري هي الصراع على المناصب، الصراع على الطاقات، الصراع على الحيازات، فنتيجة الصراع في المجتمع البشري حصول انتقاص الحقوق، وفوت بعض الحقوق، وترتب بعض المظالم لأجل ذلك، فلا يمكن تحقيق العدالة وتوفية الحقوق وإعطاء كل ذي حق حقه إلا عبر آليات مضمونة، ومن تلك الأليات المضمونة: الشهادة.

الشهادة أداة من أدوات تحقيق العدالة وآلية من آليات تحقيق العدالة، لذلك لا تجد قانونًا سماويًا أو قانونًا أرضيًا إلا ومن بنوده الشهادة مع شروطها ومقوماتها، لأجل الترابط الوثيق بين مقام العدالة ومقام الشهادة ولذلك قال «تبارك وتعالى»: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ، قوامين بالقسط يعني عدول، شهداء لله يعني قائمين بموقع الشهادة، ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ، فمن أجل الارتباط بين مقام الشهادة ومقام العدالة اعتبر من صفات الأنبياء ومن معالمهم.

لاحظ القرآن يعبر عن النبي عيسى بالشهادة: ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، ويقول عن النبي : ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ - يعني رسول يشهد عليها - ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا، ويقول في الآية التي ذكرناها وقرأناها: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، فلأجل الارتباط بين مقام الشهادة ومقام العدالة؛ اقتضت عدالة الله تبارك وتعالى أن يجعل الأنبياء شهداء، كل ذلك متفرع على العدالة الإلهية، ولأجل توضيح هذه النقطة نتعرض لأصالة العدل وكون العدل أصلًا من أصول الدين.

الفرق بين مفهومي الدين وأصول الدين:

هناك مفهومان: مفهوم الدين، ومفهوم أصول الدين، هناك فرق بين الدين نفسه وبين أصول الدين.

مفهوم الدين: هو عبارة عن الاعتقاد بخالقية الله «تبارك وتعالى»، الاعتقاد بأن الله هو الخالق، هذا هو الدين، من الطبيعي أن الاعتقاد بخالقية الله يستبطن الاعتقاد بحياته، بعلمه، بقدرته، إذ لا يمكن أن يكون خالقًا إلا إذا كان حيًا، ولا يمكن أن يكون خالقًا إلا إذا كان قادرًا، ولايمكن أن يكون خالقًا إلا إذا كان عالمًا، ولذلك الآية المباركة تقول: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «78» قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «79»، يعني الخلق يقتضي حياة، يقتضي قدرة، يقتضي علم، ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ «80» أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، فالدين هو عبارة عن الاعتقاد بأن الله: حي، قادر، عالم، لأن الدين هو عبارة عن الاعتقاد بالخالقية، والخالقية تستبطن هذه الصفات الثلاث، هذا مفهوم الدين.

مفهوم أصول الدين: يعني ما يبتني عليه سائر الاعتقادات، متى نقول هذه العقيدة أصل؟ إذا ابتنت عليها الاعتقادات الأخرى، كل معتقد يبتني عليه المعتقدات الأخرى وتتفرع عليه المعتقدات الأخرى يعد أصلًا للدين، لماذا أصل؟ لأن بقية المعتقدات تتكئ عليه، تتفرع عليه. من هنا، إذا لاحظنا المعتقدات الأساسية التي تتفرع عليها المعتقدات الأخرى، وجدنا أن هذه الاعتقادات خمسة: التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد، لذلك سميناها أصول الدين.

الأصل الأول: التوحيد، بعد الاعتقاد بالدين وأن الله عالم، قادر، حي، يأتي أول معتقد يتفرع على ذلك، ألا وهو الاعتقاد بمقام الأحدية والواحدية، مقام الأحدية يعني أن الله واحد في ذاته، وحدته في ذاته تسمى مقام الأحدية ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، مقام الواحدية يعني أنه واحد في أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو واحد في قدرته، في علمه، في حياته، وواحد في أفعاله، في رحمته، في رزقه، في عطائه، الواحدية يعني أنه واحد لا شريك له في أسمائه وصفاته وأفعاله. التوحيد معتقد تتفرع عليه كل المعتقدات فلأجل ذلك يكون هو الأصل الأول من أصول الدين.

