نص الشريط
الدرس 55
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 23/6/1435 هـ
تعريف: أصالة التخيير 24
مرات العرض: 3013
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (446)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ذكرنا فيما سبق أنّ المحقق العراقي «قده» أفاد بأنّه إنّما تُقدم حرمة المخالفة القطعية على وجوب الموافقة القطعية في مورد الجواز الظاهري لا الجواز الواقعي، بملاك الاضطرار، ولكنّ سيّد المنتقى «قده» أشكل عليه بأنّ النكتة واحدة والملاك واحد، فما هو الوجه في تقديم حرمة المخالفة القطعية على الموافقة القطعية في باب الجواز الظاهري هو نفسه يقتضي التقديم في المقام.

والسرّ في ذلك: أنّ نكتة الترجيح أي ترجيح حرمة المخالفة القطعية على الموافقة القطعية أنّ في المخالفة القطعية احراز تفويت غرض لزومي للمولى، بينما في عدم الموافقة القطعية عدم إحراز غرض المولى، وإحراز تفويت غرض المولى اشد شناعة من عدم احراز غرض المولى، فلأجل أنّ حرمة المخالفة القطعية اهم من وجوب الموافقة القطعية فلا فرق في ذلك بين الموارد، فكما في مورد الجواز الظاهري أي لو كان عندنا علم اجمالي منجّز، فنقول: هل نُجري الأصل في جميع الاطراف أو نُجري الاصل في بعض الاطراف، فالأول يلزم منه المخالفة القطعية؛ إذ في جريان الاصل في جميع الاطراف احراز تفويت غرض المولى، بينما في الثاني وهو اجراء الأصل في بعض الاطراف عدم احراز غرض المولى، والأوّل مقدم على الثاني من حيث الاهمية فلأجل ذلك قلنا ما يُحرم أولاً وبالذات على المكلف هو حرمة المخالفة القطعية، وتبعها الثاني وهو وجوب الموافقة القطعية.

فكما قلنا بذلك هناك نقول به هنا، وهو أنّه إذا فُرض اضطرار المكلف لأن يرتكب الجامع وكان دفع اضطراره باحد الطرفين دون الآخر ترجيحا بلا مرجح، فلا محالة حينئذ التكليف الواقعي لا يكون فعليا بتمام وجوهه لأجل الاضطرار؛ إذ مع الاضطرار والاضطرار سبب للترخيص الواقعي لا الظاهري فلا يمكن أن يبقى التكليف الواقع فعليا من تمام الجهات مع وجود الاضطرار لارتكاب الجامع، فلا محالة بما أنّ التكليف الواقعي ليس فعليا من تمام الجهات للاضطرار إلى الجامع فهل نرفع اليد عن فعليته في وجوب الموافقة القطعية أم نرفع اليد عن فعليته في حرمة المخالفة القطعية؛ إذ لا يمكن التحفظ على فعليته من الجهتين لوجود الاضطرار، فنحن إمّا أن نرفع اليد عن منجزيته يعني فعليته في جانب المخالفة القطعية أو في جانب الموافقة القطعية، وحيث إن حرمة المخالفة القطعية أهم من وجوب الموافقة القطعية إذاً فلنتحفظ على حرمة المخالفة القطعية وإن لم نُوجب الموافقة القطعية، فملخص كلام سيّد المنتقى «قده» أنّه لا فرق بين مورد الجواز الظاهري ومورد الجواز الواقعي في أنّ النكتة واحدة وهي تقديم حرمة المخالفة القطعية على وجوب الموافقة القطعية لكون الأوّل أهم.

ولكن يمكن الدفاع عن المحقق العراقي «أعلى الله مقامه»، والسرّ في ذلك: أنّ تقديم المخالفة القطعية على الموافقة القطعية لأحد وجهين كلاهما منتف في مورد الاضطرار؛ إّما أنّ الاول علّة والثاني مقتضي، وإمّا لأنّ الأوّل اشد حفظا لغرض المولى بنظر المرتكز العقلائي، وكلا هذين الوجهين منتفيان في المقام، بيان ذلك: أنّه إذا قلنا بالوجه الأوّل يعني السرّ في تقديم حرمة المخالفة القطعية على وجوب الموافقة القطعية أنّ العلم الاجمالي علّة تامّة للمخالفة بينما هو مجرد مقتضي لوجوب الموافقة فنقدم الأوّل لأجل عليّة العلم الاجمالي له على الثاني لأجل اقتضاء العلم الاجمالي له، فالسر هو العلية والاقتضاء، فإذا كان هو السرّ كما يظهر من عبارة لأنّه صبّ المطلب على هذا، فإذا كان هو هذا السر فمن الواضح أن مورده الجواز الظاهري؛ إذ لا معنى للعلية والاقتضاء أصلاً إلّا في باب الجواز الظاهري، بأن يُقال: فُرغ عن وجود علم اجمالي منجز، كما لو علمنا اجمالا بوجوب فريضة يوم الجمعة إمّا الظهر أو الجمعة، ففرغنا عن وجود علم اجمالي منجز، فبعد الفراغ عنه وقع البحث هل يمكننا أن نُجري اصالة البراءة في تمام الاطراف، فيُقال لا يمكن ذلك لأنه مصادم مصادمة مباشرة مع العلم بتكليف فعلي؛ لذلك قيل العلم الاجمالي علّة تامّة لحرمة الموافقة القطعية، فإن لم يُمكنا اجراء الاصل في تمام الاطراف، هل يمكننا اجراءه في بعضها بطرف دون آخر؟ فيقال: اجرائها في طرف دون آخر وإن لم يصادم مباشرة مع العلم بتكليف فعلي لكن اجراءها في طرف دون آخر ترجيح بلا مرجح، لذلك قيل العلم الاجمالي مقتض لوجوب الموافقة وليس علّة؛ إذاً فاصطلاح العلية والاقتضاء لا معنى له إلّا في مورد الجواز الظاهري أي بعد وجود علم اجمالي منجز.

