نص الشريط
الدرس 95
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 28/5/1435 هـ
مرات العرض: 2588
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (621)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وقع الكلام في أوّل مورد من موارد الخلل ألّا وهو الخلل في النية، وذكرنا أمس أنّ السيّد الإمام «قده» أفاد أنّ الخلل في النية إنّما يُتصوّر بعد تصوير ما هو المراد من النية، وذكر أنّ في النية تعريفين:

الأوّل: أنّ المراد بالنية الاخطار بالبال، وبناء على ذلك يُتصوّر الخلل في النية زيادة ونقيصة،

والتعريف الثاني: انّ المراد بالنية الارادة.

وهنا ما زال الكلام في شرح كلامه في أنّه بناء على أنّ النية المعتبرة في صحة الصلاة هي الارادة، فما هي علاقة ارادة الامتثال بالاتيان باجزاء الصلاة وشرائطها؟

فقد نقلنا عنه أمس أنّ هناك وجوها لتحليل العلاقة بين ارادة الامتثال وبين الاتيان بالأجزاء والشرائط، وصل الكلام إلى الوجه الثالث في تحليل هذه العلاقة.

الوجه الثالث: وهو أن يُقال: إنّ هناك ارادتين في عرض واحد، وهما إرادة الطبيعي المأمور به، وإرادة كل جزء من أجزاء هذا الطبيعي، فالمكلف عندما علم بأنّه مُلزم بالصلاة أراد الاتيان بالمأمور به، وعندما شرع في الصلاة أراد كل جزء من أجزائها، فهناك ارادتان في عرض واحد، وهذا ما أشكل عليه «قده» بأنّ هذا محال؛ لأنّ ورود ارادتين على معروض واحد ومراد واحد محالٌ؛ إذ سوف يكون هذا الجزء مرادا بالارادة الأولى، وهي ارادة الطبيعي المأمور به، ومرادا بالارادة الثانية وهو ارادة نفس الجزء، ارادة نفس الركوع، وورود ارادتين على مراد واحد محال، لاستلزام تحصيل الحاصل.

الوجه الرابع: أن نلتزم بارادتين إلّا أنّ احداهما معلولة للأخرى، فيقال: إرادة الطبيعي المأمور به علّة لارادة كل جزء من اجزائه، فالارادات المتعلّقة بالاجزاء معلولة لإرادة الامتثال، يعني لارادة الاتيان بالطبيعي المأمور به.

وهذا أشكل عليه: بأنّه لا يُعقل علّية الارادة للارادة، ولا يُعقل تولّد ارادة من ارادة، والسرّ في ذلك: أنّ الإرادة هي أمر اختياري بنفسه لا بارادة أخرى، فكل إرادة اختيارية بذاتها لا بارادة أخرى، ولو استندت اختيارية الارادة لارادة أخرى للزم الدور أو التسلسل؛ لأنّه إذا استندت الارادة للارادة الاولى والارادة الاولى لارادة قبلها وهكذا، سيلزم التسلسل، وإن استندت لارادة «أ» وارادة «أ» استندت لارادة «ب» لزم الدور، فلا يُعقل تولّد ارادة من ارادة.

الوجه الخامس: قال: فالصحيح أنّ هناك ارادتين لكن ليس بينهما علّية، بل إنّ ارادة الامتثال - وهي ارادة الطبيعي المأمور به - معدّة لموضوع الارادة الثانية ألّا وهي الارادة المتعلّقة بالاجزاء، وبيان ذلك: أنّ المكلف إذا تصوّر الطبيعي المأمور به وصدّق بفائدته واشتاق إليه تولّدت عنده ارادة نحو ذلك الطبيعي المأمور به، الشوق المؤكد المحرك للعضلات، وبعد أن اراد الطبيعي المأمور به التفت إلى أنّ الطبيعي المأمور به لا يتحقق خارجا من دون أجزاء، فحيث تصوّر الاجزاء وصدق بفائدتها وهي ايجادها للطبيعي المأمور به اشتاق إليها فتولّدت عنده ارادة نحوها، فالارادة المتعلّقة بالاجزاء منبعثة عن الارادة الأولى لكن لا على نحو العلّية، وإنما الإرادة الاولى وهي إرادة الطبيعي المأمور به نقّحت لنا موضوعا للارادة الثانية، وأعدت لنا موضوع الارادة الثانية، وليس بينهما عليّة ومعلولية.