الأصل الثاني: العدل، ما المقصود بأن العدل أصل من أصول الدين، لاحظ معي جيدًا، العدل نفسه وهو إعطاء الله كل ذي حق حقه سواءً في الدنيا أو في الآخرة، العدل نفسه لا موضوعية له، لا موضوعية للعدل كصفة من الصفات بحيث يكون هو أصل الدين، الموضوعية لماذا؟ الموضوعية للكمال والنقص، والعدل مظهر من مظاهر الكمال، والظلم مظهر من مظاهر النقص، فما هو معنى الأصل الثاني؟ معنى الأصل الثاني من أصول الدين: أن الله كامل والكامل لا يصدر منه النقص.

يعني بعد أن آمنا أن الله واحد في ذاته وأنه واحد في أسمائه وصفاته وأفعاله يتفرع على ذلك مباشرةً اعتقادنا أن الله كامل، والكامل لا يصدر منه النقص، هذا هو معنى أصالة العدل، العدل مظهر من مظاهر الكمال فإذا اعتقدنا أن كمال الله أصل من أصول الدين، فقد اعتقدنا أن عدل الله أصل من أصول الدين لأن العدل مظهر للكمال، عندما نقول العدل أصل من أصول الدين يعني قلنا الكمال - كمال الله - أصل من أصول الدين، وكماله يتفرع على وحدانيته فيأتي العدل بعد التوحيد، ثم تأتي النبوة والإمامة، والمعاد، كلها متفرعة على الكمال، لولا اعتقادنا أن الله كمال مطلق وأن الكامل لا يصدر منه نقص لما اعتقدنا بالنبوة، ولما اعتقدنا بالإمامة، ولما اعتقدنا بالمعاد، فالإمامة والنبوة والمعاد معتقدات تتكئ على الأصل الثاني وهو أن الله كمال والكمال لا يصدر منه النقص، فلأجل أنها تتكئ عليه فهو أصل لها وماكان أصلًا لأصول الدين فلابد أن يكون أيضًا من أصول الدين، كيف يكون أصلًا للدين وليس هو أصلًا للدين.

الأصل الثالث: النبوة، النبوة تثبت بالمعجزة، ماهو الدليل على أن النبوة تثبت بالمعجزة؟ يقول علماء الكلام لأن الله لا يمكن أن يعطي المعجزة بيد الكاذب، لأن إعطاء المعجزة بيد الكاذب إغراء بالجهل، والإغراء بالجهل قبيح، هذا ما معناه؟ معناه رجعنا للأصل الثاني، أن إعطاء المعجزة بيد الشخص الكاذب نقص والنقص لا يصدر من الكمال المطلق، فلأننا اعتقدنا في الأصل الثاني بأن الله كمال والكمال لا يصدر منه النقص، من الضروري أن نعتقد بأنه إذا أعطى المعجزة بيد شخص فلابد أن يكون ذلك شخص صادقًا، لأن إعطاء المعجزة بيد الكاذب نقص، والكمال لا يصدر من النقص فالنبوة ابتنت على الأصل الثاني وهو أصالة العدل، وهكذا بقية الأصول، لا أحتاج إلى التفصيل.

إذن من أصول الدين: أصالة العدل، والمقصود بأصالة العدل أن الله كمال لا يصدر منه النقص وعلى هذا الأصل ابتنت عدة أصول، وابتنت عدة معتقدات، فلأجل كون العدل من صفاته تعالى التي لا تنفك عنه، مقتضى عدالته أن ينصب أنبياء، ومقتضى عدالته أن يجعل الأنبياء شهداء فلأجل ذلك وسم الأنبياء بسمة الشهادة في الآية: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا.

ما معنى الشهداء؟ ومن هم المقصودين بالشهداء في الآية المباركة؟

﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ، من هم الشهداء؟ هل جميع الأمة الإسلامية هي الموسومة بسمة الشهداء؟ هي الموصوفة بصفة الشهداء؟ أم أن المقصود بالشهداء حصة من الأمة؟ قسم من الأمة لا جميع الأمة الإسلامية؟

نقول: هناك فرق بين الشهادة الملكية والشهادة الملكوتية، ذكرنا في الليلة السابقة: أن كل موجود من الموجودات يتحمل عنصرين، يتضمن عنصرين:

عنصر ملكي: يعني الشكل المادي الذي عبرت عنه الآية المباركة ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، ملك كل شئ هو عنصره المادي.

