نص الشريط
الدرس 14
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 18/11/1434 هـ
مرات العرض: 2927
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (449)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كان الكلام فيما استدل به السيّد الإمام «قده» على أنّ المانعية مجعولة من قبل الشارع جعلاً مستقلاً، ووصل الكلام إلى الملاحظة الثانية حيث قلنا بأنَّ هناك وجهين في كلمات الأعلام لإثبات أنّ المانعية والشرطية والجزئية ممّا لا يُعقل جعلها مستقلةً.

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقق النائيني «قده» في «فوائد الأصول» وهو أنّ هذه العناوين من شرطية وجزئية ومانعية عناوين انتزاعية، والعناوين الانتزاعية لا يُعقل جعلها إلّا بجعل منشأ انتزاعها تكويناً او تشريعاً، فإنّ جعلها المستقل خُلف كونها منتزعة.

ولكن يمكن أن يقال: أنّ ما أبرزه المحقق النائيني غير وافٍ بحل المشكلة ما لم يُتمم بالوجه الثاني الذي أفاده المحقق الإصفهاني، والسرّ في ذلك:

أنّ لمن يدعي الاستقلال في الجعل كالسيّد الإمام «قده» له أن يقول: يُتصوّر أن يقوم الشارع أولاً بجعل المانعية للزيادة، فإذا جعل المانعية للزيادة حيث إنّ الجعل باعتبار والاعتبار سهل المؤونة، فبإمكان الجاعل أن يجعل المانعية، فإذا جعل المانعية بأن قال: «الزيادة مانعٌ من صحّة الصلاة» كان مقتضى ذلك تضيق الصلاة قهراً بعدم الزيادة، فهذا التضيق القهري هو ما يُعبر عنه ب «التقيد الذاتي» فإن نتيجة جعل الزيادة مانعاً من الصحة أنّ الصلاة سوف تتضيق قهراً وتتقيد قهراً بعدم الزيادة، ومع هذا التقيد والتضيق القهري يبطل محل الاطلاق والتقييد اللحاظيين في الصلاة؛ لماذا ذكرناه سابقاً أنّ كل ماهية مأمور بها إذا تضيقت قهراً بخصوصية معينة فمن غير المعقول بعد ذلك أن تكون هذه الماهية مورداً للحاظ، بأن تُلحظ مطلقة او تُلحظ مقيدة؛ إذ بعد ضيقها قهراً لا يمكن للمولى أن يلحظها مطلقة بالنسبة للزيادة وعدمها، او يلحظها مقيدة بالنسبة للزيادة؛ لأنها متقيدة في حدّ ذاتها فلا وجه للحاظها لا مطلقة ولا مقيدة.

إذاً؛ فما دام ذلك أمراً ممكنا فلا وجه لأن يقال: إنّه لا يمكن جعل مانعية الزيادة إلّا بجعل منشأ انتزاعها وهو أن يقوم المولى ابتداءً بالأمر بالصلاة مشروطة بعدم الزيادة، لا حاجة إلى أن يقوم المولى بالأمر بالصلاة مشروطة بعدم الزيادة، بل يكفي في ذلك أن يجعل المانعية للزيادة اولا فتتضيق الصلاة بما هي مأمور قهراً بعدم الزيادة فلا حاجة بعد ذلك إلى أن يلحظ الصلاة مشروطة او مطلقة، بل لا يمكن ذلك.

فما دام هذا الفرض ممكناً، إذاً؛ فليست المانعية عنواناً انتزاعياً يدور جعله مدار جعل الانتزاع، فلأجل ذلك لابد من تتميم الاستدلال بالوجه الثاني الذي أفاده المحقق الاصفهاني «قده»، وبيانه ضمن مقدمتين:

المقدمة الأولى: ليس البحث بحثاً اثباتياً، أي ليس البحث على مستوى عالم الدلالة وعالم الخطاب، فإنّه لا اشكال على مستوى عالم الخطاب أنّ المانعية مجعولة وهذا محلاً لبحث من أحد، فإنّ الجميع يقول: الأمر في المركبات الاعتبارية إمّا ارشاد إلى الجزئية أو ارشاد إلى الشرطية، او ارشاد إلى المانعية، فعلى مستوى عالم الخطاب ليس محلاً للبحث عندهم أن يكون مفاد الخطاب الارشاد الجزئية او الشرطية او المانعية، هذا ليس محلاً للبحث.