والنتيجة: أنّ الارادة المعتبرة في صحة الصلاة هي هذه: وهي نُشأ الارادة الاولى عن الثانية، فعندما يُقال يُعتبر في صحة الصلاة النية، يعني انبعاث الارادة المتعلّقة بالاجزاء عن الارادة المتعلقة بالطبيعي المأمور به، فانبعاث الثانية عن الأولى هي النية المعتبرة في صحة الصلاة.

وبناء على ذلك فيُتصوّر الخلل في النية، لا على سبيل الزيادة، لكن على سبيل النقيصة، فإنّه نشأ ارادة عن ارادة يدور امره بين الوجود والعدم ولا يُتصوّر فيه التكرار، فلا يخلو الواقع إمّا أنّ الارادة الثانية انبعثت عن الاولى او لا، ولا معنى لتكرار الانبعاث والنشأ فإنه امر يدور بين الوجود والعدم، لذلك لا يُتصوّر خلل بالزيادة، يعني بتكرار النية وهو تكرار الانبعاث هذا غير متصور، نظير انسباق المعنى من اللفظ، فإنّ الذهن إذا تصور اللفظ الموضوع لمعنى مع علمه بالوضع انسبق ذهنه إلى المعنى، فإنّ هذا الانسباق يدور امره بين الوجود والعدم ولا يقبل الزيادة والتكرار، فإمّا ان تصور اللفظ مستوجب لتصور المعنى أم لا؟ أمّا أن تصوّر اللفظ يُوجب تصورين للمعنى فهذا ممّا لا يُعقل، إلا أن يكرر تصوّر اللفظ وهذه مسألة أخرى.

وأمّا الإخلال بالنقيصة فواضح، فقد يأتي المكلف بالجزء لا انبعاثا عن ارادة الامتثال بل عن ارادة مستقلة، كما لو اتى بالسجدة بقصد السجود لله شكرا، لا بقصد الانبعاث عن ارادة الامر بالصلاة، فهنا لم يات بالنية، فهنا يكون المكلف قد اخل بالنية، أو أن يأتي بالركوع او السجود بقصد الانبعاث عن ارادة اخرى غير ارادة الطبيعي المأمور به.

كما لو نذر أن ياتي بركوع وسجود من دون صلاة، فاتى بالركوع انبعاثا عن ارادة تحقيق النذر لا ارادة طبيعي الصلاة المأمور به، فهذا يكون فاقدا للنية، يقول: وببياننا يندفع الاشكال المذكور في بعض الكلمات من أنّه لا يُتصور الخلل في النية بالنقيصة.

محصل الإشكال: أنّه إذا كان المراد بالنية الارادة فلا يُتصور خلل لأنه لو لم تكن هناك ارادة لم تكن هناك اصلا صلاة؛ لأنّ الصلاة فعل ارادي فلا يُعقل وجودها من دون ارادة، فلا يُعقل الاخلال بالنية اصلا، فلو كان المراد بالنية الارادة لكان الاخلال بالنية غير معقول؛ لأن عدم الارادة يعني عدم الصلاة، فالموضوع منتف من الأساس؛ إذ لا يُتصور وجود فعل ارادي دون ارادة.

وإن كان المراد بالنية «تولد ارادة الجزء من ارادة الصلاة» فإنّ تولّد الارادة من ارادة أمر محالٌ.

فالجواب عن ذلك: - اتضح ممّا سبق - أنّه ليس المراد بالنية نفس الارادة ولا تولد ارادة عن ارادة، بل المراد بالنية المعتبرة في صحّة الصلاة انبعاث الارادات المتعلقة بالاجزاء عن ارادة الامتثال، يعني ارادة الطبيعي المأمور به وهذا مما يمكن الاخلال به، هذا ما أفاده، «قده».

وفي كلامه مجموعة من الملاحظات:

الملاحظة الأولى: يمكن القول بوحدة الإرادة، وأنّه ليس لدينا ارادتان ارادة طبيعي المأمور به وارادة متعلقة بالاجزاء، بل بناء على أنّ النية هي من مقولة الارادة فليس هناك إلّا إرادة واحدة، والسرّ في ذلك: أنّ ارادة الطبيعي المأمور به هي عبارة عن إرادة الاتيان بالمركب، وحيث إن المركب هو عين الاجزاء بالاسر وإنما الفرق بين المركب والاجزاء فرق لحاظي اعتباري، فلا محال الارادة المتعلقة بتحقيق المركب المأمور به هي عين الارادة المتعلقة بالاجزاء، غاية ما في الباب أنّ هذه الارادة إن نسبتها إلى الجزء سميتها «ارادة جزء»، إن نسبتها للكل سميتها «إرادة الامتثال» وهذا ممّا لا محذور فيه اصلا.