عنصر ملكوتي: وهي حقيقته الروحية، حقيقته الغيبية التي عبر عنها تعالى بقوله: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، كل شئ له صورة مادية وهي العنصر الملكي، وله حقيقة غيبية وهو العنصر الملكوتي.

نحن عندما نرى الأعمال أمامنا، نرى شخصا يصلي، أو نرى شخصًا يتحرك حركة مريبة معينة، نحن ماذا نستطيع أن نشهد؟ نحن نستطيع فقط أن نشهد بالشهادة الملكية، بالشهادة المادية، نقول هل رأيتم فلان يصلي، نعم رأينا فلان يصلي، أما هل كانت صلاته صلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر أم لا؟ لا نستطيع أن نشهد بذلك، نحن نشهد بالعنصر الملكي للشهادة وهي الصورة المادية أما العنصر الملكوتي للشهادة، هل أن صلاته كانت صلاة قُربية لله؟ هل أن صلاته معراج للمؤمن؟ هل أن صلاته قربان كل تقي؟ أم أن صلاته كانت لقلقة لسان؟ لا نستطيع أن نشهد بذلك، نشهد بعالم الملك ولا نشهد بعالم الملكوت، عالم الملكوت، عالم الحقائق الغيبية خارج عن إطار قدرتنا.

في هذه الآية المباركة ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ، الشهادة هنا ملكية أو ملكوتية؟ لتكونوا شهداء على الناس يعني تشهدون بظاهر العمل، أو تشهدون بحقيقة العمل؟ ليس المقصود الشهادة بظاهر العمل، لماذا؟ لأن الشهادة بظاهر العمل تتأتى حتى من الكافر، كل إنسان يشهد عمل يستطيع أن يشهد عليه، كل إنسان يرى عمل يشهد عليه، حتى الكفار يستطيعون أن يشهدوا، الكفار يرون بعضهم يشرب الخمر، بعضهم يزني، بعضهم يعق والديه، الكافر قد يشهد أيضا على المسلم ويقول: رأيت المسلم الفلاني يقتل، يسرق وهكذا.

إذن، الشهادة الملكية بمعنى الشهادة بظاهر العمل ميسورة حتى للشخص الكافر بينما الآية خصت الشهادة بأمة النبي محمد ، حيث قالت: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ - يعني أنتم أيها الأمة وليس جميع الأمم - ﴿أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ بينما الشهادة على الناس تتأتى من الكافر والمسلم، فلماذا جعل مقام الشهادة لخصوص هذه الأمة مع أنه أمر ميسور لكل الأمم؟

إذن، المقصود بالشهادة ليست الشهادة الظاهرية، ليست الشهادة الملكية، المقصود بالشهادة: الشهادة الملكوتية، الشهادة بحقائق الأعمال، الشهادة بملكوتية الأعمال هذه الشهادة لاتتأتى من كل شخص، هذه الشهادة يعبر عنها القرآن الكريم: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم - الأرجل تشهد بحقيقة العمل - ﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، الشهادة بواقع العمل، الشهادة بملكوتية العمل.

إذن بما أن المراد بالشهادة في الآية: الشهادة بحقائق الأعمال، إذن ليس المراد بالشهداء كل أمة النبي ، ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، ليس المقصود بالشهداء كل أمة النبي بل المقصود بالشهداء قسم من أمة النبي ، لماذا؟ لقرينتين، قرينة داخلية، قرينة خارجية.

القرينة الخارجية:

عندما نقارن بين هذه الآية وبين آية أخرى وهي قوله «عز وجل»: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، الذي يراه الله ماذا؟ الله يرى الصورة الظاهرية أم يرى حقائق الأعمال؟ طبعًا يرى حقائق الأعمال، رؤية الله لعملنا رؤية ملكوتية لا رؤية ملكية، ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ.

أيضًا الرسول يرى حقائق الأعمال، كما ورد عنه : ”إن أعمالكم لتعرض علي فأراها“، الرسول تعرض عليه حقائق الأعمال ويشهد بحقائق الأعمال، رؤية الرسول للعمل هي رؤية ملكوتية وليست رؤية ملكية.