كما أنّه على مستوى عالم الاعتبار والجعل حيث إنّ الاعتبار والجعل سهل المؤونة فمن الممكن للمولى أن يجعل المانعية أو يجعل الشرطية أو يجعل الجزئية، فإن الاعتبار سهل المؤونة، فليس البحث عن عالم الاعتبار، بأن يقوم المولى بأي نوع من أنواع هذه الاعتبارات، إنما البحث على مستوى الإرادة الناشئة عن الملاك، فإنّ المولى إذا اطلع على موطن ملاكه نشأ عن علمه بالملاك إرادةٌُ، وتلك الإرادة هي قوام الحكم؛ لأن الاعتبار مجرد صياغة مبرزة للإرادة وإلا فقوام الحكم بالإرادة، فعلى مستوى الإرادة الناشئة عن الملاك هل يُعقل أن تكون الإرادة بالنظر إلى المانعية غير مشروطة بعدمها أم لا؟ هذا هو محل البحث.

المقدمة الثانية: إذا علم المولى بملاك الصلاة مثلاً، وقاس هذا الملاك بالزيادة التي عُدّت من الموانع، فإذا قاس المولى ملاك الصلاة بالزيادة فلا يخلو الأمر ثبوتاً وعلى مستوى عالم الإرادة أمّا أن تكون الإرادة مهملة أي أراد الصلاة مهملا من ناحية الزيادة أو عدمها وهو غير معقول في الواقعيات؛ إذ قد يُعقل الإهمال في عالم الاعتبار فإن عالم الاعتبار عالم اختياري بيد المولى، فقد يُعقل من المولى أن يُصدر اعتباراً مهملاً، إلّا أنّ هذا إهمال لحاظي وليس إهمالا ثبوتياً واقعياً، والمحال هو الإهمال الثبوتي، بمعنى أنّه لا يُعقل أن يكون موطن الملاك مردد بين أن تكون الزيادة دخيلة فيه او غير دخيلة، كما لا يُعقل أن تكون الإرادة الناشئة عن العلم بالملاك أيضاً مرددة، هل أنّ الزيادة دخيلة فيها أم لا، فبحسب عالم الثبوت أي عالم الملاك والإرادة لا يُعقل الإهمال؛ لأن وجود المردد محالٌ، فالوجود مساوقٌ للتعين والتشخص واباء التردد، إذاً فالإرادة بلحاظ الزيادة لا يُعقل أن تكون مهملة؛ إذاً إما أن تكون الإرادة مشروطة بالزيادة او مشروطة بعدمها أو مطلقة، لا يُعقل أن الإرادة مشروطة بالزيادة؛ لأنه خُلف ضائرية الزيادة بفعلية الملاك، ولا يُعقل أن تكون مطلقة، أي أن المولى على مستوى إرادته لا يضر بها زاد في الصلاة أم لم يُزد، فهذا خُلف ضائريتها بالملاك، فتعين حتماً على مستوى الإرادة أن تكون إرادة المولى من أوّل الأمر إرادة مشروطة بعدم الزيادة؛ فلأجل ذلك نقول: بأنّه لا يُعقل جعل الشرطية او الجزئية أو المانعية جعلاً مستقلاً وهذا معنى أنّها عناوين انتزاعية فإنّ المقصود بذلك ليس جعلها في عالم الاعتبار بلحاظ نفسه مع غمض النظر عن عالم الإرادة، بل المقصود بأنّه لا يُعقل جعلها مستقلاً يعني بلحاظ حكائية الاعتبار والجعل عن حدود الإرادة، فإنّه على مستوى الإرادة أبداً من الأوّل إما أنّ المولى اراد الصلاة بشرط الزيادة، أو أرادها لا بشرط، أو أرادها مشروطة بالعدم.

وأمّا ما ذُكر في التفصي والتخلص من الوجه الأوّل، بأنّ المولى يجعل المانعية اولاً فتتضيق الصلاة بعدم المانع، فلا حاجة إلى أن يلحاظ الصلاة مشروطة أو مطلقة، فهذا كله على مستوى عالم الاعتبار مع غضّ النظر عن عالم الإرادة، وإلّا فعلى مستوى عالم الإرادة الامر كما ذكرناه.

فتحصّل من ذلك: أنّ ما ذهبت إليه مدرستا النائيني والاصفهاني من أنّه لا يُعقل جعل المانعية والشرطية والجزئية جعلاً مستقلاً، هو الصحيح.