أمّا إذا حصل لدينا علمان إجماليان كما هو محل الكلام، علم إجمالي بوجوب الصوم في يوم الأحد او حرمته في يوم الاثنين، وعلم معاكس له وهو إمّا بحرمة الصوم يوم الاحد أو وجوبه يوم الاثنين، وكانت الموافقة القطعية لكل منهما مستلزمة للمخالفة القطعية للآخر، فنحن مضطرون اضطرارا واقعيا رافعا لفعلية التكليف واقعا، واقعا مضطرون لأن نضرب ولأن نفرط بأحد الأمرين، فإمّا أن نرفع اليد عن وجوب الموافقة القطعية أو نرفع اليد عن حرمة المخالفة القطعية، فهنا لا معنى لبحث العلية والاقتضاء؛ لأنّ الأمر في المقام يدور دورانا واقعيا بينهما لا دورانا ظاهريا، والدوران الواقعي لا فرق فيه بين هذا الطرف وهذا الطرف، إذاً بالنتيجة: مخلص كلام العراقي بنى المطلب على العلية والاقتضاء ولم يبنه على الأهمية وعدم الأهمية، لذلك قال: بما أنّ السرّ في تقديم حرمة المخالفة القطعية على وجوب الموافقة القطعية هو العلية والاقتضاء، فسوقهما في مورد الجواز الظاهري، ولا سوق لهما في مورد الجواز الواقعي، فلا وجه لأن يُشكل عليه في المنتقى أنّ النكتة واحدة لأنّه ناظر إلى اصطلاح العلية والاقتضاء، ومن الواضح أن العلية والاقتضاء موردهما الجواز الظاهري.

وأمّا إذا كان المبرر لتقديم حرمة المخالفة القطعية على وجوب الموافقة القطعية هي الأشد حفظا، بأن نقول: اجتناب المخالفة القطعية اشد حفظا للواقع من ترك الموافقة القطعية، يعني بالأخذ بالموافقة الاحتمالية. فقد مرّ علينا هذا البحث في بحث القطع في الفروع المترتبة على حجية القطع، حيث إنّ من الفروع المترتبة على حجية القطع مسألة درهم الودعي، فهناك في مسألة درهم الودعي جاء هذا البحث، وهو أنّه لو افترضنا شخصين أودعا دراهم عند ثالث، فأودع «أ» درهما عند «ج»، ثم لما اجتمعت الثلاثة عند «ج» ضاع واحد منها لا عن تفريط، فبقي درهمان، لا إشكال أنّ أحد الدرهمين الباقيين هو ل «أ»، بقي الدرهم الثاني لا يُدرى أنّه ل «أ» أو ل «ب» فهنا وردت الرواية أنّ الدرهم الباقي يُنصّف بينهما فيُعطى نصف ل «أ» ونصف ل «ب»، وهنا السيّد الخوئي أفاد أنّ الرواية على طبق القاعدة العقلائية، وهي قاعدة العدل والإنصاف، ومعنى أنّ الرواية على طبق القاعدة العقلائية أنّه: - السيد الخوئي اتى بعكس المطلب الذي نبحث فيه - أنه إذا دار الأمر بين موافقة قطعية تستلزم مخالفة قطعية وبين موافقة احتمالية فتُقدم الموافقة القطعية وإن استلزمت مخالفة قطعية الموافقة الاحتمالية، فهذا الدرهم إذا قسمناه نصفين فأعطينا نصفا لألف وأعطينا نصفا لباء، قطعا وصل نصف من الدرهمين لمالكه الواقعي، فإنّه إن كان لباء فقد وصل إليه نصفه، وإ ن كان ل «أ» فقد وصل إليه نصفه، إذاً نصف من الدرهمين وصل إلى مالكه الواقعي فحصلت موافقة قطعية إلّا أنّ هذه الموافقة القطعية استلزمت مخالفة قطعية؛ لأنّه كما نقطع بوصول نصف لمالكه الواقع نقطع بعدم وصول نصف لمالكه الواقعي، فإنّه إن كان ل «ب» لم يصل إليه النصف الآخر وإن كان ل «أ» لم يصل إليه النصف الآخر، فهنا موافقة قطعية استلزمت مخالفة قطعية، لكننا لو أعطينا تمام الدرهم لأحدهما فسوف تحصل موافقة احتمالية لا موافقة قطعية، فايهما الراجح بنظر المرتكز العقلائي، فهنا افاد سيدّنا قال: الموافقة القطعية مقدمة الموافقة الاحتمالية وإن استلزمت مخالفة قطعية، فإنّ العقلاء يقولون إذا توقف وصول المال لشخص على تلف بعضه فهذا ممّا لا بأس به بل هو المتعيّن، فلو كان عندك شخص يعيش في جزيرة ولا يمكنك ايصال ملكه إليه لبعد هذه الجزيرة إلّا أن تصرف بعض هذا المال على الوسيلة الناقلة، فهنا يتعين عند المرتكز العقلائي من اجل وصول بعض المال أن تُتلف بعضه، فالموافقة القطعية المستلزمة للمخالفة القطعية متعينة على الموافقة الاحتمالية.