وكذلك الؤمنون، ﴿وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ لأن الرؤية الملكية يمكن أن تحصل من حتى من الفاسقين، من الكافرين، هذا معناه أن المراد بالرؤية في هذه الآية: رؤية الأعمال رؤية ملكوتية، ورؤية الأعمال رؤية ملكوتية خالصة بقسم من المؤمنون وهم الأئمة الطاهرون، فبالمقارنة بين هذه الآية والآية التي قرأناها ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ نستنتج أن المقصود بالشهادة: الشهادة الملكوتية. إذن، المقصود بالشهداء ليس كل الأمة، المقصود بالشهداء أوتاد هذه الأمة وأركانها ألا وهم الأئمة المعصومون .

هذا ما تأكده الرواية - نحن طبعًا إذا موجود عندنا رواية صحيحة في تفسير الآية نأخذ بالرواية - نرجع للرواية عن الإمام الباقر ، قال: ”أتظن أن الشهداء كل أمة النبي؟ - الإمام الباقر هكذا يقول - فإن في أمته من لا تجوز شهادته على حزمة بقل فكيف تجوز شهادته على الأمم كلها! - يعني في أمة النبي من هو أشد انحرافًا من الكفار - فإن في أمته من لا تجوز شهادته على حزمة بقل - يعني حزمة بقل لا نقبل شهادته عليها فكيف نقبل شهادته على الأمم كلها؟! - إنما عنى بالأمة من أجيبت فيهم دعوة النبي إبراهيم وهم قوله عز وجل - انظر آية تفسر آية تشرح آية - ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ“، فالأمة الشاهدة هي الأمة التي وصفها بأنها خير، ووالأمة التي وصفها بالآمرة بالمعروف والنهاية عن المنكر، القائمة بدور الرقابة على المجتمع الإسلامي كله.

القرينة الداخلية:

أنها قُرنت الشهادة - يعني شهادة الأمة - بشهادة النبي، قال: ﴿لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، وبما أن شهادة الرسول شهادة ملكوتية، إذن شهادة الشهداء شهادة ملكوتية فلابد أن يكون الشهداء نوعًا من الناس قادرًا على رؤية حقائق الأعمال، وجماعة من الناس ينكشف لهم ملكوت الأعمال وهم أهل بيت النبوة «صلوات الله وسلامه عليهم».

مما يأكد ذلك، قوله عز وجل في آية ثانية: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ - كتاب الأبرار يعني ماذا؟ يعني أعمال الأبرار، صحيفة الأبرار - وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ، كتاب مرقوم، من يشهده؟ يشهده المقربون، يعني المقربون من أمة النبي هم الذين يشهدون كتاب الأعمال، هم الذي يشهدون الأعمال شهادة ملكوتية، هم الذين يرون الأعمال رؤية ملكوتية، لا يشهدونها في الآخرة، يشهدونها وهم في الدنيا، الآية تتحدث عن الآن، من الآن كتاب الأبرار في عليين، كتاب مرقوم، من الآن هذا الكتاب المرقوم يشهدوه المقربون ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ «18» وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ «19» كِتَابٌ مَّرْقُومٌ - من الذي يشهد هذا الكتاب؟ يشهده شهادة ملكوتية حقيقة؟ المقربون لا كل أمة النبي - ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ «10» أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، هذا هو المقصود بالشهداء في الآية المباركة.

ماهي العلاقة بين مقام الشهادة وبين القتل في سبيل الله؟

من الملاحظ أن الشهادة أُطلقت في القرآن على معنى، وأطلقت في السنة المطهرة على معنى آخر، القرآن عندما أطلق الشهادة أراد بالشهادة الرؤية الملكوتية التي شرحناها فقال: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ. أما الشهادة في النصوص - يعني في الروايات الواردة عن النبي والواردة عن الأئمة الطاهرين «صلوات الله وسلامه عليهم» - فقد أُطلقت على من قتل في سبيل الله، من قتل في سبيل الله شهيد، ورد عن الصادق : ”إن أمي فاطمة الزهراء صديقة شهيدة“، وورد في حق الإمام علي بن موسى الرضا أيضا عن الإمام الصادق : ”ستدفن بضعة مني بأرض خراسان من زاره عارفا بحقه ضمنت له على الله الجنة، قيل: وما عرفان حقه، قال: العلم بأنه إمام مفترض الطاعة غريب شهيد - يعني قتل في سبيل الله -“، الشهيد في النصوص - يعني في السنة المطهرة - أُريد به من قتل في سبيل الله.