الملاحظة الثانية: ذكر «قده» أنّه لا يُعقل أن تكون الارادة تفصيلية واجمالية؛ لأنّ الارادة امر بسيط يدور امره بين الوجود والعدم، فلا يُعقل فيها التفصيل والاجمال.

والجواب عن ذلك: أنّ الارادة وإن كانت بلحاظ ذاتها ليس فيها تفصيلٌ وإجمال، ولكن حيث إنّ الارادة من الأمور الاضافية التعلقية، فلا تحقق لارادة في افق النفس إلّا مع وجود عنوان مراد في نفس افق الارادة؛ إذ لا يُتصور إرادة من دون مراد، وحيث إنّ المراد بالذات يُتصوّر فيه التفصيل والاجمال، بأن يُلحظ تارة تفصيلا ويلحظ تارة اجمالا، اكتسبت الارادة التفصيل والاجمال من متعلقها، فكما أنّ متعلّق الارادة وهو المراد ب «الذات» - وليس المراد بالعرض الخارجي يعني المتصور - فكما أنّ المراد بالذات الذي هو طرف مقوّم لحقيقة الارادة ممّا يعرضه التفصيل والاجمال، فكذلك الإرادة المتعلّقة به، بل ذُكر في الحكمة في بحث اتحاد العاقل والمعقول أنّ الارادة عين المراد بالذات وليس شيئا آخر.

والملاحظة الثالثة: ما أفاده من عدم معقولية تولّد ارادة عن إرادة محل تأمّل، والسرّ في ذلك: هناك فرق بين بحث اختيارية الارادة وبين بحث استناد ارادة لارادة أخرى، ففي الجهة الأولى يُقال: كما قُرر في الحكمة أنّ اختيارية الارادة بنفسها لا بارادة أخرى، كما أنّ دسومة الدسم بنفسه لا بدسومة أخرى، فإنّ اختيارية الاختيار بذاته لا باختيار آخر، وإلّا لزم الدور أو التسلسل، ويُقال في الجهة الثانية: إنّ اختيارية الاختيار وإن كانت بذاته وإرادية الارادة وإن كانت بذاتها إلّا أنّ هذا لا يمنع ان تستند إرادة على نحو الموجبة الجزئية إلى ارادة أخرى، كما إذا كانت الارادة الثانية ملحوظة على نحو الموضوعية فيمكن أن تتعلق بها ارادة أخرى.

مثلا: لو سمع المسلم المؤمن بأنّ ارادة الخير في حدّ ذاتها امر مطلوب وإن لم يفعل الخير، فإنّ نية المؤمن خير من عمله، فإذاً إذا التفت المسلم إلى أنّ ارادة الخير في حد ذاتها أمر مطلوب وإن لم يصنع خيرا، فحينئذ تتعلق ارادته بارادة الخير، فيكون له ارادة نحو أن يريد الخير وإن لم يفعله، فقد تُصبح الارادة في بعض الموارد ملحوظة على نحو الموضوعية، فإذا كانت ملحوظة على نحو الموضوعية لا الطريقية للعمل امكن أن تستند إلى ارادة أخرى.

الملاحظة الرابعة: أنّ النية المعتبرة في صحة الصلاة ليست هي بمعنى الخطور بالبال إذ لا دليل على ذلك، وليست هي بمعنى الارادة التي هي مقوم اصلا لكل فعل قصدي، وليس شرطا شرعيا، بل النية المعتبرة في صحة الصلاة قصد القربة، أي الاتيان بالصلاة مضافة للمولى بنحو انحاء الاضافة، وإن كانت هذه النية تنحل إلى عنصرين: العنصر الأول: أصل القصد وهو ليس شرطا في الصحة بل مقوم عقلي للعمل، والعنصر الثاني: كون هذا القصد قصدا للتقرب، وهذا شرط شرعي، إلّا أنّ ما قام الدليل على دخله في صحة الصلاة بحيث يُعد فقدانه خللا هو قصد القربة، يعني اضافة العمل إلى الله عزّ وجل بنحو من انحاء الاضافة، شكرا له، دفعا لعقوبته، أي نحو من انحاء الاضافة، اضافة العمل إلى الله بنحو من انحاء الاضافة.

والنية بهذا المعنى ألّا وهي قصد القربة هي من مقولة الداعي، لا من مقولة التصور، بخلاف ما لو فسرنا النية بمعنى الاخطار بالبال، وياتي الكلام في تحديد ذلك إن شاء الله غدا.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 94
الدرس 96