الملاحظ الثالثة: إن ظاهر كلامه في كتاب البيع أنّه يرى متمم الجعل التطبيقي، وهذا ما تنبّه له السيّد البروجردي «قده» وتبعه السيّد الأستاذ «دام ظله» وإن اختلف التعبير، فمتمم الجعل التطبيقي مفاده أنّه في الماهيات المخترعة والماهيات الخاضعة للجعل والاعتبار يكون فيها جعلان، جعلٌ للماهية وجعلٌ لمصاديقها وتطبيقاتها، فمثلاً:

نأتي لماهية الميتة، أو ماهية المذكى، فنقول: هناك ارتكازٌ عقلائي لا يختص بملة او نحلة على أنّ بعض اللحم هو ميتة، بمعنى ما يلزم اجتنابه، فعنوان الميتة وماهية الميتة اُعتبرت في البداية على نحو الإجمال والإبهام، أي أنّ هناك نوعاً من اللحم يلزم اجتنابه، ويُعبر عن ذلك بالميتة، ثم إنّ المشارع الشريف أتمّ هذا الجعل في مرحلة المصداق، فقال: الميتة في شريعة الإسلام مافقدت الشروط الكذائية، فهذا الذي صدر منه في شريعة الإسلام ليس اختراعاً لماهية الميتة، ماهية الميتة ماهية مخترعة قبل ذلك، وإنما هو تطبيق للتلك الماهية المعتبرة في الجملة على هذا المصداق، فمصداق الميتة في شريعة الإسلام هو ما فقد الشروط الكذائية. وبالتالي فما يُعبر عنه ب «الحقيقية الشرعية» - كل كلامهم لضرب مسلك الحقيقة الشرعية - أي أنّ الشارع اخترع ماهية وهي ماهية الصلاة، أو اخترع ماهية الصلاة، ليس صحيحاً، ما صدر من الشارع مجرد تطبيق اعتبار على مصداق وإلّا ماهية الصلاة موجودة من الأوّل، الصلاة بنظر المرتكز العقلائي ماهية اعتبارية هي عبارة عن كيفية محققة للخضوع التذللي، فكونها عملاً مبرزاً للخضوع التذللي هو هذه ماهية الصلاة، والمشرّع الشريف قام بتطبيق تلك الماهية على هذه الكيفية المعينة من عشرة أجزاء أو تسعة أجزاء، فهذا مجرد تطبيق وهذا ما يُسمى بمتمم الجعل التطبيقي. فإذاً بالنتيجة؛ ما صدر من المشرع متمم جعل.

والسيّد الإمام «قده» طبّق هذا المبنى على محل الكلام، وقال: من الممكن بل الواقع أنّ الشارع أمر بالصلاة أولاً على نحو الإبهام والإجمال، فقال: «أقم الصلاة بما تعلم وتحفظ من حدودها»، ثم بعد ذلك رأى أنّ المصلحة تقتضي إضافة شرط إليها، فقال: «قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها، فولّ وجهك شطر المسجد الحرام» فما أضافه الشارع الآن مجرد جعل في مقام التطبيق، لا إلغاء للماهية السابقة وإحداثا لماهية جديدة، بل إنّ المشرع مع تحفظه على الماهية السابقة المأمور بها طبّقها فعلاً على فرد من الأفراد، فقال: الصلاة مصداقها الفعلي الصلاة إلى البيت الحرام.

وهذا نظير أنّ المشرّع أمر بالصلاة ثم قال: «صلاة العاجز بالإيماء، وصلاة المختار بالفعل الاختيار» أو يقول: «صلاة الناسي ناقصة، صلاة الذاكر تامّة» فإن هذا اختلاف في مرحلة التطبيق على المصاديق ليس انه احدث ماهية جديدة، وكذلك المشرع الشريف حيث علم أنّ في وبر ما لا يؤكل لحمه مفسدة مانعة من فعلية ملاك الصلاة أضاف مانعاً فقال: «لا تصلي في وبر ما لا يؤكل لحمه»، على نحو متمم الجعل التطبيقي.