ماهي العلاقة بين المعنيين؟

الشهيد في القرآن من يرى الأعمال رؤية ملكوتية، الشهيد في السنة من انتقل إلى ربه مقتولًا في سبيل الله، ماهي العلاقة بين المعنيين حتى نطلق على من قتل في سبيل الله أنه شهيد؟ ماهي العلاقة بينهما؟ حتى نفهم هذه العلاقة لابد أن نتعرض لعدة معاني: معنى الحياة، معنى الموت، مراتب الحياة، مراتب الموت.

معنى الحياة: الحياة هي الوجود.

مراتب الحياة:

المرتبة الأولى: الحياة النباتية، حياة النمو، حياة الارتقاء، كل شيء ينمو فهو حي حياة نباتية، الجنين أيضا أول ما تلتصق النطفة بجدار الرحم تكون حياتها حياة نباتة محضة فهي فقط تنمو.

المرتبة الثانية: الحياة الحيوانية، وهي حياة الإرادة والاختيار، هذا الحيوان ليس عنده عقل لكن عنده شعور وعنده إرادة، كل موجود يمتلك شعورًا وإرادة فهو حي بمرتبة ثانية وهي الحياة الحيوانية، الجنين أيضًا بعد عدة أسابيع، تبدأ فيه الحياة الحيوانية وهي حياة الشعور.

المرتبة الثالثة: الحياة العقلانية التي عبر عنها القرآن: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ «12» ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ «13» ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، الخلق الآخر هو الحياة العقلانية، كان يمتلك نموا ثم صار يمتلك شعورًا ثم صار يمتلك عقلًا وتفكيرا فوصل إلى مرتبة الحياة العقلانية، هذه المرتبة الثالثة وهي الحياة العقلانية أيضًا تتدرج، من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة، إذا وصل إلى سن الأربعين وصل إلى نضج الحياة العقلانية، الإنسان إذا وصل إلى سن الأربعين وصل إلى النضج في الحياة العقلانية، يقول القرآن الكريم ﴿حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أربعون سنة هي الأشُد، يعني نهاية النضج في الحياة العقلانية، ﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ.

المرتبة الرابعة: هي الحياة البرزخية، يعني حياة مابعد الموت ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ، الحياة البرزخية، حياة مابعد الموت.

معنى الموت:

البعض يظن أن الموت دفعة وحدة يأتي وتنتهي القضية، لا! الموت أيضًا يأتي بالتدريج، كما أن الحياة تأتي بالتدريج، ترتقي من النباتية، إلى الحيوانية، إلى الحياة العقلانية، أيضًا الموت يأتي بالتدريج، الموت أيضًا له درجات إلى أن يتم انفصال هذا الإنسان عن عالم الدنيا بالمرة وينطلق إلى الآخرة.

مراتب الموت:

المرتبة الأولى: موت الإحساس إلا حاسة السمع، نحن نستفيد من الروايات أن آخر حاسة تموت في الإنسان حاسة السمع ولذلك القرآن يبدأ بحاسة السمع لأنها أول حاسة وآخر حساسة يفقدها الإنسان ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ، السمع أولًا، أول شيء يسمع، آخر شيء يسمع أيضًا، ورد عندنا في الروايات: ”إن الميت ليسمع بكاء أهله“ تبقى عنده حاسة السمع إلى الأخير، إلى أن يهال عليه التراب، إلى أن يسوى عليه التراب، حاسة السمع تبقى، علقة السمع تبقى.

المرتبة الثانية: موت جميع أجهزة البدن، لا يبقى جهاز من البدن إلا وقد تعطل ومات.

المرتبة الثالثة: انفصال الروح عن هذا الجسد، الروح تبقى لها علاقة بالجسد ما دام في القبر، بمجرد أن يتحول الجسد إلى رميم، افترض بعد خمس سنوات، بعد عشر سنوات، أيًا كان حسب الأجساد وحسب المواطن، بعض المواطن يسرع الجسد فيها إلى البلى، بعض المواطن يبقى الجسد مُحتفظ إلى سنين طويلة، على أية حال، إذا أصبح الجسد رميمًا انطلقت الروح إلى عالم آخر.

الحياة البرزخية وهي حياة مابعد الموت، هذه الحياة التي بعد الموت على صنفين: صنف من الحياة هي الحياة المنعزلة، وصنف هي الحياة المتصلة، بتعبير آخر، هناك حياة انفصالية وهناط حياة اتصالية.