ولكنّ جمعا من الأعلام منهم شيخنا الأستاذ «قده» لا يرى المرتكز العقلائي ترجيحا لأحد الطرفين على الآخر، فإن هنا وإن كانت موافقة قطعية لكن معها مخالفة قطعية، بينما ذلك الطرف وإن لم نقطع بالموافقة لا أقل لم نُحرز المخالفة، فلا فرق بينهما بنظر المرتكز العقلائي من هذه الجهة وبالتالي فالمكلف مخيّر بينهما، فبناء على هذه النظرة الثانية نقول: يمكن للعراقي أن يقول إنّما تُقدم حرمة المخالفة القطعية على وجوب الموافقة القطعية لأنّ في حرمة المخالفة القطعية يكون اشد حفظا للواقع من الموافقة القطعية، هكذا تقولون.

ولكن هذا لا يتوفر في المقام، والسرّ في ذلك: أنّ المكلف إذا علم اجمالا إمّا بوجوب صوم الاحد أو حرمة الاثنين، أو علم اجمالا إمّا بحرمة الاحد او وجوب الاثنين، فلنفترض أنّه وافق الأوّل جزما يعني صام الاحد وترك الاثنين، فهو وافق العلم الاجمالي الاول ولكنه خالف العلم الاجمالي الثاني، هذه صورة.

الصورة الأخرى: لم يوافق احدهما قطعا بل صام في كلا اليومين او ترك في كلا اليومين، فهو لم يرتكب المخالفة القطعية لاحدهما لكنه لم يوافق احدهما موافقة قطعية، كلاهما بنظر المرتكز العقلائي على حدّ سواء، يعني وافق الاول قطعا فخالف الثاني قطعا، او لم يوافق أحدهما قطعا ولم يخالف احدهما قطعا، بأن صام في كلا اليومين أو ترك في كلا اليومين، بنظر المرتكز العقلائي كلا الحلين وكلا العلاجين على حد سواء، والسرّ في ذلك أنّه ليس عندنا إلا تكليف واحد لا ادري أنا مكلف بماذا، ولكن قطعا ليس مكلف بتكليفين، انا مكلف بتكليف واحد لا ادري هو وجوب الصوم في الاول والترك في الثاني، او وجوب الترك في الاول والصوم في الثاني وإلّا هو تكليف واقعي واحد، فايّما اخترت الموافقة القطعية لأحدهما او اخترت الموافقة الاحتمالية لكليهما لم تُحرز الغرض اللزومي الواقعي على كل حال، اخترت هذا او اخترت هذا لم تُحرز أنّك اتيت بالغرض اللزومي الواقعي أصلا، وبناء على ذلك فلا ميزة بينهما بنظر المرتكز العقلائي، فإنّ الموجب للميز لو ترك المخالفة القطعية وتجنبها فهو اشد حفظا للغرض، لكنّ هذا لا يترتب في المقام لأنّه لا يوجد إلا تكليف واحد، فلو أنّه صام في اليوم الاول وترك في اليوم الثاني فقد وافق موافقة قطعية للعلم الاجمالي الاول، لا أنّه وافق موافقة قطعية للواقع، ولو عكس بأن ترك في اليوم الاول وصام في اليوم الثاني فقد وافق موافقة قطعية للعلم الاجمالي الثاني، لا أنّ وافق الواقع، لأنّ الواقع إما مع هذا العلم أو مع هذا العلم، والموافقة القطعية لأحد العلمين غير الموافقة القطعية للواقع، والمخالفة القطعية لأحد العلمين لا تعني المخالفة القطعية للواقع؛ إذاً بالنتيجة: اخترت الموافقة القطعية لاحدهما او اخترت الموافقة الاحتمالية لكليهما لا ميزّ بينهما من هذه الجهة مع كون التكليف الواقعي واحدا في المقام، فافهم واغتنم وتأمل.

والحمد لله ربِ العالمين

الدرس 54
الدرس 56