ويُلاحظ على ما أُفيد:

تارةً، ملاحظة مبنائية، وتارة ملاحظة بنائية، فبالنسبة للملاحظة المبنائية فإنّ أصل المبنى غير تامّ، والوجه في ذلك: أنّ المخترع عندما يقوم باختراع ماهية سواء كان المخترع هو الشارع الشريف او المرتكز العقلائي، عندما يقوم باختراع ماهية معينة فالمفروض أنّ هذا الاختراع على ضوء ملاك معين، فبما أنّ هذا المخترع لوحظ فيه ملاك معين، فلا محالة لابد وأن يكون المخترع حدوده بحدود ملاكه والمصلحة التي اقتضت اختراعه، فلا وجه لاختراع ماهية على نحو الإبهام والإجمال، حيث إنّ اختراع الماهية واعتبارها ناشئٌ عن كون هذه الماهية محققة لتلك المصلحة، فلابد أن تكون موضوعة بحدود متطابقة مع حدود المصلحة، وبالتالي فمتى تمّ الاختراع فلا فرق بين الماهية الاعتبارية والماهية التكوينية في أنّ انطباقها على مصاديقها قهري وليس جعلي، فلا معنى للتطبيق الجعل فإنّ الماهية إن كان هذا الفرد واجداً لحدودها انطبقت عليه وإلا لم تنطبق عليه، وأمّا أنّ هناك شقاً ثالث أنّ هذا الفرد مصداق لتلك الماهية لكن بالاعتبار والجعل، فهذا غير معقول، بل يكون جعلاً لماهية أخرى لا أنّه تطبيق للماهية الأولى، فلا فرق بين الماهيات الاعتبارية والماهيات التكوينية في عُلقة الكلي بفرده، وعُلقة الطبيعي بمصداقه، فلا محالة متى ما شخصّنا فردا ومصداقا، فإما أن يكون واجداً لحدود الماهية الأولى فهو مصداق لها قهراً وإلّا فلا، وأمّا أن نقول: أنّ المشرع طبق الماهية الأولى على مصداق لا تنطبق عليه في حدّ ذاتها تطبيقا اعتبارياً، فالجمع بين الأمرين بين أن يكون تطبيقا وبين أن يكون اعتبارياً، جمعٌ بين المتهافتين، فإنّ معنى كونه اعتباراً أنّه جعلٌ لماهية أخرى، ومعنى كونه تطبيقاً أنّ هذا واجدٌ لحدود الماهية الأولى.

إذاً بالنتيجة: أصل هذا المبنى - لا وهو متمم الجعل التطبيقي - غير تامّ، فما يضيفه الشرع من قيود أو موانع او شروط إمّا كشف عمّا جعله أولاً، وإنما هناك تدريجية في البيان ليس إلّا، أو أنّه جعل لماهية جديدة، وأمّا أنّ هناك شقاً ثالثاً وهو متمم الجعل التطبيقي بمعنى أنّه تحفظ على الماهية الأولى الملحوظ على نحو الإبهام او الإهمال أو اللابشرطية وطبقها الآن على مصداق جديد، فلا. هذا مجرد مناقشة مبنائية.

ولكن على فرض أنّ المبنى تامٌّ، وصلنا إلى البناء، فقلنا: بأنّ الشارع الشريف بعد أن أمر بالصلاة فقال: «اقم الصلاة» أضاف إليها شرطاً، فقال: «يُعتبر في الصلاة استقبال البيت الحرام»، فنسأل على مستوى عالم الاعتبار لا نقاش لنا، بإمكان الشارع أن يعتبر أي شيء، لكن البحث على مستوى عالم الإرادة، فهل أنّ الإرادة المتعلّقة بالصلاة الفعلية، الإرادة الآن، فهل أنّ الإرادة الفعلية للشارع الشريف المتعلّقة بالصلاة الآن تعلقت بالصلاة مهملة أم تعلقت بالصلاة لا بشرط من حيث الاستقبال وعدمه، أم تعلّقت بالصلاة بشرط شيء، فعلى مستوى الإرادة لابد أن يندرج هذا الكلام ضمن أحد الشقوق، وحيث بطل الشقان الأولان تعين أن تكون الإرادة الفعلية للمولى متعلقة بالصلاة على نحو الب «شرط شيء» من ناحية الاستقبال، أو على نحو الب «شرط لا» من جهة ما لا يؤكل لحمه.

وإذا كانت الإرادة الفعلية مقيدة به أو مقيدة بعدمه، فلا وجه لجعل الشرطية أو المانعية، نعم في عالم الإثبات يقول: جعلت المانعية أو جعلت الشرطية ويريد الكشف عن حدود الإرادة، هذا أمرٌ لا بأس به كما قلنا، وليس هو محلاً للبحث في شيء.

فتبين بذلك: أنّ الصحيح أنّ الطريق العقلائي الشرعي لجعل المبطلية للزيادة هو إرجاعها إلى شرطية العدم، بمعنى أنّ الصلاة أو الجزء مشروطٌ بعدمها، فهذا هو الطريق العقلائي الصحيح لجعل المبطلية.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 13
الدرس 15