الحياة الانفصالية: هذا مؤمن تقي مات وهو مؤمن ينقل إلى دار النعيم، ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ «26» بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ، يعني هو يدخل دار النعيم بمجرد موته، ينطلق ويذهب إلى دار النعيم فيعيش في دار النعيم منعمًا هانئًا. الآخر هو الكافر أو الفاسق المنحرف ينقل إلى سجن من السجون يغلق عيله الباب، سجن يعيش فيه حتى يوم يبعثون، هذا داره التي يشقى فيها، دار الشقاء، هذا نسميه بالحياة الانفصالية.

الحياة الاتصالية: ما هو معنى الحياة الاتصالية؟ يعني هو مات لكن مازال يشهد عالم الدنيا، هو مات لكن ما زالت روحه ترفرف على عالم الدنيا، وتشهد كل حركة، تشهد كل سكون، تشهد كل تصرف، مات لكنه مازال متصلًا بعالم الحياة، يشهد الناس يراهم، يرى أعمالهم، يرى تحولاتهم، يرى تاريخهم، يرى جميع التقلبات التي تطرء عليهم.

الذي يعيش الحياة الاتصالية هو من قتل في سبيل الله، هذا له ميزة، له نوع خاص من الحياة أنه لا ينفصل عن الدنيا، لا ينفصل عن عالم المادة وإن أصبح جسمه في القبر إلا أن روحه مشرفة، محيطة، معاينة لما يجري في عالم المادة لذلك هذا بمجد أن يغض عينه وهو مقتول في سبيل الله يعطى مقام الشهادة، الشهادة تعني ماذا؟ يعني يشهد حقائق الأعمال بعد موته، تكريما له، تشريفا له لأنه قتل في سبيل الله، تكريما لقته في سبيل الله بمجرد أن يغمض عينه يعطى مقام الشهادة يعني يعطى مقام رؤية الأعمال فيرى الأعمال ويشهد بها ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا.

إذن، هذا هو وجه العلاقة بين الشهادة - بمعنى رؤية الأعمال - وبين القتل في سبيل الله، القرآن الكريم يأكد هذه الحقيقة ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ، يعني هم معكم لكن لاتشعرون بهم، هم يرونكم، يحيطون بكم، يشرفون عليكم، لنكم لا تبصونهم، لا تشعرون بهم، وقال في آية أخرى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «169» فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

فكيف إذا كان هذا المقتول في سبيل الله إمامًا معصومًا، يعني هذا الإنسان العادي إذا قتل في سبيل الله أعطاه الله هذا المقام - مقام الشهادة -، فكيف بمن كان إمامًا معصومًا، إذن هؤلاء المعصومون، هؤلاء الذين لهم مقام الشهادة وهم في الحياة الدنيا فكيف لاتكون لهم مقامات الشهادة وهم قد قتلوا في سبيل الله عز وجل.

لذلك في بعض الشروح لزيارة عاشوراء، في المقطع الذي تقرأه مئة مرة، هذا للتأكيد على مقام الشهادة لهؤلاء، ”السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين“، يعني هؤلاء الكوكبة الأربعة هم قوام الشهداء، هذه الفقرة تقرأها مئة مرة، هذه الفقرة تتحدث عن كوكبة الشهداء الذين أُعطوا مقام الشهادة، تتحدث عن هذه الكوكبة العظيمة التي أُعطيت مقام الشهادة، ”اللهم اجعلني عندك مع الحسين وأصحاب الحسين الذي بذلوا مهجهم دون الحسين

نعم، وهذه الأيام أيام زيارة الحسين، هذه الأيام أيام زيارة كربلاء، أنت قلبك متلهف إلى زيارة كربلاء، قلبك مشتاق إلى زيارة كربلاء، قلبك يريد أن يزحف مع الوفود والألوف والملايين التي تزحف نحو قبر الحسين:

فقارب الخطا وبالمشي اقصدِ
وفضلها  في الناس لم iiيحدد
  فخطوة    بحجة   أو   iiأزيد
إذ  لا  يطيق  العقل والأفكار

زيارة الحسين، واللهفة إلى زيارة الحسين، والشوق إلى زيارة الحسين، هؤلاء الذين يزحفون نحو القبر الشريف غبارهم وقاية، غبارهم حصانة من النار.

فإن النار ليس تمس جسمًا   عليه غبار زوار الحسين

 

ليلة 20: أربعين الإمام الحسين (ع)
ليلة 18: