نص الشريط
الدرس 40
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 26/1/1436 هـ
تعريف: حقيقة العلم الإجمالي
مرات العرض: 3247
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (500)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

لازال الكلام في الأمور التي ذكرناها كربط للمطالب الكبروية بمحل الكلام، وهو منجزية الاحتمال المقترن بالعلم الاجمالي، ووصل الكلام إلى دفع الضرر المحتمل. وبيان ذلك: ان هناك فرقاً بين دفع الضرر المحتمل وضرورة دفع الضرر المحتمل، فدفع الضرر المحتمل هو عمل غريزي يقوم به الحيوان ومنه الانسان سواء كان هذا العمل فعلياً كما إذا ارتفعت الموانع أو كان شأنياً كما إذا كان هناك مانع من العمل، فدفع الضرر المحتمل أمرٌ غريزي ليس محلاً للكلام بل انه من اثار وجود المنجز لا انه هو المنجز، وهذا ما سبق ذكره من ان المنجزية ليست هي الباعثية والزاجرية الغريزية في الانسان فان الباعثية أو الزاجرية هي نفسها دفع الضرر المحتمل بالمعنى الذي ذكرناه.

وهناك ضرورة دفع الضرر المحتمل، وهذا هو محل الكلام لا نفس دفع الضرر المحتمل، «وضرورة دفع الضرر المحتمل» لها مناشئ ثلاثة بحسب اختلاف المباني.

المنشأ الأول: ما يظهر من بعض الكلمات من أنّ منشأ ضرورة دفع الضرر المحتمل ان عدم دفع الضرر المحتمل ظلم للنفس فمقتضى حكم العقل بقبح الظلم هو حكمه بضرورة دفع الضرر المحتمل، ولأجل ذلك يعود هذا المنجز إلى المنجز السابق وهو قبح الظلم.

المنشأ الثاني: ان تعريض النفس للضرر المحتمل نقص قادح ودفعه كمال لازم، فيدخل تحت ما عبرنا عنه بالقضية الثانية من قضايا الحسن والقبح العقليين، بناءً على انهما قضيتان قبح الظلم والنقص الذي مرّ بيانه سابقاً فعلى هذا المنشأ يتبين لنا ان منجزية ضرورة دفع الضرر المحتمل منجزية عقلية وليست طبعية، وبالتالي فهي كمنجزية «حق الطاعة» تمأماً فكما ان «حق الطاعة» منجز عقلي فإذا ضرورة دفع الضرر المحتمل منجز عقلي فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

ولكن نوقش هذان المنشآن أي ان ضرورة دفع الضرر المحتمل لأجل قبح الظلم أو لأجل قبح النقص بأن وجوب «دفع الضرر المحتمل» أما وجوب غيري أو وجوب نفسي أو وجوب طريقي أو انه مجرد قضية ارشادية، وقد تعرض لهذا البحث سيدنا «قده» في مصباح الاصول وتبعه سيد المنتقى...

والمحصل: انه لا يمكن القول بأن الوجوب غيريٌ؛ لأنّ الوجوب الغيري ما ترشح عن وجوب نفسي سابق رتبة، وليس وراء دفع الضرر المحتمل وجوب نفسي كي يعقل ترشح وجوب دفع الضرر المحتمل منه.

كما لا سبيل إلى دعوى انه وجوب نفسي بمعنى انّ دفع الضرر المحتمل في نفسه واجب فانّ لازم ذلك انه لو لم يدفع الضرر المحتمل لترتب عليه عقابان، العقاب المحتمل نفسه والعقاب على مخالفة هذا الوجوب النفسي، فإذا فرضنا مثلا انه احتمل وجوب صلاة الجمعة تعييناً في يوم الجمعة فحكم عقله بوجوب دفع الضرر المحتمل فلم يصل الجمعة، وكانت الجمعة واجباً واقعاً فمقتضى ذلك استحقاقه لعقوبة ترك الجمعة ولمخالفة هذا الحكم العقلي النفسي وهو وجوب دفع الضرر المحتمل.

ولا سبيل للوجوب الطريقي بأن نقول انّ وجوب دفع الضرر المحتمل ليس الغرض منه الا تنجيز ذلك المحتمل لا ان هناك أمرين، نظير ما قيل بوجوب الاحتياط فإنّ المشرّع أو العقل إذا أوجب الاحتياط في موارد احتمال الدماء أو الاعراض فان وجوب الاحتياط ليس نفسياً وانما طريقي أي ان الغرض منه تنجيز الواقع المحتمل لا انه منجز في نفسه، فلو ادعي انّ حكم العقل بضرورة دفع الضرر من هذا القبيل فإنّ لازم ذلك انه ان يترتب احتمال العقوبة على الوجوب لا ان يكون سابقاً عليه فان الأثر المترقب من الوجوب الطريقي هو ان يرتب على هذا الوجوب الطريقي احتمال العقوبة إذ المفروض انه قبل هذا الوجوب الطريقي لا يوجد منجز ولا يوجد احتمال العقوبة وبالوجوب الطريقي تنجز المحتمل فترتب على تنجزه احتمال العقوبة.

وبناءً على ذلك على ذلك انما يكون وجوب دفع الضرر طريقيا إذا ترتب عليه احتمال العقوبة، وهو لا يترتب عليه لأنّ احتمال العقوبة أما سابق أو لاحق فان كان سابقاً إذا فوجوب دفع الضرر المحتمل لا حاجة له، لان احتمال العقوبة متنجز في رتبة سابقة وان قلنا ان احتمال العقوبة ليس موجودا فقد انتفى وجوب دفع الضرر المحتمل بانتفاء موضوعه فهو أما مسبوق بالاحتمال فلا حاجة له وأما غير مسبوق به فهو منتف بانتفاء موضوعه.

والنتيجة: ان وجوب دفع الضرر المحتمل لا يعقل ان يكون طريقيا فتعين ان يكون حكما ارشادياً. ومحصله: انّ العقل يدرك الملازمة بين الأمن وبين دفع الضرر المحتمل، فلا أمن الا بدفع الضرر المحتمل، وفي طول هذا الحكم الارشادي تقضي الفطرة بدفع الضرر المحتمل، إذ مادأمت هناك ملازمة بين الأمن ودفع الضرر المحتمل ففي طول ادراك العقل لهذه الملازمة تقضي الفطرة بانه عليك بدفع الضرر المحتمل بمقتضى الكينونة الطبعية للإنسان فان مقتضى كينونته هو قضاء فطرته بالفرار وطلب الأمن بل لا يستغني منجز عقلي عن قضاء الفطرة إذ لولا الكينونة الطبعية للإنسان لما تمّ أي منجز من المنجزات السابقة، فمثلا إذا ادرك العقل ان للمولى حق الطاعة وان عدم طاعته ظلم، والظلم قبيح مع ذلك قد يقول لأفعل القبيح أي مشكلة في ذلك؟ أو إذا ادرك ان في مخالفة المولى أو في مخالفة الأمر نقصا قادحا فيقول لأرتكب النقص القادح لا مشكلة.

نقول: لولا قضاء الفطرة بضرورة الفرار من القبيح وضرورة التحلي بالكمال اللازم لما تمت هذه المنجزات فجميع المنجزات تعتمد في ربطها بالباعثية والزاجرية على الكينونة الطبعية لا تتنزل من مرتبة الادراك العقلي إلى مرتبة الباعثية والزاجرية الا برابط وذلك الرابط هو الكينونة الطبعية للإنسان، التي يعبر عنها بقضاء الفطرة، فلولا هذه الكينونة لما تحول أي منجز لباعثية أو زاجرية.

فلأجل ذلك يتبين ان المنجز الطبعي بحسب تعبير السيد الصدر لا يراد به دفع الضرر المحتمل الغريزي لان هذا اثر للمنجز، وانما يراد بالمنجز الطبعي هو الحكم العقلي الارشادي المستتبع لقضاء الفطرة في قبال ان يكون دفع الضرر المحتمل واجباً من باب قبح الظلم أو من باب قبح النقص.

كما انّ دعوى السيد الشهيد التي سبقت من ان المنجز الطبعي لا قيمة له لأننا نبحث عما ينجز حكم المولى وعمّا يحقق لنا اطاعة المولى والانقياد اليه بحيث يكون عدم الانقياد موجبا لاستحقاق العقوبة ومن الواضح ان المنجز الذي يترتب عليه ذلك هو المنجز العقلي أي ما يندرج تحت قبح الظلم أو حسن الكمال اللازم لا المنجز الطبعي، فانّ مجرد ضرورة دفع الضرر المحتمل لا يعني ان هذا العمل طاعة للمولى إذ كما يتصور ضرورة دفع الضرر المحتمل في احكأم المولى يتصور في احكأم الطفل لو هدد بسلاح مثلاً، فضرورة دفع الضرر المحتمل بالمجموع من الحكم العقلي الارشادي وقضاء الفطرة عأمة حتّى لفرض صدور الأمر من الظالم أو الطفل، وهذا ليس مفيدا لنا بل المفيد ان المنجز يثبت لنا ان هذا العمل اطاعة للمولى وان في تركه استحقاقا للعقوبة.

ولكن يلاحظ على هذا الكلام ما سبق بيانه من ان من يرى المنجز الطبعي قد لا يرى حق الطاعة اصلا فكيف يقال له ان قولك لا قيمة له فالكلام يصبح نوعا من المصادرة لان صاحب هذا القول انا لا ارى ان هناك مولوية وعبودية اصلا وان للأمر موقع المولوية وللمأمور موقع العبودية فلابد ان يكون المنجز في هذا الاطار وهو ما يحفظ للمولى مولويته، أو ما يوجب استحقاق العقوبة من المولى على هذا العمل، فإذا كنت لا ارى عقلاً أي ملازمة بين المنعمية والمولوية فليس هناك بنظري منصب يسمى المولوية تقابله العبودية كي يكون المنجز في هذا الاطار فان هذا منتف بانتفاء موضوعه بحسب هذا النظر وبالتالي ما هو المنجز صدر من مولى أو لم يكن له هذا العنوان، نقول المنجز ما عبر عنه بالمنجز الطبعي وهو مجموع الحكم الارشادي مع قضاء الفطرة بضرورة دفع الضرر المحتمل، فلا وجه للمصادرة بان هذا لا ينفعنا لأنّه لا يثبت ما هو مسلم مع مبانينا..

فالنتيجة: ان مورد المنجز الطبعي شيء ومورد المنجز العقلي شيء اخر.

يصل الكلام إلى النسبة بين قاعدة دفع الضرر المحتمل وقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبعد تبين ان المنجز العقلي هو عبارة عن حكم العقل بقبح الظلم لأجل ان للمولى حق الطاعة والمنجز الطبعي هو: عبارة عن ادراك العقل الملازمة بين الأمن ودفع الضرر قد يقال بتعارض كلمات سيدنا في مصباح الاصول حيث جمع بين المنجزين، فذكر في «ص15ج 47» أنّ حجّية القطع ولزوم الحركة على طبقه كانت ثابتة في زمان لم يكن فيه إلّا بشر واحد، فلم يكن فيه عقلاء ليتحقق البناء منهم، ولم يكن نوع ليكون العمل بالقطع لحفظه.

فهو يريد ان يقول بانه إذا قطع المكلف بحكم إلزامي ادرك العقل تلقائيا ان في الجري وراء هذا القطع حسنا وفي عدم الجري وراءه قبحاً.

ثم في «ص26» عندما يتعرض إلى بحث التجري يقول: «اخرى يدرك العقل ما هو في مرتبة معلولات الأحكأم الشرعية، كحسن الاطاعة وقبح المعصية، فانّ هذا الحكم العقلي فرع ثبوت الحكم الشرعي المولوي، وحكم العقل بقبح التجري وحسن الانقياد من هذا القبيل، فقاعدة الملازمة أجنبية عنه، فلا دليل على أنّ حكم العقل بقبح التجري يستلزم الحرمة الشرعية، بل لنا أن ندّعي عدم أمكان جعل حكم شرعي مولوي في المقام، إذ لو كان حكم العقل بحسن الانقياد والاطاعة وقبح التمرد والمعصية كافياً في إتمأم الحجّة على العبد، وفي بعثه نحو العمل وزجره عنه - كما هو الصحيح - فلا حاجة إلى جعل حكم شرعي مولوي آخر، وإن لم يكن كافياً فلا فائدة في جعل حكم آخر، إذ هو مثل الحكم الأول، فيكون جعل الحكم لغواً يستحيل صدوره من الحكيم﴿تعالى وتقدّس، «يعني لا حاجة إلى المنجز الطبعي وتوسيط احتمال العقوبة بل نفس حكم العقل بحسن الانقياد والطاعة في بعث العبد وزجره ثم في «ص27» قد اتّضح ممّا ذكرناه أنّ القبح العقلي وإن لم يكن مستتبعاً للحكم الشرعي، لكنّه يستلزم حكم العقل باستحقاق العقاب على نفس التجري، بمعنى أنّ العقل يدرك كون المتجري مستحقاً للعقاب «فيظهر منه ان المنجز العقلي كاف ويترتب عليه حكم العقل باستحقاق العقوبة.

ثم في «ص403» وهي أنّ احتمال التكليف الإلزامي بنفسه مسأوق لاحتمال العقاب على مخالفته، ومعه كان العقل مستقلًا بلزوم التحرز عنه وتحصيل المؤمّن، وهذا هو الملاك في حكم العقل بلزوم الاطاعة، حتّى في موارد العلم التفصيلي بالتكليف، أو قيام الحجّة عليه، فانّ مخالفة التكليف الواصل إلى المكلف - بالعلم الوجداني أو بقيام الحجّة المعتبرة - لا تستلزم القطع بالعقاب عليها، لاحتمال العفو منه سبحانه وتعالى، والشفاعة من النبي والأئمة وإنّما المتحقق هو احتمال العقاب على المخالفة وهو كافٍ في حكم العقل بالتنجيز، فلا فرق بين موارد التكاليف المعلومة والتكاليف المحتملة في أنّ حكم العقل بلزوم الاطاعة ناشئ من احتمال العقاب، ففي كل مورد يحتمل فيه التكليف الإلزامي يستقل العقل بلزوم التحرز عن المخالفة، إلّا أن يثبت فيه مؤمّن من العقاب عقلًا، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو شرعاً كالأدلة الشرعية الدالة على البراءة من حديث الرفع ونحوه، وأما إذا لم يثبت المؤمّن عقلًا ولا شرعاً».

والحمد لله رب العالمين

الدرس 39
الدرس 41